المنتديات الموقع العربي الموقع الانجليزي الهلال تيوب بلوتوث صوتيات الهلال اهداف الهلال صور الهلال
العودة   نادي الهلال السعودي - شبكة الزعيم - الموقع الرسمي > المنتديات العامة > منتدى المجلس العام
   

منتدى المجلس العام لمناقشة المواضيع العامه التي لا تتعلق بالرياضة

إضافة رد
   
 
LinkBack أدوات الموضوع طريقة عرض الموضوع
  #1  
قديم 03/10/2004, 10:03 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420
مذكرات وفضايح صدام حسين .. يكتبها طبيبه الخاص


[ALIGN=LEFT][/ALIGN]
منقول

د. علاء بشير.. طبيب صدام حسين الخاص


أخيراً صدر كتاب الدكتور علاء بشير، طبيب صدام الخاص باللغتين النرويجية والعربية (دار الشروق في القاهرة) وتتولي 17 دار نشر اخري في العالم ترجمته الي مختلف لغات الدنيا لأهميته. اراد الدكتور الفنان علاء بشير من كتابه إعطاء صورة اقرب الي الحقيقة للجيل المقبل حول مرحلة مأساوية من تاريخ العراق، آملا ان تساهم هذه الرواية للاحداث في منع تكرار هذه المأساة الكارثية التي ارتكبها شخص مريض يرتاب لكل شيء حوله الي درجة حوَّل معها العراق الي بركة دم.

ويحمِّل بشير الشعب العراقي جزءا من مسؤولية وصول صدام الي السلطة واستمراره لثلاثة عقود، لكنه يقر بانه لم يكن ليستطيع رفض منصبه بعد ان ملأ عشرات الاوراق ورد علي مئات الاسئلة، وقد كان آخر لقاء للطبيب مع صدام قبل 6 اسابيع من الحرب لفحص ظهره.



############## الحلقة الأولي: ##############


صـــــــدام:
أنت علاء بشير الفنان.. ستصبح طبيبي الـخاص



أعددنا احتياجات المستشفيات من دون أن نعرف بالـحرب مع ايران
في حدود الساعة الخامسة صباحا من يوم الثالث والعشرين من سبتمبر من عام 1980 ايقظني صوت انفجار هائل. كنت قد قضيت الليل في مستشفي الواسطي في بغداد، فقفزت من سريري ونظرت من النافذة لأري النيران والدخان الاسود فوق حي زيونة، وهو من الاحياء الخاصة بالجيش. كانت بشائر اشعة الشمس قد بدأت علي استحياء تشق الظلام في هذا الوقت المبكر من الفجر، حيث انعكست ذهبية لامعة علي اجنحة قاذفات القنابل التي كانت تحلق فوق هذا الحي من المدينة وتلقي بأحمالها المميتة.

كان اول خاطر يخطر لي هو انها محاولة انقلاب، ولكنني رأيت بعد ذلك ان الطائرات إيرانية. ففي اليوم السابق كان صدام حسين قد امر السلاح الجوي من جهة، والجنود بدباباتهم من جهة اخري، ان يتوغلوا في الاراضي الايرانية في الجبهة الشمالية والجنوبية في شرق البلاد التي يبلغ طولها خمسمائة كيلومتر.

ها هو إذن رد طهران
بعد ذلك بعشرين دقيقة وصلت اولي سيارات الاسعاف لتنقل الموتي والجرحي. كان اول الضحايا ولد في الخامسة من عمره، كان قد قضي الليلة مع والديه واخوته الكثيرين فوق سطح المنزل ليستمتعوا بنسمات الخريف الباردة. كان رأسه قد فصل عن جسمه، لا يربطه به سوي بعض الجلد المغطي بالدماء والطين والغبار. وكان والده ووالدته واخته قد لقوا ايضا حتفهم بعدما أطاح بهم الضغط الشديد الناجم عن انفجار قنبلة بالقرب من السطح الي حديقتهم الصغيرة. كان منظر الدم المتجلط والطين الاحمر والغبار يستدعي في النفس صورة التماثيل السومرية من الطين المحروق.

صراع طويل
في الراديو الذي ادرته علي برنامج الموجة القصيرة «صوت اميركا» كان احد المحللين في وكالة المخابرات الاميركية يعلق علي اندلاع الحرب. ما زلت اتذكر انه قد تنبأ بصراع طويل، دموي إلي أقصي الحدود، مضيفا ان هذا الصراع سيستمر لسنوات طويلة ولن يخرج منه اي من العراق او ايران مكللا بالنصر.

لا اعتقد ان محلل وكالة المخابرات الاميركية كان يدرك انه مُحِقٌّ فيما قاله
أذهلتني مفاجأة الحرب تماما، لكن في واقع الامر ربما كان عليَّ ان استشعر ان شيئا ما سيحدث؛ فقبل ذلك بستة اشهر كنت عضوا في لجنة طارئة كانت مهمتها التحري عن مدي حاجة المستشفيات المدنية والعسكرية في العراق الي الادوية والمعدات وغيرها من التجهيزات الطبية. كان نصف اعضاء اللجنة من وزارة الصحة والنصف الآخر عينته وزارة الدفاع، وكان يتكون من الضباط والاطباء علي حد سواء، وحتي عندما طُلب منا بعد عدة اشهر من تشكيل اللجنة ان نعطي بيانات محددة عن مدي النقص في المحاليل وبلازما الدم ومراهم الحروق والمضادات الحيوية الضرورية في حال حدوث «كارثة وطنية» قد تخلف من الجرحي ما قد يصل الي عشرة آلاف جريح، حتي عندها لم ادرك انني اشترك في الاعداد للحرب ضد جيراننا!

السيطرة علي شط العرب
علمنا ان شط العرب هو السبب وراء هجوم القوات المسلحة العراقية علي ايران. ففي الشمال من مدينة البصرة يلتقي نهرا دجلة والفرات ليكونا هذا النهر العظيم الذي يواصل سيره لمسافة مائة كيلومتر حتي يصب في الخليج العربي لتكوّن بذلك آخر ثمانين كيلومترا من مجراه الحدود بين العراق وايران. يمثل شط العرب المنفذ الوحيد للعراق علي الخليج العربي. ويحكي ان السندباد في «ألف ليلة وليلة» قد ابحر من شطّ العرب في رحلاته الاسطورية.

حارب العرب في الغرب والايرانيون في الشرق لمئات السنين من اجل السيطرة علي هذا النهر المهم استراتيجيا والمتعرض لظاهرة المد والجزر، والذي يشهد حركة ملاحية نشطة. كانت الحدود بين العرب والايرانيين تسير في الجزء الاكبر من النهر بمحاذاة ضفة النهر في الجانب الايراني.

في شهر مارس من عام 1975 اعلن في اجتماع الوزراء في منظمة الاوبك في الجزائر ان صدام حسين والشاه الايراني محمد رضا بهلوي قد اتفقا علي تعديل الحدود لتسير بمحاذاة اعمق نقطة في عرضه.

كانت ايران تساند حينها بالمال والسلاح زعيم الاكراد مصطفي البرزاني ومحاربيه المعروفين باسم البشمركة الذين قاموا بتمرد جديد ضد القوات الحكومية في شمال العراق، وذلك بعد ان ساد جو من الهدوء النسبي في المناطق الجبلية، وهو ما يرجع الفضل فيه الي اتفاقية مهمة بين صدام وبرزاني في عام 1970، حيث اتفق كل من الطرفين علي ان يحصل الاكراد في خلال الاعوام الاربعة التالية علي ما يشبه الحكم الذاتي الكامل، لكن كالمعتاد كان هذا وعدا زائفا، ففي مارس من عام 1974 انتهت المهلة المحددة لتشكيل حكومة الحكم الذاتي دون ان يمنح صدام الاكراد استقلالهم الذي كان قد وافق عليه كتابيا.

في بادئ الامر لم يجد مصطفي البرزاني اي صعوبات في ان يحرك الشاه الايراني الذي تجمعه علاقة طيبة بالولايات المتحدة الاميركية لمساندة ثورة الاكراد التي بدأها بعدما تبين له انه قد خُدع من قِبَل صدام. كانت واشنطن لا تزال تتابع تقرب العراق من الاتحاد السوفيتي بعظيم الارتياب، لذا لم يكن مضرا بالمصالح الغربية ان تسهم ثورات جديدة وحرب اخري في اضعاف النظام في بغداد اقتصاديا وسياسيا، ذلك ما كانت تعتقده كل من وكالة المخابرات الاميركية والبيت الابيض.

لكن الشاه طعن الاكراد في ظهورهم عن طريق اتفاقية الجزائر في عام 1975، فلم يعد المتمردون يحصلون علي السلاح والمال، وذلك عندما اعلن صدام موافقته علي تحديد الحدود الجديدة في وسط شط العرب. عندها وجد البرزاني نفسه مجبرا علي وقف الاعمال القتالية الي اجل مسمي، وهرب الي ايران حيث كان يقيم هناك مائة الف لاجئ كردي، معظمهم من النساء والاطفال والشيوخ.

كان من المقرر ان تنهي اتفاقية الجزائر التي وقَّع عليها كل من العراق وايران الصراع بين الشعبين الشقيقين الي الابد. ذلك ما ورد في الاتفاقية، لكن لم تمر سوي اعوام قلائل حتي اخذت الاتهامات تنهمر من جديد بسبب انتهاك الحدود في شط العرب، سواء من جانب بغداد او من جانب طهران، وفي اثناء ذلك أُسقِط الشاه المريض بالسرطان، واستولت الاصولية الشيعية بعد ثورة 1979 علي السلطة بقيادة آية الله روح الله الخميني.

ولم تتحسن العلاقة بين «الشعبين الشقيقين» عندما عاد خميني يساند بالمال والسلاح البرزاني والبشمركة الذين بدأوا تمردا من جديد في المناطق الكردية في شمال العراق.

كانت الاخبار المستمرة حول انتهاك ايران للحدود في شط العرب او في اماكن اخري بمحاذاة خط الحدود الطويل تلقي بظلالها علي فصل الصيف السابق لاندلاع الحرب، فقام الجيش العراقي ببعض الاعمال الانتقامية في الاراضي الايرانية ردا علي ذلك، لكنني لم اكن اري ــ مثلي مثل معظم العراقيين ــ ان هذه المناوشات من شأنها ان تصبح حربا حقيقية.

أسباب أخري للحرب

إذن بدأت الحرب
اعلن الجانب الرسمي ان انتهاكات ايران المستمرة للحدود جعلت شن هجوم علي ايران امرا لا مفر منه، لكننا كنا نظن ان هناك اسبابا اخري خفية لهذا الاندلاع الفجائي للحرب.

وعند التأمل العميق يمكن ان نفهم بسهولة ان الخميني واتباعه كانوا يسببون الخوف والرعب لصدام والنخبة السنية المحيطة به، حيث كان معظم العراقيين في آخر الامر شيعة، مثلهم مثل الاصوليين الذين استولوا علي السلطة في ايران، ولم يكن احد يعلم اذا ما كانت الثورة الاسلامية يمكن ان تمتد الي العراق العلماني ام لا؟

كان نزار الخزرجي واحدا من اهم قادة صدام العسكريين، حيث عين رئيسا لأركان الحرب في نهاية الحرب مع ايران التي امتدت ثمانية اعوام. كان نزار لا يخفي عليّ ابدا ان الرئيس كان يري ان الهجوم علي ايران امر ضروري ليتقي به هجوما مستقبليا من ايران. «كان لابد من الهجوم قبل ان يتمكن آية الله ومن معه من الموالي ان يستعيدوا القوة الحربية الكبيرة للجيش الايراني الذي كان قد شهد ضعفا كبيرا في صفوفه بسبب الفوضي التي عمت بعد سقوط الشاه، وبعد عمليات التطهير التي قام بها الضباط بعضهم بين بعض. كانت نصيحة المخابرات الحربية العراقية لصدام واضحة».

طرد الخميني
كانت العلاقات بين الرجلين القويين في بغداد وطهران قد تجمدت بعدما القي بالخميني في شهر اكتوبر من عام 1978 خارج مدينة النجف في العراق ــ المدينة المقدسة لدي الشيعة ــ حيث كان آية الله يبلغ من العمر آنذاك ستة وسبعين عاما. كان قبلها بأربعة عشر عاما قد عبر الحدود الي العراق ونزل بالقرب من ضريح الامام علي بعدما احتدم الخلاف بينه وبين الشاه، واضطر الي الذهاب للمنفي.

كان الشاعر والاديب الذي تقلد منصب وزير الاعلام والثقافة، شفيق الكمالي، قد كُلف بإبلاغ الخميني برسالة صدام التي فحواها ان استمرار بقاء آية الله في النجف من شأنه ان يصبح خطرا علي امن العراق ومصلحته القومية، وانه بالنظر الي الحالة غير المستقرة والمتوترة في ايران، وحفاظا علي العلاقة بين البلدين، فإن عليه ان يرحل.

لا سلام ولا نظرة
دخل الكمالي ومعه وفد كبير شقة الخميني في المدينة المقدسة، وقبل ان يسمح لهم بالدخول علي الخميني، ظهر سكرتيره الخاص واخبرهم ان آية الله الخميني لا يرغب في مصافحة احد، وان عليهم ان يكتفوا بتحية الاسلام المعروفة «السلام عليكم»، وعندما دخلوا الحجرة التي يستقبل فيها الخميني ضيوفه، كان الخميني يجلس مع المترجم علي الارض. قال الكمالي: «السلام عليكم»، لكن آية الله رد عليه السلام ببرود ولم ينهض ايضا، فكان علي اعضاء الوفد العراقي ان يجلسوا هم ايضا علي الارض، قبل ان يصرح وزير الاعلام والثقافة برغبة صدام.

كان الخميني يحملق في سقف الحجرة او في مترجمه او سكرتيره بشكل لافت للانتباه، فلم يكن لينعم علي وزير الاعلام او اي من المبعوثين من بغداد بنظرة واحدة. كان يجيب عن الاسئلة بنعم او بلا، او يترك مهمة الاجابة عنها لسكرتيره الخاص. ولم ينظر الخميني الي الرسل القادمين من بغداد الا بعد ان انتهي الحديث الذي لم يدع فيه الكمالي مجالا للشك في انه لا يوجد حل آخر سوي ان يغادر الخميني العراق في اقرب وقت ممكن.


محرك نفاث
«كان ينظر الينا الواحد تلو الآخر دون ان ينبس بكلمة، كان له حضور قوي. كنت اشعر كما لو كنت اقف في مهب محرك نفاث عندما كان يصوب عينيه نحوي. بدأت ارتعد»، ذلك ما رواه لي الكمالي فيما بعد مضيفا: «كان لدينا جميعا الشعور نفسه عندما خرجنا من عنده».

كان شهر رمضان المعظم قد بدأ عندما بدأ آية الله واتباعه يتحركون من النجف الي البصرة ليعبروا من هناك الحدود الي الكويت. غير انه لم يسمح له بالعبور في اول محاولة بسبب بعض المشاكل المتعلقة بالتأشيرة الخاصة به، فاضطر الي الرجوع وقضاء الليل في فندق قريب من مطار المدينة.

كان مدير الصحة في المحافظة آنذاك، نزار شاهبندر، عضوا في لجنة مهمتها الاشراف علي كل شيء يخص فترة اقامة الخميني والاعتناء به. «كان الخميني غاضبا وثائرا بشكل جنوني»، ذلك ما قاله لي شاهبندر فيما بعد. لم يكن يرغب في التحدث مع احد، كما امتنع عن تناول وجبة الافطار في الفندق. لم يتناول الخميني شيئا من الطعام الا عندما عبر الحدود الي الكويت في مساء اليوم التالي، حيث اراد البقاء هناك الي ان يستقل الطائرة الي فرنسا.

ربما لم يكن غريبا علي صدام - الذي كانت تُنقل اليه بالطبع كل التفاصيل ــ ان يتوقع وفق تصوراته البدوية ان الخميني سوف ينتقم لنفسه ان آجلا او عاجلا فكان لابد لصدام اذن من ان يسبقه.

تحول مستشفي الواسطي الي مستشفي عسكري صرف فور نشوب الحرب. ولاننا كنا متخصصين في جراحة التجميل واعادة التاهيل، فان اصعب حالات الجرحي واكثرها تعقيدا كانت ترسل من الجبهة الينا، ويتضح من ملفات المرضي اننا قد قمنا بأكثر من اثنتين وعشرين الف عملية جراحية في هذا المستشفي في اثناء الاعوام الثمانية التي استمرت فيها الحرب. اما حجم الموت والمعاناة فانه لا يمكن لأحد ان يقدر ابعاده الا اذا كان هو نفسه قد شهد مثل هذه الماساة الانسانية العظيمة لفترة طويلة.

ما زالت بعض الحالات المأساوية تسلبني في الليل نومي، مثل حالة الملازم ذي الواحد والعشرين ربيعا الذي اتي الينا في خريف عام 1982 من الجبهة مباشرة الي مستشفي الواسطي، ومعه خمسة عشر آخرون من الضباط والجنود المصابين. كانوا قد احتموا تحت شاحنة كبيرة عندما تعرضوا لوابل من قصف المدفعية الايرانية المكثف، غير ان الشاحنة قد قصفت علي الفور. بترت شظية كبيرة الذراع اليمني للملازم تماما.

كان يعطي انطباعا بانه اصغر من سنه كثيرا، وكان يبدو انه يتوق إلي حياة عادية مثل اي شاب في عمره، غير ان ذراعه التي ضاعت سلبته كل امل في المستقبل.

حاولت ان اسرّي عنه
«لقد كنتَ شجاعا وقدمت كثيرا لبلادنا. ستحصل الآن علي وسام تقديرا لشجاعتك، ويمكنك ان تحمله طيلة حياتك في فخر»، هذا ما قلته.

نظر الي عيني ثم اعقبها بنظرة الي ذراعي اليمني. وهنا لم يعد في مقدور الملازم الشاب ان يمسك دموعه.

فهمتُ قصده
كان الجيش العراقي قد تمكن في بداية الحرب من احراز بعض النجاحات، غير ان الايرانيين في خلال عام 1982 كانوا قد دحروا قوات صدام المهاجمة. وسعت دول عربية عديدة للتوصل الي وقف اطلاق النار، لكن الخميني الذي كان مزهوا بالانتصارات التي احرزها في معظم الجبهات قرر الا يوقف القتال الذي تحول الي حرب استنزاف كبدت الجانبين خسائر فادحة.

ومع الوقت تم استدعاء جميع الرجال الذين كانوا قادرين علي حمل السلاح، والذين كان يمكن الاستغناء عنهم في وظائفهم الاساسية، ففقدت الاسرة وراء الاخري عائلها، وعاش كثيرون في فقر مدقع.

تجنيد بالقوة
حكي لي احد اقربائي عن اسرة كانت قد انتقلت في اثناء الحرب من البصرة الي احدي الضواحي في الجنوب الشرقي من بغداد. كانت الاسرة تتكون من رجل وزوجته وطفل رضيع يبلغ من العمر ثلاثة اشهر، وما ان انتقلوا الي تلك الضاحية حتي كان مندوب حزب البعث هناك قد اتي اليهم وطلب من الرجل ان يسجل نفسه بأقصي سرعة ممكنة للمشاركة في الحرب مع قوات الجيش الشعبي.

«ارجوك، كن كريما وساعد زوجتي»، هكذا توسل الشاب الي الرجل قبل ان يذهب إلي الحرب، فهو لم يكن يعرف احدا في بغداد.

بعد ذلك بأسبوعين رأي الجيران زوجته تجلس علي السلم باكية، فلم يكن لديها ماء او اي شيء يؤكل في شقتها. كان الطفل قد فارق الحياة. ولم تجرؤ الام علي ان تغادر المنزل وتطلب المساعدة.

تولي الجيران دفن الطفل الرضيع واهتموا بالأم الشابة القادمة من البصرة. وبعد ذلك بشهر وصل نعش الزوج من الجبهة.

كان صدام يدرك ان عليه ان يخفف من المصير المر للحرب، فشرع يوزع السيارات علي اسر الجنود الذين سقطوا في الحرب.

حصلت كل اسرة علي سيارة جديدة ومبلغ عشرة آلاف دينار، وهو ما كان يعادل آنذاك ثلاثين الف دولار اميركي. وكان نادرا ان تُسلَّم السيارة ويُدفع مبلغ التعويض بلا مشاكل. ففي حال اذا ما كان المتوفي متزوجا، فقد كانت اللوائح تنص علي ان زوجته هي المستحقة، وهو الامر الذي كان والدا المتوفي واخوته نادرا ما يقبلونه. كانت هذه الخلافات كثيرا ما ينجم عنها الضرب واطلاق النيران والقتل اذا ما استعانت ارملة المتوفي بوالدها واخوتها وابناء اخواتها ليساعدوها!

كذلك فقد واحد من الممرضين في مستشفي الواسطي ولده في جبهة القتال. ما زلت اراه امامي. كان منهارا تماما علي الارض من شدة الحزن بحيث لا يمكنك مواساته. لم يمر سوي اسبوعين الا وكان يقود سيارة تويوتا كورونا جديدة وقد لطّخ ابواب السيارة بالدماء، فقد ذبح خروفا وسكب دماءه علي السيارة ليدفع عنها الحسد. وها هو ذا الاب يضحك الآن ملء شدقيه!

في بادئ الامر كانت توزع سيارات تويوتا كورونا يابانية الصنع. وعندما ارتفع عدد الضحايا، انخفض مستوي السيارات الي السيارة فولكس فاغن باسات التي كانت تصنع في البرازيل وتستورد من هناك. كانت السيارات تأتي الي باب المنزل، غير ان معظم الارامل والاسر لم تكن تستطيع قيادة السيارات.

وبالرغم من ذلك فقد كانت السيارات تستخدم علي الفور، فتصاعد عدد الحوادث بشكل جنوني، وساهم عدد ضحايا حوادث المرور في ارتفاع تلال القتلي. وقد سمعت ان ذلك كان احد الاسباب التي جعلت صدام يوقف مشروع «سيارة في مقابل الابن» في وسط الحرب.

تم ايضا استنفار ما عرف بالجيش الشعبي في بدايات الحرب المبكرة. كانت هذه الميليشيا يسيطر عليها حزب البعث، وكانت قد اسست في عام 1970 لتتولي التدريب العسكري الاساسي لكوادر الحزب، فمثلت بذلك ثقلا مضادا للجيش النظامي في حال تدبير ضباطه لمحاولة انقلاب.

معاقبة رافض التجنيد
في خريف عام 1981 طُلب من اعضاء حزب البعث في جميع ارجاء العراق ان يكونوا قدوة لغيرهم وان يتطوعوا للخدمة العسكرية في الجيش الشعبي. سري هذا الامر ايضا علي ممثلي الحزب البارزين، غير ان كثيرا منهم رفض تنفيذ الامر بدعوي انهم ليس بمقدورهم الذهاب الي الجبهة لاسباب مختلفة، صحية او شخصية علي حد سواء.

كان الدكتور هاشم جابر واحدا من هؤلاء. كان استاذا في طب الاسنان ورئيسا لجامعة بغداد، وكان يعاني منذ وقت طويل متاعب في الكلي وضغط الدم المرتفع. وكانت عيادته الخاصة تقع بجوار عيادة جراحة التجميل الخاصة بي، فكنا زملاء علي علاقة جيدة واصدقاء. وفي ديسمبر عام 1981 تلقي الخبر بان عليه ان يسجل اسمه للخدمة العسكرية في قاعة الخلد بجوار القصر الجمهوري مع اربعمائة وعشرين عضوا من اعضاء حزب البعث ذي النفوذ الكبير.

كان صدام رقيقا، وكان صوته حنونا عندما افتتح الاجتماع.

«في بادئ الامر اود ان ادعو كل هؤلاء الذين ليسوا في حالة صحية جيدة او الذين يشعرون بانهم منهكو القوي، او لديهم غير ذلك من الاعذار القهرية التي تمنعهم من الانضمام إلي صفوف الجيش الشعبي كغيرهم، ان يتفضلوا بالجلوس في هذه القاعة الي اليسار»، ذلك ما قاله صدام.

نفذ دكتور جابر ومعه مائتان وثلاثون من اعضاء حزب البعث ما طلب منهم. كان من بينهم عديد من نواب الوزراء واعضاء كثيرون في مجلس الشعب.

«هنا اعلن إقالتكم بلا سابق انذار. لا اريد ان اراكم مرة اخري في حزب البعث»، ذلك ما قاله صدام.

إلي الجبهة
وفي آخر الامر ارسل هؤلاء الاعضاء البالغ عددهم مائتين وثلاثين الي الجبهة.

كان من المقرر ان يعقد لقاء القمة لرؤساء حكومات دول عدم الانحياز في عام 1982 في بغداد. تكلفت الاستعدادات مبالغ طائلة، فقد امر صدام ببناء فندق جديد، وهو فندق الرشيد، للمشاركين في القمة من اكثر من مائة دولة. كما قام بشراء عدد كبير من السيارات المرسيدس الليموزين للتنقلات، وغير ذلك الكثير.

وبسبب الحرب والحالة الامنية غير المستقرة في بغداد، حيث كانت تتعرض المدينة بشكل مستمر للهجمات الايرانية بالقنابل والصواريخ، اجلت القمة لمدة عام آخر وتقرر انعقادها في العاصمة الهندية نيودلهي. فتفتق ذهن احد الخبثاء من معسكر الرئيس عن فكرة استخدام السيارات المرسيدس الفاخرة الجديدة كهدايا للاكفاء من المهندسين والمعماريين والاطباء والمعلمين والكتاب والممثلين والنحاتين وغيرهم من ممثلي الثقافة لمكافأتهم علي ما اسدوه من خدمات فائقة لوطنهم في اثناء الحرب التي كانت لا تزال مستمرة.

مرسيدس مكافأة
طُلب مني ان اتوجه إلي أحد قصور صدام لاستلم مكافأتي المتحركة علي عجلات، وذلك ليس بوصفي فنانا، وانما بوصفي طبيبا بعد ان قابلنا صدام، وكنا خمسة وعشرين طبيبا من جميع انحاء العراق، لتكريمنا بسبب معالجتنا للجرحي. ادهشني ذلك بعض الشيء لان السكرتير الخاص بصدام، أرشد ياسين، كان في الاعوام السابقة كثيرا ما يتصل بي تلفونيا او يأتي إليَّ ليخبرني كيف ان الرئيس معجب بإنتاجي الفني الذي لفت انتباهه في برامج التحقيقات التلفزيونية، او في المقالات النقدية في الصحف والمجلات.

سارق آثار
كان ياسين طيارا ولواء في السلاح الجوي، وكان هو نفسه مهتما اهتماما كبيرا بالفن والتحف، لكن هذا الاهتمام لم يكن مجردا تماما من الاغراض الشخصية. كان قد عزل من منصبه كسكرتير شخصي لصدام عندما نُشرت في الجرائد مقالات فحواها ان العديد من التحف العراقية النادرة التي يبلغ عمرها آلاف السنين قد سرقت وهُرِّبت خارج البلاد وبيعت بالملايين في السوق السوداء الدولية للآثار. كان اسم اللواء قد ذُكر في هذه الفضيحة التي انكرها اللواء ارشد عدة مرات، ولكن لأنه كان متزوجا من اخت صدام، نوال، فقد قدر له ان يبقي علي قيد الحياة، بعد عزله عن منصبه.

كنا زهاء خمسة وعشرين طبيبا ممن أُمروا بالذهاب الي قصر الرئاسة ليتسلم كلٌّ منا واحدة من السيارات الباقية كمكافأة لنا علي خدماتنا في الحرب. كان ذلك بعدما تقرر عدم انعقاد قمة دول عدم الانحياز لعام 1982 في بغداد. وقد اكد صدام اهمية الدور الذي قمنا به «بالنسبة إلي الجنود والضباط في الجبهة، وبالنسبة إلي أسرهم التي كان عليهم ان يتركوها ليحاربوا العدو.

ان الرجال من امثالكم هم الذين سيخلدون في تاريخ العراق، وليس رجال الاعمال واصحاب الملايين الذين لا يعنيهم سوي التربح».

ثم سلم علي كلٍّ منا وصافحنا باليد، كما اخذت لنا صورة جماعية بجانبه. وعندما وصل إليّ، توقف بعض الوقت امام اسمي.

سألني: «هل أنت بالمصادفة الفنان علاء بشير»؟

«شيء لا يعقل»، قالها صدام عندما اجبته انه انا. «لا تنصرف بعد ذلك لكي يمكننا التحدث سويا».


لوحات وتماثيل
بعدما انصرف بقية الاطباء، اخذ صدام يثني علي لوحاتي وتماثيلي ايما ثناء. لم يكن يعنيه في المقام الاول انني انا وزملائي في مستشفي الواسطي قد حققنا بعد اندلاع الحرب تقدما رائدا، وطورنا اساليب جديدة في مجال جراحة التجميل وجراحة اعادة التاهيل، وان ابحاثنا قد قُبلت ونشرت في الصحف العالمية البارزة.

«طالما قرأت ان اطباء في اوروبا كانوا في الوقت نفسه من مشاهير الكتاب والموسيقيين والمثّالين. وعلي ما يبدو فان لدينا الآن لأول مرة في تاريخ العراق جراحا فذا وفنانا عظيما في الوقت نفسه. انا سعيد وفخور ان يكون في بلادنا شخص مثلك». وبعد ذلك بثلاثة ايام اتصل بي احد العاملين في مكتب صدام واخبرني اني قد صرت عضوا في فريق الاطباء الخاص بالرئيس .




اضافة رد مع اقتباس
  #2  
قديم 03/10/2004, 10:06 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة الثانية: ##############

قتلوا وزير الصحة وهشموا جسده ونزعوا عينيه!
25 طبيباً كانوا يهتمون بصدام
ويدفع قيمة استشاراتهم حتي لا يكون مديناً لأحد


مأساة الحرب مع إيران
عند التحاقي بفريق الأطباء الخاص بالرئيس، كان الفريق يتكون من عشرة من الأطباء المتخصصين الذين يتولون علاجه، هو وأفراد أسرته القريبين منه. وبالتدريج أصبحنا من عشرين إلي خمسة وعشرين طبيبا. كان صدام يهتم دائما اهتماما بالغا بأن يدفع قيمة الاستشارات والخدمات التي طلبها، إذ لم يكن يحب أن يكون مدينا لأحد بشيء. كان صدام يعبّر عن احترامه لي وتقديره في كل مناسبة ألتقيه فيها. كان يحميني من كل الذئاب المحيطة به، والذين كان ارتيابهم وعدم رضائهم عن أن احترامي لدي الرئيس يزداد يوما بعد يوم. كان ذلك له قيمة الذهب.

كان هناك كثيرون لم يواتهم الحظ مثلي، ففي أثناء الحرب كانت قوات الأمن والمخابرات تقتفي أثر من يعارض الرئيس ونظامه أو من تظن فيه ذلك. وكانت هذه الأعمال تزداد ضراوة يوما بعد يوم. كان فايق ولائق وصادق ثلاثة من أقربائي، وقد تجاوز كلٌّ منهم العشرين من عمره. أخذوا ذات ليلة واتهموا بأنهم من المتضامنين مع حزب الدعوة الإسلامي المحظـور. لم يكـن هنــاك حديـث عن محاكمة لهم أو لغيرهم من الآلاف المؤلفة من العراقيين الذين كانوا يوارون بعد إعدامهم في المقابر الجماعية.

الحفاظ علي السلطة
كان وزير الإعلام والثقافة، الكمالي، واحدا من قليلين للغاية علي قمة الجهاز الحاكم ممن كانوا يحاولون الحد من أعمال التطهير هذه. كان واحدا من مؤسسي حزب البعث، وكان عضوا في القيادة القطرية. في أحد اجتماعات المجلس تساءل الكمالي عما إذا كان من الصواب قانونيا أن تظل المخابرات مصرة علي ما تقترفه من أعمال اعتقال وتعذيب للأبرياء من آباء وإخوة المتهمين من المعارضة التي لم تتمكن من إلقاء القبض عليهم. ثم قال: «إن هذا من شأنه أن يضر بسمعة الحزب والحكومة». كان صدام ينظر إليه ولم يقل شيئا، وبعد انتهاء الاجتماع أخذ صدامٌ الكماليَّ جانبا.

«اسمع أيها الرفيق. إذا كنا نرغب حاليا ومستقبلا في الاحتفاظ بالسلطة في العراق، فيجب أن نحكّم العقل وليس العاطفة».

ولم يمر وقت طويل حتي جاء وزير جديد للإعلام والثقافة في العراق. أما الكمالي فقد ألقي به في السجن، وكان يعاني هزالاً شديداً بعد إطلاق سراحه بعد بضعة أشهر. وقبل وفاته بفترة وجيزة حكي لي الكمالي عما كان يدور في القيادة القطرية.

كانوا يتعقبون أناسا من جميع الطبقات ويقتلونهم دون تمييز، ذلك ما حدث للدكتور رياض إبراهيم أيضا. كان في رأيي أفضل وأذكي وزير صحة في العراق علي الإطلاق. كان واحدا من الأعضاء الأوائل في حزب البعث، وقد ألقي القبض عليه في عام 1958 بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس عبد الكريم قاسم في بغداد، حيث كان قد ساعد في إخفاء الأسلحة التي استخدمها صدام حسين والمتآمرون معه في محاولة الاغتيال. لكنه خرج من ذلك الأمر بعقوبة السجن فقط.

ولأن شأنه شأن كثيرين من الذين انضموا إلي حزب البعث، كان رياض رجلا مخلصا مستقيما. كان يؤمن بالأفكار الأساسية للحركة من تعاون بين الدول العربية وتقسيم عادل للأموال والثروات المعدنية. عرفته رجلا يهتم اهتماما حقيقيا بمصلحة الشعب العراقي، وقد منحه لقب الدكتوراه في الطب ـ الذي حصل عليه من إنكلترا ـ المقوماتُ التخصصية الضرورية التي بسببها تقلد منصب وزير الصحة.

الانتقاد ثمنه القتل
لكنه كان يحيا حياة خطرة. كان يسخر من غباء وعجز زملائه الوزراء، كما كان ينتقد هؤلاء الذين كانوا من الموافقين دائما في مجلس الشعب، ويتحدث عن الطرق الغريبة التي وصلوا بها إلي مناصبهم.

وفي يوم من أيام صيف عام 1982 طُلب مني أن أذهب إلي وزير الصحة رياض إبراهيم في الوزارة. لم أكن أعرف سبب استدعائي، لكني عندما دخلت عليه في مكتبه، قال لي إن اثنين من رجاله سوف يصطحباني عما قريب إلي رجل له مكانة مهمة جدا.

لم يصرح لي إبراهيم مَن يكون الرجل أو ما هو سبب المقابلة.

«لا تتردد في أن تقول رأيك عندما تقابله، فأنت غير مقيد بشيء»، ذلك ما أكده لي وزير الصحة.

أخذتني سيارة مرسيدس سوداء بزجاج غامق إلي بيت صغير واطئ في حي الجادرية. كان هناك من ينتظر قدومي. قُدم لي الشاي، وعلمت أن رئيس القسم المختص بسوريا في المخابرات هو الذي يرغب في إجراء هذا الاستجواب معي.

عملية اغتيال في دمشق
دخل علي الفور في الموضوع.

«هناك سوري يقيم الآن في بغداد ونود أن نعيده إلي دمشق لينفذ عملية اغتيال هناك. لكن السلطات السورية تعرفه جيدا. لذلك نرجوك أن تغير ملامح وجهه تماما».

شكرته علي ثقته الكبيرة في مهاراتي الجراحية، ولكني رفضت معتذرا.

«ليس بمقدوري أن أنفذ هذه الرغبة، لأنها ضد مبادئي الشخصية وضد تصوراتي عن أخلاق المهنة».

أجاب: «حسنا. فلتنس هذا اللقاء ولا تنبس بكلمة عنه لمخلوق أبدا».

في صباح اليوم التالي توجهت إلي رياض إبراهيم وحكيت له عن هذا المطلب.

«هل كنت تعلم بما سيطلبونه مني»؟

«نعم»، أجاب رياض مضيفا: «وقد أوضحت لهم أنك لن تقوم بشيء من هذا القبيل أبدا. لذلك فقد قلت لك بالأمس علي سبيل الاحتياط أنك حر في التصرف كما يحلو لك».

كان في مقدورنا أن نتحدث بصراحة عن كل هذه المواضيع في مكتب رياض إبراهيم. أما عند بقية الوزراء فقد كان المعتاد تجنب الخوض في أحاديث تمس الدولة وأمنها.

تزوير شهادة
لا أعرف مَن مِن ذوي النفوذ العالي لم يعد يرغب في نهاية المطاف في بقاء رياض إبراهيم. فقبل أن يعزل عن منصبه في عام 1982، كان قد روي لي أن هيئة أركان الرئيس ترغب في إرسال طبيب بيطري إلي الخارج ليتخصص في الأساليب الوقائية في حالات التسمم. كان الطبيب البيطري قد حصل علي منحة في معهد طبي في الولايات المتحدة الأميركية، وما ينقصه الآن هو فقط أوراق من وزارة الصحة تشهد بأنه طبيب بشري وليس طبيبا بيطريا.

ورفض الدكتور إبراهيم ذلك.

«ستفقد وزارة الصحة للأبد مصداقيتها إذا وافقنا علي شيء من هذا القبيل»، ذلك ما قاله الوزير وهو في ثورة عارمة عندما اتصل به أحد العاملين في القصر الجمهوري، وسأله لماذا يستغرق الأمر وقتا طويلا حتي يجعلوا من الطبيب البيطري طبيبا بشريا؟!

وسبق السيف العذل بسرعة فاقت تصورات رياض!

وجهت له فجأة تهمة تحمل المسؤولية عن سلسلة من حالات الوفاة حُقن فيها المرضي في الوريد بكميات من كلوريد الكالسيوم عالية التركيز. وعُزل إبراهيم عن منصبه، وشكلت لجنة للتحقيق. وبعد ذلك بعدة أسابيع قُبض عليه وألقي به في السجن.

بلا حراك!
وقد زرته في داره قبل اعتقاله. كان مندهشا من حرسه الشخصي الذين كانوا لا يزالون يحرسون منزله، فقد كانوا عادة ما يسرعون إليه ليفتحوا له باب الجراج عندما كان يريد الخروج بسيارته الرسمية قبل عزله. وها هم الآن ساكنون في أكشاك حراستهم بلا حراك مثل الأصنام.

ثم قال لي: «لقد كنت أحضر إليهم الطعام بنفسي كل ليلة».

أجبته إنه ليس من المفروض أن يدهشه شيء هكذا، «فهؤلاء الناس علي هذه الشاكلة».

