11/06/2009, 12:47 AM
|
زعيــم مميــز | | تاريخ التسجيل: 10/10/2008 المكان: فى قلب الهلال
مشاركات: 3,349
| |
المحاولات التوفيقية لتأنيس الفائدة في المجتمع الإسلامي في القرآن الكريم جاء ذم جريمة الربا، والتشنيع على مرتكبها، ربما بما لم يجئ مثله في حق جريمة أخرى؛ ففي مقابل وصف الزنا مثلًا بأنه: {فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، وصف المرابين بأنهم: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].
وجاء: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وتوعد المرابين بأنهم إن لم يذروا ما بقي من الربا؛ فليأذنوا بحرب من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبالإضافة إلى ما ورد في القرآن جاءت الأحاديث الكثيرة بالنهي عن الربا وعن شبهته، وإنذار الفرد والمجتمع الذي يمارسه بأعظم العقوبات.
وقد وقعت أغلب بلاد العالم الإسلامي تحت نير الاستعمار الأوروبي، ولما كان الاقتصاد دافعًا رئيسيًّا للاستعمار؛ كان من الطبيعي أن يرسخ الاستعمار في البلاد التي خضعت تحت نير النظام البنكي الغربي القائم على "الفائدة الربوية"؛ إذ كان هذا النظام وسيلة فعالة للتحكم في أموال العالم الإسلامي المستَعْمَر، والسيطرة على اقتصاده.
ومن البداية واجه المجتمع الإسلامي واقعًا ذا مظهرين:
أولًا: بسبب رادع تحريم الإسلام للربا، واعتباره كبيرة من كبائر الذنوب، بل من أكبرها على ما وُصف آنفًا، فقد امتنع المسلم التقي من الحصول على الفائدة الربوية عن إيداعاته؛ فحظي البنك الأجنبي ـ في الغالب ـ بالانتفاع بأموال المسلمين مجانًا، وبدون تحمله دفع أي تعويض عن استغلاله لرأس المال الإسلامي.
ثانيًا: بسبب الرادع المُشار إليه؛ امتنع المسلم التقي عن الانتفاع بالتسهيلات الائتمانية التي تمنحها البنوك، فكانت الأموال والمدخرات الإسلامية المجمعة تُضخ في الأسواق المالية الغربية، وتجري في شرايين الاقتصاد الغربي، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى؛ ففي المجتمعات المختلطة بين المسلمين وغيرهم؛ كالقارة الهندية، كانت المجتمعات غير المسلمة تنفرد بالتمتع بمزايا التسهيلات الائتمانية، فيتنامى نشاطها الاقتصادي على حساب النشاط الاقتصادي للمجتمع الإسلامي.
وقد أذهلت هذه الظواهر رجال الفكر في العالم الإسلامي، فشغلتهم بالبحث عن سبيل للخروج بالمجتمع الإسلامي من ورطة هذا الواقع الأليم، إن هذا المأزق تصوره أوضح تصوير صيغ الاستفتاءات، التي كانت تنهال من الأفراد والمجتمعات الإسلامية، فيما يتعلق بهذه المشكلة وإجابات المفتين.
ولكن ربما كان من أبلغ الأمثلة في تصوير الشعور بهذا المأزق فتوى نُشرت لأحد المفتين، مضمونها أن أحاديث الربا من وضع اليهود، أدخلوها على المسلمين بقصد الإضرار بهم عن طريق تحريم التجارة عليهم؛ لتكون التجارة في يد اليهود!
إن ما جعل المشكلة تبدو مستحيلة الحل: غياب مؤسسات مصرفية لا تقوم على الربا؛ فكان يبدو ألَّا بديل للنظام المصرفي الغربي، بل لا بديل للاقتصاد الغربي، وحتى بعد ظهور الشيوعية ومشاطرة المذهب الاقتصادي الشيوعي المذهبَ الرأسمالي الغربي، كان يظهر ألَّا فرصة للعالم للخروج عن الدوران في أحد الفلكين.
ونتيجة لذلك؛ كان من الطبيعي أن يتجه الفكر الإسلامي إلى المحاولات التوفيقية بغرض تأنيس الفائدة لقبولها في المجتمع الإسلامي، ولكن كل هذه المحاولات قد فشلت في إقناع المسلم بأن يتقبل الواقع بطمأنينة الضمير وسكينة القلب، وتهدف هذه الورقة إلى إيضاح أسباب فشل تلك المحاولات التوفيقية.
