مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #3  
قديم 11/06/2009, 12:31 AM
وقت الغروب وقت الغروب غير متواجد حالياً
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 10/10/2008
المكان: فى قلب الهلال
مشاركات: 3,349
الغيرة ليست كلها مذمومة

الغيرة ليست كلها مذمومة





الكلام عن الغيرة يتسع ويطول، ولكن الكلام العلمي عنها قليل، وفي هذه السطور نريد أن نناقش مداخل محددة؛ مثل: هل الغيرة خُلُق محمود؟ أم أنها شر كلها؟ أم أن هناك أنواعًا مختلفة منها؟ وما هو الوجه المقبول والمعتدل من الغيرة؟ وماذا يقول الشرع الإسلامي في هذا الموضوع؟


يقول النبي صلى عليه وسلم: (من الغيرة ما يحب اللَّـه ومنها ما يبغضه اللَّـه، فأما التي يحبها اللَّـه فالغيرة في الريبة، وأما ما يبغضها اللَّـه فالغيرة في غير ريبة) [رواه البيهقي في شعب الإيمان، (10391)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (5905)].


والغيرة مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب؛ بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين، وبالتالي؛ فالغيرة المشروعة من جانب الرجل، هي ما كانت بسبب مشاركة الرجال الأجانب له فيما به اختصاصه من زوجه، وعلى ذلك ليست رؤية الأجانب لوجهها وكفيها أو محادثتها بالمعروف مما لا تنفك عنه الحياة الاجتماعية مما به اختصاص الزوج.


ومثال الغيرة المحمودة وهي التي كانت في ريبة، ما قاله سعد بن عبادة لرسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللَّـه لو وجدت مع أهلي رجلًا لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم: (نعم)، قال سعد: كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعالجه بالسيف قبل ذلك، فقال رسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم؛ إنه لغيور، وأنا أغير منه، واللَّـه أغير مني) [رواه مسلم، (3836)]، والغيرة هنا في تصور لحال ريبة؛ لذا كانت محمودة، لكنها زادت عن الحد، إذ دفعت سعد إلى قول ما لا ينبغي أن يُقال.


وربما تدفع غيره إلى فعل ما لا ينبغي، وهو قتل الزاني، بينما الإسلام وضع ضوابط لا تبيح قتل الزاني دون أربعة شهود، فهناك الملاعنة سبيلًا لفض العلاقة الزوجية مع خيانة لم يأتِ معها الزوج بأربعة شهداء، ولا ينفرد الزوج بالقتل حفظًا للدماء أن تضيع بسوء فهم أو لبس.


وكذلك يحمد كل زوج وزوجة إذا كانت منهما غيرة في ريبة وقعت من الطرف الآخر؛ ليتم تقويم السلوك، واجتناب مواضع الريب قبل أن يؤدي ذلك إلى ما لا تُحمد عقباه.


أما الغيرة المذمومة؛ وهي ما كانت في غير ريبة، ومثالها ما حدث فيما روته السيدة عائشة رضي اللَّـه عنها، حينما كانت ليلتها التي يبيت عندها رسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم: فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدتُ فأخذ رداءه رويدًا وانتعل رويدًا، وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويدًا.


فجعلت درعي في رأسي، واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعتُ، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت فليس إلا أن اضطجعت، فدخل فقال: (ما لك يا عائش، حشيا رابية)، قالت: قلت لا شيء، قال: (لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير).


قالت: قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فأخبرته؛ قال: (فأنت السواد الذي رأيت أمامي)، قلت: نعم ... قال: (فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم) [رواه مسلم، (2301)].


وكذلك ما رُوي عن خروج أحد الفتيان مع رسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، وكان حديث الزواج يستأذن رسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم في أوساط النهار ليرجع إلى أهله، فقال له رسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم: (خذ عليك سلاحك؛ فإني أخشى عليك قريظة) ففعل، فحينما وصل بيته؛ وجد امرأته واقفة بين البابين قائمة فأهوى إليها الرمح ليطعنها به وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح [رواه مسلم، (5976)]، ومن هذا الأثر نتبين أن الغيرة لا تعني سوء الظن بالصاحب.


والغيرة الزائدة، وهي التي تزيد عن حد الاعتدال، يجب أن يتم الترفق في معالجة آثارها وينبغي أيضًا اجتناب مثيراتها، هذا من جانب الصاحب المعافى، أما الطرف المُبتلى فعليه أن يبذل جهده في ضبط مشاعره قدر الإمكان، كما أن عليه ضبط سلوكه حتى لا يصدر فيه ما يخالف الشرع.