ضحك رياض إبراهيم. وبعدها بعدة أسابيع اتهم بقضية الدواء وسجن.

وقد برأت لجنة التحقيق الوزير من كل التهم المنسوبة إليه، فقد اتضح أن صلاحية كلوريد الكالسيوم المصنوع في شركة أدوية فرنسية لم تكن قد انتهت، لكن نسبة تركيز كلوريد الكالسيوم في المحلول كانت أعلي من النسبة المعتادة، ولم يعرف العاملون في المستشفي أن المحلول كان يجب أن يخفف قبل أن يأخذه المريض كما تنص علي ذلك نشرة التعليمات.

لكن نتيجة التحقيق لم تجدِ شيئا. فقد قُتل إبراهيم بعد ستة أسابيع من بقائه في السجن. كنت قد زرت زوجته قبل أن يقتله النظام بيومين للاستفسار عنه، فقالت إنها استلمت رسالة كتبها زوجها علي قصاصة من الورق واستطاع أن يهربها من السجن. كان مكتوبا فيها أنه سعيد لأنه سيري زوجته وأولاده مرة أخري بعد أن ثبت أن الاتهامات الموجهة إليه لا أساس لها من الصحة. وأضاف أن الرئيس سيطلق سراحه في اليوم التالي فور أن يتسلم تقرير اللجنة ويقرأه.

نزع العينين
تولي أخوه أمر الجنازة مع الدكتور غازي الهبش، وهو من أنبل الأطباء الذين عرفتهم، والذي أخبرني بأن فك الدكتور رياض إبراهيم كان مهشما، وأن جسمه كانت تغطيه البقع الزرقاء. كما روي لي أن النيران قد أطلقت عليه من مكان قريب جدا، فأصابته رصاصة في رأسه، وفي منطقة الحوض وفي فخذه. كما انُتزعت عيناه.

كان مستشفي ابن الهيثم في بغداد يتلقي دائما مددا طازجا من ضحايا الإعدامات، وقد أنقذ قسم العيون في المستشفي كثيرا من المرضي المصابين في قرنياتهم من أن يفقدوا نور أعينهم عن طريق استبدالها بقرنية تم التبرع بها!

في بغداد كانت هناك كثير من الاشاعات حول من قام بقتل رياض إبراهيم. كانت أكثر الاشاعات خيالية تلك التي تقول ان صدام هو الذي أطلق عليه النيران بنفسه بعد أن طلب منه في أحد الاجتماعات الحكومية أن يذهب معه إلي الدهليز للحظة. لكن من المستبعد أن يكون رياض إبراهيم قد اشترك في اجتماع كهذا، لأنه كان قد عزل عن منصبه كوزير للصحة قبل مقتله بعدة أسابيع.

كانت هناك اشاعة أخري تقول ان برزان التكريتي، وهو الأخ غير الشقيق لصدام، هو الذي قتل رياض إبراهيم. كان برزان يتقلد آنذاك منصب رئيس المخابرات عندما قتل رياض.

في عام 1985 أتي إليّ برزان في مستشفي الواسطي لأجري له عملية بسيطة، وبعد ذلك تحدثنا سويا لبعض الوقت. أشرت إلي الأجهزة الحديثة في غرفة العمليات. قلت إن الفضل في حصولي علي هذه الأجهزة يرجع إلي الدكتور إبراهيم.

أجاب برزان: «كان إعدامه خطأ فادحا وجريمة وخسارة كبيرة للحزب والعراق». لكن أخا صدام غير الشقيق لم يكن يرغب في الحديث أكثر من ذلك عن هذه القضية. وظل الأمر كذلك في جميع أحاديثنا الطويلة التي جمعتنا بعد ذلك.

لم يكن الدكتور إبراهيم الشخص الوحيد من بين زملائي الذي دفع حياته ثمنا لصراحته. فقد صُفي كلٌّ من زميليَّ الماهرين الدكتور هشام السلمان، والدكتور إسماعيل التاتار، حيث لم يكن لدي كل منهما القدرة علي الإمساك بلسانه.

كان التاتار طبيب أمراض جلدية، وكان واحدا من الفريق الطبي الخاص بالرئيس. أما السلمان فقد كان واحدا من أفضل أطباء الأطفال في العراق.

نكات بريئة
وفي أحد الاحتفالات التي كان يعمها جو من الفرح والمرح، ألقي الطبيبان بعض النكات البريئة التي لا تخلو مع ذلك من إيحاءات خادشة للحياء العام عن صدام حسين، وكانت عن تطبيق قواعد جديدة أكثر صرامة لمكافحة الإيدز. كان كل منهما معروفا بحبه للدعابة دون تحفظ، لكنهما لم يعرفا أن واحدا من المشاركين في الاحتفال كان ممن يتعاونون بشكل واضح مع رجال الأمن، حيث سلط كاميرا الفيديو الخاصة به عليهما خلسة.

أحضر التسـجيل إلي الرئيـس الـذي أمر علي الفور بإعدام كلا الطبيبين لأنهما شهرا به .



لا للتدوين
اعتدت علي تدوين كثير من الأحاديث التي كنت أجريها مع الضحايا من الشباب الذين كانوا يأتوننا من الجبهة. لكنني أدركت مع مرور الوقت أنني ألعب بالنار، فقمت بإحراق جميع المذكرات قبيل نهاية الحرب حتي لا أدخل في مغامرة لا داعي لها، فسقوط هذه الروايات في أيدي المخابرات ومخبري الشرطة السرية الذين لا حصر لهم كان سيعني الموت المحقق.

فقط عندما كانت الوفود الرسمية بصحبة مرافقيها من الصحافيين تأتي إلي مستشفي الواسطي لمنح المرضي جوائز لشجاعتهم، كان المرضي يمتلئون بالعزيمة القتالية، والرغبة العارمة في العودة إلي الجبهة ليقاتلوا الإيرانيين من جديد. وفيما عدا ذلك كانت الروح المعنوية للمرضي منخفضة للغاية.

وعندما كان الجنود والضباط ينفردون بي، كانوا يتحدثون بصراحة وباطمئنان، فقد كانت أهوال المعارك بعيدة كل البعد عن المستشفي، وكانوا علي ثقة بأن أحاديثنا ستخضع لواجب الصمت تجاه أسرار المرضي.

كانت أغلبيتهم الساحقة ضد الحرب، فلم يكن في مقدورهم تفهم السبب في أنهم يقاتلون مسلمين مثلهم.

هدف.. واحد
في عام 1983 قمت بإجراء عملية جراحية لمصور كنت أعرفه جيدا. كانت قد أصابته رصاصة في يده اليمني، وبعد أن تماثل للشفاء أرسل إلي الجبهة ثانية. في صيف عام 1985 اشترك في واحدة من أكثر المعارك دموية في الأراضي الإيرانية، ليس بعيدا عن نفط خانة. اندلعت المعارك في منتصف الليل، وتكبدت كتيبة المصورين خسائر فادحة، ولكن هذا المصور تمكن من الاختباء هو وجندي آخر في أحد الخنادق، حيث رقدا في صمت وسكون آملين ألا يُكتشف وجودهما.

وسرعان ما قفز جنديان آخران في الخندق، ليتلوهما ثلاثة آخرون. كان الظلام دامسا حتي أنه لم يكن في مقدور أحدهم أن يري يديه هو نفسه. ولم يجرؤ أحدهم علي الهمس مخافة أن يسمعهم جنود الأعداء ويكتشفوا مكانهم.

وعندما طلع الصباح تبين أن اثنين ممن اختبآ معهم في الخندق كانا من الجنود الإيرانيين، وأن الثلاثة الآخرين كانوا عراقيين.

«نحن جميعنا مسلمون، ولا يجوز أن يقتل كلٌّ منا الآخر»، كان ذلك ما قاله الإيرانيون.

هرب الإيرانيون، وكذا فعل العراقيون.

معرض فني
في فبراير من عام 1984 أقمت في الوقت نفسه معرضا فنيا في غاليري الرواق في شارع سعدون في وسط بغداد، حيث تناولته الصحف والبرامج التلفزيونية بالعرض تفصيليا.

وذات يوم سألني أحد المرضي أثناء الكشف عليه في مستشفي الواسطي، وكان يدعي «كريم»، يسكن مدينة صدام التي تسمي اليوم مدينة الصدر، عما إذا كان يمكنه الحصول علي نسخة من كتالوغ المعرض مذيلا بتوقيعي. اندهشت، فلقد كان غريبا أن يفكر أحد الجرحي العائدين من الجبهة في الفن، ناهيك عن الفن الحديث. لكن كريما كان قد قرأ المقالة الخاصة بالمعرض في الجريدة، وشاهد صورة لإحدي لوحاتي: حجرة خالية بها نافذة صغيرة، يتخللها شعاع خافت من ضوء الشمس سقط علي رأس رجل مغلف بقطعة من القماش، ومعلق في السقف. وفي نهاية الحجرة يوجد باب يقود إلي حجرة جانبية، ومنها إلي حجرة أخري، وهكذا دواليك حتي يقود الباب الأخير إلي مشهد طبيعي خلاب، سماؤه تامة الصفاء.

كان كريـم من أبطال الحرب، حيث حصل تقديرا لعملياته في أرض العدو علي ما لا يقل عن خمسة أنواط للشجاعة. كان قد أصيب بطلق ناري في ساقه اليمني، وكان عليَّ أن أنقل بعض الأنسجة الجلدية من فخذه، وبعض العضلات من ظهره، لأسد بها الفجوات في النسيج المتهتك والناجمة عن الطلق الناري.

أطلق النار علي نفسه
حققت العملية نجاحا أكبر من المتوقع. وبعد أن ظل كريم راقدا في المستشفي لمدة ثلاثة أسابيع تمكن من السير مرة أخري، وخرج من المستشفي. لذلك تملكتني الدهشة عندما وجدته يترقب ظهوري أمام المدخل الرئيسي لمستشفي الواسطي بعدها بستة أسابيع.

سألته: «هل عاودتك المتاعب في ساقك»؟

أجاب كريم: «لا، لكنني أود أن تقرأ هذا».

أعطاني ورقة كتب عليها قصيدة يمتدحني فيها كطبيب وفنان. كان مكتوبا عليها في أسفلها أنه يريد الاعتراف بشيء ما، ويريد أن يتحدث معي علي انفراد.

وافقت ودعوته لدخول مكتبي.

قال كريم: «منذ رأيت لوحتك لم أذق للراحة طعما. لقد أعياني الشعور بالذنب، وتأنيب الضمير. إن النتائج المترتبة علي ما سأقصه عليك الآن لم تعد تهمني في شيء».

أجبته إن ما سوف يعترف به لن يطلع عليه سوي الله وسواي.

قال كريم: «لقد أطلقت النار بنفسي علي ساقي».

في نهاية الأمر لم يستطع التحمل أكثر من ذلك.

لم يكن يخشي مواصلة القتال، فقد كان شجاعا مقداما. أفضل دليل علي ذلك هو أنواط الشجاعة التي حصل عليها. لكنه كان يشعر أن إرادته قد خانته تماما، فلم يعد يتحمل فكرة مواصلة القتال أكثر من ذلك. كان يرقد في الخندق ويصارع نفسه، في حين كانت الوحدة التابع لها تعد لإجراء توغل جديد في المواقع الإيرانية التي كانت تبعد بضع مئات من الأمتار.

وبعدما صدرت الأوامر وبدأ زملاؤه الهجوم وشعر فجأة أنه لم يعد يستطيع التحمل.

«صعدت إلي ما يزيد علي حافة الخندق، وأطلقت أنا نفسي الرصاص من بندقيتي الكلاشينكوف علي ساقي. لا بد أن عدد الطلقات كان قد تعدي عشر طلقات».

رد فعل إنساني
فقد كريم الوعي، ونُقل إلي مستشفي عسكري في مدينة الكوت في منتصف الطريق بين البصرة وبغداد، حيث عاد إلي وعيه مرة أخري. وهناك نُقل إلي مستشفي الواسطي بصفته بطل حرب.

قال لي: «يمكنك أن تروي ما حكيته لك للسلطات».

بدا عليه أنه باعترافه هذا قد حطم كل جسور الخوف بداخله.

قلت له إن هذه التجربة التي عاشها ما هي إلا رد فعل إنساني طبيعي، وأضفت أنه أمر جيد أن يدرك بنفسه أنه ربما كان عليه أن يتصرف بشكل آخر.

«لكن هذا الأمر الذي تحدثنا عنه سيبقي بيننا نحن الاثنين وبين الله. لن يعلم به شخص آخر. لا تخش شيئا»، كان ذلك ما وعدته به.

وفي يوليو من عام 1984 وصل إلينا جاويش مصاب بحروق في المنطقة القطنية. لم يخطر علي بال أحد في المستشفي الميداني البدائي الذي وصل إليه في بادئ الأمر أن يديره في السرير علي جنبه الآخر، إذ لم يكن بمقدوره الحركة حيث أصابته رصاصة في النخاع بالشلل في المنطقة القطنية. كان مسقط رأسه محافظة الديوانية في وسط العراق، وكان يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما. كان قوي البنية، مفتول العضلات، وكان أحد أفراد سرية العمليات الخاصة التابعة لواحدة من وحدات القوات الخاصة في الجيش العراقي.

مهمة خطيرة
طلبت منه أن يقص عليَّ ما حدث، وعلمت أنه كان وأربعة من الجنود الآخرين من فريق الاستطلاع التابع للقوات الخاصة في قارب مطاطي في واحدة من أكبر مناطق الأهوار في جنوب العراق. كانت مهمة شديدة الخطورة. وكان واحد من الأربعة صديقا حميما له، حيث كانا من القرية نفسها، وكانا يجلسان في الفصل نفسه في المدرسة الابتدائية، وفي المدرسة الثانوية، كما تقدما سويا في الوقت نفسه لأداء الخدمة العسكرية، وقد اجتاز كلٌّ منهما اختبارات القبول التي تتطلب لياقة بدنية عالية، وقُبلا في وحدة العمليات الخاصة التي كانت تحظي بمكانة رفيعة. وفي نهاية المطاف انتهي بهما الأمر إلي السرية نفسها التي تحركت بعد منتصف الليل بقليل لتنفيذ مهمتها الخطرة بالقرب من خطوط العدو في منطقة الأهوار.

شــرب.. الــدم
تمكنوا لفترة طويلة من الاختباء في القصب الكثيف، ولكن بعد عدة ساعات اكتُشف موقعهم وأطلقت عليهم النيران. كان هذا الجاويش أول من أصيب، وفقد الوعي علي أثر ذلك. وعندما أفاق، اكتشف أنه ليس بمقدوره تحريك ساقيه. وفي أثناء ذلك كان الصبح قد بزغ، وكان القارب المطاطي يرقد في القاع علي عمق نصف المتر. أما الأربعة الباقون الذين كانوا معه في القارب فقد طفت جثثهم في مياه الهور بين سيقان القصب الكثيف، وكان صديق عمره يبعد عنه بمقدار ذراع.

ارتفعت الشمس في كبد السماء وارتفعت معها درجة الحرارة. كانت درجة الحرارة علي الأقل خمسين درجة مئوية في الظل، إذا كان هناك ظل. نفد ماء الشرب الذي كان مع الجاويش. وكانت قربة المياه الخاصة بصديقه التي وصل إليها بعد عناء قد ثقبتها رصاصتان. كانت فارغة. إذا كان يريد النجاة فعليه أن يشرب من ماء الهور الذي كان قد اصطبغ باللون الأحمر، لون دماء صاحبه. في النهاية أصبح لا يقدر علي تحمل العطش، ولم يعد يستطيع أن يسيطر علي نفسه. شرب، وكان يحاول في أثناء ذلك يائسا بما تبقي عنده من قدر يسير من القوة أن يدفع زميله، ودمه، بعيدا عنه.

«لم يجهزنا أحد لمثل هذا عندما أنهينا تدريبنا في القوات الخاصة»، ذلك ما قاله لي الجاويش. الزمن وحده أجبرنا علي شرب دماء أصدقائنا.

كان سلوك الجاويش حريا بالإعجاب في مجالات عديدة. كان قد تزوج قبيل الحرب ابنة عمه التي تبلغ من العمر ثمانية عشر ربيعا. كانت رائعة الجمال. ولم يكن لهما أولاد بعد. عندما جاء والده ليزوره، طلب الجاويش منه أن يطلب من زوجته رفع دعوي للطلاق.

«إذا لم تقم هي بذلك، فسأفعله أنا».

لم يكن هذا يعني أنه لم يعد يحبها، بل علي العكس، فقد كان يحلم طيلة الوقت بها. لكنه لم يكن يرغب في أن تزوره.

«لا يمكن أن أجعلها تخدمني طيلة حياتي. فلو فعلت ذلك، لكان جرما مني حقا».

كان مثل هذا التفكير غير مسبوق في المجتمع القبلي في وسط العراق الذي نشأ فيه هذا الجاويش، فما كان واحد من المرضي الآخرين الذين لقي الآلاف منهم المصير نفسه ليقول شيئا من هذا القبيل، إذ كانت مثل هذه الأفكار غريبة علي المجتمع القبلي التقليدي في وسط العراق. لقد كان شابا نبيلا وشهما واستثنائيا حقا!




اضافة رد مع اقتباس
  #3  
قديم 03/10/2004, 10:12 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة الثالثة: ##############

صدام لم يكن يهمه عدد القتلي إنما دحر الأعداء
كان صدام يتطير بمجرد أن يشاهد شيئا يعتبره نذير شؤم.. فيعود


حرب بلا نصر
كان صدام يتوجه من حين لآخر إلي الجبهة، ولكن هذا لم يكن أبدا يعني أنه بالضرورة سيصل إلي هناك، فقد كان صدام ـ شأنه شأن أقاربه القريبين ـ متطيرا، فإذا رأي قطة سوداء فجأة في الطريق فإن ذلك من شأنه أن يجعله يغير مسار موكب السيارات الخاص بـه ويأمـر بالعودة إلي بغداد. كانت حتي رؤية كيس بلاستيك يهفهف في وسط الشارع تُعد نذير شؤم بالنسبة لصدام، وتجعله يعود دون أن ينجز ما كان يعتزمه.

تبديل أمني
كان يبدل السيارة التي يستقلها باستمرار، فكان أحيانا يجلس في آخر سيارة، ثم يعود ليجلس في سيارة في منتصف الموكب. وكان يحدث أيضا أن تصطحبه طائرة مروحية من منتصف الطريق وتطير به إلي هدفه.

كان لا يقضي وقتا طويلا في مكان واحد في الجبهة. وقد حدث أن قُصف ذات ليلة مركزين للقيادة بالقنابل، كان صدام قد زارهما الواحد تلو الآخر. حدث ذلك فور مغادرة صدام، فإن الحذر الشديد والشك كانا حليفيه طيلة حياته.

كان صدام عادة ما يأخذ معه صباح مرزا في زياراته لبعض المواقع علي الجبهة. كان مرزا رئيس الحرس الشخصي لصدام، وكان علي سبيل التغيير يأخذ استراحة لبعض الوقت من واجبه في هذه الزيارات بأن يشارك في واحدة من فرق الإعدام التي كانت تطلق الرصاص علي الجنود الذين تجرأوا علي الانسحاب من تلقاء أنفسهم، أو علي الفرار إلي صفوف العدو.

كان صدام يزور من الحين الي الآخر المستشفيات العسكرية والجنود المصابين، لكنه لم يكن يهتم كثيرا بالأطباء الذين كانوا يصارعون ليلا ونهارا، وعاما بعد عام، من أجل حياة وأجساد ضحايا الحرب. كان ينظر إلي مهنة الطبيب باستعلاء، شأنه شأن إخوته الثلاثة وطبان وسبعاوي وبرزان.

عقدة من الأطباء
واعتقد أن الاستياء الذي كان الرئيس يشعر به تجاه الأطباء له ارتباط وثيق بما كان من بعض الأطباء الذين رفضوا مساعدة صدام بعد محاولته الفاشلة لاغتيال عبدالكريم قاسم في عام 1959، مما اضطره إلي أن يستخرج الرصاصة التي أصابته في بطن ساقه بنفسه بموسي حلاقة.

منافع شخصية
«إن الأطباء ينظرون دائما إلي مصلحتهم الشخصية، فهم في صراع دائم أيهم يمكنه أن يحقق أكبر قدر ممكن من الثراء»، ذلك ما قاله لي الرئيس في أحد الأحاديث الودية التي دارت بيننا في بداية تعارفنا.

«إنهم غير صادقين في معظم الأحيان»، قالها صدام مضيفا:«عندما يحاولون أن يصبحوا أصدقاءك، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لأنهم يأملون في منفعة شخصية. خاصة إذا كنت شخصا ذا نفوذ وسلطة فإنهم يستغلون صداقتك في التربح».

ذات يوم وصل صدام في الصباح المبكر إلي مستشفي الكرخ في بغداد. كان ذلك قبل تغيير نوبة الأطباء بربع ساعة، وطلب من الطبيب الذي يعمل في نوبة الليل أن يعطيه قائمة بأسماء الأطباء الذين سيحلون محله. تلقي جميع الأطباء الذين وصلوا متأخرين، حتي إذا كان هذا التأخير لمدة خمس دقائق فقط، الأمر بأنه لا يرغب في رؤيتهم في العام التالي في المستشفي. حدث ذلك الأمر لستة أو سبعة من زملائي.

كان لدي معظمهم عذر قهري منعهم من الوصول في موعدهم، فقد كان لديهم ما يقومون به في مستشفيات أخري في بغداد. كما كانت القائمة التي أعطاها طبيب الخدمة الليلية لصدام غير صحيحة. فكتبوا خطابا للرئيس وشرحوا فيه ما حدث من لبس، لكن من دون جدوي. هكذا كان الحال مع صدام، إذا اتخذ قرارا، فإنه لا يرجع فيه، ولا يعنيه إذا كان محقا أو مخطئا في هذا القرار.

أستاذ أم رئيس؟
ربما لن ينسي أحد الأطباء في مستشفي الكرخ هذا الصباح طيلة حياته. فقد تقدم نحو الرئيس ومعطفه غير مزرر وسماعته تتأرجح حول رقبته هنا وهناك. وإذا كان هناك شيء لا يتحمله صدام، فكان ذلك هو السلوك غير اللائق في حضوره. لكن حدث ما هو أسوأ من ذلك. فقد خاطب الطبيب الشاب الرئيس بلقب «أستاذ».

«هل خاطبتني بـ «أستاذ» أم بالرئيس»؟، سأله صدام مستنكرا.

«أنـا آسف يا سيدي الرئيس. فقد اعتقدت أنني استخدمت صيغة الخطاب المناسبة».

أخذ الطبيب الشاب في عصر ذلك اليوم، وألقي به في السجن لمدة ستة أشهر.

في منتصف الحرب التي استمرت ثمانية أعوام قتلت عروس يافعة في ليلة الزفاف في هجوم إيراني بالقنابل علي مدينة مندلي في شرق العراق. كانت ساقاها وذراعاها مبتورة عندما عثر عليها هي والعريس الذي لقي حتفه أيضا.

مسابقة المأساة
أقام صدام مسابقة، دعي فيها فنانو العراق للتعبير عن هذه المأساة، علي أن يكون التصوير تمثيليا تماما. كان عليهم أن يصوروا السيدة الشابة في ملابس الزفاف من دون ذراعين أو ساقين، حتي يمكن للأجيال القادمة في جميع العصور أن تعي دون صعوبة هذه الشهادة الفريدة علي وحشية الإيرانيين.

كان يظهر كل ليلة في التلفزيون العراقي بعض الفنانين الذين كانوا يقدمون لصدام أعمالهم المشاركة في المسابقة، غير أن الرئيس لم يكن راضيا عن أي منها، وهو ما أظهره علي شاشة التلفزيون. لكنه اقتنع بعمل قدمه النحات سهيل الهنداوي.

في وقت المسابقة نفسه كنت أقيم معرضا فنيا جديدا في غاليري الرواق. كنت قد أطلقت علي إحدي اللوحات اسم «الشََّهَادة». كانت تظهر في اللوحة صحراء وسماء. كانت هناك قدمان مبتورتان عند الكاحلين تبرزان من الرمال. كان هناك نبات به بعض الأوراق ينمو بينهما. ورسمت أمام السماء يدين مبتورتين أيضا. كانت الأصابع بعيدة عن بعضها. عندما يتأمل المرء اللوحة، يبدو الأمر كما لو كان هناك إنسان يقف رافعا ذراعيه نحو السماء في الصحراء، لكنه بلا جسد.

صهره سارق آثار
زار المعرض اللواء أرشد ياسين الذي لم يكن قد تعرض بعد لمشاكل بسبب ولعه بالآثار العراقية القديمة، ولذلك كان لا يزال يحتفظ بمنصب السكرتير الخاص لصهره. ويبدو أن ما رآه هناك قد أعجبه أيما إعجاب، فقد اتصل بي بعد ذلك بيومين وطلب مني أن أحضر اللوحة إلي صدام الذي يود رؤيتي.

كان الرئيس لتوه في نقاش مع بعض اللواءات العائدين من الجبهة. اضطررت أن أنتظر لمدة ساعة في مكتب ياسين حتي جاء صدام. قال إنه يؤسفه أنني انتظرته، ثم وقف طويلا أمام «الشَّهَادة».

«إنه لعمل فني قوي ومعبر»، قال ذلك صدام مضيفا: «لقد تركت الجسم واحتفظت بما فقدته العروس الشابة».

أردت أن أعترض قائلا إنني لم أكن أستدعيها في ذهني عندما رسمت اللوحة قبل المسابقة بفترة طويلة، لكنه لم يتح لي فرصة لذلك.

قال صدام: «إنها واضحة تماما ولا تحتاج إلي توضيح منك».

طلبت بالرغم من ذلك أن يسمح لي بأن أقول شيئا عن الحرب والشهداء، وعندما أومأ، قلت إن هذا الذي ربما نراه، ليس بالضرورة مطابقا للواقع. وما يقوله الناس، ليس دائما حقيقيا.

«إن أهم شيء أن نفهم ما لا نراه أو لا نسمعه».

لم أجرؤ علي مواصلة محاولتي في أن أوضح لصدام أن المعلومات التي تلقاها من اللواءات والمقربين من أعوانه عن مجري الحرب ليس لها علاقة بالواقع الذي أراه كل يوم في المستشفي العسكري.

قلت: «إن الشهيد هو الذي يصمد من أجل شيء يؤمن به، وهو الذي يضحي من أجل الآخرين. لذلك يَسمون عن الأرض إلي السماء».

صمت صدام. شعرت أنه لا ينصت إليّ.

هدف واحد
عندما أردت الذهاب، قال لي: «ليس لدينا الآن وقت في منتصف الحرب لأن نحصي قتلانا وجرحانا. يجب أن نركز علي هدف واحد لا غير، وهو أن ندحر الأعداء وأن نخرج منتصرين من المعركة. وعندما نصل إلي هذا الهدف ونحقق النصر، يكون بمقدورنا أن نحصي الخسائر التي تكبدناها ونرعي الجرحي بالأسلوب الأمثل».

ثم عاد مرة أخري إلي اللواءات.

عندما اصطحبني اللواء ياسين إلي الخارج، أسرع خلفي واحد من حرس صدام الشخصي ومعه علبة صغيرة. كانت هدية لي من الرئيس، ساعة يد رخيصة. كانت صورة صدام علي ميناء الساعة.

احتفظ لنفسه بـ «الشهادة».

لكن علي ما يبدو كان يتم إحصاء من سقطوا في الحرب.

جندي من دون أذن
في أثناء المعارك الضارية التي دارت في منطقة الحدود في أواخر عام 1983، وبدايات عام 1984 بالقرب من المدينة الإيرانية البسيتين، أحضر جندي إلي مستشفي الواسطي وأذنه اليسري مبتورة تماما. سألته كيف حدث هذا. أجاب أن الضباط والجنود في وحدته كانوا قد وقعوا في كمين، حيث حاصرهم العدو وحصد أرواحهم حصدا. وأضاف إنه قد تم إعدام كثير من الأسري العراقيين في تلك المعركة.

«حتي عنــدما كنـا نرفع أيدينا ونصيح بأننا نريد الاستسلام، كان الإيرانيون لا يتوقفون عن القصف».

كان الظلام دامسا، فقد كان ذلك في الثالثة فجرا. تظاهر الجندي بأنه قد أصيب وزحف تحت اثنين من زملائه الموتي. في أعقاب ذلك بدأ الجنود الإيرانيون في الانسحاب تحسبا لهجوم عراقي مضاد. غير أن أحدهم بقي، كان يسير بين الجثث وفي إحدي يديه مصباح جيب، وفي اليد الأخري مدية. كان قد علّق جرابا مفتوحا في حزامه.

«رأيته يسلط الضوء علي الجنود القتلي، واحدا وراء الآخر ويمثل بهم. كان يضع الأذن في الجراب الصغير».

أذن من كل جثة عراقية. هكذا كان يمكن أن يعبروا بالأرقام عن مدي نجاح الكمين الذي نصبوه.

«ثم قطع من كل جثة من جثتي الزميلين اللذين كنت قد اختبأت تحتهما أذنا. لم يلفت انتباهه أني ما زلت علي قيد الحياة عندما حان الدور عليّ، فقد كان الظلام دامسا في آخر الأمر، وعلي ما يبدو فإنه لم يكن لديه فسحة من الوقت».

استدعي واحد من أبناء أعمامي كمجند احتياط. كان عليه أن يؤدي الخدمة في مشرحة مستشفي الرشيد العسكري في بغداد، حيث كانوا يأتون بالقتلي من الضباط والجنود من الجبهة الممتدة التي تجري فيها الدماء أنهارا. كانوا يأتون بهم علي شاحنات: أجسام ممزقة، رؤوس مفصولة عن الأجساد، أذرع وسيقان كثيرة كومت بعضها فوق بعض.

كانت مهمة ابن عمي أن يتعرف علي الضحايا ويضع كل واحد في نعش خاص به، ثم يرسله إلي أسرته. لكن هذا لم يكن سهلا بالمرة. فأن تجد الرأس المناسب لكل جثة، ثم الأذرع والسيقان الخاصة بها، كان مثله مثل اللغز الصعب الذي عليك أن تحله وتجمع أجزاءه، وكل ذلك في وقت وجيز.

شحنات أخري
«كنا نبذل قصاري جهدنا قبل أن ندق المسامير في غطاء النعش. لكنه كثيرا ما كان يحدث أن نرسل ساقين يمنيين أو ذراعين يسريين إلي أسر الضحايا. كنا نعمل بلا انقطاع حتي تأتي الشحنة الأخري».

ذات يوم سألني عما إذا كان يمكنني عن طريق علاقاتي أن يحصل علي نقل في مكان آخر، بما فيها أسوأ الأماكن في الجبهة. لم يعد يتحمل أكثر من ذلك. نجحت في نقله إلي مكان آخر ليس علي هذه الدرجة من الكآبة في مستشفي عسكري آخر. لكنه لم يعد أبدا كما كان قبل الحرب، كما أصيب بمشاكل نفسية عصيبة بعد نهاية الحرب.

كانت النعوش تغطي بالأعلام العراقية، عندما كان يتم نقل الشهداء الذين سقطوا في الحرب إلي مدافنهم. كان هذا مشهدا يوميا في بغداد والبصرة والناصرية وكربلاء والكوت والحلة وسامراء

وتكريت والموصل وجميع القري والمدن في العراق. فلا يكاد يخلو حي من الأحياء من خيمة العزاء التي أقامها الأقارب حتي يتسني للقريب والبعيد من الأهل والجيران والأصدقاء أن يقدموا العزاء ويقرأوا الفاتحة للمتوفي. في جميع الشوارع تقريبا كانت تعلق الأشرطة السوداء علي جدران المنازل، وقد كتب عليها اسم الأبناء القتلي باللون الأبيض.


.. ومر الصاروخ
في ذات يوم كنت أستقل سيارتي أنا وزوجتي وابنتي الصغيرة في بغداد. كنا نسير خلف سيارتين تحمل كل منهما نعشا فوقها. نظرت ابنتي إليهما ثم قالت إنها تتمني أن تموت هي الأخري.

«لم أعد أتحمل أن أري ذلك كل يوم»، ذلك ما قالته.

أخذت زوجتي تبكي.

«كيف لها أن تفكر بهذه الطريقة؟ إنها لم تتجاوز السادسة بعد».

في هذه اللحظة مر صاروخ إيراني من فوق رؤوسنا. سقط قريبا للغاية من فندق الرشيد وانفجر. تأرجحت سيارتنا من شدة الضغط الجوي. لقد كتب الله تعالي لنا النجاة.

في شهر مايو من عام 1985 جاء لي فريق من التلفزيون العراقي ليجري معي حوارا حول أعمالي كفنان وحول الإنجازات العظيمة التي أحرزناها في مجال الجراحة في مستشفي الواسطي والتي استخدمناها في علاج الآلاف المؤلفة من الضباط والجنود المصابين إصابات خطيرة الذين كانوا يأتوننا من الجبهة. كانت السيدة التي ستجري معي الحوار من أفضل المذيعات في العراق، وأكثرهن شهرة. تم التصوير في الأتيليه الخاص بي. كنت قد انتهيت لتوي من لوحة رجل يحاول أن يمنع طائرا كبيرا من أن ينقره في وجهه. كان يمسك بالطائر من جناحيه فوق رأسه. كانت الألوان المستخدمة في اللوحة هي اللون الأحمر واللون الأسود.

سألتني المذيعة: «ماذا يفعل هذا الطائر الجارح»؟

أجبت إن الفكرة هنا تمثل صراع الإنسان مع القدر.

«يتضح من اللوحة أن القدر هو الذي سينتصر. فالرجل لن يتمكن من أن يظل رافعا ذراعيه لأعلي لفترة طويلة».

«فهو إذن الخاسر»؟، ذلك ما سألتني إياه.

«نعم. إنه ينهزم عندما يموت. لكن الحياة تسير وتتقدم. هذا ما يعطي الحياة معناها».

«لكن لا مجال للادعاء بأنك لا تعبأ بالحياة»؟

«في الواقع يوجد دائما قَدْر من المرارة، شئنا أم أبينا». قلت لها ذلك، مذكرا إياها بالملاكم الأميركي الشهير محمد علي الذي سئل ذات مرة عما إذا كان لا يزال يعد نفسه الأسرع والأقوي في هذا العالم.

أجاب بطل الوزن الثقيل: «لقد اكتشفت أن الزمن أكثر قوة وسرعة وبقاء».

وأضفت من جانبي أنه بمقدور الوقت فقط أن يعلمنا حقائق الحياة أو علي الأقل جزءا منها.

«ما دمنا شبابا وأقوياء وأغنياء وذوي نفوذ، فإننا ننسي كم نحن ضعفاء، وعندنا قابلية لأن نُجرح. هذه هي مأساة البشرية».

طلبت المذيعة من المصور أن يصور عديدا من اللوحات الأخري المعلقة علي حوائط الأتيليه. كان هناك كثير منها، فبعد فترة وجيزة كنت سأقيم معرضا جديدا.

«إن الناس الذين تحدثت إليهم يجدون لوحاتك تبعث علي الكآبة».

«إن واجبي ليس إضحاك الناس أو نقل مشاعر السعادة للناس بأن أخفي عنهم حقيقة الحياة».

«هل تقرأ الشعر؟ هل يمكنك أن تلقي شيئا علينا»؟، كان ذلك هو سؤالها التالي.

أجبت أني أحمل بداخلي دائما بيتا للشاعر العراقي العظيم المتنبي الذي توفي منذ كذا ألف عام .

خطأ المذيعة
ثم ارتكبت المذيعة خطأ ولكنها لم تدركه إلا فيما بعد.

«أنت جراح تجميل وتقوم دائما بعمليات زرع شعر. لماذا لم تزرع لنفسك شعرا فأنت لم يعد لديك كثير من الشعر»؟

«لم يشكل هذا الأمر مطلقا مشكلة بالنسبة لي. بصراحة أنا لا أفكر في هذا الأمر مطلقا».

«لكن ألا تري نفسك كل يوم في المرآة»؟

«بلي، لكن فقط للحلاقة، وليس لأتأمل نفسي بإعجاب، إذا كان ذلك ما تقصدين».

في اليوم التالي اتصل بي سكرتير الرئيس. «لقد أعجب سيادته بالحوار، ويود أن يراك بشدة». في الحجرة المؤدية إلي حجرة صدام عرفت أنه قد شاهد البرنامج من أوله لآخره، وهو ما يحدث نادرا.

«لكنه ثار ثورة عارمة عندما سألتك المذيعة عن زراعة الشعر وعن ضعف نمو شعرك».

علمت بعد ذلك أن صدام أمر بمعاقبة المذيعة.

لم يسمح لها بالظهور علي الشاشة لمدة ستة أشهر.

خطأ في الحجرة
في أواخر عام 1987 اتصل بي أحد اللواءات من مكتب صدام وطلب مني أن أحضر إلي قصر الجمهورية. فقد أصاب ابن أحد المسؤولين نفسه عن طريق الخطأ ببندقيته الكلاشينكوف في قدمه. تم إدخالي عن طريق الخطأ إلي الحجرة المؤدية لحجرة صدام.

كان صدام يستعد للخروج. تأسف لي علي أن الحرس لم يعرفوا إلي أين يذهبون بي.

«لكن فلتتفضل في مكتبي، فيمكننا أن نشرب الشاي سويا»، ذلك ما قاله واستدار في اتجاه حجرته.

تحدثنا عن الحرب وسألني الرئيس عما إذا كان لدينا كثير من الجرحي في مستشفي الواسطي. أجبت أن عدد الجرحي الذين يأتون إلينا قد لا يكون كبيرا مقارنة بالمستشفيات العسكرية الأخري في بغداد، لكن أصعب الحالات هي التي تأتي إلينا.

فسألني إذا ما كان كثير من الضباط والجنود يأتون إلينا بعد أن يكونوا قد فارقوا الحياة. أجبته أن ذلك أمر نادر الحدوث أن يرسل إلينا جرحي من الجبهة إذا لم تكن فرصتهم جيدة في تحمل مشاق الطريق.

«بعضهم وليس كثيراً منهم يفارق الحياة، ولكن لأي طريق».

صمت صدام. ثم قال: «إنه لأمر مؤسف أن يلقي كثير من الشباب هذا المصير، لكنه لم يكن أمامنا طريق آخر. فلو أننا لم ندخل الحرب لكانت الأجيال القادمة ستديننا علي مر العصور».

لم أجرؤ علي أن أعارضه.