لماذا فشلت المحاولات التوفيقية؟
أمام صراحة النصوص وثبوتها القطعي؛ كان من الطبيعي أن تتجه المحاولات كليًّا إلى محاولة إخراج الفائدة البنكية من مفهوم "الربا" الوارد تحريمه بصريح النص، ومع أنه لا يبدو وجود إمكانية لوسيلة أخرى بديلة لهذه الوسيلة، فإن اتجاه المحاولات إليها هو سر فشل هذه المحاولات.
توضيح ذلك؛ أن للربا مفهومًا أساسيًّا مشتركًا بين الشعوب، وفي مختلف الشرائع والعصور، وهناك بالإضافة إلى هذا المفهوم المشترك مفاهيم خاصة ببعض الشرائع كالإسلام.
لزيادة الإيضاح؛ أن القاعدة الأساسية في تحديد الحكم الشرعي الإسلامي، اعتبار نصوص القرآن والحديث الصحيح مصادر متكاملة للأحكام، فما ورد من الألفاظ مجملًا في نصوص يُرجع في تبيينه إلى النصوص الأخرى.
وقد وردت نصوص القرآن بكلمة الربا، وهذه اللفظة تتناول ـ بدون فرصة للمنازعة ـ المفهوم المشترك لهذه اللفظة؛ إذ هو المفهوم الأساسي كما تتناول المفاهيم الأخرى التي دلت عليها الأحاديث.
لزيادة الإيضاح مرة أخرى؛ أن الربا وفق المفهوم الأساسي والمشترك قد استقرت كراهيته في الضمير الإنساني، واعتُبر ممارسة غير أخلاقية.
وجاء الإسلام بنصوص الحديث، فلم تكتفِ كالشرائع الأخرى بتحريم الربا بهذا المفهوم الأساسي المشترك، وإنما وسعت من منطقة التحريم، فأدخلت في هذه المنطقة كل ما هو في الحقيقة وبحكم الحكيم الخبير وسيلة وذريعة إلى ارتكاب الربا بالمفهوم الأساسي المشترك، وسدت الطرق الموصلة إليه بحكم الحوادث الواقعية المشاهدة.
فإذا تخيلنا أن المفهوم الأساسي المشترك منطقة مركزية تحيط بها دائرة، فإن دائرة كبيرة واسعة من وراء هذه الدائرة وردت بها النصوص الثابتة، وتضم شبهة الربا ووسائله وذرائعه، قد يكون من الممكن مهاجمة نقطة في الدائرة الهامشية الكبيرة دون تأثير على أصل المفهوم الأساسي للفكرة، ولكن من غير الممكن مهاجمة نقطة في الدائرة المركزية دون تدمير للبناء؛ ولذا كان استبعاد الفائدة البنكية ـ وهي واقعة في المنطقة المركزية للدائرة ـ غير ممكن دون مساس بل إخلال بالمفهوم الكلي للفظة الربا، وفي السطور الآتية زيادة إيضاح.
روى الإمام البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحِجر؛ أهو من البيت (الكعبة)؟ فقال: (نعم)، فقالت: لماذا أخرجوه؟ فقال: (إن قومك قصرت بهم النفقة) [متفق عليه، رواه البخاري، (1584)، ومسلم، (3313)]؛ أي أن قريشًا حين هدمت الكعبة وأعادت بناءها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات تقريبًا، عجزت عن توفير المال الكافي لإعادة البناء على قواعده الأصلية؛ فصغرت مساحته، وأُخرج من البناء الجديد حِجر إسماعيل عليه السلام.
وإذا عرفنا أن مكة كانت من أكثر المدن العربية ثراء، وقد وصف الله بعض أهلها بأنه جعل له مالًا ممدودًا، ولم تكن إعادة البناء تحتاج لنفقة كبيرة إذ كانت مواد البناء متوفرة، فقد جاء في الأخبار أن مما حمل قريشًا على إعادة البناء؛ انتهاز فرصة أن البحر قذف على ساحل جدة بحطام سفينة، فكانت الأحجار والأخشاب اللازمة للبناء موجودة، إذا عرفنا هذا يأتي السؤال: لماذا عجزت قريش عن توفير النفقة القليلة للبناء؟
وجواب السؤال فيما أورده العلامة ابن كثير عند تفسير آية سورة البقرة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127]: (فرُوي أن قريشًا تواصوا بألَّا يدخل في النفقة على بناء الكعبة من كسبهم إلا ما كان طيبًا، فلا يدخل في النفقة مهر بغي، ولا مظلمة، ولا بيع ربا) [تفسير ابن كثير، (1/437)].