ومن أمثلة الغيرة الزائدة والتي روتها كتب السنَّة والسيرة والتاريخ، أن زوجة لعمر بن الخطاب كانت تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: وما يمنعه أن ينهاني؟ قال ابن عمر: يمنعه قول رسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء اللَّـه مساجد اللَّـه) [رواه البخاري، (900)].


وهنا نلمس ضبط عمر لغيرته الزائدة فلم يمنع زوجته من الذهاب للمسجد؛ التزامًا منه بقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه.


وفي السنَّة أيضًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم، إذ رأيتني في الجنة، فإذا امرأة توضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرة عمر؛ فوليت مدبرًا) [متفق عليه، رواه البخاري، (7023)، ومسلم، (6353)]، والغيرة هنا لا علاقة لها بزوجة عمر، ولكن من علم من صاحبه خلقًا لا ينبغي أن يتعرض لما ينافره، فالحديث يبين كيف راعى رسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم غيرة عمر الزائدة، فولَّى مدبرًا، كما يبين كيف تغلب إجلال عمر لرسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم على غيرته الزائدة.


وكانت أسماء بنت أبي بكر تنقل النوى من أرض الزبير، فلقيها الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأناخ لها البعير كي تركب، وكان معه نفر من الصحابة؛ فاستحت أسماء أن تسير مع الرجال، وتذكرت الزبير وغيرته فاعتذرت لرسول اللَّـه صلى الله عليه وسلم، وحينما عادت أخبرت الزبير بالواقعة؛ فقال: (واللَّـه لحملك النوى أشد علي من ركوبك معه) [رواه البخاري، (5224)]، فنلحظ هنا كيف تحملت أسماء المشقة مراعاة لغيرة زوجها الزائدة، كما نلحظ أن مروءة ابن الزبير كادت أن تتغلب على غيرته الزائدة، أي أنه يقصد أن ركوبها كان أخف مما تحقق من تبذلها بحمل النوى على رأسها من مكان بعيد.


ومرة أخرى جاء رجل إلى أسماء بنت أبي بكر، فقال: إني رجل فقير أردت أن أبيع بجوار دارك فقالت له: إني إن أذنت لك رفض ذلك الزبير، فتعالَ فاطلب مني ذلك والزبير موجود، فجاء ففعل، فقالت: ألم تجد بالمدينة إلا داري؟ فقال لها الزبير: (مالك أن تمنعي رجلًا فقيرًا يبيع) [رواه مسلم، (5822)].


وهنا نرى أن أسماء استعملت الحيلة لمعالجة غيرة زوجها، ونرى الزبير في نفس الوقت يغلِّب حب عمل المعروف على مشاعر الغيرة.


والغيرة التي يمكن أن يُغَض الطرف عنها هي الصغائر والهفوات التي تصدر من صاحبها ما لم يفعل حرامًا، ولها أمثلة؛ منها: غيرة الزوجة من الزوجة السابقة، والسيدة عائشة كانت تقول: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها؛ ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها) [رواه البخاري، (3818)].


ومرة ذبح شاة وقطعها وبعثها صدقة على خديجة، فقالت له عائشة: (كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة)، فيقول: (إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد) [رواه البخاري، (3818)]، وفي مرة أخرى قالت: (ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك اللَّـه خيرًا منها تحفة) [رواه البخاري، (3821)]؛ وهنا عذر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وتغاضى عما قالته في حق خديجة.


ومن الغيرة المعذورة أيضًا غيرة المرأة من ضرتها، ومن أمثلتها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند إحدى زوجاته، فأرسلت إليه إحدى أمهات المؤمنين بطبق فيه طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقط الطبق فانفلق، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم القطع، وأتى بطبق من عند التي هو في بيتها فدفعها للخادم، وقال: (غارت أمكم) [رواه البخاري، (5225)]، وهنا ألزمت الغيرة بضمان ما أتلفته، ولم يزد الرسول صلى الله عليه وسلم عن قوله: (غارت أمكم)، ومن أمثلة الغيرة التي يُعذر صاحبها أيضًا غيرة المرأة من شروع زوجها في خطبة أخرى.
اضافة رد مع اقتباس