لم يكن هناك سوي قليلين ممن يجرأون علي انتقاد الرئيس حتي بينه وبين نفسه. كان فاتك الصافي الذي أعده صديقا حميما مخلصا واحدا من هؤلاء. كانت له أراض زراعية وانضم لحزب البعث عندما بدأ شيئا فشيئا يثبت أقدامه في العراق في الخمسينات. لحق بصدام عبر الصحراء إلي سوريا عندما اضطر أن يغادر البلاد هاربا بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التي قام بها ضد عبدالكريم قاسم في عام 1958. استغرق الهرب أسبوعا تقريبا. كانا يختبئان في النهار ثم يسيران أو يركبان عندما يحل الظلام. كان البدو يساعدونهما في الطريق.

عندما وصل حزب البعث إلي السلطة عرض صدام علي صاحبه عدة مناصب وزارية، لكن الصافي كان دائما ما يرفض. كان يتمني الديموقراطية للعراق وليس الحكم الأسري الذي كان يزداد استبدادا يوما بعد يوم في قصور الرئيس علي نهر دجلة.

وعلي الرغم من ذلك كان صدام يتحدث بشغف مع صديقه القديم. كان علي مدار السنين يزوره كل يوم خميس ليتعشي معه في منزله في حي المنصور.

الانتـخـابات الـحـــرة
«كنت دائما ما أقول له إن أفضل شيء للعراق هو الانتخابات الحرة. يجب أن يحصل العراقيون علي حقوقهم الديموقراطية وأن تكون لديهم الفرصة لممارستها».

كان صدام في بادئ الأمر مستعدا لأن ينصت لي ويتناقش معي.

«لكني بمرور الوقت لاحظت أنه كان يتوتر ويشعر بعدم الارتياح عندما أتطرق لهذا الموضوع وغيره من الموضوعات السياسية المشابهة».

في ليلة صيف في عام 1987 احتدم بينهما الخلاف تماما. كان الرئيس عائدا من الاجتماع السنوي لنقابة المحامين. كان القضاة والمحامون يصفقون في أثناء الخطاب الذي ألقاه وبعده تصفيقا طويلا يصم الآذان. عندما قدم الحساء في منزل الصافي، كان يعرض في نشرة أخبار المساء في التلفزيون العراقي تقريرا تفصيليا عن هذا الاجتماع.

قال صدام: «هل تعتقد أنني طلبت منهم أن يهللوا لي هكذا؟ كان ذلك بمحض إرادتهم. لم يرغمهم أحد علي ذلك».

سخر الصافي منه.

«هل تصدق ذلك حقا»؟

«نعم».

«إذن فأنت مخطئ. ما هؤلاء إلا جماعة من الكذابين المنافقين».

نهض صدام وألقي بملعقته علي المائدة، وغادر منزل الصافي. في هذا المساء قطع كل علاقته بصديقه القديم. لم يأتِ قط للعشاء مرة أخري.

اتضح في صيف عام 1988 أن محلل وكالة المخابرات الأميركية الذي تحدث في إذاعة «صوت أميركا» عندما سقطت قنابل الخميني علي بغداد في سبتمبر عام 1980 كان محقا. فلن يتمكن أحد من الانتصار في هذه الحرب.

علي الرغم من أن الجيش الإيراني كان متفوقا بعدما تمكن في عام 1982 من دحر القوات العراقية الغازية إلي الحدود مرة أخري، لم يتمكن الخميني قط من إحراز الهجوم المضاد الحاسم الذي من شأنه أن يلحق الهزيمة بالعراقيين، ويسقط صدام.

فبفضل إمداد فرنسا والاتحاد السوفيتي للعراق بكميات كبيرة من الأسلحة أصبح العراق هو المتقدم مرة أخري. لكن النصر الحقيقي لم يكن باديا في الأفق. هذا ما أدركه في النهاية صدام والخميني.

في الثامن من أغسطس سكتت المدافع.

أعلن صدام انتصاره، لكن الحدود بقيت علي ما هي عليه قبل حمامات الدم السخيفة. هكذا كانت الحال أيضا في شط العرب، فقد أصبحت أعمق نقطة فيه لا يمكن اجتيازها تقريبا بسبب الحطام الغارق في القاع الذي خلفته القنابل من ورائها.




اضافة رد مع اقتباس
  #4  
قديم 03/10/2004, 10:15 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة الرابعة: ##############

عدي قتل كامل حنا
ثار صدام وأحاله للمحاكمة فحاول الانتحار


كامل حنا كان مسؤول خدم صدام ومن القلائل الذين يحظون بثقته الكاملة
تنهيدة من الارتياح سرت عبر الشرق الأوسط كله عندما انتهت الحرب بين العراق وإيران في أغسطس من عام 1988. أرسل الرئيس حسني مبارك زوجته سوزان إلى بغداد مع أرق الأمنيات. كانت قرينة الرئيس المصري على علاقة جيدة مع ساجدة زوجة صدام. في أثناء الزيارة أقامت كلتا السيدتين في واحدة من دور الضيافة الرسمية التابعة للنظام على مقربة من القصر الجمهوري المطل على الضفة الغربية لنهر دجلة.

كانت حديقة الأعراس تقع غير بعيدة عن دور الضيافة العشر على جزيرة غنّاء تملؤها الحدائق والأشجار الجميلة في بحيرة شاطئية ضحلة تكونت من أحد فروع نهر دجلة. كان هناك جسر يعبر بك إلى الحديقة التي كان يحيط بها ما يقارب من أربعين بيتا من بيوت الضيافة، والتي كان يمكن تأجيرها للمناسبات الاحتفالية. كانت هناك قاعة خاصة محجوزة لاحتفالات الزواج.

في نهاية جزيرة الأعراس كانت هناك ست دور أخرى للضيافة، وكانت تتمتع بمزيد من الفخامة عن الدور الأخرى. كان لكل دار منها حمام سباحة، وكانت هذه الدور مقتصرة على الرئيس وعائلته، والعاملين المقربين، أي الوزراء وكبار القوم من مجلس قيادة الثورة.

ساجدة تستضيف سوزان مبارك
أمام إحدى هذه الدور كانت هناك سهرة انبعثت منها أجواء من الارتياح الشديد، حينما قررت كل من ساجدة وسوزان مبارك الخلود إلى النوم في دار الضيافة الرسمية التي كانت لا تبعد سوى بضع مئات من الأمتار، حيث أخذت الأجواء بعدها تزداد صخبا على صخب. كان كامل حنا يقيم احتفالا لأحد أقربائه الذي كان يحتفل بعيد ميلاده المتمم لعقد من عمره. لم يُحرم في هذه الليلة من ليالي أغسطس أيٌ من الضيوف الذين كان يقارب عددهم الخمسين من أن ينال ما شاء من الخمور.

كان حنا الخادم الخاص لصدام. كان مسيحيا من الشمال، ولم يكن من عائلة الرئيس، ولم يكن أيضا من تكريت، غير أنه كان شديد الولاء. كان يقوم بتوفير الخدمة للرئيس ، بدءا من تحضير الملابس والأحذية مرورا بإعداد الطعام وانتهاء بإدارة المجموعة الضخمة من الخدم التي كانت تحيط بصدام. وكان الرئيس يقدر حنا تقديرا عظيما. كان كامل حنا من القلة القليلة التي كان صدام يوليها ثقته. كان الاحترام والثقة متبادلين بين الطرفين.

عدي وزجاجة الفودكا
كان عدي يقيم هو أيضا بجوار القصر الجمهوري، حيث انتقل ابن الرئيس البالغ من العمر أربعة وعشرين عاما للإقامة الدائمة في إحدى دور الضيافة الرسمية. كان عدي يجلس هناك مع صديقه ظافر محمد جابر أمام النافذة مسترخيا كعادته بصحبة زجاجة من الفودكا حينما سُمع دوي طلقات عالية آتية من العرس.

أرسل عدي حارسا من الحرس الخاص إلى هناك ليعرف ماذا يدور، حيث أخبرهما حنا أن الاحتفال الحقيقي لم يبدأ سوى الآن. أخرجت بنادق الكلاشينكوف، وأطلقت منها طلقات في الهواء تعبيرا عن عظيم الفرح وانبهار كل من المضيف والضيوف الذين كانوا مستمتعين استمتاعا يفوق الوصف والذين ازدادوا سكرا على سكر.

«اذهب إلى هناك واطلب منهم أن يتوقفوا عن إطلاق النار»، قالها عدي مضيفا: «وإلا فإنهم سيوقظون أيضا أمي وسوزان مبارك».

عاد الحارس الخاص إلى حديقة العرس وأخبرهم الرسالة. إلا أن إطلاق النار من البنادق الرشاشة استمر.

كان ظافر محمد جابر من عُمر عدي وكان يعرفه منذ كانا يذهبان إلى المدرسة الثانوية. بمرور الوقت أصبح السكرتير الخاص لابن الرئيس. قفز الاثنان في تلك اللحظة مع بعض الحرس الخاص في سيارة، وذهبا إلى كامل حنا لحثه على الهدوء ولوضع نهاية للموسيقى الراقصة الصاخبة، وللطلقات الطائشة هنا وهناك بلا توقف.

150 عصا
كان عدي يلبس الدشداشة. عندما غادر المنزل أخذ معه أيضا عصا مِشْي من العاج اتخذ مقبضها شكل رأس الثعبان ولُفت بالخيزران. أما الثعبان نفسه فقد كان فاغرا فاه، ذا أنياب سم قوية.

«كان عدي يري أن عصا المشي تليق على دشداشته»، أخبرني بذلك جابر فيما بعد، مضيفا: «كانت تمنحه وجاهة شيوخ دول الخليج».

كان ابن الرئيس يمتلك 150 عصا مشي بمختلف الأشكال والتصميمات. لم يتعلم أبدا أن يروض نفسه، إذا أعجبه شيء ما لم يكن ليقنَع بنسخة وحيدة منه. في منزل عمه وطبان رأى شيشة أعجبته. بعدها ببضعة أسابيع أتت شحنة كاملة من الشِّيَش من الهند.

«كانت كبيرة ومرتفعة ارتفاع الباب».

كان هذا ينطبق أيضا على الساعات اليدوية، الحلي، الخواتم، النقود، النساء والسيارات الفارهة. لم يكن أي شيء يملأ عيني عدي. في احد الكراجات على مقربة من القصر الجمهوري كان هناك مئات السيارات من طراز بي.إم.دبليو، ليكسوس، مرسيدس، فيراري ورولس رويس. وعندما اتخذ عدي طريقه مع جابر ومع اثنين من الحرس الخاص إلى كامل حنا كان هناك في الوقت نفسه مزيد من السيارات المتوجهة إلى بغداد.

واحة الأعراس
كانت جزيرة الأعراس بمساحتها الخضراء وبأشجارها الواقعة على تلك البحيرة تمثل واحة في عراق تزداد حالته المأساوية يوما بعد يوم. كان يمكن مشاهدة الجراح التي خلفتها الحرب بوضوح في كل مكان.

قبل عام 1980 لم يكن في بغداد أي من الشحاذين إلا قليلا، أما الآن فقد كانت ناصية كل شارع تعج بهم. أمَر صدام بطبع النقود ليستطيع تمويل الحرب. كانت النتيجة ارتفاعا متسارعا في الأسعار حطم مستوى المعيشة للناس تحطيما كاملا. قبل الحرب كان الدينار العراقي يساوي ما يزيد على ثلاثة دولارات. أما الآن فقد ساد الاضطراب أسعار الصرف. كان عليك أن تدفع ألف دينار للحصول على دولار واحد فقط، غير أن أجورنا ـ بالدينار ـ ظلت على حالها.

استفحال الرشاوى
لم يعد في مقدور موظفي الدولة أن ينفقوا على أنفسهم وعلى عائلاتهم مما يدفع لهم شهريا، فكان أن بدأوا في طلب الرشاوى لأداء ما لديهم من أعمال، ومنها إنجاز الطلبات. لم يعد هناك مكتب من المكاتب، أو إدارة من الإدارات، أو وزارة من الوزارات إلا واستفحل الفساد فيها، وعلى كل المستويات.

بدأ الأمر أول ما بدأ مع الضباط ذوي الرتب العالية الذين تلقى كثير منهم في أثناء الحرب رشاوى محترمة لكي ينقلوا الجنود من قطاعات الجبهة إلى أماكن أقل دموية، بل إن بعضهم استطاع أن يبني منازل ومزارع مما حصلوا عليه من رشاوى في مقابل نقل وحدات كاملة من الجيش. اهتز ما كان لدى الشعب من تقدير كبير للجيش العراقي في الماضي اهتزازا عنيفا منذ أن انقض صدام على نظام الخميني الإسلامي في الشرق.

.. وانتشار الدعارة
بالنسبة إلى عائلات كثيرة كانت الدعارة هي السبيل الوحيد عندما لم يعد هناك ما يكفي من المال، وعندما كان هناك هذا العدد الهائل من الأفواه التي يجب أن تُطعم، بعدما سقط الأخ أو الأب ليختفي بذلك عائلهم.

مع الفقر زادت أيضا معدلات السرقات وغيرها من الجرائم.

غير أن الميراث المأساوي للحرب كان يكمن في هذا العدد الكبير من المعاقين. ما يقرب من 150 ألفا من العراقيين قضوا نحبهم في الأعوام الثمانية التي استمرت فيها الحرب وجُرح 750 ألفا، كثير جدا منهم تعرض لإصابات وعاهات مستديمة، سواء الجسدية منها أو النفسية.

لم يكن العراق على أدني استعداد لرعايتهم. كان مستشفى ابن القف هو المستشفى الوحيد المتخصص، وكان قد شيد بمساعدات دانمركية في أثناء الحرب لإعادة تأهيل مصابي الحرب شديدي الإعاقة. لم تكن طاقته الاستيعابية كافية بأي شكل من الأشكال. كان الآباء والزوجات المنهكون يُحضرون أبناءهم المعاقين بعد منتصف الليل خاصة ليضعوهم في جنح الظلام في حديقة المستشفي حيث كان العاملون به يجدونهم في الصباح. ومع ذلك لم يكن من المتاح تقديم العون لهم، ناهيك عن أن الأطباء وفنيي العلاج الطبيعي الدانمركيين كانوا خائري القوي من العمل الكثير.

أما إمكانات العلاج بالنسبة لعشرات الآلاف من الجنود الذين كانوا يعانون من مشاكل نفسية نشأت من جراء الخوف الذي تعرضوا له في ساحة القتال فكانت أسوأ كثيرا، حيث لم يكن هناك ببساطة أيٌ من الإمكانات لمعالجتهم. وليس من المألوف في العراق كمـا هي الحـال في الشـرق الأوسـط الحديث عن المشكلات النفسية من أساسه، كما ينظر إلى المرضى الذين يخضعون للعلاج النفسي نظرة دونية، حيث تحـاول العائلات مـا أمكن لها ذلك أن تخفـي ما تعتبره في داخلها عارا ليس دونه عار.

وقتها كان يوجد في كل مدينة، في كل قرية، وفي كل حي تقريبا شباب يعانون من مشاكل نفسية مستعصية. كان يحز في نفسي كطبيب أن أشاهد ذلك دون أن أفعل شيئا.

أشك في أن يكون أي من الحاضرين لاحتفال كمال حنا في العرس الذي أخذ يتزايد صخبا على صخب مهتما بما عليه العراق من حالة سيئة.

اخجلوا
غير أنه عندما ظهر عدي بصحبة عصا المشي الخاصة به المصنوعة من العاج ساد المكان صمت القبور. أخذت الطلقات، والموسيقي، والرقص في التوقف من فورها. يبدو أن حنا كان قد شرب كميات كبيرة من الويسكي حتى أنه اضطُر الى الاستناد الى غيره حتى يستطيع مواجهة زائره. حسبما يتذكر جابر فإن عدي كان قد افتتح النقاش متوعدا.

«اخجلوا من أنفسكم»، قالها عدي مضيفا: «رجوتكم عبر الحرس الخاص أن تهدأوا قليلا. لكنكم لم تعيروا الأمر اهتماما. تاه حظك، لتنزل عليك كل مصائب الدنيا! أدب سيس (من التركية، تعني دون أدب) يا لك من خصي معدوم الخلق»!

«إنه حفلي الخاص»، أجابه حنا مضيفا: «إنك تدس أنفك في كل شيء. أخرج نفسك منها هذه الليلة»!

رفع عدي العصا المصنوعة من العاج عاليا.

«يا كلب. كيف تجرؤ على مجرد التفكير في الحديث معي بهذا الشكل»؟

وعاجل عدي حنا بضربة على رأسه ليخر الخادم الخاص على الأرض.

«سأحكي ذلك لوالدي»، قالها عدي قبل أن يغادر هو وجابر، والحارسان الخاصان الحفل بعد أن توقف صخب الحفل!

لقد قتلته
اعتقد الأربعة أن كمال حنا سقط لأنه أفرط في الشراب وأن الضيوف الآخرين سيساعدونه على النهوض.

اتصل صدام بابنه مع أول خيوط الفجر. كان عدي مندهشا، فقد كان من غير المعتاد على الإطلاق أن يقيم الرئيس اتصالا مباشرا معه على هذا النحو. بدأ يروي لوالده عن كامل حنا وعن أحداث الليلة، غير أن صداما لم يمهله الفرصة للحديث.

«لقد قتلته»، قالها صدام في برود شديد مضيفا: «ستبلغ الشرطة الآن عن الحادث لتلقي الجزاء الذي تستحقه».

عندما نُقل خبر قتل كمال حنا على يد عدي إلى الرئيس خرج صدام عن شعوره تماما.

«سأقتله بيدي هاتين»، خرج صوت صدام راعدا في حضرة زوجته ساجدة. كان قد نُقل إليها خبر ما حدث، فما كان منها إلا أن غادرت دار الضيافة التي كانت تقضي فيها ليلتها مع قرينة الرئيس المصري متوجهة إلى البيت على عجل.

أفزعت ثورة الغضب العارمة التي انتابت صدام والدة عدي، التي اتصلت في يأس بصهرها برزان وروت له ما هدد به صدام. «لا بد أن تأتي حالا وتهدئه».

شعر رأسه.. واقف
عندما ظهر الأخ غير الشقيق في قصر الرئيس كان صدام لا يزال في ثورة غضبه، ولا يمكن التحدث إليه. في ذات مرة أسرّ برزان إليّ بأن العائلة كانت تستطيع أن تري متى كان الرئيس غاضبا حقا، فإنه حين يغضب كان شعر رأسه يقف مثل القنفذ، كما هي الحال الآن.

فيما بعد أخبرني برزان بالآتي: «لو كان عدي بالمقربة منه لكان قد قتله بلا شك. لم أره أبدا غاضبا وخارجا عن شعوره بمثل هذه الدرجة».

شيئا فشيئا أخذ الرئيس يهدأ، وكان في مقدور برزان أن يتحدث معه.

«الآن دعنا نفكر في الأمر في هدوء شديد. إذا قتلت ابنك، فإن هذا لن يعيد كامل حنا إلى الحياة، ولن نجني وقتها سوى الخسارة، خسارة مزدوجة سواء في حجمها أو في تأثيرها. من الأفضل تقديم عدي للمحاكمة، وعلى القضاء تقرير مصيره».
قال صدام: «سأقدمه للمحاكمة».


محاولة انتحار
أصابت عدي صدمة عندما تكشف له ما جنت يداه. تناول أنبوبا من حبوب منومة، وابتلع كل ما فيه.

عندما بدأت الحبوب تأتي مفعولها، وسقط عدي على الأرض نقله حرسه الخاص إلى مستشفي ابن سينا. كان هذا المستشفي الصغير في الأصل عيادة خاصة، تم تحديثها وتوسعتها بعد الانقلاب واستيلاء حزب البعث على الحكم. كان في المستشفي عشرون سريرا وغرفتان للعمليات، كما كان حسب المعايير الغربية مجهزا تجهيزا لا بأس به بالأجهزة الطبية الفنية. كان الأطباء والممرضات الأكفاء يعملون تحت رقابة أمنية. عادة ما كان يقوم جراح وطبيب باطني بالاشتراك مع عشر ممرضات بالخدمة ليل نهار.




اضافة رد مع اقتباس
  #5  
قديم 03/10/2004, 10:23 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة الخامسة: ##############

عدي يكتشف زواج صدام من سميرة الشهبندر
ويبلغ قصي: والدنا يلعب بذيله
صدام تعرض لحادث سيارة وكان وجهه ملطخاً بالدم في مستشفي ابن سينا


عاصفة الصحراء
في مساء الأول من فبراير من عام 1991 كنت جالسا إلي المائدة مع زوجتي وأبنائنا الثلاثة وابنتي، حينما سقطت القنابل علي بغداد، وحيث كانت القذائف تنفجر في كل مكان. لم يكن هناك كهرباء لفترة طويلة، وكنا لا نزال نجلس علي ضوء الشموع كما كانت الحال دائما في غرفة في وسط المنزل. إما أن ننجو في هذه الليلة، أو أن العائلة كلها ستقضي نحبها سويا، إذا أتي الدور علينا. وهكــذا ربمــا كان مــن الأفضل ــ كما دار الفكر بنا ــ أن نفعل مثل كثير من العائلات التي دفع الخوف بأفرادها إلي البحث عن الملاذ فيما بين أنفسهم.

ارتجاج عنيف
كان دوي قاذفات القنابل معدني الرنين فوق رؤوسنا أشبه بصوت مثقاب طبب الأسنان المصم للآذان. بعدها سُمع صوت الانفجارات. تهشمت النوافذ، وارتج بيتنا ارتجاجا عنيفا. كشفت صفارات الإنذار أن سيارات الإسعاف كانت في طريقها إلي القتلي والمصابين.

كانت هجمات الطيران العنيفة قد بدأت قبلها بأربعة عشر يوما تمهيدا لعملية «عاصفة الصحراء» التي كانت رد الأمم المتحدة علي غزو الكويت في أغسطس من العام السابق. كان الهدف هو طرد جنود صدام من الكويت، ولكن قبلها عزمت قوات التحالف، التي كانت تجري استعداداتها في المملكة العربية السعودية، بمختصر العبارة علي قصف كل شيء بالقنابل، المراكز العسكرية الرئيسية للعراق، مراكز القيادة المركزية والمطارات، والمباني الإدارية للحكومة، والوزارات، ومراكز الاتصال، والشوارع، والجسور ومحطات الطاقة.

أمر بالتوجه إلي المستشفي
في هذه الليلة من ليالي الحرب لم يدم تناول الطعام مع الأسرة طويلا. في الساعة العاشرة والنصف طرق اثنان من حرس صدام الخاص بابي. كان معهما سائق. كانوا مضطربين عصبيا وأمروني بالتوجه معهم فورا إلي مستشفي ابن سينا.

اخترقنا بسرعة شديدة شوارع مدينة بغداد الغارقة في الظلام. لم تكن رؤية أي شيء ممكنة إلا عندما كانت إحدي القنابل أو أحد الصواريخ ينفجر علي مقربة منا. كنت علي ثقة بأن هذا المشوار سينتهي بكارثة، وشكرت الخالق عز وجل عندما وصلنا إلي هدفنا بلا خدوش.

كان المستشفي محاطا بالجنود. الممرات أيضا كانت تعج بهم. عندما سجلت اسمي في دفتر الحضور أصاب صاروخ البناء المبني من الطوب الذي اتخذه جهاز الأمن للرئيس مقرا له، والذي كان لا يبعد سوي بضع مئات من الأمتار عن مستشفي ابن سينا. كان الانفجار شديدا للغاية حتي أن عديدا من النوافذ في ناحية من نواحي المستشفي قد تطايرت إلي الداخل. في غرفــة العمليــات الواقعة في الطابق الأرضي كان يرقد صدام. كان منظر وجهه لا يسر عدوا أو حبيبا.

«رجوتهم ألاّ يفعلوا شيئا حتي تأتي»، قالها صدام مضيفا: «لقد تعرضت لحادث سيارة».

كان الرئيس شاحب الوجه وملطخا بالدماء، غير أنه كان هادئا، رابط الجأش.

دار الحديث عن اصطدام سيارة صدام في تقاطع مع سيارة أخري في الظلمة الحالكة لبغداد. كان نصف وجهه الأيسر تحديدا قد تعرض للإصابة. كان يسيل الدم منه من جرح في جبهته وسحجة في خده الأيسر. كان هناك قطع أكثر غورا في ذقنه حتي العظم.

كانت أُنملة الخنصر الأيمن للرئيس تكاد تكون مقطوعة، فقد أخذت تتأرجح علي كفه هنا وهناك، وقد تعلقت فقط بطبقة رقيقة من الجلد. أما الظفر فلم يكن موجودا. بعد أن نظفت الجراح، وأمرت بإجراء أشعة علي الرأس واليد اليمني بدأت ــ بعد أن خدرته موضعيا ــ في ترقيع جروح الرئيس. أعدت أنملة الخنصر إلي مكانها، خيطتها بإحكام ووضعت جبيرة علي الأصبع. بعدها وضعت له ضمادة.

مقابلة بريماكوف
سألني: «هل تستطيع أن تتجنب وضع ضمادات علي وجهي»؟

أجبته بالإيجاب، وقلت له إنني أستطيع أن أخيط بعض الغرز الصغيرة تحت أول طبقة خارجية للجلد، بحيث لا يكاد يري شيء.

«يجب أن تعرف أنني سأقابل غدا بريماكوف، ولا أريد أن تظهر جراحي في الصور التلفزيونية التي ستبث في العالم كله».
كان يفغيني بريماكوف ، وكان مستشار السياسة الخارجية للرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، قد توجه إلي بغداد في مهمة خاصة تتمثل في دفع العراق للانسحاب من الكويت والتوصل الي حل سلمي يرضي عنه صدام دون أن يفقد ماء وجهه.

كان يتحدث العربية وتعرف علي صدام في الستينات عندما كان يعمل مراسلا صحفيا في الشرق الأوسط لجريدة الحزب «برافدا». كان يحظي بثقة كبيرة، ليس في بغداد فحسب، بل إن عاهل الأردن الملك حسين والرئيس السوري حافظ الأسد كانا يستأنسان بمقترحات بريماكوف.

لم يجرح في هذا الحادث الرئيس العراقي فحسب، بل أيضا حارسه الخاص، وزوج ابنته صدام كامل. فقد أصيب بجرح نافذ في شفته السفلي، حيث يمكن رؤية أسنانه من خلاله.
«هل تستطيع أن تعتني به هو الآخر»، سأل حماه.
أجبت قائلا: «بالطبع».

اهتمام بصدام كامل
كنت منهمكا في الإعداد للعملية حينما ظهر الرئيس عند الباب.

«هل يمكن لي أن أدخل»؟

«تفضل».

جلس وأخذ بيد صدام كامل.

«اعمل علي إخفاء الندبة بقدر ما تستطيع».

طوال العملية التي استغرقت ما يقرب من الخمس والأربعين دقيقة كان صدام يمسك بيد زوج ابنته. لم أره يفعل مثل هذا الشيء مع أي من أقربائه من قبل ولا من بعد.

سميرة الشهبندر
كان لا يزال هناك في السيارة المنكوبة أشخاص آخرون. ما إن انتهيت من صدام كامل حتي اختلي الرئيس بي جانبا وطلب مني أن أتوجه بأسرع ما يمكن إلي مستشفي الكاظمية في بغداد.

قال لي: «هناك ترقد مواطنة أُصيبت هي الأخري في الاصطدام. أرجو أن تعمل قصاري جهدك من أجلها إذا تكرمت».

كان هناك واحد من الحرس الخاص للرئيس يقف أمام غرفتها عندما وصلت إلي هناك. أدركت علي الفور أن الأمر لا يمكن أن يكون له علاقة بأي مواطنة عادية؛ كانت شقراء، زرقاء العينين، ما بين الأربعين والخمسين.

الرئيس كلفني
كانت عظمة الخد اليسري مكسورة، كما كان هناك جرح قطعي غائر في جبهتها. أعددت كل شيء حتي يتسني إجراء الجراحة لها في صباح اليوم التالي، وحكيت لها أن الرئيس كلفني أن أعتني بها علي قدر طاقتي. عندما كنت في غرفتها سألت الحارس الخاص إذا كان في إمكانه توفير بنزين لسيارتي. في هذه الأيام العصيبة من أيام الحرب كان من شبه المستحيل العثور علي وقود.

قالت السيدة وهي تنظر إلي الحارس: «وفر له خمسين لترا». في هذه اللحظة أدركت أنها علي علاقة أكثر حميمية بصدام عما كنت أظن في بادئ الأمر. كانت سميرة الشاهبندر، الزوجة الثانية للرئيس.

زوجة رئيس الشركة
تقابل الاثنان بالمصادفة في بداية الثمانينات. كانت شركة الخطوط الجوية العراقية قد اشترت آنذاك طائرة جامبو عملاقة. اصطحب رئيس الشركة في لندن زوجته إلي بغداد لكي تشهد مراسم تسليم الطائرة وما يليها من احتفال. وكان عليه ألاّ يفعل ذلك؛ فقد وضع صدام عينيه عليها.

كانت هناك اشاعات، غير أن قليلين كانوا يعرفون عن الصديقة الجديدة للرئيس. حتي ولداه عدي وقصي لم يكونا يعلمان بالأمر، لكنهما كانا يشكان أن والدهما قد عاد الي الحب من جديد. أضاف إلي مقتنياته سيارة ليموزين كبيرة لها جدار معتم عازل للصوت يفصله عن السائق والحارس الخاص.

ظافر محمد جابر ــ صديق عدي وسكرتيره الخاص ــ كان له أقارب يقيمون علي مقربة من السفارة الصينية في حي العامرية الذي يبعد كثيرا عن القصر الجمهوري. كانت سميرة الشهبندر قد انتقلت للإقامة في منزل يقع قريبا جدا من هناك.

شيئا فشيئا بدأ الحديث يكثر بين الجيران يتحدثون بطبيعة الحال عن المرسيدس الكبيرة والحرس الخاص اللذين كانا يقلانها باستمرار. كما لم يغب عن الجيران أيضا الطريقة التي عادت بها بعد العملية في عظمة الخد المكسورة من المستشفي إلي البيت.

عدي يربط الأحداث
في أحد الأيام كان جابر ومعه عدي في زيارة لأقاربه. بدآ في الحديث عن الجارة المضمد وجهها التي أعادها الحرس الخاص للرئيس إلي المنزل. كان يبدو عليها أنها تعرضت لحادث. لم يدم الأمر طويلا حتي ربط ابن الرئيس الأحداث بعضها ببعض.

«لقد جرحا في الحادث نفسه».

طبقا لما رواه جابر توجه الاثنان بعدها مباشرة إلي أحد أماكن إقامة قصي قريبا من القصر الجمهوري، حيث روي عدي لأخيه ما اكتشفه.

قال عدي: «أظن أن والدنا يلعب بذيله كما نفعل نحن تماما».

رد عليه قصي قائلا: «إياك أن تخرج منك كلمة عن هذا الموضوع».

سرعان ما تحولت بغداد إلي مدينة للأشباح بعدما بدأت الهجمات الجوية وبعدما خلت الشوارع من المارة.

طلقات تصيب المنازل
ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع. إن القذيفة التي تطير في الهواء تتميز بتأثيرها القاتل عندما تنزل مرة أخري إلي الأرض. كل مرة كانت فيها الطائرات الأميركية والبريطانية تظهر في السماء، كان رجال المدفعية يبدأون عملهم. في العادة كانت تستعمل مدافع رشاشة ثقيلة. علي الرغم من أن مدي التأثير لهذه الرشاشات كان مضحكا قياسا إلي بعد الأهداف، فإن الجنود الذين كانوا يشكلون طواقم هذه الرشاشات كانوا يطلقون النار. كانوا يتتبعون الطائرة بنيرانهم إلي أن تختفي في الأفق، دون أن يضعوا في حسبانهم أن مسار القذائف كان منخفضا للغاية حتي أن الطلقات كانت في الغالب الأعم تصيب المنازل. كانت إصابات معظم الجرحي الذين كانوا ينقلون إلي مستشفي الواسطي والمستشفيات الأخري هي من طلقات عراقية.

احتلال الكويت
آن الأوان لنا نحن العراقيين أن نحصد الثمار المرة التي زرعها صدام بالاشتراك مع علي حسن المجيد، وقصي، وحسين كامل. أمر الرئيس باحتلال الكويت. تولي ابن عمه علي حسن المجيد ، وابنه الأصغر قصي ، وزوج ابنته إرسال القوتين الخاصتين للرئيس ــ أي الحرس الجمهوري والقيادة الخاصة للحرس الجمهوري ــ عبر الحدود إلي تلك الإمارة الصغيرة، غير واضعين في حساباتهم أن العراق سيواجه المشاكل مع الولايات المتحدة الأميركية ومعظم الدول الأخري.

كان علي حسن المجيد هو القائد الأعلي، بينما كان حسين كامل نائبه. طبقا لأقوال نزار الخزرجي فإنه لا وزير الدفاع عبد الجبار شنشل ولا هو بصفته رئيس أركان الجيش كان لديهما علم مسبق بهذا الهجوم.

روي لي الفريق الركن نزار الخزرجي فيما بعد الآتي: «لم نعرف بالأمر إلا عن طريق أخبار الصباح في المذياع».

كان زحام المرضي يتصاعد باستمرار. لم يكن عدد الذين يزورون هذا المستشفي الصغير الراقي قليلا بأي حال من الأحوال، إذا ما انضم لحسبتنا كل الزوجات، والأطفال، والأقارب والخليلات للنخبة العراقية.

أفرغت معدة عدي باستخدام الشفاط في الوقت المناسب.

لم أكن في مجموعة الخدمة عندما نُقل الابن الأكبر للرئيس إلى مستشفي ابن سينا، غير أن زملائي حكوا لي بعدها ببضعة أيام أنه حاول الانتحار، لكنهم أنقذوه. أما صديقه جابر فقد روى لي تفصيليا فيما بعد ماذا وقع من أحداث قبل، وأثناء، وبعد الحادث المؤسف في حفل كامل حنا.

تسليم نفسه
ظل عدي طوال الليل تحت الملاحظة في مستشفي ابن سينا، ليعود بعدها إلى دار الضيافة التي كان يقيم بها. أعطى حرسه الخاص والخدم إجازة وتحصن بأجولة الرمل في التراس أمام الباب. عندما أتى بعض من حرس صدام الخاص ليأخذوه أطلق عدي النار من مدفع كلاشنيكوف على سياراتهم. عادوا أدراجهم وأخبروا الرئيس أن الحالة النفسية لابنه لا تزال مقلقة.

تُرك عدي حتي اليوم الذي يليه على حاله. بعدها أتت والدته وأخوه الأصغر قصي ليعيدوه إلى صوابه. أتيا بمفردهما، بلا حرس، واستغرق الأمر زمنا غير قصير إلى أن استطاعوا إقناعه بتسليم نفسه.

لم يقبض لا على عدي ولا على جابر على الفور. أراد صدام أن يعرف كل شيء عن هــذه المأســاة الشائكة قبــل أن يُشرك الهيئات القضائيـة في الأمر. كان هناك قدر لا بأس به من الاشاعات تلف العراق والتي كان يتلقفها خصوم عدي في نهم. كان أعضاء الأسرة تدور بينهم باستمرار معارك حول المناصب المهمة والوجيهة، إذا استثنينا منصب الرئيس نفسه.

مؤامرات حسين كامل
كان زوج ابنة صدام، أي حسين كامل، من أكثر الضالعين في المؤامرات. كان حسين كامل ابن أخت علي حسن المجيد، أحد أبناء عمومة صدام، يشغل منصبا مهما هو وزير الصناعة والتصنيع العسكري، وكان مسؤولا عن برامج تطوير الأسلحة للعراق. كان حظيّ صدام، وكان زواجه من ابنة الرئيس رغد هو دليل دامغ على ذلك.

الأيام الطويلة
حظي أيضا أخوه صدام كامل بثقة كبيرة. زوجه صدام من رنا أخت رغد، كما كان واحدا من أخلص حرسه الخاص. وقد لعب الدور الرئيسي لصدام في «الأيام الطويلة»، وهو فيلم مدته ست ساعات عن حياة الرئيس، والذي كان يُعرض مرارا في التلفزيون العراقي وفي دور السينما في البلاد لسنوات كثيرة. أخرج هذا الفيلم المخرج الإنكليزي تيرينس يانغ الذي كان قبلها مخرجا لثلاثة من أفلام جيمس بوند، إلى أن دخل التاريخ مجددا في بغداد.

استقبل الإخوة الثلاثة غير الأشقاء، سبعاوي، وبرزان، ووطبان زواج الشقيقين من ابنتي الرئيس بالرفض التام والانزعاج. أثار تزويج صدام لابنته رغد بحسين كامل تحديدا البغضاء في الأسرة. كل الإخوة غير الأشقاء كانوا يرون أن ابن سبعاوي ياسر هو الوحيد الأصلح لها، حيث كان سيعني هذا الزواج أيضا توطيد روابط الدم بين فرع عائلتهم وفرع عائلة الرئيس، وهو الأمر الذي رفضه صدام.

كان في هذا إشارة واضحة إلى برزان.

مخبرون في كل مكان
في عام 1980 أصبح برزان الأخ الأوسط من بين الإخوة غير الأشقاء رئيسا للمخابرات، حيث تولي مهمته بجدية شديدة. تم توسيع عمليات هذه الهيئة، وشبكة المخبرين سواء في خارج البلاد أو في العراق توسيعا كبيرا. ولم يكن عندهم فرق بين الخصوم العراقيين لصدام المشتبه فيهم، وبين الحقيقيين منهم.

كثيرا ما كان برزان يتفاخر أمامي بأن جهاز المخابرات في ظل قيادته كان له عملاء ومخبرون في كل أنحاء العالم وأنه لم يكن أبدا في يوم من الأيام بمثل هذه الفعالية.

«لا يوجد حتى عراقي واحد يجلس في حانة في أي قرية مهجورة في اليابان ويتحدث بسوء عن صدام ونظامه يمكنه أن يتوهم لنفسه الأمان»، هكذا كان رأيه.

في المدارس الشعبية كان المدرسون يسألون تلاميذهم عما إذا كان آباؤهم قد أداروا جهاز التليفزيون عندما كان يُعرض برنامج عن الرئيس. فإذا أجاب أحدهم بالنفي كان يمكن أن ينتهي الأمر بالأب إلى التحقيق والمساءلة.