وبحكم طبائع الأشياء؛ فإن مهور البغايا لا يمكن أن تمثل جزءًا مهمًّا من أموال القرشيين، وكذلك أموال المظالم، لاسيما بعد استحضار حادثة حلف الفضول؛ ولذا فإن العامل المهم في تلويث أموال القرشيين بحيث لم يمكن استخلاص جزء نظيف كافٍ منها يصلح للدخول في نفقة بناء الكعبة هو الربا، ويُؤخذ من هذه الوقائع أمران:
(الأول): شيوع الربا وسيطرته، بحيث استغرق بتلويثه أموال القرشيين، إلى درجة أنه لم يمكن توفير النفقة الكافية الضئيلة لإعادة البناء البسيط للكعبة على وضعه السابق قبل الهدم.
(الثاني): أن القرشيين مع ممارستهم للربا وشيوعه حتى استغرق أموالهم، إلى درجة أنها لم تتسع لنفقة بسيطة كنفقة بناء الكعبة، كانوا ينظرون إليه باعتباره كسبًا غير نظيف، ينبغي أن يُنزه عنه بيت الله، فما هو الربا في مفهوم القرشيين؟
لم يكن للقرشين نشاط زراعي؛ لأنهم بوادٍ غير ذي زرع، فتركز نشاطهم في التجارة مع الحجاج، ومع مزارعي ثقيف، والمستوطنات الزراعية المجاورة كاليمامة، وكان من أبرز أنشطتهم إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، وتمول هاتين الرحلتين في بعض الأحيان بالائتمان عن طريق عقد المضاربة [المشاركة في الربح والخسارة]، ولكن طبائع الأمور تقتضي افتراض أن للاقتراض الربوي الدور الواسع في مختلف صور النشاط التجاري، كما تدل على ذلك النصوص المحفوظة.
وبما سبق؛ تبين افتراض أن مفهوم الربا عند القرشيين لا يختلف عن المفهوم الشائع للربا عند مختلف الشعوب، وهو تقديم الممول المال لمحتاج التمويل لأجل، في نظير أو مقابل للأجل هو الربا؛ أي الزيادة.
والربا ـ بهذا المفهوم ـ هو الذي عرفته القوانين البابلية والآشورية والفرعونية، وهو المعروف عند الإغريق والرومان أن المقولة المشهورة المنسوبة لـ"أرسطو": (النقود لا تلد نقودًا) وردت قبل ثلاثة وعشرين قرنًا على لسان هذا الفيلسوف الإغريقي الوطني تسببًا للحكم بأن الربا سلوك غير أخلاقي.
والربا بهذا المفهوم هو الذي جاءت الشريعة الموسوية ثم المسيحية بتحريمه، فقد حرمته التوراة [انظر الملحق، بعنوان "ربا اليهود"]، إلا أن اليهود من بعد موسى عليه السلام ـ مع احتفاظهم بتحريمه بين اليهود ـ أجازوه بين اليهود وغيرهم؛ على أساس أن أموال غير اليهود حلال لليهود.
فهم حين يأخذون الربا من الأميين إنما يأخذون أموالهم، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، جاء في الإصحاح [فقرة (23/19-20)] من سفر التثنية من التوراة المحرفة: (لا تقرض أخاك بربا؛ ربا فضة، أو ربا شيء مما يُقرض بربا، للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا).
وقد شنَّع الله على اليهود بهذا، وتوعدهم بالعذاب الأليم: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160]، {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 161]، وليس المقصود في الآية ـ والله أعلم ـ مجرد الإخبار بهذه الواقعة، وإنما التحذير منها.
وكان اعتياد اليهود لممارسة جريمة الربا سببًا في كراهية العالم لهم، وتشنيعه عليهم، لاسيما العالم المسيحي الأوروبي، ومن آثار ذلك مسرحية "شكسبير" المشهورة "تاجر البندقية".
ثم جاءت الشريعة المسيحية بتأكيد تحريم الربا دون اعتبار لطرفي العقد الربوي، ومن آثار هذا التحريم الآيتان 24 و25 من الفصل السادس من "إنجيل لوقا": (إذا أقرضتم لمن تنتظرون منهم المكافأة فأي فضل يُعرف لكم؟ ولكن افعلوا الخيرات، وأقرضوا غير منتظرين عائداتها)، ويقول "سان توما": (إن تقاضي الفوائد عن النقود أمر غير عادل، فإن هذا معناه استيفاء دَين لا وجود له).
ومع أنه بانتصار العلمانية في العالم الغربي؛ وبالتالي التحرر من القيود الدينية المسيحية بغلبة فكرة النسبية في الأخلاق، قد أُبيحت الفائدة على القروض في القوانين الغربية، فإن هذه القوانين لم تستطع أن تتحرر تحررًا كاملًا من النظرة الأخلاقية؛ فظلت القوانين الجنائية تحرم ممارسة الربا بالمفهوم الشائع، وإن كانت قد استثنت منه بالإباحة الفوائد في حدود معينة نصت عليها القوانين، دون إخلال بالمفهوم الشائع للربا، وإنما احتاجت إلى تمييز المنطقة التي بقيت محرمة بالربا الفاحش؛ فالفائدة ربا بسيط يُباح في حدود معينة، يتحكم القانون في وضعها بين وقت وآخر [يراجع: مصادر الحق، السنهوري، (2/216، 217، 221)].
وقد قلَّدت بلدان العالم الإسلامي بلدان العالم الغربي في تقنين التفريق بين بسيط الربا وفاحشه؛ فمثلًا سمحت التقنينات المدنية العربية بتقاضي فوائد ينص على تحديدها القانون، وحرَّمت الزيادة عليها، كما حرَّمت الفوائد المركبة بعد أن سمحت بالفائدة البسيطة؛ فنصت المادة (336)، من التقنين المدني المصري، على تحديد سعر الفوائد بـ"4%" في المسائل المدنية، وبـ"5%" في المسائل التجارية.
كما نصت المادة (337) منه على أنه: (يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على سعر آخر للفوائد، على ألَّا يزيد هذا السعر عن 7%؛ فإذا اتفقا على فوائد تزيد على هذا السعر؛ وجب تخفيضها إلى 7%، ويمكن رد ما دفع زائدًا على هذا القدر، وكل عمولة أو منفعة أيًّا كان نوعها اشترطها الدائن إذا زادت هي والفائدة على الحد الأقصى المتقدم ذكره؛ تُعتبر فائدة مستترة، وتكون قابلة للتخفيض).
ونصت المادة (333) منه على أنه: (لا يجوز تقاضي فوائد على متجمد الفوائد، ولا يجوز بأي حال أن يكون مجموع الفوائد التي يتقاضاها الدائن أكثر من رأس المال)، وتتضمن التقنيات المدنية العربية الأخرى ـ السوري والليبي والعراقي ـ نصوصًا مماثلة، عدا تحديد نسبة الفائدة.
ويقول الدكتور السنهوري، وهو الذي وضع أصول القوانين الأربعة المشار إليها في شرحه لهذه المواد: (ويتكفل القانون بتحديد مقدار الفوائد، والسبب في ذلك كراهية تقليدية للربا، لا في مصر فحسب، ولا في بلاد العالم الإسلامي وحدها، بل في أكثر تشريعات العالم؛ فالربا مكروه في كل البلاد، وفي جميع العصور؛ ومن ثَم لجأ المُشرِّع إلى تحديده للتخفيف من رزاياه، وهذا هو المبرر القوي الذي حمل القانون في هذه الحالة على التدخل).
ثم يقول: (وسنرى فيما يلي كيف كره المُشرِّع المصري الربا، فحدد لفوائد رءوس الأموال سعرًا قانونيًّا وسعرًا اتفاقيًّا، وتشدد في مبدأ سريان هذه الفوائد، وأجاز استرداد ما يُدفع زائدًا على السعر المقرر، وأعفى المدين في حالات معينة من دفع الفوائد، حتى في الحدود التي قررها، ومنع تقاضي الفوائد على متجمد الفوائد، في هذه وغيرها آيات على كراهية المُشرِّع ـ المصري ـ للربا، وعلى الرغبة في التضييق منه)، ثم يقول: (وقد زاد التقنين الجديد على التقنين القديم في كراهية الربا) [الوسيط في شرح القانون المدني، السنهوري، (3/88)].