روح.. رياضية!
كان مشجعو النوادي العريقة غاضبين من سرقة عدي الدنيئة لأفضل لاعبيهم. كل العراقيين تقريبا من مشجعي كرة القدم، وكثير منهم لا يزال يتذكر جيدا أول مباراة لفريق عدي ضد فريق العاصمة، نادي الطلبة، المرشح الأكبر للفوز، في ملعب الشعب في بغداد في ليلة من ليالي الشتاء في مطلع عام 1985

بُني هذا الملعب لممارسة الرياضة وكرة القدم في عام 1966 بأموال الهيئات الخيرية لبارون البترول الأرمني كالوست جولبنكيان .كان هناك ستون ألفا من المشاهدين في ملعب الشعب عندما أُطلقت صافرة البداية. كان خمسة وتسعون بالمائة من المشاهدين يساندون نادي الطلبة، أما الألف المتبقية من المشاهدين فقد دفع لهم ليشجعوا الرشيد على قدر ما أوتوا من قوة. أما المذيع فقد أمره ابن الرئيس بأن يحذر أعضاء الفريق المقابل لفريق الرشيد من اللعب بصورة جيدة، وترك لنفسه الحبل على غاربه في استعمال مكبرات الصوت في الاستاد لتشجيع الوافدين الجدد (الرشيد) على أرض الملعب تشجيعا ناريا، فقد كان عليهم أن يعطوا كل ما عندهم لسحق الخصم.

سرى القلق إلى المدرجات، وأخذ الناس في رمي اللاعبين الذين خانوا نادي الطلبة، وفروا إلى عدي. كان على وحدات كبيرة من الشرطة التدخل لإيقاف القاذفين بالحجارة والقضاء على التمرد الوليد.

أما المأساة الكبري فكانت الحكم. في كل مرة كان يحتسب فيها ضربة حرة ضد الرشيد كان ينظر في رعب إلى منصة الشرف ليري رد فعل ابن الرئيس. تقدم نادي الطلبة لفترة كبيرة من عمر المباراة بهدف. واحتسب الحكم في آخر دقيقة ضربة جزاء لفريق الرشيد. لم ير المتفرجون أحدا من لاعبي نادي الطلبة يرتكب أي خطأ، غير أن جميعهم أدرك أن هذا الحكم المسكين كان عليه أن يفعل أي شيء للنجاة بحياته.
انتهت المباراة بالتعادل بهدف لكل فريق.

برزان وتآمر حسين كامل
كان رئيس المخابرات برزان يعتبر ثاني أقوى رجل في العراق، وهو الأمر الذي لم يعجب عدي، وقصي، وحسين كامل، وعمه علي حسن المجيد. أخذوا يتابعون نشاطه بمزيد من الحسد والتشكيك، وانتابهم اليأس من أنهم لم تعد لديهم المقدرة على المنافسة في السباق الدائر للفوز بالحظوة لدي الرئيس. بتحفيز من حسين كامل بدأوا يزرعون الشـك في دوافع برزان، هامسين أن على الرئيس أن يكون على حذر، وأنه من المتصور أن هذا الأخ غير الشقيق القوي يريد حتى الاستيلاء على السلطة في العراق.

شيئا فشيئا بدأ صدام يعتقد أنهم ربما يكونون على حق، وأن رئيس المخابرات ربما يمثل تهديدا. وعندما تجاهل صدام احتجاجات إخوته غير الأشقاء وزوّج ابنته رغد من حسين كامل أدرك برزان ما حل به: لم يعد رقم واحد عند صدام. فقد أعفاه من منصبه عام 1983. وقال لي فيما بعد:

مع خروج برزان من اللعبة سنحت الفرصة أخيرا لضرب عدي في إطار الصراع الداخلي حول السلطة. لم يدع حسين كامل هذه الفرصة تفوته. انهمك حسين كامل بروحه ودمه في كشف ملابسات ما حدث في تلك الليلة التي قتل فيها كامل حنا. لم يتردد ولو للحظة.

امبراطورية عدي
كان عدي ذو الأربعة والعشرين ربيعا قد بدأ صعوده في سلم السلطة في عهد صدام. وقبلها بأربع سنوات كان قد عين مسؤولا للشباب، وأسس أول جريدة له، جريدة «البعث الرياضي». ومكنته هذه الجريدة من مهاجمة الوزراء الآخرين، وغيرهم من الشخصيات المهمة، إما لأنه كان لا يحبهم أو لأنهم اعترضوا طريقه بشكل أو بآخر. كان الهجوم يتم في المقالة الرئيسية أو في التحقيقات التي تتناول عجزهم بالتفصيل. كان الشباب يجوبون الشوارع في مسيرات رافعين لافتات تقول: «عدي فخرنا الكبير»، و«عدي أملنا».

كما أسس ناديا جديدا لكرة القدم، وهو الرشيد، حيث أدرك أفضل لاعبي العراق سريعا أنهم حسنا فعلوا عندما انتقلوا إلى هذا النادي، حيث كانت أجورهم أفضل، وكانوا يحصلون على بدلات تدريب جديدة، وأحذية كرة جيدة، ومن حين إلى آخر دعوة لتناول خروف كامل مشوي على العشاء. أما أهم شيء فهو أن عدي كان يحول بينهم وبين أن يرسلوا إلى جبهة القتال. كان كل اللاعبين يرسلون إلى وحدة خاصة تتبع الحرس الجمهوري وكانت بغداد هي محل خدمتها.


جيش مستقل
هكذا كان هيكل السلطة العسكرية في العراق. كان الحرس الجمهوري مستقلا استقلالا تاما، ولم يكن وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش يبلغان بعمليات القوات الخاصة. فإذا ما طرحا الأسئلة كان الرد هو انعدام الثقة، وكان هذا في اسوأ الأحوال يرتبط بحياتهما.

في صيف عام 1990 كان العراق يواجه مشاكل اقتصادية متزايدة الضخامة. أدت الحرب ضد إيران التي استمرت ثمانية أعوام، والمبالغ الباهظة التي دفعت لشراء الأسلحة والذخائر وغيرها من مواد الحرب التي كانت ضرورية لهذه الحرب إلي إغراق النظام الحاكم في الديون التي لم يكن من سبيل إلي الفرار منها إلا بزيادة العائدات من بيع النفط. غير أن فتح صنابير النفط لم يكن له أي معني ما لم تنجح منظمة أوبك في منع تدهور جديد لأسعار السلعة التصديرية الأهم والوحيدة تقريبا لصدام.

كان النصف الثاني من الثمانينات صعبا علي المنظمة. حيث كان الإنتاج العالمي للنفط أعلي من الطلب عليه، كما أن كثيرا من الدول الأعضاء في المنظمة كانت تغش وتنتج نفطا أكثر مما هو متفق عليه في اجتماعات وزراء النفط في جنيف وفيينا. وصلت أسعار النفط إلي أدني مستوي لها، ولم ترتفع الأسعار مرة أخري إلا عندما عملت السعودية وإيران معا علي تحقيق الانضباط في صفوفهما وعلي تخفيض إنتاجهما. غير أن الكويت كادت تفسد الأمر الآن؛ فقد كانت الإمارة تنتج مجددا ما يزيد علي المتفق عليه، كما طالب وزير النفط الكويتي، عندما تقابل هو وزملاؤه من الدول الأعضاء الأخري في اجتماع الشد والجذب في يوم الخامس والعشرين من شهر يوليو في جنيف، أن تمنحه أوبك حصة جديدة وأكبر من الإنتاج. غامرت الكويت بكثير من الأمور. في اجتماع قمة الجامعة العربية في بغداد في الشهر الذي سبقه وجه إليها صدام تحذيرا واضحا: إذا استمرت الكويت في تجاوز الحصة المقررة من الإنتاج فإنه سيعتبر هذا إعلانا للحرب.

وعلي الرغم من ذلك لم يعتقد سوي قليلين أن الرئيس العراقي سيكون جادا في تهديده، عندما أرسل 30 ألفا من جنود القوات الخاصة إلي الحدود مع الكويت، وذلك قبل اجتماع منظمة أوبك في جنيف. وعندما هدَّأت الكويت من ثورة العراق في اجتماع وزراء النفط، وتعهدت بتحسين الأمور، ووعدت أنها ستلتزم في المستقبل بحصص الإنتاج التي قررتها المنظمة خفت حدة التوتر بشكل واضح.

علاوة علي ذلك عادت المفاوضات المباشرة مرة أخري بين العراق والكويت بوساطة من السعودية. كانت المفاوضات متعلقة بمسار الحدود، أسعار النفط، والديون الكبيرة التي تراكمت علي بغداد لدي الكويت في أثناء الحرب ضد إيران. ظننا كلنا أن صوت العقل قد انتصر، وتنفسنا الصعداء .


2 أغسطس
لكننا تعجلنا الفرحة. في يوم الثاني من أغسطس في الساعة الثانية صباحا والساعات التي تلتها عبر الحرس الجمهوري ـ والقوات الخاصة التابعة له ـ الحدود في اتجاه الكويت بمساندة من الطائرات ومن المروحيات. لم يلق الغزو سوي مقاومة محدودة. كان قائد سرب المروحيات في الحرس الجمهوري هو اللواء حكم التكريتي، وهو واحد من أصدقائي القدامي الذين تعرفت عليهم حينما كنت أؤدي خدمتي العسكرية في منتصف الستينات كمسؤول صحي في قاعدة الحبانية الجوية الواقعة بين الفلوجة والرمادي شمال غرب بغداد.
قبل الهجوم تم استدعاء كل طياري المروحيات إلي حسين كامل لتوزيع الأوامر. كان حسين كامل مشاركا مشاركة رئيسية في التخطيط دون أن يكون لديه أي خلفية عسكرية تستحق الذكر عن هذا النوع من المهام. «أريدكم أن تطيروا في أثناء الهجوم طيرانا منخفضا بقدر الإمكان. غير مسموح لكم أن تطيروا علي ارتفاع يزيد علي الخمسة عشر مترا»، قالها زوج ابنة صدام.

اعترض حكم التكريتي: «لا يمكن أن ننزل إلي هذا الارتفاع دون أن نثير زوبعة من رمال الصحراء والتراب، إذ إن الرؤية ستكون عندها معدومة تماما. ولن نتمكن وقتها من رؤية أي شيء من كابينة القيادة».

سأله حسين كامل مستنكرا: «لماذا تحاول أن تثبط من همم الطيارين»؟

أجابه اللواء حكم التكريتي: «هذا ليس قصدي. كل ما هنالك أني أخاف أن أفقدهم في حال ما إذا طاروا أقل من خمسة عشر مترا ارتفاعا».

فرض زوج ابنة صدام إرادته، كما روي لي حكم التكريتي عندما قابلته بعد انتهاء حرب الخليج.

في غضون الساعة الأولي من الغزو سقطت 58 طائرة، إما لأنها اصطدمت بعضها ببعض أو اصطدمت في ظل الرؤية السيئة بأسلاك الضغط العالي.

أعمال نهب واسعة
في بغداد ارتفع المديح في قنوات الإذاعة والتلفزيون وفي الجرائد التي تسيطر عليها الدولة جميعا حتي بلغ عنان السماء تمجيدا للاحتلال علي أنه ضربة عبقرية تكتيكية استراتيجية للرئيس، أما في الكويت فقد بلغت أعمال النهب الواسعة حدا يقترب من هذا الذي نعرفه من العصور الوسطي. قاد علي حسن المجيد المسمي بـ «علي الكيماوي» وسبعاوي التكريتي هذه الأعمال، فقد عُين الأخير حاكما علي المحافظة العراقية الجديدة.

لم تستطع عائلة الصباح ونخبة الكويت أن يأخذوا معهم الكثير عندما دقت صفارات الإنذار. مع أول خيوط الفجر اُضطروا إلي التوجه إلي المملكة العربية السعودية في عجلة شديدة من أمرهم. تملكت الدهشة الشديدة علي حسن، وسبعاوي، وبشكل أو بآخر أيضا حسين كامل، وقصي عندما أخذا يتنقلان بحرسهما الخاص من قصر إلي آخر، ومن منزل إلي آخر، وأخذا يجمعان كل ما تركه الكويتيون المتخمون ثراء من الذهب، والألماس، والأموال وسيارات الليموزين الفارهة، والأثاث الإيطالي رفيع المستوي، حيث نقلت قافلة من سيارات النقل هذه الأســلاب إلي بغــداد. أما الضبــاط ذوو الرتــب الصغــيرة ورجــال الأعمــال العراقيون المغامرون الذين تدافعوا علي الكويت فقد وضعوا أياديهم علي ما ترفع عنه علية القوم.

غير أن صدامًا أمر بعدها باعتقال وتصفية بعض الضباط الجشعين، أما اللصوص الكبار، أي أقاربه، فقد نجوا بفعلتهم.

سرقة المستشفيات الكويتية
كان عبد السلام محمد سعيد في زمن الغزو والنهب هو وزير الصحة. وتنفيذا للأمر اتصل بي في مأموريتي كمدير لمستشفي الواسطي وأخبرني أننا نحن أيضا علينا التوجه إلي هناك.

«هناك في الكويت مستشفي فيه وحدة جديدة تماما لإصابات الحروق مجهزة تجهيزا راقيا. يجب أن تسافر إلي هناك وتري ما قد يحتاجه مستشفاك».

لم أسافر إلي هناك. بعدها بأسبوعين اتصل بي وزير الصحة من جديد.

«هل ذهبت إلي هناك»؟

«لا».

«ولم لا»؟

«لم أستطع إرغام نفسي علي فعل ذلك. اسأل أحدا غيري».

لم يكن جميعنا بمثل ترددي. كثير من زملائي نفذوا بلا تردد مطلب وزير الصحة وسافروا إلي الكويت، ضاربين بالاعتبارات الأخلاقية عرض الحائط، حيث أخذوا معهم إلي العراق من المستشفيات والمرافق الصحية كل الأدوية، والتجهيزات الصحية الفنية، والأدوات، وغيرها من الوسائل المساعدة. كان رئيس نقابة الأطباء العراقيين نفسه المرحوم الدكتور راجي التكريتي قد نفّذ أمر تجريد نقابة الأطباء في الكويت من كل الكتب العلمية، والمجلات الطبية، والكراسي، والمكاتب والحاسبات الإلكترونية. وهذا الشيء نفسه قام به الأساتذة والعلماء في جامعاتنا وغيرها من المعاهد العليا ما إن وطئت أقدامهم المؤسسات العلمية وأماكن الدراسة في الكويت. هم أيضا تلقوا التوجيهات من وزرائهم بالسفر إلي هناك وأن يأخذوا راحتهم.

رئيس نقابة الأطباء العراقيين ــ والشيء بالشيء يذكر ــ لم يستمتع كثيرا بما سلب. فقد قدم للمحاكمة، هو ومجموعة من الضباط الذين شك صدام في أنهم يخططون لانقلاب ما، حيث أعدم د. راجي التكريتي مع هؤلاء الضباط.

الـحشد الدولي
كان لا بد أن ينتهي الأمر بأهوال؛ ففي يوم الغزو ذاته ندد مجلس الأمن الدولي بالاجتياح العراقي وطالب بالانسحاب الكامل. بعد ذلك بأربعة أيام فرض مجلس الأمن عقوبات اقتصادية شاملة ضد العراق. أرسلت الولايات المتحدة قواتها إلي السعودية للدفاع عن المملكة إذا ما أمر صدام قواته بمواصلة الزحف من الكويت في اتجاه الجنوب. كانت تنتظرنا من جديد حرب كبيرة، تسيل فيها الدماء أنهارا.

في يوم الثامن عشر من سبتمبر، أي بعد شهر ونصف الشهر من احتلال الكويت، استدعي صدام القيادة العامة للقوات المسلحة لمناقشة الوضع. وعندما أصبح جليا أن الولايات المتحدة الأميركية ستلجأ إلي قوتها العسكرية الهائلة لطرد صدام من الكويت، ما لم يأمر بنفسه بسحب الجنود غير المشروط. كان هناك أكثر من ثلاثين دولة راغبة في المشاركة بطائراتها، وسفنها الحربية، وقواتها في التحالف، وعملية الأمم المتحدة التي عمدها الأميركان باسم «عملية عاصفة الصحراء».

الـخزرجي ينصح بالانسحاب
كان رئيس أركان الجيش نزار الخزرجي هو أول المتحدثين. وضح للرئيس أن أفضل شيء للعراق هو سحب الجنود فورا.

قال: «لقد لقنّا الكويت درسا، ولذلك فإنه ليس من الضروري البقاء هناك لفترة أطول».

«الوضع واضح. إنهم يتفوقون علينا حتي من وجهة النظر الفنية فقط تفوقا هائلا. بالإضافة إلي ذلك فإن طرق الإمدادات بالنسبة إلينا طويلة للغاية. فإذا ما بقينا في الكويت تعرضنا لخسائر فادحة».

جن جنون صدام من الفريق الركن الخزرجي.

«أيعني هذا أنك لا تريد أن تقاتل»؟

«لا يا ريس. أنا جندي وسأطيع الأوامر التي ستوجهها إلي».

نهض الرئيس وغادر المكان دون أن ينبس ببنت شفة. في صباح اليوم التالي سلمه أحد الضباط خطابا من صدام.

كتب صدام في الخطاب: «يؤسفني أن أخبركم أنكم بوصفكم رئيس أركان الجيش أصبحتم غير مرغوب فيكم. أشكركم علي مجهوداتكم في الخدمة، ومستقبلا ستكونون في خدمة مكتبي كمستشار».

لم يفهم الخزرجي تماما ماهية وظيفة المستشار التي كان من المقرر أن يؤديها، ومن ثم فقد اتصل برئيس ديوان رئاسة الجمهورية.

«هذا يعني أنك ستظل في بيتك. وفي حالة ما إذا احتجنا لنصيحتك سنتصل بك».




اضافة رد مع اقتباس
  #6  
قديم 03/10/2004, 10:32 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة السادسة: ##############

صدام اعتبر أهل الأهوار هنوداً يجب القضاء عليهم
أحضروا لي سجينا في البصرة بعد استعمال «أوتي» علي جسده


الانتفاضة
وقفت منذ بداياتي المبكرة علي حجم القمع الذي تعرض له الشيعة في الجنوب؛ فقد كانت أول وظيفة لي أتولاها في العراق بعد إنهائي دراستي التخصصية في لندن عام 1972 هي في مستشفي البصرة. ذات مرة كنت في خدمة الطوارئ عندما أحضر اثنان من رجال الشرطة معتقلا من السجن لأفحص يديه اللتين كانتا محترقتين احتراقا شديدا. كان الجرح في ظهر اليد مثلث الشكل، وكان كل من الجلد، والأوتار، والعضلات محترقا حتي العظم.

«استعملوا كواي عادية جدا»، قالها المريض، وهو يحكي عن الوسائل التي تستخدمها الشرطة السرية. كان محاميا بارزا أوقف نفسه للدفاع عن حقوق الشيعة.

في ذات يوم أتاني ضابط برتبة نقيب يعمل في الشرطة السرية. كان مكتئبا وحزينا.

قال: «لقد تلقينا الأوامر بالنزول إلي الشارع، وبمنع الناس من إعداد الطعام للفقراء في ذكري الحسين».

في ذكري أربعين الإمام الحسين يعد الشيعة ميسورو الحال الطعام لغيرهم من إخوانهم الأقل حظا من المال. في يوم الجمعة هذا يتم وضع قدور كبيرة من اللحم المطبوخ، والأرز، والمرق في الشارع.

قال لي النقيب: «عند إعداد الطعام علينا قلب المراجل رأسا علي عقب لإفساد الطعــام. لا أعــرف لمــاذا؟ إن هــؤلاء البؤســاء لا يشـكلون أي تهديد للسلطات؛ فهم لا يستطيعون حتي إيذاء ذبابة».

لم تمر أيام طوال بعد الانهيار العسكري في الكويت حتي أدرك صدام وبقية نظامه أن القوات المتحالفة لن تزحف علي بغداد، فقد كان الرئيس الأمريكي جورج بوش راضيا بما حققه. لم تتحرك القوات المتحالفة إلي الخطوط الأمامية بعدما حررت الكويت. كما لم يكن هناك بوادر لانقلاب قد يقوده بعض اللواءات الغاضبين، ولذلك ظهر ــ وكأنه كيد ساحر ــ الوزراء، وغيرهم من موظفي الدولة، ورؤساء الشرطة، وممثلو حزب البعث مرة أخري في مكاتبهم.

قمع الانتفاضة
عاد صدام مرة أخري إلي سدة الحكم، ولم يتردد في التعامل الفوري مع الشيعة في الجنوب. استطاع صدام في الوقت المناسب سحب قطاعات كبيرة من الحرس الجمهوري قبل عملية عاصفة الصحراء من منطقة العمليات الحربية، مما سمح له وقتها باستخدام تلك القوات الخاصة ضد الثوار الذين افتقروا إلي التنظيم المطلوب، والذين لم يكن بحوزتهم أسلحة ثقيلة. لقد كان التعامل معهم بالنسبة إلي صدام لعبة سهلة.

كان البيت الأبيض مترددا لبضعة أيام، لكن سرعان ما أتت من واشنطن إشارات أكثر من واضحة من أن الولايات المتحدة لن تتحالف مع الثوار.

قبل بدء التمرد أُرسل صديقي الفريق ركن نزار الخزرجي إلي جنوب العراق ليتولي القيادة العسكرية في الناصرية. تذكروه وقتها من جديد، وعينوه «مستشارا» للرئيس.

قال له صدام: «من المحتمل أن الأمريكان يريدون الاستيلاء علي المدينة بمساعدة قوات الإنزال الجوي. لا بد أن تتوجه إلي هناك، وتتولي إجراءات التنظيم الدفاعية».

توجه الخزرجي إلي هناك مع هيئة مكونة من ثلاثين ضابطا، وقائدا، ومن بينهم أيضا ابنه نفسه. وما إن وصلوا إلي الناصرية، حتي بدأت الانتفاضة.

«ما إن نصبنا معسكرنا في بيت من بيوت المدينة حتي فوجئنا بأننا محاصرون، وبأن النيران تُصب علينا من كل الاتجاهات. فقدت معظم رجالي، وأُصبت أنا أيضا في البطن. وكل ما أستطيع تذكره أنني ألقيت رأسي في حِجر ابني. اتشح كل شيء بالسواد. لم يكن هناك سوي ضوء نجم لامع اخترق الظلماء، قبل أن أفقد الوعي».

الخزرجي لصدام: كم يكرهوننا
استيقظ الخزرجي في مستشفي الناصرية. قام أحد الجراحين بخياطة البطن بقدر ما استطاع؛ فقد كان محاصرا بكثير من الثوار. كان واحد منهم ذا لحية طويلة وعصابة خضراء علي الجبين.

قال «إنني علي جانب كبير من الأهمية، وإنهم يريدون الإبقاء عليّ حيا».

بعدها بيومين استولي الجنود علي المستشفي، وعثروا علي الخزرجي. كان ابنه كذلك علي قيد الحياة، وتم تحريره. نقل الخزرجي بالطائرة الهليكوبتر إلي بغداد، حيث أُحضر إلي مستشفي ابن سينا. ذهب صدام لزيارته علي الفور للوقوف علي ما حدث.

قال له الخزرجي: «إنه شيء لا يكاد يصدقه العقل.. إلي أي مدي رهيب يكرهنا هؤلاء البسطاء. حتي النساء هجمن علينا ببنادق الكلاشينكوف. لا بد أننا أمعنا في ظلمهم إمعانا كبيرا».

رأيت كيف شحُب وجه صدام؛ فلم يرق له ما سمعه، فمنذ دهر سحيق لم يحدث أن قيل له في وجهه إن النظام لم يكن محبوبا علي الدرجة نفسها في كل مكان، وأن الناس لم يكونوا بالضرورة يحبونه كما كان يتوهم.

«د. علاء سيوليك عنايته علي أفضل ما يكون» كان هذا كل ما قاله لرئيس هيئة الأركان السابق قبل أن يدلف من الباب محتجبا.

لم يتحدث صدام مطلقا عن الأمر، لكنني كنت واثقا من أن الانتفاضة كانت صدمة له؛ فكــل التقــارير التي تلقاها من قيادات حزب البعث، والأمن، والمخابرات كانت لا تنقل له سوي أخبار شعب راض وسعيد في كل أنحاء العراق، مغفلة ما دون ذلك من أخبار.

كانت حالة الخزرجي سيئة للغاية؛ فالإصابة التي لحقت به في منطقة البطن لم تُخيّط بشكل صحيح، حيث خرجت الأمعاء والأحشاء من جدار تجويف البطن.

باستعمال الداكرون، وهو نسيج صناعي، وبكل ما لديّ من خبرة في مجال جراحة الحروب، وُفقت في إعادة خياطة الإصابة وفي إنقاذ حياته.

وحينما وقف الخزرجي علي قدميه مرة أخري بعدها بعدة شهور لم يعد صدام مهتما بخدماته كلواء، فرُكن الخزرجي علي الرف.

خنصر صدام
في يوم السابع من مارس، والحرب الأهلية علي أشدها، أقلني في الضحي اثنان من حرس صدام الخاص لأتفقد حالة خنصر الرئيس.

في بادئ الأمر أقلاني إلي منزل صغير علي مقربة من الجسر المعلق فوق نهر دجلة الذي حطمته القنابل، حيث كان ينتظر هناك اثنان آخران من الحرس الخاص، وتوجها بي إلي قصر الرئيس في الرضوانية. أما الجسر المدمر الذي يمر فوق الطريق السريع للسيارات والمؤدي إلي المطار الدولي فقد تم إصلاحه بعد الحادث المؤسف الذي تسبب فيه سائق سيارة النقل في العام السابق له.

في صالة الانتظار بالقصر كان عليَّ الانتظار بعض الوقت سويا مع عبد حمود، سكرتير الرئيس، وأصغر أبنائه قصي. ظهر صدام علينا مرتديا معطفا حربيا أسود اللون. صافح صدام ابنه وعانقه بطريقة تنم عن أنه لم يره منذ فترة طويلة.

بعدها تحول صدام إليّ.

«كيف حالك، يا طبيب، يا عظيم»؟

أجبته: «بخير»، لألقي بعدها نظرة متفحصة علي خنصره الذي كان في أثناء ذلك قد شُفي شفاء كاملا.

«ما تعليق العراقيين علي الأحداث»؟

«آسف يا ريس، لكنني لم أتحدث مع ما يكفي من العراقيين حتي أستطيع الإجابة عن هذا السؤال إجابة شافية».

ما هي الصورة؟
لم يُسَلِّم الرئيس بالأمر، وقال لي: «إذن احكِ لي علي الأقل عما يقوله هؤلاء القليلون الذين تحدثت معهم».

«ينتابني الشعور بأن ما لقيه الجيش العراقي من مصير ومهانة يخلفان لديه المرارة. ولكنني إذا ما سألت عن غير ذلك من الأمور فإنني عادة ما يساورني الشك في أن ما يقال لي هو الحقيقة فعلا».

قبل أن يقلني الحارسان الشخصيان كنت قد تحدثت مع كبار الأطباء، وكبار الممرضات في مستشفي الواسطي. أردت أن أعرف ما تبدو عليه الصورة في مختلف الأقسام. هل كان في مقدورنا الاعتناء بكل المصابين الذين نُقلوا إلينا تباعا بشكل مُرضٍ؟ بطبيعة الحال كان كل شيء علي أتم وجه، فقد كان هناك ما يكفي من الأدوية ومن بقية التجهيزات، كما لم يكن هناك نقص في الأفراد العاملين.

واصلت حكاياتي قائلا: «لكنني عندما قمت بنفسي في أعقاب ذلك بجولة تفتيشية اتضح لي أن ثمانين في المائة مما أخبروني به لم يكن صحيحا».

ابتسم الرئيس، مضيفا: «أو ربما أكثر من ذلك بكثير».

واصلت حديثي قائلا: «إن انعدام الصراحة مشكلة كبيرة في عموم الإدارة. لو أنني كنت قد صدقت ما قاله لي العاملون من معلومات لكان قد غُرر بي، ولوقعت أخطاء فيما أقوم به من خطط قائمة علي هذه المعلومات. وكما قلتُ من قليل يا ريس، فإننا يجب أن نتنبه إلي أفعال الناس، وليس أقوالهم».

صمت الرئيس علي إثر ذلك.

المجيد الخبير بالقتل
نقل صدام الي ابن عمه علي حسن المجيد المسؤولية الرئيسية لقمع انتفاضة الشيعة. كان المجيــــد قد تــــولي قيادة القوات التي زحفت علي الكويت. ربما كان ما قام به من قتل لا هوادة فيه في شمال العراق هو الأمر الذي رشحه في نظر صدام لمهمته الجديدة في جنوب العراق.

في مارس من عام 1987، أي بُعيْد الحرب ضد إيران، تولي ابن العم علي حسن المجيد ذو الستة والأربعين عاما التفويض الكامل بقمع حرب العصابات الدائرة لتحرير المناطق الكردية في الشمال بقيادة مسعود برزاني وجلال طالباني.

مجزرة الأنفال
لا توجد أرقام مؤكدة، ولكن بعد عامين ونصف العام كان علي حسن المجيد قد أمسك بما يقرب من 50 ألفا إلي 100 ألف من الذكور الأكراد ما بين الخامسة عشرة والخمسين عاما، وصفّاهم جسديا. أُحرقت ما يقرب من ألفي قرية، وسويت بالأرض. شُرد مئات الآلاف من البشر، كما دُمرت جميع خطوط الكهرباء، والمدارس، والآبار، والمساجد في هذه المناطق.

في أثناء إحدي العمليات التي حملت الاسم الحركي «الأنفال» لم يتورع ابن العم عن استعمال الغاز السام، ففي يوم السادس عشر من مارس من عام 1988، دخل المجيد التاريخ من أوسع أبوابه، حينما قصفت الطائرات العراقية قرية حلبجة الكردية بخليط من غاز الأعصاب وغاز الخردل. كانت النتيجة أن فقد ما يقرب من 3200 إلي5000 شخص حياتهم.

بهذه المناسبة حصل علي حسن المجيد أيضا علي اسم الشهرة «علي الكيماوي».

كثير من أقارب صدام، وأقرب معاونيه كان لديهم الرغبة في المشاركة في قمع التمرد في جنوب العراق، فقد كان من مقتضي الحال أن يثبتوا للرئيس أن علي حسن المجيد ليس وحده من يمتلك من العنف والقوة ما هو مطلوب لتلقين الشيعة درسا لن ينسوه سريعا.

كان كلا زوجي الابنتين، حسين، وصدام كامل، وابنه قصي، وسكرتير الرئيس عبد حمود، ونائب الرئيس طه ياسين رمضان، وعزت إبراهيم الدوري، نائب الرئيس لأعلي جهاز حكومي، أي مجلس قيادة الثورة، قد أعلنوا علي الرحب والسعة عن خدماتهم عندما تأكد أن الولايات المتحدة، ولا أي بلد آخر سيتدخل في الحرب الأهلية الدائرة.

عدي لا يريد قتل الشيعة
كان عدي هو الوحيد الذي رفض المشاركة. روي لي صديقه وسكرتيره الخاص أن قصي حاول جاهدا أن يقنع أخيه.

«لا بد أن تقود أنت أيضا إحدي الوحدات»!

أجاب عدي: «لا، ليس عندي الرغبة في اغتيال الشيعة».

بــدا صدام لي في ضحي هذا اليوم من أيام شهر مارس ــ والحرب الأهلية علي أشدها ــ في قصره في الرضوانية هادئا، ومسترخيا. بعدما فحصت خنصره، بادرني بالقول: «ما رأيك في الذي حدث»؟ فوجئت بهذا الاستفسار. وقلت أرجو أن تسمحوا لي بجمع عددي الطبية ومن ثم أجيبكم، وفي الحقيقة كنت أريد أن أحظي ببضع دقائق لأستجمع فيها أفكاري قبل الإجابة. قلت «لو أنكم دخلتم إلي غرفة ووجدتم فيها قتيلين بالرصاص وصف أحدهما بأنه شهيد والآخر بكونه خائنا. فكيف يمكنكم معرفة صفة أي منهما»؟ قال: «طبعا لا أعرف». فاسترسلت قائلا: «مظاهر الأشياء لا تدلل علي جوهرها، وإن كلام الناس هو المظهر وليس جوهر الحقيقة. والواقع أن مسؤولي الدولة اعتمدوا علي كلام الناس في تقييم الحقائق والبشر، في حين أن العمل هو المقياس الحقيقي. لذلك فان ما جري هو نتيجة هذا الخلط».


دعوة للتمشي
حملق صدام في وجهي طويلا، وشعرت أنه كان يحاول أن يسبر غور أفكاري بعد الذي قلته. وبعد برهة من الوقت استفسر صدام عما إذا كنت في عجالة من أمري. فإذا لم يكن الأمر كذلك فإنني مدعو لأرافقه في التمشي في الحديقة ليناقشني في أمر من الأمور.

كانت الأمطار قد هطلت طوال الصباح، غير أن الشمس أطلت بعد ذلك بأشعتها من بين السحب. أمام البوابة الرئيسية للقصر كان هناك جدار جديد من الطوب قد تم بناؤه.

قال الرئيس: «من شأن هذا الجدار أن يشتت صواريخهم المبرمجة من قبل من طراز كروز».

من وقت إلي آخر كان علينا تجنب نُقَر كبيرة من الماء موجودة علي الطريق. تبعنا قصي وعبد حمود بمسافة قدرها ثلاثون مترا تقريبا.

قال صدام: «كان علي أن أفكر في شيء ما في الأيام الثلاثة الأخيرة. إن عرب المستنقعات (الاهوار) ليسوا عربا بمعني الكلمة».

كان ما يقرب من نصف المليون من عرب المستنقعات يعيشون في مناطق المستنقعات المغطاة بالبردي التي لا مثيل لها في تاريخ الطبيعة والواقعة شمال البصرة، حيث يلتقي نهرا الفرات ودجلة. ولكن في نهاية الثمانينات اتضح أن هذه المجموعة السكانية كان يزحف عليها مستقبل مجهول للغاية.

كان من المخطط تجفيف المنطقة بأكملها، ومعها المستنقعات. بدأ العمل بالفعل في هذا المشروع الذي كان سيرغم غالبية عرب المستنقعات الذين يعيشون هناك منذ مئات السنين علي ترك أكواخهم المصنوعة من البردي وقُرَاهم.

يتسبب كل من أسلوب الري، وزراعة الحبوب والخضراوات تحت شمس الشرق الأوسط الحارقة بتبخر كميات هائلة من الماء، وبتصاعد الأملاح الموجودة في التربة إلي سطحها. تؤدي ظاهرة البزل إلي غسل الرواسب الملحية في اتجاه الأنهار، حيث ينتهي بها المطاف في الظروف الطبيعية من النهر إلي البحر. غير أن المستنقعات في العراق كانت كإسفنجة كبيرة تحول بين الاثنين، وتمنع الماء القادم من مناطق الزراعة الرئيسية في داخل البلاد من الوصول إلي الخليج العربي. منذ عام 1948 نصح الباحثون الإنكليز بفعل شيء تجاه ذلك الأمر، ومنه تحويل مسار كلا النهرين العظيمين الواهبين للحياة من حول المستنقعات إلي البحر، وإلا فإن العاقبة ستكون تصاعدا مستمرا في محتوي الملح في نهري الفرات ودجلة تصل إلي مستوي الكارثة.

التخلص من الأهوار
بالطبع، كانت هناك أيضا أسباب سياسية لموافقة صدام علي مشروع الصرف الشامل لهذه المحميـــة الطبيعية البالـغة مساحتها بين 15 إلي 20 ألف كيلومتر مربع؛ فلم يكــن عنده مانع من أن يضرب عصفورين بحجر ليتخلص نهائيا من عرب المستنقعات.

فقد كانوا بالنسبة إليه منذ زمن بعيد كالغصة في الحلق.

قال صدام: «منذ ألف ومائتين وخمسين عاما أتوا بثيرانهم السوداء من الهند لأن العباسيين كانوا في حاجة إلي أيدٍ عاملة. ولكن منذ ذلك الوقت لم يطوروا من أنفسهم. هم ليسوا مثل غيرهم من العراقيين، فهم بلا أخلاق».

في أثناء الحرب ضد إيران فر كثير من جنود الجيش العراقي ليختبئوا - بالذات - في هذه المستنقعات المليئة بالبردي والقصب الطويل والمستعصي عادة علي الاختراق، حيث وجد كثير منهم العون من أهالي المنطقة التي لجأوا إليها بحثا عن الملاذ.

لم يغب هذا أيضا عن الرئيس. في أثناء ذلك أُعلن أيضا أن عرب المستنقعات ضالعون في التمرد.

«لقد شجعوا التمرد، فهم لا يشعرون بالانتماء إلي وطننا»!

قالها بلا مواربة، لكنني شعرت أنه كان يبحث عن تفسير للتمرد المعترم في الجنوب، وعن كبش فداء.

«لا يمكن الوثوق بعرب المستنقعات هؤلاء. إنهم يكذبون، ويسرقون، وليست عندهم نخوة. إنهم ليسوا مثلنا. كما أن نساءهم يتسمن بالإباحية المطلقة وبانعدام الأخلاق. إن حياتهن غير محترمة».

توقفنا عند غدير صغير في الحديقة. أضاءت أشعة الشمس الرئيس من الخلف. لم يكن يعد أحدنا إلا بمسافة نصف المتر أو ما دونها. أثارت أذناه إعجابي فجأة حتي أنني لم أعد أسمع ماذا كان يقول. كانت شحمتا أذنيه شفافتين بفعل ضوء الشمس، كما لو كانتا مصنوعتين من شمع رمادي اللون، وكما لو كانت الدماء لم تعد تجري فيهما مطلقا. لم أستطع أن أمنع نفسي من تأمل جفنيه عن كثب. كانا ثقيلين، مرتخيين، وقد غطيا رموشه تقريبا. لكن عينيه لا تزالان تحملقان وتشعان بريقا من عدم الثقة والتوجس.

عرب.. أمة عظيمة
بعدما انتهي موضوع «عرب المستنقعات الغدارين والخونة» بدأ الرئيس في طريق العودة إلي القصر في إلقاء محاضرة عن مدي تقديرنا العظيم لأنفسنا كعراقيين لكوننا عربا من ناحية، ولتمسكنا بالدين الإسلامي من ناحية أخري.

قال لي: «لأننا عرب، فنحن أمة عظيمة، زاد من عظمتها كثيرا أنها بُنيت علي الإسلام».

بعد ذلك أراد الرئيس أن يعرف لماذا سميتُ ابني الأكبر سومر.

سألني: «لماذا بالذات هذا الاسم»؟

أجبته بقولي: «لأقرنه بمهد الحضارات، مملكة السومريين». لا أستطيع إلي الآن تخيل أن أجدادنا الأوائل منذ خمسة أو ستة آلاف عام قد بدأوا بالفعل في الكتابة، وفي زراعة الأرض، وفي بناء المدن وسن القوانين واحترامها.

لا أحد يعرف كم من الناس قُتلوا أو اعتُقلوا حينما سُحِق بشكل كامل التمرد العفوي للشيعة في غضون أسابيع قليلة. لكن كما كان متوقعا فإن علي حسن المجيد، وقصي، وعبد حمود، وعزت إبراهيم الدوري، وطه ياسين رمضان، والأخوان حسين وصدام كامل، وبقية خلصاء صدام كان الأمر بالنسبة إليهم لعبة سهلة.

لم تردعهم الولايات المتحدة الأميركية، ولا الأمم المتحدة عن استعمال المدافع، والعربات المصفحة، والمروحيات المقاتلة فيما اقترفوه من مذابح شاملة. كان انتقام صدام بشعا، مثله مثل بشاعة تعقب الشيعة المحموم لرجاله، في بداية الحرب الأهلية.

شاحنة مقابر جماعية
لما كان عدد كبير من عشيرة الجبور التي أنتمي إليها هم من الشيعة فقد كنت اطلع سريعا علي ما يجري من أحداث. واحد منهم، صالح الجبوري، كان يقيم في الإسكندرية التي تقع علي ما يقرب من ستين كيلومترا جنوب بغداد. سُميت هذه المدينة الصغيرة علي اسم الإسكندر الأكبر الذي أمر جنوده بنصب معسكرهم هناك حينما زحف بجيشه من 2330 عاما، أو يزيد نحو الشرق لغزو دولة الفرس.

كان الجبوري واقفا أمام منزله حينما مرت من أمامه سيارة نقل عسكرية متوجهة إلي أرض بوار شمال المدينة. كان يقف علي ظهر السيارة نساء ورجال وشباب يبلغ عددهم نحو الخمسة والعشرين، كان يحرسهم جنود الحرس الجمهوري. وبعد مرور ساعتين شاهد سيارة النقل عائدة.

روي الجبوري: «كان ظهر السيارة فارغا».

بعد ذلك بأربعة أيام عرف الجبوري من جيرانه في الإسكندرية أنهم سمعوا نباح كلاب متوحشة في الصحراء، وبالأحري في المكان الذي شوهدت فيه أيضا سيارة النقل. توجه الجبوري إلي هناك، ورأى الجثث. لم تكن مدفونة دفنا صحيحا مما جعلها وليمة للكلاب.

كان هؤلاء الضحايا من مدينة كربلاء، حيث تعامل الحرس الجمهوري مع الأحياء الرئيسية بالقرب من الضريح البهي تعاملا وحشيا للغاية. سُويت الأسواق الفريدة من نوعها بجوار الضريح تسوية كاملة بالأرض. اغتيل عدد لا حصر له من الأبرياء من النساء والأطفال. لم يراع جنود القوات الخاصة البشر، ولا الآثار الحضارية حينما هاجموا المدينة بمروحياتهم ودباباتهم. خلّف هؤلاء الجنود وراءهم أضرارا في المقدسات والآثار لا يمكن إصلاحها، سواء أكان هذا في كربلاء، أم في النجف، ثاني مدن جنوب العراق قداسة.




اضافة رد مع اقتباس
  #7  
قديم 03/10/2004, 10:36 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة السابعة: ##############

عدي وحسين كامل استوردا كل شيء من ملالي إيران
أصبح رجل سبعاوي مقاولاً كبيراً فسرق معداته من العراق كله


الجوع
بعد انتهاء حرب الخليج، وقمع الانتفاضة في الجنوب، والشمال، بدأ زحف الفضائيات، حيث اقتنيت أنا الآخر جهاز استقبال معه طبق كبير فوق السطح. لم يكن هذا مسموحا به تماما من وجهة النظر القانونية، غير أن النظام أغمض عينيه عامدا عن أننا وسعنا دائرة برامجنا الإخبارية، والمغامرات المسلية بعض الشيء، ولم نقنع بما تفرضه علينا التلفزيونات الحكومية، وتلفزيون الشباب التابع لعدي.

سفاح الفلوجة
بعد فترة من الوقت تحولت الأطباق فوق أسطح منازل بغداد إلي غابة حقيقية. هنا قرر صدام أن الأمر قد تجاوز الحد، وأعطي توجيهاته لأخيه غير الشقيق سبعاوي التكريتي، الرئيس الجديد للمخابرات، بالتدخل. قام سبعاوي بدوره بتحويل هذه المهمة إلي عامله المخلص إبراهيم علاوي.

كانت مدينة الفلوجة هي مسقط رأس علاوي الذي كان واحدا من أكثر سفاحي النظام فسادا ودموية. رقي إلي رتبة اللواء، وأصبح مديرا لأمن بغداد. في ذات عصر يوم من الأيام وقف رجاله أمام بابي لقطع الإرسال الفضائي.

«نما إلي سمعنا أنك تملك جهاز استقبال فضائي»، قالها ضابط الشرطة. كان برتبة النقيب، وارتدي مثل مرافقيه من الضباط الزي المدني.

رددت عليه بقولي: «ليس هذا سرا، فما عليك سوي النظر إلي السطح».

لم نحاول مطلقا إخفاء الطبق كبير الحجم.

قال: «هذا غير مسموح به».

«وكيف لي أن أعرف هذا؟ فحسب ما أعرف فإن مثل هذا الحظر لم يعلن عنه أبدا في الجرائد، ولا في التلفزيون».

«إن هذا محظور».

دخلوا إلي المنزل، وأخذوا جهاز الاستقبال معهم.

«سنحضر غدا لأخذ الطبق».

تجارة الأطباق
بعدما رحلوا عنا أرسلت ابني الأوسط تحسين إلي السطح. بالطبع كنا نعرف ماذا كان يحدث. كان أخو صدام غير الشقيق، وإبراهيم علاوي يجنيان مبالغ طائلة من حظر الإرسال الفضائي.

من كان عنده استعداد لدفع بعض المال كان يسمح له بالاحتفاظ بجهاز الاستقبال والطبق. أما من كان يرفض فلم يكن أمامه إلا أن يرضي صاغرا بأن يصادر جهاز الاستقبال والطبق، وأن يباع بعد ذلك لمشاهد جديد لديه استعداد أكبر للدفع. وبما أنني كنت علي علاقة جيدة مع الرئيس فلم يجرؤ النقيب في هذه الحالة علي أن يقترح حلا عمليا لهذا الأمر.
حلَّ تحسين مسامير «القلاووظ» الممسوك بها طبق الاستقبال، وتركه يهوي هكذا بكل بساطة علي الأرض.

ثار رسول اللواء علاوي ثورة عارمة حينما وجد الطبق في صباح اليوم التالي محطما.

انتشرت الإشاعات في بغداد حول هذه الأحداث. وفي ذات يوم عندما كنت أعالج ساجدة، الزوجة الأولي للرئيس، أثارت معي الموضوع.

«سمعت أن رجالا من الشرطة السرية كانوا عندك ليصادروا جهاز الاستقبال الخاص بك. لقد كان فعلا شيئا رائعا أنك حطمت الجهاز في وجودهم، هكذا بكل بساطة».

«لم يكن الأمر هكذا تماما، فالـصحيح أن الطبق تحطم قبل أن يستطيعوا أخذه».

«ومع ذلك فقد كان عملا رائعا منك».

لم أقتن جهاز استقبال جديد. كان يمكنني في الغالب تركيبه والاحتفاظ به أيضا، لكنني كنت سأعطي وقتها قطيع الذئاب المحيط بالرئيس فرصة سانحة للطعن فيّ، فدائما ما كان هذا القطيع يبحث عن نقاط ضعف يمكن أن يستغلوها في هذه الدوامة الأبدية من الحقد، والمؤامرات، والصراع حول النفوذ.

معاقبة سفير
كان علي السبتي واحدا من العاملين في السلك الدبلوماسي. كان سفير صدام في طرابُلس. وعندما عاد في منتصف التسعينات من ليبيا إلي بغداد اقتني جهازا لاستقبال الإرسال الفضائي. كان منتقدا ، لاذعا في سخريته، وكان لا يترك شيئا تقريبا مما يحدث من حوله إلا وأبدي عليه تعليقه. أصبح مدير إدارة في وزارة الخارجية، حيث وقعت في دائرة اختصاصه العلاقات مع إيران بالذات. لم يلق أسلوبه وتعليقاته هوي خاصا لدي الوزير محمد سعيد الصحاف.

ذات يوم «اكتشف» الأمن كل من الطبق وجهاز الاستقبال الخاصين بعلي السبتي. دخل مدير الإدارة إلي السجن، حيث أُفرج عنه بعد ثلاثة أشهر ليمْثُل أمام الرئيس الذي قال له: «لقد عاقبتك حتي يري الناس أنني أعاقب أيضا ـ إذا اقتضي الأمر ـ المقربين مني. لا بد أن تدرك أنني جاد فيما أقوله من حتمية احترام القوانين والقواعد».

في أعقاب ذلك ربت صدام علي كتف السجين المفرج عنه في حنو، وأرسله سفيرا إلي البحرين.

سرقة سيارة
لي ابن عم اسمه معين قاسم. كان معين مقاولا، حيث كان يقوم قبل حرب الخليج، وانتفاضة الشيعة بعدة أعمال مقاولات في مدينة العمارة في جنوب العراق. في أثناء الحرب، وفي أثناء الاضطرابات كان يقيم في بغداد. وحينما عاد بعد الانتفاضة إلي العمارة مرة أخري اكتشف اختفاء إحدي سيارات النقل من موقع العمل الذي كانت شركته تتخذ منه مقرا لها. دُهش لذلك الأمر لأنه كان قد اتفق مع العشيرة قوية النفوذ التي تفرض كلمتها علي المدينة ألا تدع سيارات النقل الخاصة به تغيب عن ناظريها. وعندما سأل شيخ العشيرة عما حدث أجابه قائلا: «أتي رجال من الشرطة السرية، وقالوا إن اللواء علاوي في حاجة إلي سيارة النقل هذه».

أتاني معين سائلا العون. ذهبنا إلي أحد المكاتب الواقعة في حي الجادرية. كان إبراهيم علاوي يدير من هذا المكتب إمبراطورية أعماله الخاصة التي كانت متشابكة تشابكا دقيقا مع مهامه الرسمية كرئيس للشرطة السرية في بغداد.

السجق الطويل
كان رجلا طويل القامة، بدينا بشكل غريب، في منتصف الخمسينات من عمره. كان شعره قد خفّ، وكان رأسه مستديرا ككرة القدم. كان معظم أجزاء جسده، الذراعان، والساقان، والأصابع تستدعي إلي الذاكرة منظر السجق الطويل المنتفخ. كان بطنه المنتفخ مسترخيا من تحت حزامه.

ان اللواء يمتلك طائفة كبيرة من الشركات، وأخذ يعمل الآن أيضا بهمة ونشاط في مجال مقاولات البناء. بعد القصف الذي وقع في أثناء حرب الخليج كان هناك كثير من الطرق، والجسور، ومحطات الطاقة في حاجة إلي إعادة البناء أو الإصلاح. انتشر رجاله ممن يعملون في الشرطة السرية في طول العراق وعرضها ليجمعوا ما كان يعوزهم من سيارات النقل، ومن معدات البناء. كانوا يستولون هكذا بكل بساطة علي ما كانوا في حاجة إليه.

اكتشف ابن عمي سيارة النقل الخاصة به في أحد مواقع العمل الخاصة بعلاوي.

«هل يمكن أن أستعيدها»؟

«لقد دفعت ثمنها. اشتريتها من رجل من الرمادي».

سألته: «هل يمكنك أن تخبرنا باسم الرجل ومحل إقامته»؟

دفع ثمن الشاحنة
بطبيعة الحال كان اللواء قد «رمي للأسف» قصاصة الورق التي تحتوي علي اسم وعنوان البائع.

قلت: «أظن أن علينا الآن التوجه إلي دائرة شكاوي الرئيس لكي نجد من يساعدنا».

كان لهذه الجملة أثرها؛ فقد رأيت كيف بدا الخوف عليه.

«بما أن الأمر يتعلق بك يا د. علاء، فإنني سأدفع تعويضا لابن عمك».

اصطحبني إلي غرفة مجاورة. كانت غرفة كبيرة، في حجم غرفة النوم، اصطفت فيها علب وكراتين امتلأت بالدنانير العراقية. علي الرغم من أن قيمة الدينار كانت تتناقص يوما بعد يوم بسبب التضخم كان اللواء يحتفظ بكميات هائلة من النقود السائلة في الغرفة الخلفية الخاصة به.

حصل ابن عمي في مقابل سيارة النقل الخاصة به علي 750 ألف دينار، أي ما يعادل 250 دولارا أمريكيا، في حين أن قيمتها السوقية كانت تعادل 10 آلاف دولار.

«يمكننا أن نكتب للرئيس»، كان هذا ما اقترحته علي ابن عمي.

أجابني بقوله: «لا، أنا لن أعرض حياتي للخطر من أجل سيارة نقل».

كان عند اللواء إصابة في الظهر أبت علي الشفاء. رجاني أن ألقي عليها نظرة، وكشف عن نصفه العلوي. لم أكن مهتما أدني اهتمام بعلاج جبل الدهون هذا، لذا أخذت أجيبه عن أسئلته بخصوص ما يجب فعله إجابة مائعة ومتهربة.

الرقابة علي الوزن
كان من المثير للغرابة فعلا أن يكون مثل هذا الرجل المفرط في بدانته لا يزال يعمل في الخدمة العامة، بينما سنَّ صدام قواعد واضحة بخصوص تمتع الموظفين، والضباط بوزن مثالي بعينه يرتبط بطول الجسد، والسن، ولا يسمح بتجاوزه إلا بعدد معين من الكيلوغرامات. فإذا زاد وزنهم عن ذلك فإنهم كانوا يتلقون إنذارا بإنقاص وزنهم في غضون ستة أشهر من تاريخه.

فإذا لم يوفقوا في إنقاص وزنهم فإنهم كانوا يتلقون إشعار فصلهم من العمل.

قلت للواء: «أرجو المعذرة، ولكن كيف تمكنت من الالتفاف علي الرقابة الإجبارية علي الوزن»؟

أجابني بقوله: «شفع سبعاوي لي عنده».

اتضح أن علاوي كان قد فُصل، غير أنه حينما عُين أخو صدام غير الشقيق رئيسا للأمن العام تدخل هذا الأخير لصالح علاوي. استُدعي اللواء علاوي ليمْثُل أمام الرئيس الذي طالبه بتفسير لبدانته.

«ضـربت بيــدي عــلي بطنــي الكبـير، وقلت له: ها هنا في الداخل دماء أعدائكم»!

تهللت أسارير علاوي عندما حكي لي هذه القصة. لم يتفوق عليه في تعذيب وقتل العراقيين في أثناء الخدمة سوي قليلين، ففي الفترة التي قضاها اللواء علاوي في منصبه لا شك أن عدد الضحايا قد تجاوز الآلاف.

تسعيرة الرز
لم يمر كثير من الوقت بعد حلول أول أيام عام 1992 حتي كان صدام قد حدد تسعيرة إجبارية لبيع الأرز، والقمح، والسكر، وغيرها من المواد الغذائية الرئيسية.

كان خطر فقدان السيطرة الكاملة علي التضخم يتهدد العراق، مما دعا الرئيس إلي اللجوء لهذا الإجراء المعروف، الفاشل اقتصاديا في معظم الأحوال لكبح جماح التضخم.

سرعان ما اتضح أن كثيرا من التجار تجاهلوا هذا الأمر الإداري تجاهلا كاملا؛ فلو أنهم التزموا بالأسعار التي تحددها السلطات لما استقامت حساباتهم في ظل عدم انسحاب هذا الأمر الإداري علي أسعار تجارة الجملة.

لذلك استدعي الرئيس سبعاوي، وكلفه بأن يقدم مثالا علي سبيل الإنذار يكون عظة للآخرين، يخيفهم ويرعبهم.

انشغل اللواء علاوي ومعه الشرطة السرية بهذا الأمر.

كان ابني سومر يدرس وقتها في الجامعة التكنولوجية ببغداد، وكان له زميل بارع الذكاء اسمه محمد رحيم من عائلة فقيرة. أخذت الأسرة والأصدقاء يجمعان المال سويا حتي يحقق حلمه بأن يكون مهندسا. كان لوالد أحد أصدقائه بقالة صغيرة. كانت فرصة لهذا الطالب الفقير أن يتكسب بعض المال من العمل هناك ليلا.


حجة البقالة
في مساء أول يوم كان فيه محمد وحده في العمل، دخل واحد من ضباط علاوي من الشرطة السرية البقالة. سأله عن ثمن كيلو الأرز. ذكر له الطالب السعر الذي حدده له صاحب البقالة. تجاوز هذا السعر ما كان محددا رسميا من تسعيرة إجبارية.

قُبض علي الطالب، ولم يشفع له قسمه بأنه بريء، وقوله إنه لم يكن يعرف إنه كان يفعل شيئا محرما. أوسعوا الطالب ضربا وربطوه بالأغلال الحديدية لمدة أربع وعشرين ساعة كاملة أمام البقالة، وقد عُلقت يافطة حول عنقه تقول إنه لص يخدع الشعب.

في اليوم التالي شنقوا محمدا.

ذهب ابني سومر لوالدي محمد ليقدم لهما واجب العزاء. كانوا من الفقر إلي درجة أنه لم يكن عندهم حتي أي أثاث.

في بغداد وحدها أُعدم ما يزيد علي أربعين من تجار السلع الغذائية في أعقاب الرقابة علي الأسعار. لم يكن هناك ما يمكن أن نسميه محاكمات للطلبة، ولا لغيرهم ممن قبض عليهم خلف طاولة البيع في المحل. كان عدد لا بأس به ممن شُنقوا أقارب وأصدقاء طيبين لصاحب الدكان، قاموا بالإشراف عليه في الوقت الذي كان فيه صاحبه للحظات في الخارج.

لم تُرفع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة بعد غزو صدام للكويت حتي بعد انتهاء حرب الخليج. أدت هذه العقوبات إلي مزيد من التسريع بالانهيار الاقتصادي الذي ظهرت بداياته بعد الحرب ضد إيران. لم تفرض الأمم المتحدة في القرن العشرين مثل هذه العقوبات الهائلة علي أي بلد آخر من قبل. أصابت العقوبات أهم قطاع اقتصادي للعراق بالشلل، ألا وهو تصدير النفط.

بدون عائدات تصدير النفط لم يعد في إمكان النظام الإبقاء علي مستوي معيشة مقبول للعراقيين. أخذت الأمراض والفقر في الاستفحال يوما بعد يوم. ازداد عدد الآباء اليائسين والبائسين الذين اضطرتهم الظروف إلي أن ينام أطفالهم من غير عشاء. في كل أنحاء العراق الذي نزل إلي خط الفقر نمت بيوت المزادات كالأعشاب الشيطانية التي كان الناس فيها يتصرفون في كل ما لديهم من حلي، ومن أشياء ثمينة، ومن أجهزة كهربية، ومن أثاث، وأحيانا أنفسهم.

النفط مقابل الغذاء
كان مجلس الأمن قد عرض بالفعل في عام 1991 أن يقوم صدام ببيع كمية محددة من النفط ليشتري في مقابلها المواد الغذائية والأدوية للفقراء من السكان المدنيين. غير أن الرئيس رفض. كان يريد أن تُرفع العقوبات كلية، ولم يرض بأي حل جزئي كان في إمكانه أن يجعل حياتنا أيسر.

كُتب علينا أن يمر ما يقرب من خمس سنوات حتي أدرك صدام حقيقة الحالة الاجتماعية، ووافق علي شروط برنامج «النفط مقابل الغذاء». وإلي أن حدث ذلك كان علي عشرين مليونا من العراقيين تحمل أهوال يمكن بالفعل مقارنتها بتلك التي كانت أثناء الحرب ضد إيران، وضد الكويت، وبتلك التي كانت أثناء الحرب الأهلية في الجنوب، والشمال.

لم يكن لتحديد الأسعار الذي اتخذه صدام أي تأثير عميق الأثر، بل ربما أي تأثير علي الإطلاق. أخذت أسعار المواد الغذائية، وغيرها من ضرورات الحياة ترتفع يوما بعد يوم، في حين ظلت الأجور علي حالها. كان سمير علي الشافي يتحصل شهريا من عمله كمحرر للأخبار الثقافية، وكناقد فني في صحيفة «ألف باء» الأسبوعية التي كانت تصدرها وزارة الإعلام علي 2800 دينار. في ذلك الوقت كان الدولار الأميركي الواحد عند بائع العملة علي ناصية الشارع يساوي 3000 دينار.

حياة عائلية
لكي يستطيع محرر الأخبار الثقافية هذا أن يشتري الطعام لزوجته، ولبناته الثلاث، ولنفسه اضطر إلي بيع سيارته أولا. بعدها تصرف في ذهب وفي حلي زوجته، وفي جهاز التلفزيون، وفي الأثاث. حتي أسرَّة الأطفال آلت إلي بائع العاديات. في نهاية المطاف أصبح الأثاث يتكون من أربع مراتب فحسب. كما نجحوا في الإبقاء علي موقد صغير يعمل بالكيروسين استطاعوا أن يستخدموه في الطبخ وفي التدفئة، بالإضافة إلي إناء صغير وأربعة أطباق.

«كانت الأطباق كبيرة للغاية، أضف إلي ذلك أن الحصة اليومية من المكرونة كريهة الرائحة التي كانت الشيء الوحيد الذي نستطيع شراءه كانت تبدو قليلة جدا علي الطبق».
أما الخبز فلم يعرف طريقه إلي أفواههم، لأن ما كان في مقدورهم شراؤه من الخبز كان أسود اللون، بغيض الرائحة، ويستدعي إلي الذاكرة ذلك الخبز المقدد الرقيق الجيد من الأيام الخوالي.

«تكوّن لديَّ الانطباع أن دقيق المطاحن الحكومية كان يخلط بأي شيء كان يمكن خلطه به بشكل أو بآخر»، هذا ما تذكره الشافي.

كل يوم كان الشافي يقطع مسافة ستة كيلومترات من مسكنه في حي المنصور إلي مكتبه في وزارة الإعلام بالقرب من قصر الجمهورية في وسط العاصمة بغداد سيرا علي الأقدام، وهكذا كان يعود دائما. لم يكن عنده نقود للباص أو لسيارة الأجرة، أو مال لشراء دراجة.

«حتي البيضة لم نكن نقدر علي ثمنها. بطبيعة الحال لم تكن الفاكهة أيضا محل تفكير. غير أن أسوأ شيء بالنسبة إلي كان هو إحساسي بفشلي كأب، لأن الأطفال كان عليهم أن يذهبوا إلي النوم بدون شُبعة من طعام».

نخبة.. التهريب
أما النخبة الحاكمة فلم تعرف الجوع. ففي أوقات العوز هناك دائما ما يمكن تكسبه من التهريب، وتجارة السوق السوداء. فقد اغتنم عدي ــ الابن الأكبر للرئيس ــ فرصته في نعيم التجارة الذي تنامي أثناء العقوبات.

أصبحت هذه القصة الليلية المؤسفة حين ضرب عدي كامل حنا ــ الخادم الشخصي لأبيه ــ في أغسطس من عام 1988، ولقي فيها حتفه، ورقة مطوية من زمن بعيد في أوساط العائلة، حينما انتهت حرب الخليج، وحينما تم قمع الانتفاضة في جنوب وشمال البلاد. شيئا فشيئا بدأ الابن الأكبر للرئيس في استعادة اعتباره مرة أخري. قدمت له السوق السوداء وصفقات التهريب، التي أخذت في الازدياد السريع يوما بعد يوم بعد العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة، فرصا لا تُعد ولا تحصي لتحقيق ثروة طائلة.

«الأمير وشركاه»، كان هذا هو اسم الشركة التي أسسها عدي وقريبه حسين كامل في هدوء شديد مع نهاية عام 1991 لاستيراد السلع والتجهيزات الخاضعة للحظر الاقتصادي من قِبل الأمم المتحدة. تم اختيار الاسم بعناية؛ فقد كانت لكلمة «الأمير» أهمية خاصة للغاية عند الشيعة. كان المقصود بالأمير هو الإمام علي، ابن عم الرسول، صلي الله عليه وسلم، وزوج ابنته، المدفون في النجف، تلك المدينة المقدسة لدي الشيعة، والتي تقع علي بعد 200 كيلومتر تقريبا جنوب غرب بغداد. إن الإيرانيين شيعة، وقد أراد الاثنان عقد الصفقات مع الإيرانيين.

كان حسين كامل وزيرا للصناعة، والمسؤول الرئيسي عن التسليح الحربي للعراق آنذاك. سرعان ما أقامت الشركة علي الناحية الأخري من الحدود ما يلزم من الاتصالات، وعقدت الصفقات. بهذا أصبح في مقدور حسين كامل التحايل علي العقوبات، والحفاظ علي استمرار العمل في المصانع التي تتبع وزارته. أما عدي فكان يحصد الأرباح.

صفقات مع إيران
لا تهم عقوبات الأمم المتحدة أو غيرها، فلم يكن لدي الأئمة في إيران مانع من تولي مسؤولية فتح ما هو ضروري من المنافذ الحدودية، طالما درّ هذا عليهم فوائد مالية. كانت شركة الأمير وشركاه تشتري وتستورد كل شيء تقريبا مما كان ينقص الصناعة وغيرها من قطاعات الاقتصاد، والمستهلكين، وكانوا في حاجة إليه. سيارات من ألمانيا، آلات الحصاد والدراس، وأرز من تايلند، وكونياك من فرنسا، كل هذا استطاع عدي وحسين كامل بمساعدة أصدقائهم الإيرانيين توريده بأسعار السوق السوداء الباهظة. وعن طريق القنوات نفسها التي كانت تعمل بكفاءة في إيران وجد النفط، والاسمنت، واليوريا، والبلح طريقها من العراق إلي إيران.

«استطاع عدي أن يحقق من هذه الصفقات أموالا طائلة»، هذا ما رواه لي فيما بعد سكرتيره الخاص ظافر محمد جابر مضيفا: «مئات المئات من ملايين الدولارات من هذه الصفقات مع الإيرانيين وضعها عدي في جعبته».

كانت حياة محرر الأخبار الثقافية سمير الشافي وعائلته صعبة، لكنه كان مع ذلك لا ينتمي إلي طبقة المُعدمين؛ فهو في نهاية المطاف كان لديه عمل في هذا الوقت العصيب حتي عام 1996 حينما اتفق صدام أخيرا مع مجلس الأمن الدولي بعد شد وجذب طويلي الأمد علي أن يسمح للعراق ببيع كمية لا بأس بها من النفط مقابل الحصول علي المواد الغذائية، والأدوية للسكان المدنيين الذين أخذ فقرهم، وجوعهم، ومرضهم يتزايد.

حينما بُدئ أخيرا بالعمل وفقا لبرنامج النفط مقابل الغذاء في ربيع عام 1997، وبُدئ شهريا بتوزيع الأرز، والقمح، والسكر، والشاي، وزيت الطعام، والصابون في كل أنحاء العراق وضع هذا حدًا للمجاعة العامة. غير أن العقوبات، والفساد، وسوء الإدارة من قبل النظام أصاب العراقيين بمعاناة لا يمكن وصفها. كان أكثر المتضررين هم من كانوا بلا عائل.

مجاعة
كانت تسكن مع سمير الشافي في الحي نفسه أرملة وبناتها الأربع اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين الخامسة والسادسة عشرة. كان عائل الأسرة قد توفي عام 1989، حيث كان عقيدا في الجيش. لم يكن في مقدور الباقين من أسرته العيش من معاش الزوج من الجيش.

«كان بشعا أن تشاهد كيف كانوا يتضورون جوعا، وكيف أنهم بعد وقت قصير كانوا يعانون النقص في كل شيء. لكننا نحن أنفسنا في نهاية المطاف لم يكن لدينا أي شيء، ولم يكن باستطاعتنا الوقوف بجانبهم».

في ذات يوم دخلت الابنتان الأكبر سنا إلي الحمام، صبتا فوق رأسيهما البقية الباقية من الكيروسين، وأضرمتا في نفسيهما النار. وجدوهما، وقد احتضنت إحداهما الأخري.
«زحفت الأم بأصغر بناتها إلي الموصل. لا أعرف ماذا حدث لهما هناك، لكنهما لم تعودا إلي بيتهما ثانية علي الإطلاق».

مظفر العلي كان واحدا من كثيرين ممن افتتحوا محلا لبيع العاديات. كان لواء متقاعدا، وتعود معرفتي به إلي أيام كنت طبيبا شابا في السلاح الجوي.

ذات مساء أتي رجل شاب إلي بائع العاديات ليبيع جهاز فيديو.

«هل يمكنك أن تأتي معي، وتلقي نظرة عليه؟ أنا أسكن هنا عند ناصية الشارع».

عندما وصل العلي إلي المنزل الصغير لفت انتباهه أنه بلا أبواب أو نوافذ. حتي الإطارات بيعت، كما لم يكن هناك أثر للأثاث أو غيره من المتاع.

علي سجادة بجوار موقد من الكيروسين جلست امرأة شابة. كان بجوارها طبقان من الصفيح، أما جهاز الفيديو الذي كان من طراز غير مألوف في العراق فكان موضوعا في إحدي زوايا الغرفة. كان هذا الجهاز فيما يبدو من غنائم الحرب ضد الكويت.

قال العلي: «أنا آسف، لكن هذا الجهاز لن يشتريه مني أحد».

نظر إليه الرجل الشاب نظرة يائسة.

«حسنا، ولكن إذا أردت يمكنك النوم مع زوجتي»، وأشار إليها.

ذهب اللواء العلي.

«شعرت أن الدنيا تدور بي، وكاد أن يغمي عليّ. بدا لي أن ما وصل إليه الناس من معاناة شيء لا يمكن للعقل أن يتصوره»، هذا ما قاله لي العلي حينما روي لي عن زيارته لهذه العائلة الشابة.



اضافة رد مع اقتباس
  #8  
قديم 03/10/2004, 10:40 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة الثامنة: ##############

عدي يصيب وطبان في رجله
بـ «بندقية سيلفستر ستالوني»
صدام يفتش عن عدي
وحسين وصدام وكامل يهربان إلي الأردن


لم يدم الأمر طويلا حتي أعلن صدام حسين يوم الثامن من أغسطس، اليوم الذي انتهت فيه أخيرا الحرب الدموية والسخيفة ضد إيران عيدا قوميا في العراق ـ «يوم الأيام» ـ. في كل البلاد كان يتم الاحتفال بـ «النصر» علي العدو في الشرق بمظاهرات ضخمة وبالعروض العسكرية، كما كانت القيادة الحكيمة للرئيس ومجهوداته في أثناء ثماني سنوات من الحرب الصعبة موضوعا لأناشيد إطراء لا حصر لها من جانب الشعب المتوحد والشكور.

تحلل العائلة
عادة ما كانت الاحتفالات والأعياد تبدأ في المغرب، وإذا حكمنا بناء علي ما كان سائدا من أجواء الفرح فإن يوم الثامن من أغسطس من عام 1995 كان سيعني مجددا واحدا من أعظم الأيام لصدام.

بدلا من ذلك كان هذا اليوم هو بداية تحلل عائلته، بدءا من ابنه عدي، فأخيه الأصغر غير الشقيق وطبان، ثم كل من زوجي الابنتين حسين وصدام كامل اللذين كانا متزوجين من ابنتيه رغد ورنا.

وطبان الذي فقد نفوذه ولم يعد يشغل الآن سوي منصب «مستشار الرئيس» بعدما كان في السابق وزير داخلية العراق، كان يحتفل بـ «يوم الأيام» عند صديقه حسن الخطاب الذي كان يملك مزرعة صغيرة تقع علي الطرف الجنوبي لمدينة بغداد. كان هناك ما يقرب من المائة والخمسين شخصا من الجنسين مشاركين في الاحتفال. مغنين، وموسيقيين، وراقصات قدموا عروضهم، وحِملان كاملة كانت موضوعة علي الشواء، أما الخمر فكان يسيل أنهارا.

علاوة علي ذلك شارك القوادون البارزون بمجهوداتهم إلي حد ما في الاحتفال، فلم يكن من اللائق علي أي حال أن يفشل الحفل لغياب مجهوداتهم.

نادي برزان
عدي أيضا كان يقيم احتفالا في «نادي الزوارق» علي نهر دجلة في بغداد. عندما كان العم برزان في منتصف الثمانينات، بوصفه رئيس المخابرات القوي، لا يزال يتمتع بحظوة صدام بُني هذا النادي للضباط والعاملين البارزين لجهاز المخابرات المهيب كمكان للترفيه. عندما أصبح برزان خارج رحمة صدام آل هذا النادي إلي الرئيس. كان الرئيس يحتفظ به لقيادات حزب البعث، وللضباط ذوي الرتب العليا، وللوزراء، ولأسرهم كذلك. كان الطعام والشراب، بما فيه المشروبات الروحية، متوافرا بكميات كبيرة ، ولفترة طويلة تمتع نادي الزوارق بسمعة طيبة علي أنه الملهي المستديم لنخبة النظام. إلا أن صدام أغلق في عام 1992 محابس الخمور، ولم يعد تقديم البيرة، والنبيذ، والكحوليات مسموحا به في نادي الزوارق، كما كان علي الضيوف المميزين من ذلك التاريخ أن يدفعوا بأنفسهم ثمن الطعام. بدأوا في الاختفاء شيئا فشيئا، وبعد أن أصبح الملهي الواقع علي ضفاف النهر مهجورا رأي عدي أن الساعة قد أتت، واستولي علي النادي في هدوء شديد. أمر حفنة من حرسه الخاص بالتوجه إلي هناك وفرض السيطرة، كما عين طباخا جديدا ونادلين جددا.

كان الملهي بصالته الكبيرة، وبمطعمه، وبباره الذي يبدو كسطح سفينة، بما كان يحيطه من مساحات خضراء، وبإطلالته الكبيرة الجميلة علي نهر دجلة كأنه خُلق لمجالس المجون الخاصة بابن الرئيس. كان يستخدم بكثرة، وكانت معظم حفلاته تُقام هنا.

فتيات صغيرات السن
في عشية «يوم الأيام» من عام 1995 كان هذا الملهي الشاطئي ممتلئا بفتيات صغيرات السن. طبقا لأقوال صديق عدي وسكرتيره الشخصي ظافر محمد جابر كان هناك زحام يقرب من خمسمائة امرأة، أما هم فكانوا ما بين ستة أو سبعة رجال إذا اسُتبعد الحرس الخاص الذي كان يراقب الموقف. كان عدي لا يشبع من الأشياء التي كان يُعجب بها.

قل في العاهرات ما شئت، لكن بعضهن كن أكثر جاذبية من الأخريات. في مزرعة حسن الخطاب أدي هذا الوضع إلي كارثة بشكل أو بآخر، حينما أخذ الاحتفال بالعيد الوطني يقترب من مرحلته الحميمية. كان خيار وطبان الأول امرأة رائعة الجمال، وهو الأمر الذي تسبب في وقوع القلاقل، لأن وزير الداخلية لم يكن الوحيد الذي كان يضع عينيه عليها.

فلؤي خير الله كان كذلك مأخوذا بها، وهو لم يكن في تلك العائلة المكونة من الأعمام، وأولاد العمومة، والأصهار من الرجال والنساء وغيرهم من الأقارب الذين كانوا علي رأس الهرم الحاكم في عهد صدام، كان شخصا عاديا.

مملكة الليل
كان لؤي أخا زوجة صدام ساجدة، أي صهره. لكن الأمر لم يقتصر علي ذلك، فأخته كانت متزوجة من وطبان بالذات.

إذن كان اثنان من الأصهار يسويان حساباتهما بسبب ملكة الليل، مما ستكون له عواقب وخيمة.

بدأ كل شيء عندما طلب لؤي من أحد أصدقائه أن ينتزع من يدي وطبان جميلته المختارة، وهو الأمر الذي باء بالفشل. أمر وزير الداخلية اثنين من حرسه الخاص بالتدخل وبالتنكيل بمبعوث صهره، الذي عاد إلي لؤي بخفي حنين والدماء تنزف منه أنهارا. تشاور الصديقان الثملان مليا عما يجب فعله، ووصلا إلي نتيجة مفادها أنهم في حاجة ماسة إلي الدعم.

فكر الاثنان في عدي وتوجها من فورهما إلي نادي الزوارق ليطلبا العون. لم يقدر ابن الأخت أن يقول «لا»، بعدما عرض عليه الخال لؤي وصديقه الذي كان في حالة رثة مرادهما. عدي نفسه الذي كانت الخمر قد لعبت برأسه إلي حد ما كان قد اقتني منذ وقت قصير بندقية جديدة تماما من طراز «جاك هامر». يستعمل سيلفستر ستالوني وأرنولد شوارزنيغر في أفلامهما مثل هذا النوع من الأسلحة النارية اليدوية. لذلك شعر ابن الرئيس أنه مجهز تجهيزا جيدا للوقوف بجانب خاله في تصفية حساباته.

كان الحفل لا يزال قائما علي قدم وساق، لكن وطبان ومعظم حرسه الخاص كانوا قد غادروا مزرعة حسن الخطاب، عندما ظهر عدي ليستوضح الأمر، هو ولؤي، وصديقه المعتدي عليه، وظافر محمد جابر وثمانية من حرسه الخاص. تم التنكيل بمن كان موجودا من أصدقاء وزير الداخلية وحرسه الخاص الذين أوسعوا صديق لؤي ضربا، ثم أطلق عليهم الرصاص.

إصابة في رجله
بعد ذلك قام عدي بإطلاق النار علي المشاركين في الحفل من بندقيته الجديدة. قُتل ثلاثة وجُرح كثيرون.

بعد ذلك عاد وطبان لأنه في أثناء مغادرته الحفل انتبه إلي موكب سيارات عدي وعاد ليستوضح ماذا كان في نية ابن أخيه. وما كان عليه فعل ذلك، لأنه عندما هبط من سيارته المرسيدس الكبيرة سوداء اللون مع حرسه الخاص فتح عدي النار من جديد. أُصيب عمه في كلتا ساقيه. لم يجرؤ حرسه الخاص علي الدفاع عنه، ففي آخر المطاف كان ابن صدام هو من يطلق النار.

تفجرت الدماء. وكان وطبان غائبا عن الوعي عندما وضعه عدي في سيارته واتجه به إلي مستشفي ابن سينا.

قال لصديقه جابر: «ظننت أنه كان يريد قتلي رميا بالرصاص. لقد أطلقت عليه النار دفاعا عن النفس».