وكما يرى القارئ، فإن المفهوم الشائع للربا المشار إليه آنفًا ظل في الفقه العربي الحديث محتفظًا باسم الربا، مع خروج التقنينات العربية على هذا المفهوم بإباحة بعض صوره على سبيل الاستثناء.
وفي موضع آخر من مصادر الحق، يصف الدكتور السنهوري القرض بفائدة بأنه: (أول عقد ربوي في الشرائع الحديثة) [مصادر الحق، السنهوري، (2/364)].
والمقصود من كل ما سبق أن الربا ظل محتفظًا بمفهومه المشار إليه، بالرغم من ممارسة الناس له، إما بصفة قانونية أو بصفة غير قانونية، إن هذه الحقيقة مهمة جدًّا؛ لأن هذه الورقة سوف تعود إليها بالإشارة وبالاستدلال، بين حين وآخر.
المحاولات التوفيقية:
قبل استعراض هذه المحاولات، من المهم الإشارة إلى بعض الأسس التي سيرجع إليها في المناقشة.
معروف أن لفظ الربا ورد في القرآن الكريم في أربعة مواضع: في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39]، وفي سورة آل عمران: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، وفي سورة النساء: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161].
وفي سورة البقرة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]، وقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]، وأيضًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278].
وأيضًا في سورة البقرة: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، وبعض هذه الآيات نزل في مكة وبعضها في المدينة.
ويلاحظ هنا:
1 - أن كلمة الربا، حيثما تكررت في القرآن، يجب افتراض أن لها مفهومًا واحدًا، حتى يقوم من الأدلة ما يثبت أنها وردت بمفاهيم مختلفة، ومن غير المنطقي القول بأن الربا في سورة البقرة وآل عمران والروم لا يدخل في مفهوم الربا الوارد في سورة النساء.
ولا منازعة في أن هذا اللفظ يُقصد به الربا الذي يمارسه اليهود عند نزول الوحي، ولا منازعة في أن الصورة الأصلية لهذا الربا هي: دفع الشخص المال لشخص آخر لأجل معلوم، في نظير زيادة يدفعها المدين مع رأس المال؛ أي ما يُسمى الآن "القرض بفائدة".
2 - أن بعض الألفاظ في نصوص القرآن والحديث نُقلت من معانيها الأصلية إلى معانٍ شرعية؛ كالصلاة نُقلت من مجرد الدعاء إلى الحركات الخاصة الشرعية، وكالوضوء نُقل إلى الهيئة الخاصة بغسل الأعضاء التي ورد بها الشرع، ولكن ألفاظًا أخرى بقيت بمفهومها المعروف عند الناس، وإن كان هذا المفهوم قد أُلحق به مفاهيم أخرى، وردت بها النصوص.
ومن هذه الألفاظ الأخيرة، مثلًا: لفظ (الزنا)، يدخل فيه بحكم الأصل المفهوم المعروف لدى الناس وقت نزول الوحي، وإن كان قد أُلحق به كل اتصال جنسي بين رجل وامرأة لا يقوم بينهما عقد الزوجية الشرعي كالزواج بالمحارم، ومثل (الربا)، يدخل فيه بحكم الأصل المفهوم المعروف لدى الناس وقت نزول الوحي، كما يدخل فيه التصرفات المالية التي وردت بها الأحاديث الثابتة، كبيوع ربا الفضل.
وإذًا؛ فإن دعوى خروج صور من المفهوم المعروف لدى الناس عند نزول الوحي لكلمة ربا، وادعاء أنه غير مقصود بالنص؛ دعوى على خلاف الأصل.
3 - مع احتفاظ النصوص بالمفهوم المعروف عند الناس لكلمة الربا، فقد أُلحقت بهذا المفهوم في التحريم صور يجمعها في الغالب أنها ذريعة لارتكاب الربا بالمفهوم المعروف، وهذا يعني تأكيد هذا المفهوم، وتأكيد حكم التحريم.
4 - إن الربا بالمفهوم المعروف كان يُمارس في المجتمع القرشي الجاهلي بصور مختلفة؛ منها الصورة المشهورة حين يحل أجل الدين، فيطلب الدائن من المدين؛ إما أن يدفع له دينه، أو أن يزيد في قيمته، في نظير تمديد الأجل.
ولكن الصورة الغالبة والشائعة ـ كما تقتضي طبائع الأشياء ـ هي الصور الغالبة في المجتمعات الأخرى، وهي ما يُطلق عليه في الوقت الحاضر القرض بفائدة، ومعلوم أن الصورتين من جنس واحد؛ هو أخذ الدائن زيادة من جنس الدين في نظير انتفاع المدين بالدين.
وعلى هذا الأساس؛ يُفهم ما ورد من الأخبار بأن الربا المعروف عند الجاهلية هو صورة، إما أن تقضي وإما أن تربي، فليس المقصود نفي غير هذه الصورة بعينها، وإنما نفي ما هو من غير جنسها، بمعنى آخر نفي الصورة التي تدخل في المعنى الواسع الذي جاء به الإسلام، كربا الفضل مثلًا.
5 - وحتى لو افتُرض أن قريشًا في الجاهلية لم تكن تمارس من صور الربا إلا صورة "إما أن تقضي أو تربي"، فغير قريش؛ كاليهود مثلًا، بالتأكيد كانوا يمارسون الربا بالصورة الشائعة، والقرآن لما نزل بتحريم ربا الجاهلية لم يقصد جاهلية خاصة، وإنما حرم كل ربا الجاهلية الموجود عند نزوله، سواء جاهلية قريش أم جاهلية الشعوب الأخرى، ولا يقول عاقل بأن الربا الذي شنَّع الله به على اليهود، وقرنه بجنسه من جرائمهم من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وأخبر عن عقابه لهم بسببه في الدنيا والآخرة قد أحله للمسلمين.
وإذا لوحظ ما سبق؛ تبين حقيقة التصورات الوهمية التي بنت عليها غالب المحاولات التوفيقية لقسر الإسلام على قبول الفائدة الربوية، ولابد من أخذ هذا الأمر بالاعتبار؛ إذ أن هذه الورقة سوف تكرر الإسناد إليه.
وسنبدأ استعراض الحلول التوفيقية، وسوف يكون مرجعنا في الغالب ـ وبهذا نستغني عن الإشارة إلى هذا المرجع فيما بعد ـ "مصادر الحق في الفقه الإسلامي" الجزء الثالث، في بحث الربا، باعتبار أن هذا المرجع اشتمل على عرض ومناقشة أهم المحاولات التوفيقية.
استعراض المحاولات التوفيقية:
أولًا ـ محاولة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله:
وردت عدة فتاوى للشيخ محمد رشيد رضا في المنار، كان هدفها التماس مخرج للمسلمين الذين يودعون أموالهم في البنوك في العالم الإسلامي، وأغلبها بنوك أجنبية، وكلها كانت يدًا مبسوطة للمستعمر للتحكم الاقتصادي.
فافترض الشيخ محمد رشيد أن الربا الذي كانت تمارسه قريش على صورة واحدة، هي صورة "إما أن تقضي وإما أن تربي"؛ حيث يوجد دين ناشئ عن بيع أو قرض إلى أجل، وعند حلول الأجل يطلب الدائن من المدين "إما الوفاء أو زيادة الدين"؛ نظير تمديد الأجل، ثم افترض أن الربا الذي صرحت بتحريمه آيات سورة البقرة مقصود به هذه الصورة فقط من صور الربا.
ولما كانت نصوص الحديث الثابتة صريحة في إدخال صور أخرى، ومنها بيوع ربا الفضل؛ حيث يُباع مال ربوي؛ كالذهب والتمر بجنسه نقدًا، بزيادة نظير الاختلاف في النوعية مثلًا.
ومنها بيع ربا النسيئة؛ حيث يُباع المال الربوي بمثله نسيئة، أي إلى أجل بزيادة نظير الأجل، ومن ضمنها ما يُسمى في الوقت الحاضر القرض بفائدة، فافترض أن هذه الصور ورد النهي عنها، لا لأنها مقصودة بالنهي بالذات، وإنما لأنها ذريعة إلى الصورة الخاصة من الربا التي افترض أن القرآن ورد بالنهي عنها على نحو ما سبق.
ثم افترض أن النهي في الصور الأخرى يحتمل الكراهة، لا التحريم، أو أن المراد به خلاف الأولى، وأن الراوي فهم أن المراد التحريم.