في السادسة والنصف وصلتني مكالمة. طُلب مني أن أتوجه إلي مستشفي ابن سينا. أمام مبني المستشفي كان هناك حشد كبير من قوات الأمن والحرس الخاص. في المستشفي كان يجلس أخو عدي، أي قصي، والسكرتير الشخصي لصدام عبدحمود عند المدير. كان يبدو عليهم الشحوب، والعصبية، والإرهاق الشديد من قلة النوم.

أجريت عملية وطبان
كان وطبان يرقد بالفعل علي منضدة العمليات. بعد إعطائه المحاليل وبعد نقل الدم إليه عاد إلي وعيه مرة أخري. كان يتألم بشدة وكان مرعوبا من أن ابن أخيه حصده بالرصاص حصدا. كان فخذه الأيسر بصفة خاصة في حالة سيئة. كان الثلث الأعلي من عظمة القصبة قد تهتك بفعل طلقات الرصاص، كما أن العضلات والأعصاب الرئيسية كانت مصابة إصابة شديدة. كان فخذه الأيمن قد أصيب أيضا، غير أن حجم الأضرار فيه لم يكن كبيرا. استقر الرأي علي أن أقوم أنا وجراح العظام في مستشفي ابن سينا بالعملية الضرورية. بعد أن انتهينا من عملنا بعدة ساعات كنا وقوفا أمام غرفة العمليات.. وأتي صدام.

قال لي: «أنا آسف لأننا مضطرون لأن نضايقك بمشاكلنا طوال الوقت».

علي الرغم من أنه كان مشدودا بعض الشيء فإن الهدوء والتماسك كانا باديين عليه. لكنه لم يبتسم كما اعتاد أن يفعل عندما كان يأتي إلي المستشفي.

استعلم عن حالة وطبان.

«جيدة بالنظر لملابسات الأمر، لن يموت، لكن الإصابات الناجمة عن الأعيرة النارية في الفخذ الأيسر حالتها خطيرة جدا».

ذهب صدام وحده إلي أخيه غير الشقيق. بعدها بقليل خرج مرة ثانية من غرفة العمليات وغادر مستشفي ابن سينا بصحبة قصي وعبد حمود. كان من الواضح أنهم في عجلة من أمرهم.

كان لعبد حمود ابن أخت اسمه رافد، وكان واحدا من حرس الرئيس الخاص. كان هو أيضا في مزرعة حسن الخطاب للاحتفال «بيوم الأيام» مع وطبان، وأصيب كذلك، أصابته رصاصة من بندقية عدي تحت العين اليسري بقليل، إلا أنه نجا بأعجوبة. وتسببت الطلقة أثناء خروجها في قطع الأذن اليسري. نقلوا رافدا إلي مستشفي ابن سينا في تلك اللحظة.

سخرية في نطق عدي
بينما كنا نجهزه للعملية روي لي أن وزير الداخلية كان قد سخر من ابن أخيه قبل إطلاق النار. منذ الولادة كان الفك الأعلي لعدي ممتدا للأمام امتدادا كبيرا بشكل غير طبيعي. لهذا كان من الصعب عليه أن يتحدث بوضوح. في الحفل قلده عمه تقليدا دقيقا وجعل من عيبه في النطق مادة للسخرية والمزاح، مما أثار جوا من المرح الشديد في الحفـل. استشاط لؤي الذي هو خال عدي وصهر وطبان غضبا. لم يكن غضب عدي أقل في حدته عندما سمع بذلك، فكثير ممن استمعوا إلي وطبان وكادوا يغرقون في الضحك من نكاته التي كان يلقيها علي ابن الرئيس لم يكونوا حتي من أفراد عائلتهم.

«كان عدي في جنون الغضب عندما وصل إلي هناك وبدأ بإطلاق النار من حوله»، هذا ما رواه لي ابن أخت عبد حمود.

ليكشف بعدها أيضا هذا الخبر المثير:


هروب حسين كامل
«حدث فجر اليوم ما هو أكثر سوءا، لقد هرب حسين كامل وصدام كامل إلي الأردن، ومعهما زوجتاهما وأولادهما، كما انضم إليهما أخوهما حاكم كامل».

فهمت علي الفور لماذا لم يكن صدام مبتسما كعادته وكان باديا عليه التوتر، عندما جاء قبلها بعدة ساعات لزيارة أخيه غير الشقيق المصاب.

كان زوجا الابنتين حسين وصدام كامل الأثيرين إلي قلب الرئيس. لم يكافئهما بابنتيه رغد ورنا فحسب، بل منحهما أيضا كثيرا من المراكز المؤثرة.

كان حسين كامل وزير الصناعة والتصنيع العسكري ، ومسؤولا مسؤولية خاصة عن برنامج التسليح العراقي. كان صدام كامل بوصفه رئيس الحرس الخاص للرئيس يتمتع هو الآخر بمنصب في منتهي الأهمية. كان يتولي الحراسة الشخصية لصدام ليلة هربه مع أخيه، ومع كلتا الزوجتين، ومع الأطفال.

ربما لا يمكن لأحد أن يتصور كيف كان شعور صدام عندما غدر به هذان الفردان من أفراد أسرته اللذان ربما كانا أقرب الناس إليه.

اختفي جابر، وعدي، وخاله لؤي موقتا بعدما أطلق النار علي وطبان ونُقل إلي مستشفي ابن سينا. اختبأوا عند عبد حسن المجيد الذي كانوا يثقون به. كان عبد خال لؤي وأخا علي حسن المجيد، أي «علي الكيماوي».

البحث عن عدي
كان صدام يبحث عنهم كالمجنون. تلقي قصي الأمر باقتفاء أثر أخيه الأكبر بأسرع ما يمكن. علي مدار عصر ذلك اليوم نجح قصي في توصيل رسالة إلي جابر مفادها أنه يجب أن يتصل به.

سأل جابر عدي عما إذا كان لا مانع عنده.

«يمكنك أن تبدي استعدادك لمقابلة قصي مساء اليوم، ولكن إياك أن تقول له أين أنا. لا بد أن يهدأ والدي أولا».

كان الاحتفال العام «بيوم الأيام» يجري علي قدم وساق في شوارع وحدائق بغداد، عندما توجه جابر إلي القصر الجمهوري لمقابلة قصي.

«لا بد أن تخبرني أين هو! لا بد أن نعقد مجلس عائلة بأسرع ما يمكن».

رفض جابر، فهدده قصي بالسجن.

في أثناء ذلك عرف عبد حسن المجيد هو الآخر أن حسين وصدام كامل قد هربا مع عائلتيهما إلي الأردن. كان الاثنان وَلَدَيْ أخيه، وقد أدرك خطورة الموقف. لهذا اتصل عبد حسن بقصي وأخبره عن مكان اختباء الأخ والخال.

بعدها بقليل اتصل قصي بأخيه.

قال له: «لا بد أن تأتي علي الفور. هناك ما هو أهم من موضوع وطبان يجب أن نركز عليه».

أُرسل جابر بتصريح صحفي مكتوب بخط اليد إلي الصحف، وإلي الإذاعة، وإلي التلفزيون، مفاده أن وطبان تعرض في أثناء الاحتفال «بيوم الأيام» إلي حادث. ولم ترد تفاصيل أخري.
كما جاء فيه: «نتمني له الشفاء العاجل»


مجلس العائلة
ترأس صدام مجلس العائلة الذي عُقد في الساعة الحادية عشرة مساء في أحد القصور. كان الهدوء والتماسك باديين علي الرئيس. تم الاتفاق علي أن يتوجه عدي، وجابر، و«علي الكيماوي»، ومانع عبدالرشيد ـ رئيس المخابرات العراقية ـ إلي الأردن في محاولة لإقناع حسين وصدام كامل بإعادة التفكير.

في الساعة الرابعة فجرا توجهوا بالسيارة عبر الصحراء في اتجاه الغرب. في حدود الساعة الثانية عشرة ظهرا كانوا في عمان. بمساعدة الملك حسين حاولوا بلا جدوي الحديث مع ابنتي صدام، غير أن الاثنتين رفضتا. في مدار عصر ذلك اليوم تأكد أن الحملة لن تكلل بالنجاح، وبعد وجبة غداء خفيفة مع السفير العراقي في عمان قرر الوفد العودة إلي بغداد.

«في رحلة العودة كلها كانوا يضغطون عليَّ. أرادوا مني أن أتحمل أنا ذنب إطلاق الأعيرة النارية، مما من شأنه أن يسهّل علي الرئيس كثيرا من الأمور، كما قالوا لي. لكني رفضت أن ألعب دور كبش الفداء»، هذا ما رواه لي ظافر محمد جابر فيما بعد.

الصراع علي عاهرة والعائلة
طالب إخوة صدام الثلاثة غير الأشقاء بالإجماع بمعاقبة عدي لفعلته. غير أن الرئيس رفض، فنشر الغسيل القذر من خلال محاكمة علنية لا يفيد لا العائلة، ولا النظام. كما أن دور وطبان في هذه القصة المؤسفة يمكن وصفه بأي شيء إلا بأنه محترم. وزير داخلية لعبت الخمر برأسه قليلا وصهره في صراع علي عاهرة، لم يكن ذلك مما يمكن نشره في أوساط الرأي العام. كان الذنب يتحمله الطرفان.

لم يكن من السهل علي سبعاوي، وبرزان، ووطبان أن يقبلوا قرار أخيهم غير الشقيق. سبّب هذا القرار الضغائن في العائلة. عندما كنت أقابلهم كانوا دائما يشتكون من أن الرئيس لم يحاسب عدي علي النحو الصحيح. غير أن صدام طلب من عدي الذهاب إلي عمه في مستشفي ابن سينا وأن يقدم له اعتذاره المطلق، بل وأن يأخذ معه مسدسا ويطلب من وطبان أن يطلق عليه النار في الموضع نفسه من النصف السفلي من الساق الذي هتكته البندقية الخاصة بعدي.

ازدراء عدي
فعل عدي ما أُمر به. قبل وطبان الاعتذار ومنحه عفوه الرسمي، لكنه رفض أن يطلق النار من المسدس علي النصف السفلي من ساق عدي، ولو فعل لكان الأمر قد سُوي علي الطريقة البدوية.

كان الإخوة الثلاثة يزدرون ابن أخيهم قبلها بالفعل، وبطبيعة الحال زاد الأمر بعد هذه الواقعة سوءا. غير أن الإخوة الثلاثة لم يكونوا علي علاقة جيدة تماما بعضهم مع بعض. كان الواحد منهم يغتاب الآخر، ويحاول أحدهم وضع العراقيل في طريق الآخرين، ما أمكن له ذلك. ازداد الأمر سوءا علي سوء حينما قرر سبعاوي تأييد قرار صدام بعدم معاقبة عدي. كان أكبر الإخوة الثلاثة آنذاك رئيسا للأمن العام ولم يرغب، كمـا كان واضحا، أن تطول فترة تحديه للرئيس خوفا من أن ينزع الأخير عنه منصبه المهم.

دارت مناقشات مستفيضة عن أكثر شخص مناسب لعلاج وطبان. كان لا بد من إجراء عمليات جراحية في العظام والأعصاب. أوضح صدام بشكل لا لبس فيه أن المال لا يلعب دورا. بدون النظر للتكاليف كان لا بد لأخيه غير الشقيق أن يحصل علي أفضل مساعدة طبية يمكن الحصول عليها. طرأت علي رأس صدام أن يستعين بمساعدة الجراح الكوبي العالمي الفاريس كامبريس كان الاثنان تربطهما علاقة صداقة جيدة، كما هي الحال أيضا مع فيدل كاسترو الذي كان يرسل لصدام بانتظام السيجار الهافاني.

فريق فرنسي
في نهاية المطاف استقر الاختيار علي فرنسا. أتي فريق من الأطباء من باريس إلي مستشفي ابن سينا في بغداد، وأجروا ما يلزم من العمليات الجراحية الكثيرة المعقدة لكي يقف وطبان علي قدميه.

كانت رغبة صدام أن يتلقي أخوه غير الشقيق ما يلزم من المساعدة في العراق. لم يكن يرسل أفراد العائلة للعلاج الطبي بالخارج إلا مكرها. ولذلك شعرت بالخوف وخشيت أن تُجر قدمي في واحدة من تلك المؤامرات المحيطة بالرئيس التي لا حصر لها عندما انتحي بي سبعاوي جانبا ذات يوم من أيام الخريف بعد زيارة لأخيه في المستشفي ليحدثني بيني وبينه فقط في أمر مهم.

وضع ذراعه حول كتفي.

«يا دكتور علاء، هل تحدث أخي برزان معك في إمكان إرسال وطبان إلي سويسرا لمواصلة علاجه الطبي هناك»؟

كان برزان في ذلك الوقت لا يزال سفير العراق لدي الأمم المتحدة في جنيف.

«لا، مطلقا، فهو لم يتصل بي، ولم يقترح مثل ذلك الأمر».

إلصاق تهمة
لم يزد سبعاوي عما قاله، لكنني كنت مستعدا لأسوأ الاحتمالات فيما يخص مدير الأمن العام. في قطيع الذئاب المحيط بالرئيس كانت شعبيتي تتناقص يوما بعد يوم. كان يثير لديهم الريبة والحسد أن يكون شخص ما قريبا للغاية من الرئيس. إن تحويل وطبان إلي مستشفي في سويسرا كان سيشعل غضب الرئيس. بدا لي الأمر أن سبعاوي يريد أن يتهمني ويتهم أخاه في جنيف بأننا نحن أصحاب هذا الاقتراح.

بهذه الطريقة كان الرجال الذين هم علي شاكلته يتخلصون من الناس الذين كانوا لا يحبونهم.

بعدها بعدة أيام أتي صدام إلي مستشفي ابن سينا ليزور وطبان وليودع الجراحين الفرنسيين الذين أجروا مزيدا من العمليات الجراحية في النصف السفلي من ساق وطبان. بعدها سيسافرون قاطعين الصحراء ليستقلوا الطائرة من عمان إلي باريس. كان سبعاوي برفقة صدام.

قال الرئيس: «لا بد أن أشكركم علي مجهوداتكم الرائعة، وعلي ما برهنتم عليه من شجاعة بقدومكم إلي هنا، علي الرغم من الدعاية المستمرة للولايات المتحدة ضد العراق». كان واضحا لي ماذا كان يدور هناك بجانب سرير الرجل المريض. دعوه في حاله، هذه كانت رسالة صدام إلي أخويه غير الشقيقين. في صباح اليوم التالي أُعفي سبعاوي من منصبه كمدير للأمن العام.

إحراق ألف سيارة
أخذ حجم هواية عدي في اقتناء الأشياء يتضخم تضخما مذهلا في خريف هذا العام الممتلئ بالأحداث. بينما كان معظم العراقيين يزدادون فقرا علي فقر، ومرضا علي مرض، وبؤسا علي بؤس، كان ابن الرئيس يستورد السيارة الفارهة وراء الأخري ليضمها إلي مجموعته. في أثناء ذلك كان عدي يمتلك في خريف عام 1995 العاصف ما يقرب من ألف سيارة.

كان هناك نحو مائة من أغلي وأجمل السيارات مركونة في كراج يقع علي الأراضي التابعة للقصر الجمهوري والقائمة عليها حراسة مشددة: رولز رويس، وبينتلي، وليكزس، وأودي، وعديد من سيارات الـ بي. إم. دبليو.، والمرسيدس، وبورش، وفيراري ولامبورغيني. في الكراج، كانت هناك، علاوة علي ذلك، مجموعة رائعة من السيارات القديمة كانت أحب ما يملك ابن الرئيس إلي قلبه.

في ضحي يوم من الأيام تصاعدت ألسنة اللهب السوداء من القصر الجمهوري. كان الكراج يحترق، ولم يقم أحد بمحاولة إطفاء الحريق.

كالمعتاد زار صدام أخاه غير الشقيق في مستشفي ابن سينا، لكنه ثار ثورة عارمة حينما رأي أن قدرة أخيه غير الشقيق علي المشي مرة أخري أمر معقد جدا وسيستغرق وقتا طويلا. في ثورة غيظه توجه إلي كراج عدي، وأمر حرسه الخاص بإحضار صفيحة من البنزين، وأعواد الكبريت.

في هدوء أخذ الرئيس يدخن سيجارا ضخما من الهافانا، وهو يستمتع بانتقامه من ابنه، وبالسيارات التي أخذت تلتهمها النيران.

عدي يبكي سياراته
غادر صدام المستشفي حيث شقيقه وطبان المصاب عندما أسرع عدي وظافر محمد جابر ليعاينا حطام السيارات المحترقة عن آخرها في هذا الكراج الفخم. كان قصي هو الآخر قد أُخبر بالعملية الانتقامية لوالده وكان موجوداً قبلها في المكان.

«لماذا لم تَحُل بينه وبين ذلك»؟، صاح به عدي، وهو علي وشك البكاء وقد خرج تماما عن شعوره. «هل نسيت أنني أنقذتك من السجن»؟

كان عدي دائما ما يذكر إقامة أخيه الأصغر في السجن عندما كان لسبب أو لآخر غير راض عنه.

في عام 1984 اعتدي قصي ـ وقد لعبت الخمر برأسه قليلا ـ علي دبلوماسي سعودي في فندق المنصور في بغداد بالضرب. ليس من الواضح علامَ دار الشجار، غير أن الدبلوماسي تقدم بشكوي لوزارة الخارجية العراقية. علم صدام بالأمر وأمر بوضع ابنه الأصغر في السجن. حُبس قصي في زنزانة في السجن نفسه الذي أقام فيه عدي وجابر بعد الاعتداء علي الخادم الخاص للرئيس كامل حنا وقتله. غير أن مقام الابن الأصغر للرئيس كان قصيرا للغاية، فبعد عدة أيام لا غير هب عدي لنجدة أخيه. ظهر عدي مع بعض الأصدقاء في مكتب مدير السجن وطالب بالإفراج عن أخيه. عندما رفض المدير أطلق عدي النار علي ساق المدير من بندقية كلاشينكوف وأرغمه علي الإفراج عن قصي.

في أعقاب ذلك اختفي الاثنان عند بعض أقارب صدام إلي أن هدأ صدام. وبعدها لم يعد أحد يذكر تلك الواقعة.

«كان عليك التدخل ومنع والدنا من فعل ذلك»!، واصل عدي اتهاماته لأخيه.

«أتيت متأخرا للغاية، كانت النار قد اشتعلت في الكراج بالفعل»، أجابه قصي مضيفا: «ولكن لحسن الحظ استطعت أن أمنعه من الزحف علي سياراتك الأخري». كان الكثير منها موجودا علي بعد مرمي حجر من القصر الجمهوري في أحد المخازن. بأسرع ما يستطيع هرول عدي إلي هناك. تحصن خلف أجولة الرمل أمام المدخل وأحضر مدفع رشاش ثقيلا.

غير أن صدام لم يواصل حملته العقابية الخاصة بعض الشيء لابنه. «لو كان ظهر هناك، لكان عدي قد قتله علي الفور»، كان هذا هو تقدير جابر للحالة النفسية لصديقه.




اضافة رد مع اقتباس
  #9  
قديم 03/10/2004, 10:47 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة التاسعة: ##############

وصاح حسين كامل:
صدام شرير إنه عميل أميركي
علي الكيماوي وضع حذاءه علي وجه حسين كامل وأفرغ الرصاص في رأسه


شرف العائلة
كان الخريف والشتاء في عمان صعبين علي زوجي ابنتي صدام. في البداية كان لا يزال الأمر مشوقا. استقبلت مخابرات الدول الغربية وعلي رأسها وكالة المخابرات الأميركية بنهم ما كان عندهما من حكايات، وهو ما انطبق أيضا علي رولف إيكيوس، رئيس فريق التفتيش علي الأسلحة التابع للأمم المتحدة.

ولكن بعد أن روي لهم حسين كامل كل ما يعرفه عن برنامج التسليح العراقي، وبعد فشل أخيه صدام في تقديم معلومات علي درجة خاصة من الأهمية عن حياة النظام العراقي، بدأت الحياة اليومية الكئيبة في العاصمة الأردنية عمان تزحف سريعا عليهما وعلي عائلتيهما. لم يعد هناك من يهتم بهما، كما أن العراقيين في المنفي بمجموعاتهم المعارضة لم يريدوا أن تربطهم علاقة بهما لأن زوجي ابنتي صدام كانا مسؤولين بصفة شخصية عن جزء من القمع وبعض جرائم الحرب.

كان الانتقال من الحياة المترفة في مركز السلطة في بغداد إلي كيان كان يزداد ضآلة يوما بعد يوم في المنفي في عمان أشد مما كانا يتوقعانه، ارتفعت أصوات الاشاعات أن حسين كامل كان مشتاقا إلي البيت لأنه ليس في أحسن أحواله الصحية، كان عنده مشاكل نفسية عميقة.

ألمح الوزراء الذين تحدثت معهم ان مبعوث عائلة الخريبط القوية ذات النفوذ في مدينة الرمادي، توجه كوسيط للرئيس في زيارة لعمان، وعرض علي زوجي الابنتين حرية الحركة إذا أرادا ذلك.

كما أخبرهما بأن صدام يعدهما بألا يعاقبهما.

عودة الشقيقين
علي بعد ثلاثمائة كيلومتر من عمان وخمسمائة كيلومتر من العراق تمتد الحدود بين العراق والأردن في الصحراء العربية الجافة القاحلة. النقطة الحدودية علي الناحية العراقية اسمها «طريبيل». يقال إن هذا الاسم اشتق من كلمة trouble الانكليزية التي تعني المشاكل. لقي الآلاف من الجنود الإنكليز مصرعهم هنا في نهاية الحرب العالمية الأولي في حربهم ضد الأتراك عندما تحللت بقايا الدولة العثمانية.

هشام الغريري كان رئيس النقطة الحدودية عندما وصل حسين، وصدام وحاكم كامل مع زوجاتهم وأطفالهم في العشرين من فبراير من عام 1996 إلي طريبيل، لا أعرف ما السبب وراء عودتهم إلي العراق، لكنه تكون لدي الانطباع أن حسين كامل في المقام الأول لم يعد يتحمل الإقامة في عمان، وأنه بوصفه الأخ الأكبر قد أقنع الباقين بمصاحبته في طريق عودته إلي بغداد.

طبقا لأقوال الغريري فإن حالة حسين كامل كانت سيئة عندما وصل إلي طريبيل.

«كان كمن يسير وهو نائم. لم يكن حليق الذقن وكان يرتدي بيجاما عبارة عن قميص أبيض اللون وبنطلون أسود».

كان معه مسدس، أخذه منه الغريري طبقا لتعليمات الرئيس.

وكان صدام كامل مازال يرتدي البيجاما عندما دخل الحدود العراقية.

قصي وعدي أخذا شقيقتيهما
في أعقاب ذلك أعطي رئيس النقطة أوامره بأن تسلم رغد ورنا وأطفالهما إلي ابني الرئيس ليتوجها بهم إلي بغداد. كان قصي وعدي قد وصلا قبلهم مع حرسهما الخاص إلي طريبيل ليكونا في استقبال المجموعة القادمة من عمان.

سأل حسين كامل في استغراب: «لماذا»؟

أجابه الغريري: «هذا أفضل شيء لكما».

مسألة عائلية
بعد أن غادر ابنا وابنتا وأحفاد الرئيس المكان تم إرسال زوجي الابنتين في عربة خاصة تحت حراسة مشددة إلي بغداد.

بعدها بيومين أعلن في الصحف وفي التلفزيون أن رغد ورنا قررتا طلب الطلاق.

تزامن ذلك الإعلان مع الاحتفال بختام رمضان. تجمع صدام وعائلته في أحد قصور الرئيس في تكريت. لم يدع إلي عشاء العيد زوجا الابنتين المقضي عليهما.

«لقد وعدتهما بأنني لن أعاقبهما لهربهما إلي الأردن ولخيانتهما لي»، قالها صدام بعد أن التهم الحمل المُحمّر والأرز، وبعد أن قدمت الفاكهة والتمر. أخذ صدام يتأمل هذا الجمع الكبير ثم وجه ناظريه إلي علي حسن المجيد، عم زوجي الابنتين.

«ثم إنها مسألة عائلية».

العم، كان يكره أن يقول ما لا يلزم.

استعداد الأخوين
استقر حسين كامل وإخوته في داره في الجادرية المجاورة لبيت صدام حسين. لكن بعد أن سمع عويل وصياح النساء اللواتي دخلن المنزل قادمات من تكريت وهن ينقلن خبر عزم علي حسن المجيد القضاء علي الإخوة القادمين من الأردن، انتقل حسين، وصدام وحاكم كامل الي عند أخت لهم كانت تعيش هي وأطفالها الثلاثة في منطقة السيدية علي الأطراف الجنوبية لمدينة بغداد علي الطريق الشرياني المؤدي إلي بابل. هذا ما نقله لي أحد المضمدين العاملين في مستشفي ابن سينا.. الذي جاء ليعطي حسين كامل حقنة من البنسلين لعلاج التهاب اللوزتين الذي كان يشكو منه.

انضم إليهم أبوهم كامل المجيد في أثناء الليل، وأحضر معه أسلحة. كلهم كان يعرف ماذا ينتظرهم. سبق الاشاعات الخاصة بالاحتفال العائلي في تكريت قطيع الأقارب المسلحين تسليحا ثقيلا والذين أخذوا طريقهم باتجاه الجنوب لرد الكرامة المهدرة للعائلة.

في الساعة الخامسة صباحا وصل الأقارب الذين أصبحوا مع الوقت فرقة هجوم كاملة إلي هناك، وحاصروا المنزل الواقع في السيدية. غير أن «علي الكيماوي» لم تكن لديه الرغبة لقتل أخيه، لذا طلب من كامل المجيد أن يغادر المنزل مع ابنته والأطفال، ولكن كامل رفض.

كان كامل يلبس الكوفية المثبتة بعقال لُف حول جبهته مرتين. عندما أعاد علي حسن علي مسامعه أنه لا يريد قتل أحد سوي أبناء الأخ الذين سلبوا العائلة شرفها بهروبهم إلي الأردن، خلع كامل العقال، وقذف به تحت قدمي أخيه.

يعد ذلك في العالم العربي إشارة لا لبس فيها. قُضي الأمر. لم يكن هناك معني لمواصلة الحديث. من رمي العقال تحت الأقدام عليه هو نفسه تحمل عواقب الصراع.

مختلس مواد البناء
في بداية الموقعة أبلي حسين، وصدام، وحاكم كامل سويا مع والدهم بلاء حسنا. تكبد علي الكيماوي ورجاله بعض الخسائر. كان ثائر سليمان المجيد هو أول من أُصيب إصابة نارية مميتة، كان معظم العراقيين يعرفونه لأنه اختلس بعد نهاية الحرب مواد للبناء واسمنت كانت تخص وزارة الصناعة. اتهمته الصحف والتلفزيون، وقد أراد صدام أن يضرب من خلاله العبرة والمثل، فحبسه في السجن سنين عدة. في تلك الموقعة فقد ثائر سليمان حياته الفاسدة في القتال الدائر حول كرامة العائلة المهدورة.

بعده قتل أحمد عبد الغفور، أحد حرس صدام الشخصي، كان هو أيضا من الأقارب البعيدين للأربعة الذين كانوا يدافعون عن أنفسهم بمهارة في المنزل المحاصر.

كان ينتظرنا عمل هائل في مستشفي ابن سينا عندما بدأ نقل المصابين من العائلة. حكوا لي تفاصيل ما جري في هذا الصراع العائلي في تكريت وما تم فيه من تصفية حسابات في السيدية.

بعد ثلاث ساعات قرر علي المجيد استعمال قنبلة تعمل بالدفع الصاروخي ضد أخيه وأولاد أخيه حتي تدب الحركة في حرب الخنادق هذه.


حرب عائلية
عندما أصاب الصاروخ المنزل وانفجر لقي صدام وحاكم كامل، وأبوهما، وكذلك الأخت، وأطفالها الثلاثة الذين كانت أعمارهم تتراوح بين السنوات الثلاث والست مصرعهم. كانوا قد لجأوا إلي إحدي غرف الحمام في المنزل. وعندما نقلوا في أعقاب ذلك إلي مركز صدام لجراحة القلب في بغداد كانت أجسادهم جميعا محترقة احتراقا شديدا.

لم يقتل حسين كامل في هذا الهجوم الصاروخي وواصل القتال.

غربت الشمس، وكانت الدراما العائلية الدموية قد دخلت ساعتها الثانية عشرة حين استطاع صهر حسين كامل، أي جمال مصطفي، مــع ابــن عمــه الأصغر اقتحام المنزل. كان مصطفي متزوجا من حلا، أصغر بنات الرئيس، وكان من حرس صدام الخاص.

صدام عميل أميركي
تحصن حسين كامل بمدفع رشاش قصير يتصاعد منه دخان البارود علي بسطة السلم بين الطابق الأرضي والطابق الأول، بعدما قتل اثنين من أقاربه، وجرح اثنين غيرهما.
صاح حسين كامل بصهره السابق: «صدام رجل شرير. لا بد أن تتخلصوا منه، إنه عميل أميركي، ولا يمكن الوثوق به».

رد جمال مصطفي بوابل من طلقات من مدفع الطلقات القصير الخاص به. أصيب حسين كامل إصابة بالغة، غير أن صهره وابن عمه أصيبا أيضا، وسقطا علي الأرض. أُصيب حبيب، وزوج ابنة الرئيس السابق في بطنه، وأدرك حسين كامل أنها النهاية وبكل ما تبقي عنده من قوة نهض علي قدميه وسار مترنحا في الطريق وصاح: «أنا حسين كامل». كان يريد الموت واقفا.

غير أن المدفع الرشاش القصير لأحد أقاربه البعيدين أطاح به أرضا.

توجه «علي الكيماوي» إليه ووضع حذاءه علي وجهه، وهي أكبر إهانة لرجل عربي.

في أعقاب ذلك وضع العم مسدسه علي رأس ابن أخيه الذي هو تحت حذائه، وأفرغ فيه خزان مسدسه.

لم يشارك عدي، ولا قصي في القتال، ليس لأنهما لم يكونا راغبين في ذلك أو غير قادرين عليه، بل لأن والدهما كان قد وعد في آخر الأمر زوجي ابنتيه بألا يعاقبهما. كانت كلمة الشرف التي يقولها الرئيس ملزمة أيضا لابنيه.

رؤية من السيارة
غير أن الاثنين لم يدعا المشهد يفوتهما. كانا جالسين في سيارة في نهاية الشارع متمتعين بأفضل رؤية. من هناك أخذا يتأملان مشهد النهاية من بدايته إلي نهايته.

جمال مصطفي وابن عمه حبيب نجوا من الموت في القتال الملتحم. أجريت لمصطفي عملية جراحية في مستشفي ابن سينا. كانت عنده إصابات في البطن ، غير أن الإصابات لم تكن خطيرة. في الساعة العاشرة مساء ظهر صدام ليزور زوج ابنته. لم تبد عليه السعادة الحقيقية، لكنه كان متماسكا بحق، حينما وقف بجوار سرير المريض.

سمعته يقول: «لا أعرف كيف خطر علي بال هذا الرجل أن يغادر العراق، ولا كيف خطر علي باله أن يعود».

بالطبع كان يقصد حسين كامل.

رغد: كنت أتمني ألا نعود
بعدها بشهرين كنت عند رغد، أرملة حسين كامل، في منزلها، لأجري لها جراحة صغيرة. كانت تلبس السواد، وبدا عليها الحزن العميق.

تمنت لها الممرضة التي رافقتني الشفاء.

ردت رغد قائلة: «كان من الأفضل لو تمنيتِ لي ألاّ أعود»، ومع ذلك أضافت قائلة: «يا ليتني أبني لذكري زوجي مسجدا».

بعد شهرين ذهبت مرة أخري الي عند رغد لأنهي علاجها. كانت لا تزال تلبس السواد.

كنت أُجري كواء باستعمال موصّل كهربائي لإيقاف بعض أشكال النزيف الصغير ولإزالة بعض الأنسجة، وهي وسيلة مألوفة ولكنها تستلزم أن يتم توصيل المريض كقطب سالب أرضي بواسطة ناقل كهربائي (الإلكترود) يتم تثبيته علي الظهر أو علي الفخذ. فإذا لم يفعل ذلك يتلقي المريض صدمة كهربائية.

تلقت رغد صدمة كهربائية، ورأيت كيف ارتعشت عندما وضعت الموصّل عليها. كانت الممرضة مهملة ولم تثبت الإلكترود علي الابنة الكبري للرئيس كما تنص عليه التعليمات.

لحسن الحظ لم تكن صدمة قوية.

قلت لها: «الحمد لله»، وأحسست بطبيعة الحال بالارتياح أن رغد لم يصبها مكروه، ومع ذلك قلت لها: «كنت سأواجه مشاكل حقيقية لو أصابك مكروه».

نظرت رغد إليَّ.

«علي العكس. لا تشغل بالك. كان سيهلل من الفرح».

كانت تتحدث عن والدها.

200 بيت
ترك حسين كامل بعد مقتله بعض الأشياء ذات القيمة. عندما كان لا يزال خادما في عهد صدام من دور وعمارات. استدعيت محاميته للقاء صدام لتقدم كشف حساب عن قيمة ما كان لديه.

«اضطررت أن أخبره»، هذا ما قالته لي المحامية عندما اتت إلي عيادتي لإجراء جراحة صغيرة.

كانت ثروة حسين كامل تتمثل فيما يزيد علي مائتين من البيوت، والمحال، وغيرها من الأراضي في بغداد وبجوارها. لم يكن يملك شيئا باسمه، غير أن المحامية كان لديها ما يلزم من إحاطة شاملة بالأمر. عادةً كانت ممتلكات «الخونة» تؤول إلي خزينة الدولة، وكانت تصادر مباشرة بعد الإعدام.

روت لي المحامية: «في حالة حسين كامل قرر الرئيس أن تؤول الممتلكات إلي رغد وأطفالها».

بفضل مجهودات وبراعة الأطباء الفرنسيين استطاع وطبان بعد عام أن يقف ثانية علي قدميه، غير أنه كان يعرج وكانت عنده مشاكل ضخمة اثناء السير.

وكما كان متوقعا حُمّل جابر محمد ظافر، الصديق الحميم لعدي وسكرتيره الشخصي، مسؤولية ما حدث وجعلوه كبش فداء للمصير المر لوزير الداخلية. قُدم للمحاكمة وحكم عليه بالإعدام، لكن بعد ستة اشهر عفا عنه صدام وأطلق سراحه. أراد عدي أن يستعيد جابر مكانه كصديق وسكرتير، إلا أنه ــ لأسباب مفهومة ــ كان قد طفح به الكيل، ورفض.

هرب آخر
عندما هرب ابن آخر من أبناء الأخ في عام 2002 إلي الأردن، كان في هذا ضربة قاسية لكرامة عائلة «علي الكيماوي». في هذه المرة الهارب هو علاء سليمان المجيد أمام إغراءات حياة جديدة أفضل خارج حدود العراق. وكان علاء هو اخ ثائر المجيد الذي لقي مصرعه علي يد حسين كامل في هذا الصراع العائلي الذي نشب في السيدية في فبراير من عام 1996.

بعد عدة شهور نجح إخوة علاء في إقناعه بالعودة إلي بغداد. هو أيضا لقي مصرعه رميا بالرصاص لأنه بهروبه إلي الخارج سلب العائلة شرفها.

كان اخ علاء، أي سلام، هو من قاد عملية الاغتيال. كان واحدا من أهم الحرس الخاص لصدام، وقد ظهر ـ بعد سقوط بغداد في العام الماضي ـ هو وبعض إخوته ووالده في التلفزيون ليدلوا بدلوهم، حيث ادعوا أن الرئيس، الذي كانوا يكرهونه ويزدرونه، قد أكرههم علي اغتيال علاء المجيد.

«إذا كنت تكره صدام لهذه الدرجة فلماذا لم تقتله»؟، كان هذا هو السؤال الذي طرح عليه.

ظل مدينا لنا بالإجابة، وفي كل منطقة الشرق الأوسط تضاحك الناس من هذه الهالة القدسية المصطنعة من جانب الأب والإخوة.




اضافة رد مع اقتباس
  #10  
قديم 03/10/2004, 10:51 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة العاشرة: ##############

توقف عدي في شارع المنصور لاصطياد فتاة
فاصطاده ملثمان
عالـجت فتيات كان عدي يعذبهن بالسكين أو بإطفاء السجائر في أجسادهن


صيد الفتيات
اشتهر محل الرواد بما يقدمه من المرطبات المتميزة جدا وبالفتيات اللاتي كن يترددن علي المكان. كان المحل يشغل المكان الواقع في الناصية بين الشارعين التجاريين أبو جعفر المنصور والمنصور. وفي كل مساء كان المكان حول محل المرطبات يعج بالشباب حَسني المظهر أبناء العائلات الكبيرة، وبالفتيات اللاتي كن يتجمعن هناك مثل النحل علي العسل. وما رأيته من نافذة العيادة الخاصة بي الكائنة في العقار نفسه أثبت لي أن هذه الناصية الحيوية هي أكثر مكان محبب للشباب في بغداد يمكن فيه اصطياد الفتيات.

بطاقة عدي للفتيات
وبالطبع كان عدي يتردد كثيرا علي هذا المكان، وكان يحب أن يجوب بسيارته المرسيدس أو غيرها الشوارع في تؤدة ليبحث عن الضيوف المناسبين لحفلاته الليلية. حتي إذا رأي فتاة ذات مظهر واعد أرسل إليها أحد أصدقائه أو حراسه ببطاقة تحمل رقم هاتفه، لتتمكن من الاتصال إذا أرادت. وبالفعل كانت هناك الكثيرات ممن فعلن ذلك. وكانت الدوافع لذلك كثيرة، فبعضهن كن يفعلن ذلك طلبا للمال، وبعضهن طمعا في الحصول علي وظيفة، والأخريات كن ينتهزن الفرصة لسؤال عدي عن مكان أخيهم أو أبيهم الذي اختفي في غياهب ومتاهات المخابرات القاتلة. وربما دفع بعضهن الفضول إلي التعرف علي حياة الترف التي يحلم بها الكثير ويعتقدون توافرها خلف أسوار القصور المحصنة.

وأغلبهن كن يجهلن ما ينتظرهن، فعدي لم يكن يتورع عن فعل اي شيء، فكثيرا ما تعين عليّ معالجة بعض الفتيات اللاتي كن يشاركنه حفلاته الليلية، ويتعرضن أثناء مداعبات الفراش إلي التعذيب بالسكين أو إطفاء السجائر في أجسادهن أو إلي أشكال أخري من الانتهاكات.

جمع الفتيات
ولم يكن عدي يكن لهن اي احترام، حتي حينما كان يكافئ إحداهن، فلم تكن مكافأته تتعدي عُلبة مساحيق أو ما شابه ذلك، مما لا يزيد ثمنه عن خمسة أو عشرة دولارات. فقد كان عدي حارسا علي ملياراته.

كان عدي يحتاج كل ليلة إلي نساء، لذا فقد كان هناك ستة من موظفيه يعملون علي جمع الفتيات له. ثلاثة مظن أعضاء اللجنة الأولمبية العراقية التي كان يترأسها عدي كانوا يعملون بدأب علي ذلك، فقد تخصصوا في تنظيم حفلات تبدو وكأنها حفلات بريئة في حدائق الجامعة والمعاهد العليا في بغداد. ولأن عدي كان يحتاج كل ليلة إلي نساء، فقد كان هناك عدد من النساء اللاتي يعملن لحسابه، يقمن بالبحث في هذه الحفلات التي كانت تنظمها اللجنة الأولمبية في أماكن متفرقة من بغداد. ولم يكن يعنيه كثيرا مَن التي تُشاركه الفراش، فقد حكي لنا صديقه القديم وسكرتيره الخاص ظافر محمد جابر أنه في إحدي الحفلات جاءته فتاة باكية وقالت له: «لقد ظننت أنه يهتم بي ولكنه في نهاية الأمر قد أخذ والدتي».

وكانت هذه الحفلات تُقام عادة في نادي اليخوت علي نهر دجلة في منطقة ساحرة الطبيعة، وكثيرا ما كانت تُنظم الانتقالات بالحافلات إلي مواقع الحفلات، التي كانت تتميز باللهو والرقص ويقدم فيها الطعام الفاخر. وكثير من الفتيات كن يحضرن بصحبة إحدي أخواتهن أو بصحبة الخالة أو العمة أو الأم. وكان كل شيء يسير بشكل أنيق، حتي عندما كان عدي يظهر علي شاشة التلفاز وهو ينتقي من بين الحضور من سيشاركونه الأمسيات الخاصة ذات الجو المرح.

انفضاح عدي
وبعد أن يختار من يريدهن كان يترك لبعض الموظفات لديه مهمة إقناع المختارات بالحضور. وكان بعضهن يدركن حقيقة ما يدور في الخفاء، أما الأخريات فكن يوافقن علي الحضور، فقد كانت الحفلات تسير بشكل محترم بدرجة توحي بعدم وجود خطورة في المشاركة فيما يتلوها من الحفلات.

ولم تنطلِ هذه الحيلة علي الفتيات إلا لفترة محدودة.. بعدها انتشر الخبر في بغداد، فقام عدي بطرد موظفاته القائمات علي إقناع وصيد الفتيات له.

أحرق مؤخرتها!
وقد أتت إحداهن إليّ في المستشفي مدعية أنها تعرضت لحروق من موقد يعمل بالغاز في بيتها. ولكن كان بها حرق أدي إلي جرح محيطه عشرة سنتيمترات، له الشكل نفسه علي مؤخرتها وقد كُتبت في وسط الحرق الدائري كلمة «عار». فقد كافأها عدي علي خدماتها الأولمبية المخلصة بأن أحرق مؤخرتها بالحديد الساخن ليجعل فيها علامة مميزة كما يفعل بالأبقار.

وفي يوم الخميس الموافق الثاني عشر من ديسمبر 1996 كان عدي يبحث من جديد في منطقة محل الرواد عن فتيات. وقد اتسم هذا الأمر مع مرور الوقت بالخطورة. كان الكثيرون يعرفون بخروجه إلي شارع المنصور ولم يكن أمرا سريا أنه أحيانا لا يصطحب معه حراسه الشخصيين عندما يخرج للبحث عن صيد لملذاته الليلية. وبمرور السنوات تكررت محاولات اغتياله، كان آخرها في مارس 1993، حيث انفجرت قنبلتان كانتا مُخبأتين في صناديق القمامة أمام مكتبه باللجنة الأولمبية، ولكن الانفجار حدث قبل ذهابه للعمل.

محاولة الاغتيال
وفي أحد أيام شهر ديسمبر خرج عدي بصحبة صديقه علي الساهر في سيارته البورش كاريرا، وبينما توقف في شارع المنصور أمام محل الرواد حيث نزل صديقه ليعطي رقم التلفون لإحدي الفتيات إذا برجلين ملثمين يثبان من أحد الشوارع الجانبية ويطلقان وابلا من الرصاص اخترق كلا من السيارة وابن الرئيس. ولإثارة الفوضي في شارع المنصور المزدحم بالسيارات قام الرجلان بإطلاق بعض الأعيرة النارية في الهواء ثم هربا من ممر صغير إلي شارع مواز لشارع المنصور، حيث كانت بانتظارهما السيارة التي هربا بها. ولم يتم القبض عليهما حتي الآن وإن كان يغلب الظن أنهما من الشيعة المناوئين للنظام الحاكم.

وقد سارت سيارة عدي البورش مسافة ثلاثين أو أربعين مترا قبل أن تتوقف، ثم جري صديق عدي حتي لحق بالسيارة وأسرع بإخراجه منها ونقله في سيارة أُجرة إلي مستشفي ابن سينا. كان فاقد الوعي عندما وصل إلي المستشفي وكان ينزف بغزارة، فلم يعد يربط ساقه اليسري بجسده إلا قطعة صغيرة من الجلد.

في يوم الخميس المذكور، الذي أطلق فيه النار علي عدي، لم يكن لدي نوبة عمل في مستشفي ابن سينا، كنت في المرسم في منزلي أرسم لوحة حين تلقيت اتصالا هاتفيا قُبيل الساعة السابعة مساء وطُلب مني التوجه إلي المستشفي بأسرع ما يمكن. وعندما وصلت إلي هناك بعد حوالي ثلاثة أرباع الساعة كان المكان يعج بالحراس الشخصيين وضباط الحراسة الخاصة التي يترأس إدارتها قُصي.

محاولة إنقاذ
وفي غرفة العمليات كان هناك ثلاثة أطباء يعملون علي إنقاذه وقد بدأ ضغطه يتحسن بعد أن أعطوه كميات كبيرة من السوائل لأن ضغط دم عدي كاد يصل إلي الصفر عند نقله إلي المستشفي. ثم قاموا بفتح بطنه حيث اخترقت صدره رصاصة من اليسار، حوالي عشرة سنتيمترات أسفل الإبط، ومرت علي مسافة قصيرة جدا من القلب لتخترق الرئة وتشق المعدة في طريقها للخارج. كان جراح العظام سنان العزاوي هو الذي استقبله وقام بإسعافه حيث كان مناوبا في مستشفي ابن سينا وقت الحادث.

وبعد أن فتحنا القفص الصدري قمنا بخياطة الثقوب والجروح. ولأن الثلث الأعلي من الساق اليسري كان قد ثُقب بفعل الأعيرة النارية، فقد أخذتُ جزءا من عضلة الساق وسددتُ به الثقب في المكان الذي كانت فيه عظمة الساق. وأخيرا قمت بزراعة جزء كبير من الجلد من الجزء الداخلي للفخذ الأيمن علي قصبة الرجل اليسري لأسُد الفتحات بها.

6 ساعات
كما اخترقت عدة رصاصات الفخذ والساق اليمني دون أن تكسر اي عظام أو تدمر العضلات. واستمر عملنا ست ساعات حتي استطعنا أن نسد الثقوب ونُوقف النزيف الذي فقد عدي بسببه كميات هائلة من الدماء، فقد كان إجمالي ما نُقل إليه من دماء خلال أربع وعشرين ساعة عشرة لترات.

ولعله من الصعب أن يقترب شخص ما من الموت مثل ما حدث لعدي في ذلك المساء من شهر ديسمبر.

وبينما كنا واقفين في الغرفة الأمامية لغرفة العمليات نغسل أيدينا، إذ بصدام وسكرتيره الخاص عبد حمود وبعض الحراس الشخصيين يدخلون علينا. ولم يبد علي صدام اي توتر أو حزن بل كان هدوءه لافتا للنظر. وبعد أن حيانا قال لنا: «إننا نضايقكم مرة أخري بمشاكلنا». ثم سكت برهة وقال بعدها: «ولكن الأهم هو أمن العراق والعراقيين».

وسأل عن حالة عدي وأجبناه بأنه بالمقارنة بما حدث له فإن حالته أفضل مما كان يمكن أن تكون عليه. ثم توجه صدام إلي غرفة العمليات، فأشرت إلي عبد حمود بأن هذه ليست بالفكرة الجيدة، فالمنظر سيكون صعبا عليه ولكن عبد حمود لم يجرؤ علي إيقاف صدام.

صدام يتفقد عدي
وكان عدي مازال تحت تأثير التخدير نائما علي طاولة العمليات عاريا من كل شيء إلا بعض الضمادات علي صدره وبطنه وساقه وفخذه، وعلي الأرض كانت هناك بقع كبيرة من الدماء والكثير من الفوط الملطخة بالدماء. فاقترب منه صدام ونظر إليه ثم قال له: «يا بني إن الرجال يجب أن يتوقعوا أن يحدث لهم مثل ذلك».

ثم أخذ يد عدي في يده وقال: «ولكننا علي حق والآخرين علي باطل». ثم قبَّله علي جبينه. وقام قصي الذي كان قد حضر بتقبيله هو الآخر وعلي عتبة حجرة العمليات قبّل قصي يد والده واحتضنه وقبّله علي وجنتيه.

ثم سأل صدام: «ما الذي حدث لأخيك»؟

كان قصي هو رئيس الحراسات الخاصة والمسؤول عن أمن وسلامة الأسرة.

البحث عن فتيات
قال قصي لأبيه إن عدي كان صائما وبعد غروب الشمس كان في طريقه مع صديقه علي الساهر إلي شارع المنصور ليشتري بعض الطعام (سندويتشات). كان عدي يصوم يومي الاثنين والخميس أسبوعيا، وكان يوم الحادثة يوم خميس. واستكمل قصي روايته: «وعندما نزل صديقه من السيارة هاجمه الجناة».

نظر صدام إليه نظرة ملؤها الشك وطلب أن يتحدث مع الساهر. وبالفعل تم إحضاره، ووقف إلي الحائط.

«أعرف أنكما كنتما تبحثان عن فتيات». هذا ما قاله له صدام وهو ينظر إليه نظرة متفحصة. ولم يشكره علي أنه سارع بنقل عدي إلي المستشفي. وكاد الساهر يموت خوفا وهو واقف في مكانه لم يتفوه بكلمه واحدة، ولاحظنا أنه قد تبوّل في سرواله.


شعور ديني!
ولم تكن محاولة قصي تفسير وجود أخيه عند الرواد تفسيرا إسلاميا يرتبط بصيامه وإحساسه بالجوع، لم يكن هذا التفسير محض خيال، فقد كان عدي يتبع تعاليم الإسلام والقرآن بدرجة ما حسب إدراكه لها.

إن موت خاله عدنان خير الله في بداية سنة 1989 في حادثة سقوط طائرة مروحية هو الذي نمي الشعور الديني لدي عدي. كان عدنان هو وزير الدفاع في حكومة صدام، وكان قبل وفاته في ظروف غامضة، محبوبا جدا في الجيش، وكان ضباط الجيش يكنون له احتراما كبيرا. ولكن من الواضح أن عدنان لم يكن من الشخصيات المفضلة لدي عدي.

ولكن توجه عدي نحو الدين لم يكن سهلا، فقد كانت الصلوات اليومية الخمس في اتجاه مكة تمثل بالنسبة إليه مشكلة كبيرة، فلم يكن مثلا يؤدي صلاة الفجر، لأنه كان في ذلك الوقت عادة إما في حالة من السُكر بعد سهراته الطويلة، أو كان بالفعل في سبات عميق وكأنه حجر. وللأسباب نفسها لم يكن يؤدي صلاة الظهر، وكان يحاول تعويض هذا النقص بأن يتبع سنة الرسول ويقوم الليل يصلي لفترات طويلة.

فتوي الخمر
أما مشكلة تعاطي الخمور فقد كانت أشد سوءا، فكما هو معروف فإن شرب الخمر محرم في الاسلام. ولكن عدي كان له شيخ خاص به هو عبدالغفار العباسي المشرف علي البرامج الدينية التي يبثها تلفزيون الشباب الذي كان يمتلكه ابن الرئيس.

في أحد الأيام أرسل عدي ظافر محمد جابر للشيخ ليسأله ما إذا كان من المسموح أن يشرب كأسا من الخمر بعد العشاء.

وعندما سمع الشيخ السؤال سأل: «ومن الذي يريد أن يعرف ذلك»؟

فأجابه جابر: «إنه عدي».

فقال العباسي: «في حالته نعم يجوز».

ساجدة: سيقتل (صدام) أولادي!
كان صدام قد رحل من مستشفي ابن سينا قبل أن تصل أم عدي «ساجدة» إلي هناك. كانت الأم في حالة من الارتباك الشديد وبدا عليها أنها خرجت دونما أي تأهب أو استعداد فقد كان شعرها غير ممشط، ورافقها ابنها قصي إلي غرفة عدي، ولم يفلح في تهدئتها.

وإذا بها تقول باكية: «إنه سيقتل أبنائي»!

فهمت مــا تقصــده، فقد كــان صــدام غير محبـــوب لـدي الشعب العراقي في الآونة الأخيرة، ولم يعد أحد يحتمله أكثر من ذلك ولكن من الذي يجرؤ علي التفوه بذلك.

كانت ساجدة تعتبر أن الهجوم علي عدي ما هو إلا محاولة من الشعب للانتقام من صدام، لأن أحدا لم يستطع أن يصل إلي الرئيس شخصيا حتي الآن.

وكانت ظروف المعيشة قد وصلت في الخريف من ذلك العام إلي مستوي متدنٍ بدرجة لم تصل إليها منذ بداية الأزمة الاقتصادية التي بدأت مع الحرب ضد إيران عام 1980.

فقد استنزفت السنوات الخمس عشرة الأخيرة آخر طاقات الشعب لما كان فيها من حربين متعاقبتين و عدة محاولات للثورة وعقوبات من الأمم المتحدة، حتي أن مئات الآلاف من الأطفال قد ماتوا من جراء تلك الأحوال القاسية. وبينما كانت ظواهر مثل الفقر والجوع والمرض والجريمة والدعارة تتفشي في البلاد، استمر خبراء التفتيش الدوليين في البحث عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة التي يمتلكها صدام. وقد تزعم هذا البحث المضني كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا العظمي.

زيادة جنون
وفي اليوم التالي اكتشفنا أن عدي فقد القدرة علي الحركة في ذراعه الأيسر ويده ورجله اليسري. بالإضافة لذلك فقد بدأت عينه اليسري تزيغ إلي الداخل واستطعنا أن نكتشف عن طريق رسم المخ وجود إصابة طفيفة في المخ حدثت بسبب انخفاض ضغط الدم الذي عاني منه عدي بعد الحادث عندما نُقل إلي مستشفي ابن سينا. ولم يكن هذا التشخيص مطمئنا، فكيف ستكون الحال لو زاد علي جنون عدي إصابة بالمخ. أعلن مختصو وجراحو المخ والأعصاب في مستشفي ابن سينا في وضوح شـــديد رفضهم لإعــلان هــذا التشــخيص. فالتصــرف الأكـــثر أمنا كان إخفاء هذا الخبــر الســيئ عن عدي وعائلته. علما بأنه لم يطلب من الأطباء إخفاء الحقيقة. لكن هذا السلوك مع العائلة أصبح متعارفاً عليه بسبب سلوك بعض الأطباء المقربين إلي العائلة.

فقد كان علينا نحن الأطباء في مستشفي ابن سينا أن نتصرف دائما بحذر شديد وكأننا نتحرك فوق طبقة رقيقة من الثلج، لأن مرضانا كانوا أكثر الناس في العراق سلطة وتأثيرا. ولهذا فإن اي تشخيص غير صحيح أو اي علاج لا يأتي بنتيجة يكون لهما عواقب وخيمة علي الطبيب المعني، وربما أثّر ذلك في مستقبلنا تأثيرا سلبيا إلي أبعد الحدود.

انسداد الرئتين
وكانت محاولة إنقاذ عدي أصعب مما ظننا. في يوم 20 ديسمبر اشتكي عدي ألما شديدا في صدره، فقمت مع زميلي طبيب الباطنية المناوب بفحصه واكتشفنا وجود العلامات الأولي لانسداد في الرئتين، وليس هذا بالأمر الغريب بعد إجراء العمليات الجراحية الكبيرة، فعادة ما تحدث تجلطات بالدم في الأوردة التي تنقل الدم خلال الجسم. وأحيانا يكون من الصعب اكتشاف مثل هذه التجلطات الدموية التي تبقي عالقة بجدران الأوعية الدموية قبل فوات الأوان.

فعندما تتحرك التجلطات من مكانها، من الممكن أن تتجمع في الرئة لتسد طريق تدفق الدم إليها. وهذا يعني في الغالب الموت المحقق للمريض. وكانت الآلام التي عاني منها عدي في الصدر تدل علي أن بعضا من التجلطات قد تحركت من مكانها وبذلك فالمسألة أصبحت فقط مسألة وقت حتي تتحرك باقي التجلطات إذا لم نتمكن من إذابتها عن طريق المواد المخففة لكثافة الدم قبل أن تصل إلي الرئة.

وكان مجموع عدد الأطباء المعالجين لعدي تسعة، وتمت دعوتنا في يوم ليلة رأس السنة في المساء إلي قصر السجود علي نهر دجلة بالقرب من النصب التذكاري للجندي المجهول لمقابلة صدام الذي كان يريد مجددا أن يطمئن علي حال ابنه. فشرحنا له أن ما يؤرقنا هو وجود تهديد بحدوث انسداد في الرئة واننا نعالجه بشكل مكثف باستخدام مواد مخففة لكثافة الدم. فنظر إلينا صدام وقال لنا إن المرء لا يجب أن ينشغل بالقتلي والجرحي أثناء المعركة «ولكن بعد نهايتها نقدم للجرحي أفضل رعاية وعلاج ممكن». ثم أضاف قائلا: «وهكذا الحال أيضا مع عدي». وبذلك أنهي اللقاء.

المكان نفسه
وبعد ذلك بأسبوع وبينما كنا نفحص عدي أثناء المرور الدوري إذا به يخرج الجميع عَداي من الحجرة. «قل لي يا دكتور علاء، لقد عالجت عمي وطبان أيضا وأجريت له عملية جراحية، أين كانت إصابته، الساق اليمني أم اليسري»؟

«اليسري».

«هلا قلت لي أين بالضبط»؟!

«نعم، في الموضع نفسه الذي تحطمت فيه ساقك بفعل الأعيرة النارية».

«يا إلهي... لقد عاقبني الله»!

ثم سكت برهة سألني بعدها عن المكان الذي يمكن أن يحصل فيه علي أفضل علاج، هل في بغداد أم في الخارج؟ وبينما كنت أناقشه في مزايا وعيوب كل من الإمكانيتين إذا بصدام يدخل علينا وبصحبته أخوه غير الشقيق وطبان، الذي كان يمشي بصعوبة شديدة بالرغم من أنه غادر مستشفي ابن سينا منذ أكثر من نصف سنة.

شماتة وطبان
ومن سخرية القدر أن يرقد الآن ابن أخيه في المستشفي نفسه لإصابته في الساق اليسري أيضا وبطلق ناري حطم الساق كلية في الموضع نفسه الذي أصابه عدي فيه بطلق ناري يوم 8 أغسطس من العام الماضي وهم مجتمعون علي وليمة علي ضفة نهر دجلة، كان ذلك هو اليوم الصعب ذاته الذي هرب فيه أزواج بنات صدام بصحبة زوجاتهم وأبنائهم إلي الأردن. وبعد هذا الحادث آنذاك قدم عدي الاعتذارات لعمه وطلب منه الصفح. ولكن كان لدي شعور قوي بأن وطبان يبذل مجهودا كبيرا في إخفاء شماتته بابن أخيه عدي، علي الرغم من أن وجهه كان عابسا وهو يسأل ابن أخيه عن حاله. لقد كان يكره عدي حتي النخاع.




اضافة رد مع اقتباس
  #11  
قديم 03/10/2004, 10:57 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة الحادية عشر: ##############

حاولت ساجدة وأختها توريطي في صفقة أجهزة رنين مغناطيسي لأن صدام يثق بي
طبيب أعشاب خدع صدام بدواء للسرطان.. فمات مرضاه


الدجالون
نتيجة لعدم توافر الثقة بالأطباء تحول الطب في العراق إلي مجرد وهم ودجل.

وفي نهاية الثمانينات تلقيت يوما اتصالا هاتفيا من وزير الصحة آنذاك عبد السلام محمد سعيد الذي أبلغني بأن زوج ابنة صدام ووزيره للتصنيع الحربي والمدني حسين كامل المجيد يريد مقابلتي. حين قابلته كان معه قصاصة ورق من صحيفة وشريط فيديو قصير عن دواء ساحر لعلاج السرطان.

وقد قدم المخترع نفسه للرئيس الذي تحمس كل التحمس لاختراعه وقرر تقديم الدعم له، ولذلك فقد حضر إلي حسين كامل.

سحر.. طبي
ويعرض شريط الفيديو كيف يتم شفاء عدد من مرضي السرطان بما يشبه المعجزة بعدما يشربون بعض الأكواب من إكسير الأعشاب الذي أعده المخترع، الذي يقف في مطبخه يحرك الإكسير في قارورات كبيرة.

قال لي الوزير: «يجب أن أصارحك بأنني يساورني الشك في ذلك المُرَكب، ولكن المرضي يبدون في الشريط في حال أفضل بكثير بعدما شربوا من هذا المشروب العجيب الذي يقدمه لهم المخترع».

فأجبته بأنني أعتقد أنه يخلط مشروبه بكمية كبيرة من الكورتيزون، لأن مريض السرطان تتحسن حالته عقب تناوله هذه المادة ولكنها لا تعيق انتشار المرض. ولكي أكون أكثر وضوحا، إنني سأكون حذرا جدا قبل أن أثق بشخص يدعي أنه باحث في مرض السرطان وهو لا يملك مايكروسكوبا واحدا في معمله.

وبعد مضي شهرين افتضح أمر هذا المعالج النصاب الذي تحمس له صدام، فقد كان الجزء الأكبر من مشروبه السحري يتكون من الكورتيزون، ومات معظم مرضاه بعد تصوير الفيديو بفترة وجيزة، كما اتضح أن ذلك المخترع كان قد سُرِّح من الجيش لإصابته بمشكلات نفسية.

اختراع آخر
ولم يكن طبيب الأعشاب ذلك هو الوحيد الذي تمكن من خداع صدام، ففي الفترة نفسها التي كنت أعالج فيها صدام من مسامير الرجل ظهرت صيدلانية، وادعت اختراع مرهم لعلاج الغرغرينا وتريد تجريبه علي مرضانا.

كثير من مرضانا كانوا يعانون من الغرغرينا. ومرض السكر هو من أكثر الأمراض انتشارا في الشرق الأوسط، ومن أهم آثار هذا المرض حدوث تصلب في الأوعية وخصوصا في الساقين، وبسبب ضعف الدورة الدموية تحدث في هذه الأماكن بعض الحروق، حيث يكون الحل الوحيد هو البتر لتجنب انتشار موت الأنسجة الذي يهدد حياة المريض. ولم ترغب الصيدلانية أن تخبرنا بتركيبة المرهم الذي اخترعته، وكانت تدعي قدرتها علي منع انتشار الحالة وتحسين سريان الدورة الدموية بشكل هائل وبالتالي لن نضطر بعدها للبتر ويتم بذلك إنقاذ سيقان كثيرة.

وتردد الحديث وقتها عن أن هذا الكشف هو إعجاز عالمي يستحق جائزة نوبل.

قامت المخترعة بالكتابة لصدام وحكت له عن كشفها العلمي، ورد عليها الرئيس متلطفا: «حسب معلوماتي فإن الكثير من الأفكار الجديدة المتطورة لا تجد لها فرصة بسبب البيروقراطية، وأنا أعتقد أنهم سيحاولون وضع العراقيل في طريقك».

وحضرت إلي مستشفانا ومعها خطاب يؤكد لنا فيه عبد حمود رغبة الرئيس في أن نساعدها بأقصي جهدنا.

فأجبتها إلي طلبها قائلا: «لا مانع من أن تجربي مرهمك علي مرضانا بشرط أن توقعي تعهدا ينص علي تحملك وحدك المسؤولية كاملة عن حالاتهم، فنحن لا نعرف أي شيء عن المكونات الكيميائية لهذا المرهم أو الأعراض الجانبية لاستخدامه، ولكن إذا قبلت تحمل المسؤولية بشكل شخصي فلا مانع لدي».

فقالت لي إنها ستحضر في اليوم التالي ولكنها لم تفعل.

معاقبة طبيب القلب
ثم أتت بعد ذلك إلي رياض محمد صالح مدير عام مركز صدام لجراحة القلب. كان الدكتور صالح من أهم أخصائيي القلب في العراق وكان لفترة طويلة في الفريق الطبي الخاص بالرئيس. وفي يوم فقد وظيفته مما أثار عجبنا في البداية، حتي عرفنا السبب بعدها.

قام الدكتور صالح في إحدي المرات بفحص صدام واكتشف أن ضغط دمه كان مرتفعا جدا، ولذا فقد نصحه الطبيب بالإقلال من أكل الدهون والملح والإقلال من التدخين وقبل الفحص التالي قام أحد الحراس الشخصيين لصدام بإبلاغ الطبيب بأن صدام لم يقلل من التدخين بل علي العكس أصبح يدخن أكثر من ذي قبل، ولم يتبع نصيحة الطبيب.

وعندما قاس الطبيب ضغط دم صدام قال له: «يا سيادة الرئيس، يجب أن أذكرك أن التدخين يمثل ضررا كبيرا وخطرا علي ضغط الدم، لذا فيجب عليك الإقلاع عن التدخين».

واستشاط صدام غضبا وجنونا.

«أغلق فمك . لقد قلت لي ذلك من قبل. إنك تكرر نفسك. إذا كنت أدخن أم لا فهذا أمر يخصني أنا فقط، وأنت ليس لك أي لزوم هنا».

الصيدلانية علي الخط
وعلي الرغم من أن مدير المستشفي قد احتفظ بعد هذه الواقعة بوظيفته إلا أن بقاءه في هذه الوظيفة أصبح مهددا بعد ظهور تلك الصيدلانية.

فقد كان من بين ما طلبته أن تتولي هي علاج الفريق الركن هشام صباح الفخري وهو أحد القواد الذين جرحوا أثناء الحرب ضد إيران.

وكان اللواء مصابا بالغرغرينا في رجليه نتيجة للدرجة المتقدمة من مرض السكر التي كان يعاني منها. وحكي لي الدكتور صالح شاكيا: «لم أجرؤ علي الرفض فقد حضرت بصحبة أحد حراس صدام، لقد أخبرته بأن الأطباء الذين قابلتهم هنا لم يبدوا أي ترحاب أو تعاون، وهذا ما لم يقبله صدام».

وبعد يوم من استخدامها للمرهم السحري علي باطن ساق الفريق، قام الدكتور صالح بأخذ عينة من المرهم في السر ليفحص تركيبها البكتيري.

وأثبت التحليل المعملي أن المرهم يحتوي كمية كبيرة من البكتيريا بمختلف أنواعها. وعندما واجه الصيدلانية بهذه النتيجة ثارت وصرخت فيه: «كيف تجرؤ علي أخذ عينة من المرهم وتفحصها في المعمل دون علمي! ثم خرجت من الحجرة غاضبة».

وعلي الفور ذهبت إلي القصر الجمهوري لتشتكي للرئيس، الذي كان يسمع لها دائما. وكان ما حدث بالنسبة إليه دليلا قاطعا علي أنهم يضعون العراقيل في طريقها، وأن الأطباء يرفضون التعاون معها.

وبالفعل تلقي بعدها الدكتور صالح قرارا بعزله عن منصبه كمدير لمركز صدام لأمراض القلب. وبعد ذلك كلف مستشفي اليرموك بالتعاون مع المخترعة. ثم دعاها صدام إلي مكتبه بصحبة وزير الصحة وأربعة من المتخصصين في الأمراض التي تفضي إلي موت الخلايا وقال الرئيس إنه قد أعطي أوامره بتخصيص معمل وفريق عمل لمساعدة الطبيبة علي إتمام أبحاثها حول المرهم الجديد في مستشفي اليرموك. ولكن ساقي الفريق الفخري لم يمكن إنقاذهما وتم بترهما.

قدم الرئيس اليمني
وفي يوم العاشر من شهر فبراير تم اصطحابي من مستشفي ابن سينا إلي بيت صغير بالقرب من الجسر المعلق لكي أفحص قدم الرئيس اليمني في تمام الساعة الخامسة مساء، ولكني اضطررت لانتظاره فترة، لذلك فقد اعتذر لي صدام عند قدومه علي تأخره عليَّ.

الحظر الجوي
كان لديه محادثة مهمة مع مجموعة من الضباط واستمرت المحادثة أطول مما توقع. كان الضباط يعملون علي تطوير نظام دفاع جوي لاستخدامه في منطقة الحظر الجوي في شمال وجنوب العراق.

«إنهم يفهمون عملهم جيدا ويحققون تقدما، ولكنهم بحاجة إلي المال. إلا أننا لا نملك الكثير منه بسبب العقوبات». «كما يقول ماركس: يختفي المال دائما، عند المواقف الحرجة».
بدأ حظر استخدام المجال الجوي أولا في الشمال، ربما لإعطاء الأكراد الذين يعيشون في الأماكن الشمالية التي هربوا إليها بعد أحداث الشغب عام 1991 إحساسا إضافيا بالأمان.

أعلمت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا بغداد بحظر تحليق أي طائرات أو مروحيات عراقية شمال خط العرض 36، حيث المناطق المسماة بالمناطق الآمنة، وبعد عام من الحظر قررت القوي العظمي الثلاث فرض حظر مماثل في الجنوب، مبدئيا حتي خط عرض 32 جنوبا.

كان العرب المقيمون في مناطق المستنقعات آنذاك يشنون حرب عصابات لا جدوي منها ضد جنود الحكومة، ولكن تم تجفيف جميع المستنقعات من خلال مشروع صدام لردم المستنقعات.

وعلي حد علمي لم يكن سبب الحظر الجوي هو حماية ذلك الشعب الصغير أو حماية الهاربين من الأكراد وإنما فقط لفرض الرقابة علي العراق.

وغطت منطقتا الحظر معظم أراضي العراق، خصوصا بعد توسيع المنطقة الجنوبية حتي خط عرض 33

كانت الطائرات الأميركية والإنكليزية والفرنسية حتي عام 1998 تذكر دائما أن صدام لم يعد هو صاحب الأمر في البلاد. وتجلت هذه الحرب النفسية من خلال خمسين إلي مائة طلعة جوية يوميا.

وفي حال حدوث أي محاولة لضرب إحدي طائرات الحلفاء كان ردهم يأتي دونما تأخير بأن ينسفوا المواقع وقواعد الصواريخ العراقية.

وخلال تلك المهمات الجوية في مناطق الحظر قتل المئات من العراقيين وجرح الآلاف.

مفهوم الوطنية
ولم تُجدِ محاولات الدفاع عن المجال الجوي العراقي، فلم يحدث أن أصيبت إحدي الطائرات الأميركية أو الإنكليزية أو الفرنسية خلال طلعاتهم الاستكشافية، ثم استكمل صدام حديثه قائلا: حيث إننا لا نملك الأموال الكافية لتطوير نظام دفاع جوي، فلن يبقي لنا في الوقت الحالي إلا الوطنية ... فأجبته: «إن الوطنية مفهوم غير واضح المعالم».

«ماذا تعني بالضبط...»؟

«إن الوطنية ترتبط عادة بتعبير الإنسان عنها وليس بما يؤديه الإنسان من عمل في سبيل وطنه، فالبعض يظن أن خروجه في مظاهرة في الطريق العام هو أكثر وطنية من قضائه ساعات طويلة في معمله وهو يقوم بالأبحاث العلمية».

«أنا أثق بأن العراقيين يعرفون جيدا ما يفعلون، عندما يخرجون في مظاهرة. فكما يحكي لنا تاريخ حضارة العراق، أن هذا الشعب تزداد وطنيته عندما يهدده عدو خارجي».

ثم سكت الرئيس برهة قال بعدها: «ولكن المشكلة أنه إذا قلت حدة التهديد الخارجي مرة أخري، فإن شعورهم الوطني يتراجع ويسقط الناس في بئر السلبية والإهمال».

منجم ذهب
كان برنامج النفط مقابل الغذاء الذي وفر الطعام لملايين الناس بمثابة منجم ذهب لكل من أقارب صدام وزعماء الحزب والوزراء، الذين استغلوا الفرصة ليزدادوا ثراء، فقد كانت الصفقات عملاقة، فمن 1997 حتي انهيار الحكومة العراقية في أبريل 2003 تم شراء سلع غذائية وأدوية بأكثر من عشرين مليار يورو. وبالتالي فإن أي مبلغ عمولة حتي لو كان بنسبة مئوية بسيطة فإنه يجلب لصاحبه مبالغ طائلة .

وكان يجب اعتماد الفواتير والمشتريات والموافقة عليها من لجنة العقوبات المنبثقة عن مجلس الأمن والتي كانت تراقب الحساب المجمد الذي تحولت إليه المليارات من عائد بيع النفط العراقي. وكان دور اللجنة الأساسي هو منع صدام من شراء أي أسلحة جديدة أو أي معدات أو تجهيزات قد تساعده في إنتاج أسلحة الدمار الشامل. ولكن لم يتسن للجنة مراقبة هذا الكم الكبير من الصفقات غير المشبوهة أو العقود التي يتم توقيعها وما تضمنته من عمولات. وكان من الواضح أن خداع المراقبين في نيويورك لم يكن بالأمر العسير.

فالعملية كانت تتلخص ببساطة شديدة في اختيار الموردين الذين هم علي استعداد لدفع عمولات بشكل غير شرعي لعصابة الذئاب من الفسدة في السر وبطرق خفية علي السعر النهائي قبل عرض العقود علي لجنة العقوبات للموافقة. وكلما ارتفع السعر ارتفعت العمولات.


القطاع الصحي
ولم يكن القطاع الصحي استثناء، ففي الوقت الذي كنا نصرخ فيه طلبا لبعض الأدوية المهمة لإنقاذ حياة مرضانا وطلبا للمشارط والأربطة والضمادات الحيوية وأدوية التخدير، كانت تصل إلينا أجهزة طبية حديثة وباهظة الثمن. وفجأة وصل إلي جميع مستشفيات العراق أجهزة طبية عالية التقنية وأجهزة الرنين المغناطيسي، علي الرغم من أن معظم الأطباء لم يكونوا علي دراية بكيفية تشغيل تلك الأجهزة. وكنا بذلك شهود عيان علي لون من أخبث وأحقر وأقذر ألوان الفساد.

كان المرضي يموتون وهم علي طاولات العمليات لأن متخصصي التخدير لم تتوافر لهم الأدوية الأساسية لإنقاذ حياة هؤلاء المرضي من الأدوية التي تستخدم أثناء أو بعد العمليات الجراحية. وكانوا يضطرون لاستخدام عقاقير لها آثار جانبية مميتة.

لا بد أن وزير الصحة مدحت مبارك كان علي دراية بما يجري ولكن لم يكن بمقدور أحد تغيير مجري الأحداث.

ساجدة وإلهام
حتي زوجة صدام ساجدة وأختها إلهام، زوجة وطبان أخي صدام غير الشقيق، كلتاهما لم تمتنعا عن المشاركة في الفساد. فالجميع كان يريد نصيبه من الكعكة.

في أحد الأيام اتصلت بي إلهام وطلبت مني أن أذهب إليها في البيت، لأنها تريد محادثتي في موضوع له أهمية كبيرة بالنسبة إلي الأمة.

«ساجدة وأنا نرغب في تقديم خدمة لبلدنا في هذا الوقت العصيب». هكذا بدأت حديثها بعد أن قدم لنا الخدم الشاي.

«أعرف أنه سيتم شراء عدد كبير من أجهزة الفحص بالرنين المغناطيسي وغيرها من الأجهزة، وقد اتصلت بنا شركة أميركية مقرها بيروت بهذا الخصوص، فالشركة علي استعداد لتوريد الأجهزة لنا وبسعر أفضل مما قدمه الموردون لوزارة الصحة من شركة سيمنز».

ثم أضافت قائلة: «والأجهزة المعروضة علينا أفضل وأكثر فعالية».

وعلمت أن بعض ممثلي الشركة سيحضرون مساء اليوم التالي إلي عيادتي الخاصة لشرح الموضوع لي بشكل أكثر تفصيلا.

صدام يثق بك
وأكدت لي أخت زوجة الرئيس: «الموضوع مستعجل جدا، وإنه من العار أن تفلت هذه الفرصة من أيدينا».

وطلبت مني أن أكتب خطابا بصفتي محل ثقة صدام أشرح له فيه أن أجهزة الرنين المغناطيسي المعروضة من تلك الشركة هي أرخص وأفضل من غيرها، ولذلك فيجب شراؤها لجميع مستشفيات العراق.

فقلت لإلهام إن هذا ليس تخصصي وإنها يجب أن تسأل مختصّ أشعة. فقالت لي: لا، فصدام يثق بك أنت، لذلك فإن ساجدة تريدك أنت أن تكتب خطاب التوصية بعد أن قرأت كتيبات الدعاية الخاصة بالشركة وقابلت مندوبيها.

وكما توقعت فقد زارني مندوبو الشركة في عيادتي وأخبروني بأن أجهزتهم هي الأفضل في السوق العالمية كلها. وأخبروني أنني سأستفيد شخصيا من وراء هذا الموضوع. وكان أحد المندوبين لبنانيا والآخر عراقيا.

وبعد خروجهما من عندي اتصلت بإلهام وقلت لها:

«يؤسفني أن أخبرك أنني لن أكتب الخطاب للرئيس كما طلبتما مني» فقالت لي: «حسنا».

ثم عاودت الاتصال بي بعدها مباشرة وأخبرتني أنها قد تحدثت مع أختها وتريد مني الحضور إلي مستشفي ابن سينا.

توقيع بالقوة
وعندما ذهبت إلي المستشفي كان بانتظاري الحارس الشخصي لساجدة ومعه خطاب فيه أنني أقترح علي صدام أن وزارة الصحة يجب أن تشتري أجهزة الرنين المغناطيسي من الشركة المعنية لأنها تقدم أرخص وأفضل عرض. وكان الخطاب جاهزا ولا ينقصه إلا توقيعي.