وبناء على ما سبق؛ رأى أنه يمكن إخراج القروض البنكية بفائدة من مفهوم الربا المحرم؛ فيجوز للمسلم ـ ولاسيما في ظروف الفتوى ـ أن يأخذ فائدة عن أمواله التي يودعها في البنك.
واضح أن هذه المحاولة تحصر الربا المحرم في منطقة ضيقة جدًّا من المفهوم المعروف عند الناس للربا، حيث تتحدد هذه المنطقة بصورة من صور الفوائد التأخيرية الاتفاقية، وهي الصورة التي يتم فيها الاتفاق على الربا، عند حلول أجل الدين؛ فهي تخرج من الربا المحرم بالنص كل صور الفوائد التعويضية، سواء أكانت فائدة بسيطة أو فائدة مركبة، وسواء أكانت فائدة قليلة أو فائدة فاحشة.
أي أنها تخرج ـ فيما عدا الصورة المشار إليها ـ كل الصور التي تحرمها التشريعات العلمانية الحديثة، بما فيها التقنينات العربية، والتي تعتبرها هذه التشريعات والتقنينات من صميم الربا، وتعاقب عليها كأية جريمة جنائية.
إن أستاذين كبيرين من أساتذة القانون العربي لم يستطيعا أن يقبلا هذه المحاولة، على أساس أنها تقصر التحريم على صورة مزعومة لربا الجاهلية المحرم؛ فحسب تعبير الدكتور عبد الرزاق السنهوري: (غني عن البيان أن القول بأن ربا الفضل وربا النسيئة إنما نُهي عنهما في الحديث الشريف نهي كراهة لا نهي تحريم، لا يتفق مع ما أجمعت عليه المذاهب)، (الذي انعقد عليه الإجماع أن كل ذلك ربا محرم، لا ربا مكروه فحسب).
وحسب تعبير الدكتور زكي الدين بدوي: (قول الشيخ محمد رشيد: إن النهي عن بيع الأصناف الواردة في الحديث كان تورعًا؛ لإفادة أن بيعها خلاف الأولى، أو كان للكراهية فقط لا للتحريم، دعوى تتعارض مع ظواهر نصوص الأحاديث، والمأثور عن الصحابة؛ فظاهر الأحاديث يفيد التحريم؛ إذ يطلق على هذه البيوع لفظ ربا، ومعلوم إثمه، وما خص به من شديد الوعيد) "دلالة الأحاديث عليها لا تختلف فيها الإفهام".
ويُضاف إلى اعتراضات الأستاذين المشار إليهما ما يأتي:
1 - لو فُرض أن لفظ (الربا) في آيات سورة البقرة (مجملة)؛ فإن القاعدة الأصولية أنه يرجع في تبيين المجمل في القرآن إلى نصوص القرآن، وإلى صحيح السنَّة النبوية؛ فآية سورة النساء تبين أن مفهوم هذه اللفظة (الربا) الذي اعتاد اليهود على ممارسته، وهو إقراض النقود لأجل بفائدة، وثبوت هذا لا ينازع فيه إلا مكابر، كما أن الأحاديث الثابتة ثبوتًا قطعيًّا، والصريحة في دلالتها؛ لا تجعل مجالًا للشك في دخول القرض لأجل بفائدة في مفهوم الربا.
2 - أن الربا بهذا المفهوم هو المعروف عند الناس عند نزول الوحي، فلا يجوز صرف معناه عن هذا المفهوم إلا بدليل، ولم تقدم المحاولة دليلًا قويًّا أو ضعيفًا، ثابتًا أو غير ثابت على ذلك.
3 - أن صرف اللفظ إلى هذا المفهوم الضيق يخرج ربا النسيئة عن مفهوم الربا المحرم، وهذا مخالف لإجماع الأمة، من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى عصر الشيخ محمد رشيد؛ إذ لم يوجد فضلًا عن أن يُنقل خلاف في تحريم ربا النسيئة، ولاسيما ربا النسيئة في الأثمان، القرض لأجل بفائدة.
4 - تمييز الشيخ محمد رشيد بين الصور الخاصة من الربا التي قصر عليها التحريم بأنها منهي عنها لذاتها، وصور ربا النسيئة الأخرى بأنها منهي عنها لغيرها؛ أي لكونها ذريعة إلى الصورة الأولى تمييز تحكمي لا دليل عليه. |