فاتصلت بإلهام مرة أخري وقلت لها: «لقد قرأت الخطاب ولكن كيف لي أن أوقع مثل هذا الخطاب وأنا لا أعرف الكثير عن هذا التخصص ولذلك فأنا لا أنوي اقتراح أي شيء لا علي الرئيس ولا علي غيره».

فأجابتني متعجبة: «إنك تتصرف بشكل غريب، إن ساجدة تطلب منك هذا الصنيع. ساجدة، زوجة الرئيس تطلب منك شخصيا المساعدة. إنها تعرف أن صدام يثق في أنك لن تخدعه».

فقلت لها: «يؤسفني وأرجو منك المعذرة فأنا لن أوقع علي شيء». فغضبت إلهام وأغلقت الخط بعنف.

ثم تلقيت منها اتصالا هاتفيا بعد ثلاثة أيام، قالت لي فيه: «لقد وجدنا طبيب أشعة وقد وقع بالفعل علي الخطاب والآن يمكن أن توقع أنت أيضا علي الخطاب».

«ليس عندي أي نية لذلك حتي الآن».

وجن جنونها هذه المرة أيضا ولكنها لم تعاود الاتصال بي بعد ذلك.

ومضت أيام بعد آخر محاولة فاشلة للأختين لإقناعي بالتوقيع، وإذا بأهم سكرتير لدي صدام عبد حمود يحضر إلي مستشفي ابن سينا ويدخل دون مقدمات في الموضوع: «لقد كان تصرفا حكيما منك أنك لم توقع الخطاب الخاص بأجهزة الرنين المغناطيسي».

وسألته كيف عرف بالأمر..؟ فأجابني: «هذا عملي».

عين السمكة
وفي يوم السادس عشر من فبراير أي بعد مضي حوالي أسبوعين من إزالتي «لعين السمكة» من قدم صدام كان الجرح شبه ملتئم كلية، لقد جاؤوا بي إلي بيت صغير جديد علي الأرض بقصر الرضوانية بالقرب من مطار بغداد الدولي، وكان الجو غير مريح في الهواء الطلق بسبب الريح الباردة.

كان دكتور طاهر التكريتي المختص بالأمراض الباطنية في فريق صدام الطبي قد قام بقياس ضغط دمه الذي أصبح طبيعيا الآن وكعادته كان صدام يدخن واحدا من سيجار الهافانا الكبير. وبدا عليه الإرهاق والتعب. وقال لي صدام بعد أن انصرف الدكتور التكريتي: «ما رأيك يا دكتور علاء في العقوبات التي فرضتها علينا الأمم المتحدة. إلي أي مدي يتضرر منها الناس العاديون»؟

«لا شك في ان الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا علي العراق قد أثّر علينا جدا. إن نسبة من خمسة عشر حتي عشرين في المائة من المشاكل الاقتصادية التي نعاني منها السبب فيها تلك العقوبات.أما السبب الرئيسي في نظري فهو السياسة الاقتصادية المزرية التي تسبب فيها الكثير من مسؤولي الدولة».

بينما كنت أتحدث مع صدام كان النقيب سرمد الصفار واقفا بأحد أركان الحجرة، وكان أكثر الحراس الذين يثق فيهم صدام.

وعندما هممت باستكمال حديثي أشار له صدام أن يغادر الحجرة، ولاحظت أن صدام لم يعجبه ما قلته له.

وسألني: «ما الذي تعنيه بالضبط»؟

فأجبته: «هذا هو الانطباع الذي اكتسبته من خلال احتكاكي بالناس وبالمرضي وهذا يتوافق مع ملاحظاتي الشخصية».

فسألني: «هل تستطيع إثبات ذلك» ؟

«فشرحت له إنه إذا سعي أي مواطن عراقي مثلا لتأسيس شركة وطلب الموافقات اللازمة فسيكون بانتظاره جحيم حقيقي من البيروقراطية».

واستطردت في كلامي قائلا: «علي المرء أن يتوقع الأسوأ الآن. إن آجلا أو عاجلا سيكون لزاما دفع رشاوي صغيرة أو كبيرة من أجل الحصول علي موافقة. إنه الجحيم بحق».

صدام يعترف
جلس صدام برهة صامتا ثم قال: «أنا أعاني مشكلة صعبة. أنا أبذل مجهودا كبيرا لأجد الأشخاص المناسبين للمناصب العليا. وأنا أعرف أن وزرائي ليسوا بالمجتهدين ولا هم شديدو الذكاء، وكذلك زعماء حزب البعث أيضا. عندما أناقش معهم قضايا معقدة يستمر الأمر أحيانا فترات طويلة جدا حتي يفهموا ما أتكلم عنه أساسا».

وأحيانا أتصفح مثل هذه المناقشات وأري علي الفور أنهم لم يفهموا أي شيء.

وسكت الرئيس ثم أشعل سيجارا جديدا وقال بعدها: «لقد جربت أن أعين بعض أعضاء الحزب من الذين لم أجربهم من قبل وعينتهم نوابا للوزراء ومديرين في الوزارات ليتدربوا علي العمل ولأوقف بهم فيض الفساد. وتوهمت أن أهل الثقة في الحزب أفضل من العاملين في الحكومة ولكن ثبت لي بعد فترة لا تجاوز الشهر أن الأوضاع قد ازدادت سوءا».

وعندما خرجت من عنده رثيت لحال الدكتاتور بالرغم من أنه لم يكن هناك داع لذلك.




اضافة رد مع اقتباس
  #12  
قديم 03/10/2004, 11:03 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة الثانية عشر: ##############

صدام يركل عشيقته ويطردها لأنها اعتبرت غزو الكويت نحساً علي العراق
استشارتني سميرة الشهبندر في شأن شد الجلد رغم أنها لا تحتاجه


زوجات الرئيس
في أحد أيام الصيف قبل أربع سنوات أرسلت سميرة الشهبندر بطلبي. وكانت تسكن في بيت عادي مفروش بأثاث عادي، لا يبعد كثيرا عن الجسر المعلق علي نهر دجلة، وكان الجسر قد أعيد بناؤه بعد أن دمرته القنابل في فبراير 1991 أثناء حرب الخليج. كانت سميرة، الزوجة الثانية للرئيس، قد رأت برنامجا عن جراحات التجميل في إحدي المحطات التلفزيونية التي تشاهدها عن طريق طبق الاستقبال، وكانت تريد أن تسألني عن جدوي مثل هذه العمليات.

قلت لها إنها يجب ألا تصدق كل ما يقال في هذه البرامج، لأن جراحات التجميل أصبحت الآن تجارة رابحة في العالم كله. ومن السهل أن يقع المرء ضحية بعض الأطباء الدجالين والمستشفيات المحتالة ممن يعدون بأكثر مما يستطيعون. قالت لي: «عندي تجاعيد كثيرة في وجهي ورقبتي». كانت سميرة الشهبندر ذات الشعر الأشقر الفاتح والعينين الزرقاوين لا تزال جميلة، رغم أنها أصبحت بين الخمسين والستين إلا أنها لم تكن بحاجة لعملية شد جلد.

وبعد أن فحصتها بدقة أكثر قلت لها: «من الواضح أنك ستبدين أصغر في السن، إذا أجريت لك جراحة تجميلية».

عملية سرية
واتفقنا علي إجراء العملية يوم الجمعة لأنه يوم العطلة في العراق وباقي العالم الإسلامي. لذلك كان من المعتاد أن يخلو مستشفي ابن سينا يوم الجمعة من الأطباء والممرضات، ولذلك قررنا أن تكون العملية في الصباح كي لا يكثر القيل والقال، وهي المادة الأساسية للحديث عند معظم الناس.

ومر كل شيء يومها بسلام وكما خططت له، فقد نقلت زوجة الرئيس بعد العمــلية إلي جنــاح مخصـص لصدام وأفراد عائلته المقربين. ورجعت إلي المستشفي في مساء اليوم نفسه لأتأكد من عدم حدوث أي مضاعفات، وكان كل شيء علي ما يرام.

ثم طرحت عليها سؤالا عابرا: «هل يعلم زوجك بهذه العملية»؟ أجابتني:«لا».

وأصبت بقشعريرة في جسدي، فقد كانت لدينا أوامر واضحة من صدام بأن نخبره علي الفور بأي مساعدة طبية تقدم لأي من أفراد عائلته.

وقلت لها: «لا أظن أنك مدركة لحجم المشاكل التي سببتها لي بإخفائك أمر عملية التجميل عن الرئيس».

مراقبة دائمة
كان من الواجب علينا إعلام مكتب الرئيس بتفاصيل متابعة علاج عائلته حتما، ولكنه علي الرغم من ذلك لم يكن يثق بنا، فكان يكلف رجاله بمراقبتنا بشكل دائم وكان بعضهم لا يتورع عن أن ينصب لنا الفخاخ.

في بداية الثمانينات وبعد مضي فترة قصيرة علي طلبهم مني الاشتراك في الفريق الخاص بالرئيس، بدأت مجموعة من الشابات الجميلات يفدن علي عيادتي الخاصة وكلهن طلبن مني أن أجري لهن عمليات لا تقع في مجال تخصصي.
وكما هو معروف، فإن العفة لها قيمة كبيرة في العالم الإسلامي وإذا لم يقطر الدم علي ملاءة السرير ليلة الزفاف فإن العواقب قد تكون مأساوية جدا. فكثير ما كانت نساء العائلة يجلسن أمام الباب متربصات مثل الصقور ينتظرن خروج دليل العفة إليهن ليفاخرن به ويعرضنه أمام العشيرة كلها.

وإذا لم يتوافر دليل العفة المطلوب فإن حياة العروس تكون في خطر خصوصا عندما يتدخل الأب أو الأخ أو ابن العم لرد الاعتبار والشرف للعائلة. يمكن للمرء أن يكذب، ويحتال، ويسرق أو يغدر وحتي يقتل ولا يفقد شرفه علي الرغم من ذلك. ولكن لا يمكن لأحد أن يزوج ابنته إذا فقدت عذريتها قبل الزواج فهذه هي الجريمة التي ليس لها عقاب سوي الموت. ولكن يمكن تجنب هذا الموقف العصيب عن طريق بعض الحلول الطبية. وأسهل هذه الحلول وأكثرها شيوعا هو أن تذهب العروس قبل زفافها مباشرة أو في اليوم نفسه إلي طبيب أمراض النساء الذي يقوم بعمل بعض الوخزات الموضعية التي ينطلق منها الدم في الليلة الموعودة منقذا بذلك السعادة العائلية.

وهناك قوانين في العراق وفي معظم دول الشرق الأوسط تمنع الأطباء من إجراء مثل هذه العمليات. ولكن بعض زملائي يقبلون أن يتدخلوا جراحيا لإنقاذ مريضاتهم مقابل بدل مادي جراء المخاطرة.

فتيات دون حياء
أما فيما يتعلق بالفتيات اللاتي حضرن إلي عيادتي وطلبن مني إجراء تلك العملية، فقد كان هناك شيء مريب: فأولا لم يبد علي أي واحدة منهن الإحراج وهي تطلب مني إجراء تلك العملية لها، وثانيا كن يخلعن ثيابهن بسرعة خاطفة ويقفزن علي السرير المخصص للكشف علي المرضي، وثالثا لم تحاول إحداهن أن تناقشني في قراري عندما كنت اخبرهن برفضي وأطلب منهن الخروج من عيادتي نظرا لأنني لا أجري مثل تلك العمليات. ولو كان الأمر صحيحا لكان تصرف الفتيات مختلفا جدا، كان من الطبيعي أن يتوسلن إلي ويطلبن مني المساعدة. لقد كان من الواضح جدا أن هناك شخصا ما أرسلهن الي كنوع من الاختبار لأخلاقي ومبادئي كطبيب قبل أن أقبل في الدائرة القريبة من الرئيس.

كان هناك عدد من النساء الجميلات يعملن في وكالات الأنباء التابعة للحكومة. وبعضهن يعملن لحساب الرئيس بشكل مباشر ومستقل عن البوليس السري الرسمي.

فتيات صدام
كان صدام يحب أن يقوم شخصيا باختيارهن أثناء وجوده في الجامعات، ومؤسسات البحث، والشركات، والهيئات الإدارية المركزية أو الفرعية، وكان يتم استدعاؤهن إلي مكتبه حيث يمتدح عملهن النشط والفعال ثم يمنحهن مناصب مهمة في الوزارات والإدارات وباقي المؤسسات الإدارية الحكومية.

ولم يكن عددهن قليلا، وكان صدام، كما حكي لي بعض حراسه، يدعوهن للقاء شهري في يوم وموعد محددين، وربما كانت علاقته بأخريات متميزة لفترات أحيانا تطول وأحيانا تقصر. كان يعاملهن بلطف ورقة وكرم كما كان يستمع باهتمام شديد لكل ما يقصصنه عليه.

وترددت بعضهن علي عيادتي من أجل تصغير حجم أنوفهن أو إجراء عمليات تجميل أخري. ولم يكن الرئيس يتحمس عندما كانت إحداهن تطلب مساعدتي ولكنه كان يوافق في النهاية بسبب إلحاحهن عليه.

وكانت معظمهن لا يذكرنه بسوء بل يتحدثن عنه بشكل جيد ونادرا جدا من بينهن من عاشت معه موقفا سيئا.

ضرب وركل
ولكن كان عليهن دائما أن يكن علي حذر، فقد حكت لي إحداهن أنه طردها ذات ليلة بعد أن قالت له إن دخوله الكويت قد جلب النحس علي العراق. عندها غضب الرئيس وركلها وضربها ثم أخبرها أنه لا يود أن يراها بعد ذلك أبدا.

وفي صباح اليوم التالي وصلها من مكتبه مبلغ مالي كبير يؤمن مستقبلها.

ولكن معظم النساء اللاتي كان يتعامل معهن صدام بشكل منتظم لم يصبحن عشيقات له، فالأهم بالنسبة له كانت المعلومات وحتي الثرثرة التي كن ينقلنها اليه. كما كان يكلف بعضهن بالتقرب إلي مديريهن، حيث كان هناك بعض المتعطشين للحب من الوزراء وكبار الضباط وأعضاء الحزب الذين كانوا يستغلون سلطاتهم لمصالح شخصية، يدفعون ثمنا غاليا لتلك الأسرار التي قد يسرون بها لساعات من الحميمية، عندما كانت أخبارهم تصل الي صدام من خلال شبكة النساء التي تعمل له. وكان ذلك بلا شك هو السبب في كثير من الحالات المفاجئة التي تم فيها تسريح البعض أو إلقاء القبض عليهم أو إعدامهم.

التجسس علي المصمم
كان الوضع يتأزم عندما يضايق أحد عن غير عمد واحدة من العاملات لحساب صدام. فقد كان مثلا مازن الآلوسي لسنوات طويلة المصمم المعماري الأوحد والمفضل للرئيس، وقد درس الهندسة المعمارية أيضا في أميركا، لذلك كان مشرفا علي بناء عدد من القصور والبيوت السكنية والمساجد والقري السياحية لصالح كبراء بغداد والعراق كما كان يقوم بعمل تصميمات البناء بنفسه.

كان ينتهي من المشروعات دائما في الوقت المحدد وبالتكاليف المحددة. وقد قلده صدام جميع الميداليات وأعلي الأوسمة التي تمنحها دولة العراق، وكنت قد تعرفت علي الآلوسي عندما كلف الرئيس مكتبه بتشييد تمثالي «اللقاء» في أحد شوارع بغداد الحيوية. ولكنه لم يحضر افتتاح التمثال لأن صدام كان قد غضب عليه وطرده من وظيفته.

كان صدام قد قابل مهندسة معمارية شابة في أحد مواقع العمل وأراد أن يضمها الي شبكة النساء التي تعمل لصالحه. لذلك طلب من الآلوسي أن يعينها عنده في مكتبه. ولكنها بعد أن بدأت في العمل كانت تأتي متأخرة وتمشي مبكرة بينما كان زملاؤها يكدون من أجل إنهاء المشاريع في الموعد المحدد. فقام الآلوسي بتهديدها بطردها من العمل إذا استمرت في عدم التزامها وبذلك وضع النهاية لمستقبله المهني كرئيس للمكتب الهندسي الذي يعمل لصالح الرئيس. أولا استدعاه صدام إليه وطالبه بالرجوع عن خطاب الإنذار الذي وجهه للمهندسة، ثم طالبه بالاعتذار لها علي الفور. وأخبره أنه تم تخفيض درجته في العمل وتم نقله إلي مكتب أمانة بغداد.

كانت المهندسة في بداية الثلاثينيات من عمرها ولم تكن في رأيي شديدة الجمال، ولكن معظم الرجال كانوا يرون أنها امرأة جذابة.

نصيحة إلي ناجي صبري
في أحد الأيام أرسلها صدام إلي بصحبة أحد حراسه لأفحص أحد جفنيها لأن فيه عيبا خلقيا طفيفا ولذلك لا يرضيها شكله. فشرحت لها أن عملية التجميل ستترك هي أيضا أثرا، لذا فأنا أنصح بأن تتركيه علي حاله، ووافقتني الرأي ولم أسمع عنها أي شيء حتي سافرت في شهر سبتمبر عام 2001 لحضور مؤتمر طبي في دوسلدورف، وسافرت عبر فيينا وكالمعتاد نزلت ضيفا علي صديقي ناجي صبري الحديثي وزوجته، وكان سفيرنا في العاصمة النمساوية. وفي إحدي الأمسيات بينما كنا نجلس ونتجاذب أطراف الحديث، حكي لي السفير أن ثمة امرأة عراقية قد وصلت إلي المدينة هي وزوجها، وكان لا يعرفها، فهما ليسا من عائلة صدام أو من مشاهير العراق ولكن سكرتير الرئيس عبد حمود اتصل به وطلب منه أن يهتم بها كل الاهتمام، ولم يفهم السفير لماذا؟ فكلاهما لم يبد أنه يشغل منصبا مهما في العراق فسألته عن اسمها وأخبرني به. فنصحته أن يحسن استقبالها جدا ويعاملها كأفضل ما يكون، فقد أردت بنصيحتي تجنيب صديقي ان يقوم بأي تصرف خاطئ. لأنها لو رجعت إلي العراق غير راضية عنه فسوف يجلب له ذلك الكثير من المشاكل. وبالفعل استمع السفير وزوجته الي نصحي ونظما لها برنامجا يقنعها بما تستحق هي وزوجها.

إجازة علي الدانوب
وقد جاءت الأوامر من عبد حمود بألا يبخل عليهما بأي تكاليف حتي تكون إقامتهما ناجحة، وعلي الرغم من أن الزوجين قد جاءا معهما بالكثير من الدولارات إلا أن السفير كانت لديه أوامر بصرف كل ما يحتاجانه كي لا ينقصهما أي مال في بقية الأسبوع الذي يقضيانه كإجازة لهما علي نهر الدانوب.

بدت علي المرأة السعادة البالغة عندما وصلت وزوجها إلي المطار، وكان معها من الملابس والهدايا ما لا يعد ولا يحصي وهما في طريقهما إلي العراق الذي يعاني من الحصار الاقتصادي منذ فترة. وكانت بعض الحقائب مكتظة ببذلات وقمصان وأربطة العنق الفاخرة ولم تكن تلك الملابس علي مقاس زوجها وإنما علي مقاس رجل في مثل جسم صدام


مكافأة إلي ناجي صبري
وحصل ناجي صبري علي رضا الرئيس، فقد تم استدعاؤه إلي بغداد في الصيف الذي تلاه وتم تعيينه وزيرا للخارجية، وقد حكي لي صديق أن المرأة قد امتدحته جدا بعد عودتها من فيينا وأنها قد اقترحت علي الرئيس أن يستبدل وزير الخارجية محمد سعيد الصحاف بسفيره في النمسا لأنه رجل مخلص ومهذب ومجتهد.

أخبرني الحديثي لماذا أصبح آخر وزير خارجية في حكومة صدام؟ في بداية الثمانينات كان أخوه محمد صبري الحديثي نائب وزير الخارجية ولكن علي حسن المجيد الملقب «بعلي الكيماوي» وابن أخيه حسين كامل نجــحا باقــناع صدام بأن نائب وزير الخارجية يخطط هو ومجموعة من المتآمرين لعمل انقلاب عليه حيث كان محمد صبري من الأشخاص الأكفاء والمخلصين.

لم أعلم بذلك
وبالتالي تم القبض عليه وتعذيبه وإعدامه في النهاية، كما تم القبض علي شقيقه الثاني شكري أيضا، ولكنه بعد أن تعرض للتعذيب وللسجن لفترة طويلة تم إطلاق سراحه. وعندما عين ناجي صبري الحديثي في منصبه الجديد، حضر إليه صدام وقال له: «لقد سمعت أن أخاك قد قتل، ولم أكن علي علم بذلك». وهذه لم تكن بالطبع الحقيقة ولكن الحديثي كان يشعر أن صدام بدأ يفكر في شعبيته وسمعته. ربما يكون قد عينه وزيرا للخارجية ليصلح ما أفسده قبل عشرين سنة. ولم يكتف الرئيس بتعيينه وزيرا للخارجية، بل أحاطه بقدر من العناية والتكريم لإثبات حسن نيته هذه المرة.

وتوقعت الأسوأ عندما عرفت وأنا في مستشفي ابن سينا من سميرة الشهبــندر أن الرئيــس لا يعــرف شيــئا عن تلــك الجــراحة البسيطة، وقبل أن أنهي حديثي معها. إذا بصوت أقدام في الردهة الخارجية ودخل علينا صدام وبدا عليه التوتر والخوف.

وسألني: «هل حدث شيء»؟

فردت سميرة: «لا، لقد تم استئصال ورم خلف الأذن». فنظر إلي صدام وسألني: «هل هذا خطير»؟ فأجبت: «لا هذا مجرد تجمع دهني علي الجانب الأيسر من الرقبة، وتم استئصاله. ولكنني اضطررت أن أستأصل جزءا من الجلد من مكان التجمع الدهني، مما جعل خدها الأيسر يبدو أكثر نضارة، وفعلت الشيء نفسه في الجانب الأيمن من الوجــه والرقــبة لكي لا تكون هنـاك فــروق بين الجانبــين بعد أن يتـم شفاء الجلد. وكل شيء علي ما يرام ويمكنها أن تغادر المستـشفي مساء اليوم».

نظر إلي صدام وابتسم وسكت ولكني أظن انه فهم منذ البداية نوع العملية التي أجريتها لزوجته. وكانت هذه المرة الوحيدة التي أخفيت فيها بعض ما فعلته لزوجته.

رسميا لم يكن لصدام إلا زوجة واحدة وهي ساجدة ابنة خاله خير الله. وقد تزوجا عام 1958 أثناء إقامة صدام في القاهرة بعد المحاولة الفاشلة لقتل الزعيم عبد الكريم قاسم. وقتها هرب صدام أولا إلي سوريا ومنها جاء إلي منفاه في مصر.

ساجدة والزوجة الأخري
لم يصارح صدام زوجته ساجدة، رغم وجود اشاعات بأنه قد تزوج سميرة الشهبندر. وهذا ما حدث بالفعل. لكن هذا الموضوع كان من المحرم الكلام فيه في نطاق الأسرة. وفي أحد الأيام كنت أتكلم مع إلهام أخت ساجدة وكانت متزوجة من وطبان، أحد الإخوة غير الأشقاء لصدام. وحكت لي أنها مقتنعة شخصيا بأن زوج أختها يسر عنهم شيئا وأنه قد تزوج بأخري. ثم قالت لي: «إن ساجدة لا تريد أن تعرف أي شيء عن هذا الموضوع وصدام ينكر كل شيء».

لم تكن حياة ساجدة سهلة، أذكر أنني دعيت ذات مرة في صباح يوم شتوي إلي قصر الرئيس في الضفة الغربية علي نهر دجلة، فقد كان عليّ إجراء عملية بسيطة في ذراعها الأيسر، وكانت إحدي غرف القصر مجهزة كعيادة واتفقنا علي إجراء العملية في اليوم التالي.

وعندما حضرت في اليوم التالي نسيت أن أضع علي يدها المخدر الموضعي قبل أن أقطع الجلد بالمشرط، وكانت هي المرة الأولي والأخيرة التي حدث فيها مثل هذا الخطأ. ولكنها لم تتفوه بكلمة ولم تتأوه، ولم أنتبه لما حدث إلا عندما لاحظت أن كمية الدم الخارجة من الجرح أكثر مما يجب حتي غطّت الجرح تماما، لأن التخدير الموضعي عادة ما يوقف الدورة الدموية في المكان المعني.

فسألتها: «هل تألمت جدا»؟ قالت لي: نعم.

سألتها: «لماذا لم تطلبي مني أن أتوقف»؟

نظرت إلي ساجدة وقالت: «لأن من يحتمل الحياة مع صدام، يحتمل أي شيء آخر».




اضافة رد مع اقتباس
  #13  
قديم 03/10/2004, 11:06 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة الثالثة عشر: ##############

عدي يتزوج ابنة برزان وتتركه بعد ظهوره مع داعرات
علاج زوجات الرئيس كان لطيفا أما علاج خالته «بدرة» فأصابني بالجنون


الحاجة بدرة
كانت مهمة علاج زوجات الرئيس من المهام اللطيفة. أما المهمة الصعبة والمتعبة بحق فكانت مهمة الاعتناء بخالته الحاجة بدرة. وكلمة حاجة تعني أن السيدة بدرة قد أدت فريضة الحج في شبابها، وقد أصبحت الآن عجوزا، شهباء، ونحيفة تبدو كما لو كانت مومياء حية. وكادت تصيبني أنا وزملائي الأطباء في مستشفي ابن سينا بالجنون.

الحاجة بدرة كانت خالة صدام، لم تتزوج قَطّ، وكانت تحب أن تجري لها عمليات جراحية وتدخلات طبية أخري ليل نهار.

كما كانت تحب أن تتصل بنا في منتصف الليل لتشكو لنا ألما في جسدها. وكانت تسكن في بيت كبير في بغداد، وقد أمدها صدام بكل ما تحتاجه من خدم وحراس.

ولكنها ـ كما قلت ـ كانت تحب وتطلب دائما إجراء عمليات جراحية لها، مهما كانت الأسباب، فمع أقل حكة تصيبها مثلا علي الذراع تطلب منا استئصال جزء من الجلد لكي يذهب الشعور بالحكة. لا أستطيع أن أحصي عدد الأماكن التي استأصلتها من جلدها، فقط لكي أرضيها.

وأكثر ما كان يسعدها هو التخدير الموضعي، وكثيرا ما أجرينا لها عمليات جراحة بسبب أعراض وهمية عندها. ولم يمض أسبوع دون أن نجري لها عملية منظار، رغم أن معدتها كانت علي ما يرام ـ حسب رأي الدكتور مكي حمادي ـ اختصاصي طب المناظير وأحد أكفأ الأطباء في هذا الاختصاص.

وأنا علي يقين انه لا يوجد حلق في العالم كله، مر من خلاله خرطوم وجهاز تصوير المنظار الطبي، أكثر من حلق الحاجة بدرة.

عجوز خطرة
وبالطبع، فإن هذه السيدة العجوز كانت ترغب في أن تكون محور اهتمام الجميع، حتي ولو للحظات قليلة. ولكننا نعرف جميعا أن هذه السيدة قد تمثل خطرا علي حياتنا. وكان اثنان من حراسها قد اختفيا وتم إعدامهما بعد أن اتهمتهما بسرقة أشياء تخصها.

ولم نجرؤ علي أن نوقفها عند حدها ونقول لها: كفي.

لكن ساجدة زوجة صدام فقدت في أحد الأيام صبرها عندما مرت أمام بيت الحاجة بدرة، فأوقفها الحراس للتفتيش وهي في طريقها إلي قصر الرئاسة. والسبب في وجود نقطة التفتيش هو أن السيدة العجوز كانت تتوهم أن هناك مؤامرة تحاك لقتلها، ولذلك فقد أمرت الحراس أمام البيت بعمل متاريس ونقاط تفتيش علي مسافة خمسين مترا من بيتها.

أمرتهم ساجدة قائلة: «ارفعوا هذه المتاريس وإلا سأضعكم في شنطة السيارة وآخذكم مباشرة إلي السجن». وفعلوا ما أمرتهم به ساجدة، فقد كانت تري في ذلك إثارة لمشاعرها.

صراع الحواجز
وفي اليوم التالي كانت بدرة في طريقها لإجراء عملية في مستشفي ابن سينا فرأت أن نقاط التفتيش رُفِعت، فانفجرت في الحراس لعنا وسبا وهددتهم بالسجن والعذاب إذا لم يقيموا نقاط التفتيش مرة أخري. وحكي لي أحد الحارسين أنهما اضطرا لتنفيذ الأوامر وإقامة الحواجز في الشارع مرة أخري.
وبعد ساعات قليلة مرت ساجدة مرة أخري واستشاطت غضبا أكثر من الحاجة بدرة، وكانت نهاية الحارسين التعيسين في شنطة سيارة ساجدة ثم في السجن لمدة أسبوع، واختفت الحواجز من الشارع أمام بيت الحاجة بدرة للأبد.

قبل بزوغ فجر أحد الأيام اتصلت بي خالة الرئيس شاكية من ألم رهيب في السبابة اليمني وطلبت حضوري علي الفور سألتها: منذ متي تعانين هذا الألم؟

أجابت: «منذ ثلاثة أشهر. لابد أن تجري لي جراحة».

ولماذا الآن وقد تجاوزت الساعة منتصف الليل بكثير. قالت لابد أن تأتي. ذهبت لأخبرها سوف أراك غدا، ورجعت إلي داري عند الفجر.

في صباح اليوم التالي ومن باب الاحتياط أخذت معي مدير مستشفي ابن سينا وممرضين، وكما توقعت فلم تكن هناك أي مشكلة في إصبعها.

قالت لي: «أريد أن تجري لي عملية». سألتها متعجبا: لماذا؟ كل شيء في إصبعك سليم:

فانفعلت وقالت: «أنتم معشر الأطباء لا تفكرون إلا في كسب المال، انتظر وسوف تري ما الذي سيحدث لك».

اعتذار ساجدة
فقلت لها: «لن يغير في الأمر شيء أنك خالة الرئيس، ولا حتي في مقابل عشرة ملايين دينار، فلن أقوم بعمل عملية جراحية». ثارت ثائرتها واستعملت كلمات غير لائقة عندما قررت ترك غرفتها.

وفي المساء اتصلت بي ساجدة واعتذرت لي بأدب شديد عن تصرف الحاجة بدرة، وطلبت مني أن أجري لها العملية حتي ولو لم يكن لها داع.

فسألتها: «وماذا إذا حدثت تعقيدات»؟

ولحسن الحظ كانت الحاجة بدرة تضايق عددا من وزراء صدام بمشاكلها الوهمية، فاستجمعوا شجاعتهم واشتكوا لصدام الذي أمر بإلغاء الهاتف من بيتها. وارتحنا أخيرا من مشاكلها معنا في مستشفي ابن سينا.

الدوري وزوجاته الخمس
وعلي الرغم من ذلك فلم تكن هذه السيدة العجوز هي المشكلة الوحيدة التي واجهتنا في المستشفي فلم يكن صدام هو الوحيد الذي اتخذ لنفسه أكثر من زوجة. فعلي سبيل المثال كان لعزة الدوري نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ما لا يقل عن خمس زوجات وعددا كبيرا من الأطفال، وكان علينا الاعتناء بهم جميعا عند الحاجة. وكان يسكن في «بلوك سكني» علي نهر دجلة، أخذت فيه زوجته الأولي البيت الرئيسي بينما كانت للباقيات بيوت مشابهة بجانبه.

وقد أخبرني برزان أن السبب في تعدد زوجات الدوري هو انه كان في المزرعة الخاصة به في تكريت ورأي هناك ابنة الرجل الذي كان يشرف له علي الزراعة، وكانت فتاة جميلة في الثامنة عشرة من عمرها. وعلي الفور سأل أباها إذا كان يسمح له أن يتزوجها وطبعا وافقه إلي طلبه.

والقرآن ينصح المؤمنين بألا يتزوجوا بكثيرات، وإن أقصي عدد هو أربع زوجات أما الدوري الذي ظهر عليه التدين في كبره، فقد رأي أن يجعل لنفسه استثناء ويتزوج بالخامسة نظرا لأنه لا يشارك زوجته الأولي الفراش لأنها أصبحت عجوزا. واكتفي بأن يكل إليها مسؤولية العناية بطعام وشراب أسرته الكبيرة. كانت الوجبات تعد في بيتها ثم توزع علي بيوت الزوجات الأخريات تبعا لنظام محدد. وكان نائب الرئيس يقسم الليالي علي زوجاته تبعا لقواعد ثابتة كما يأمر الإسلام.

3 عمليات ختان
وحياة مثل هذه ينتج عنها أطفال كثر. في أحد الأيام جاء عزت الدوري دون موعد سابق إلي مستشفانا ومعه ثلاثة من أبنائه لنجري لهم عملية الختان، وكانت أعمارهم تتراوح بين الثلاث والأربع سنوات، ومن بينهم طفل لم يكن الأب يتذكر حتي اسمه.

واذكر كيف جن جنونه عندما رفضت إجراء العملية لهم لأنهم تناولوا طعام الإفطار ولهذا فقد يتعرضون لخطر الاختناق إذا أصيبوا بحالة من القيء وهم تحت التخدير. وبالطبع لا يمكن عمل العملية دون تخدير لأن هذا معناه آلام رهيبة للمريض.

وعندما فهم أنه لن يصل معي لأي حل آخر، أخذ أبناؤه إلي حلاق عند ناصية الشارع، وقام بعمل الختان للأطفال، الذين لابد وأن يكونوا قد تألموا ألما شديدا.

وحدة موحشة
التأم الجرح بعد العملية التي أجريتها لسميرة الشهبندر بشكل جيد. كنت أمر عليها دائما لأطمئن علي أن كل شيء يسير كما يجب، وكانت زياراتي تسعدها كثيرا وكنت أقضي معها كل مرة بعض الوقت ونحن نتحدث، وكان لدي إحساس بأنها وحيدة بشكل موحش.

كانت تحب أن تحكي لي كيف أن صدام يبهرها جدا: لا أفهم حتي الآن كيف وصل صدام لما هو عليه الآن إذا قارناه بالظروف البسيطة والبدائية التي عاش فيها وهو طفل.

كان لها ابنان وابنة من زيجتها الأولي. الولدان الصغيران والابنة وزوج ابنتها كانوا يعيشون في بيت سميرة الشهبندر وقد أنجبت الابنة حفيدة، كان يحبها الرئيس جدا. ويهتم بها جدا ويوليها رعايته في كل مرة يأتي لزيارتها.

قالت لي سميرة: إنه يحب أن يراها دائما، ويحب أن يقذفها في الهواء ويتلقاها ويلعب معها.

ولكن الفترات بين الزيارة والأخري أخذت في التباعد فقد كان صدام يهتم جدا بأمنه الشخصي ولذلك كان يغير مكان إقامته ومبيته بشكل مستمر. ولم تعد سميرة تحتمل الوضع أكثر من ذلك.

وأشارت إلي حقيبتي سفر لونهما أحمر، كانتا بجانب الباب: انظر، هكذا أصبحت حياتي حاليا. علي أن أنتظر كل ليلة حتي يحضر حراس صدام ليصطحبوني إليه ولا أعرف أبدا متي وأين يراني أو في أي بيت سأنام معه. هل هذه هي حياتي؟ وعلي الرغم من ذلك الناس يملؤها الحسد، ولكني أعرف أن الله سيعاقبهم.

ابن سميرة يغادر
عند خروجي لاحظت صورة صغيرة لزوجها الأول علي أحد الأرفف. كان لديها أسباب كثيرة تدعوها لعدم الرضا، ابنها الأكبر كان يعمل مهندس طيران، وقد طلب أن يخـــرج إلي الأردن لكــي يعمــل في عمــان، وكان الســبب الحقيــقي هو أن عُدي بدأ في مضايقته بشتي الطرق وخاف ابن سميرة من أن تنتهي تلك المضايقات نهاية سيئة.

في البداية رفض صدام سفره إلي الأردن ولكنه رجع عن قراره ذات يوم: «يمكن أن أوافق علي سفره ولكن بشرط، ألا تطلبي مني زيارته في الخارج أبدا، لأني علي يقين بأن ابنك لا ينوي الرجوع للعراق ثانية».فردت عليه: «أنا واثقة أنه سيعود يوما إلي العراق». ولكن صدام كان علي حق، وكان من الصعب عليها جدا تحمل فقدانها لابنها. ولكن كان لديَّ شعور بأنه ثمة أسباب أخري لحالة الاكتئاب المتزايدة لديها. كانت امرأة ذكية ومثقفة وكانت تعمل مدرسة قبل أن ترتبط بزوجها الأول، وكانت علي وعي بأن الأحوال في العراق تزداد سوءا وأن الحكومة بدأت في الانهيار التدريجي.


عين السمكة
في الوقت نفسه الذي أجريت فيه عملية التجميل لسميرة كان الرئيس يعاني من مسمار في القدم أحضروني إليه في أحد القصرين بالرضوانية بالقرب من المطار الدولي في بغداد.
كان القصر محاطا بحديقة كبيرة وطرق ومجموعة من البرك المخصصة لتربية الأسماك.

وبعد أن فحصت عين السمكة في قدمه اليمني ونصحته باستئصالها، طلب صدام من أحد الحراس أن يصطاد لي من إحدي البرك خمس سمكات من سمك البحيرة.

كان صدام شديد الكرم، وذلك علي العكس من باقي عائلته الذين كانوا في منتهي البخل.

قلت للرئيس معترضا عندما جاء الحارس بالسمك:«هذا كثير جدا» فقال لي صدام:خذها معك لزوجتك في البيت، فستفرح بها، إن النساء يحببن أن يكون لديهن أكثر مما يحتجن.

فيمكنك أن تري ذلك كل يوم في السوق. إنهن لا يرضين أبدا بما يأخذنه. هذا شيء في فطرتهن لا فارق في ذلك بين الذكيات منهن والغبيات أو إن كن نشأن في الريف أو هنا في بغداد. كلهن سواسية ولا جدوي من محاولة تغييرهن.

وقلت له: ربما يجب عليك أن ترتدي أحذية أكبر، ولكن محاولتي أن أنبهه لمشكلته الطبية الخطيرة باءت بالفشل، فالرئيس كان مشغولا بحديثه عن الجنس اللطيف. واستكمل حديثه قائلا: «إنهن عاطفيات ورومانسيات ومن الصعب عليهن اتخاذ القرارات؟ هن ضعيفات بالطبيعة. ولكنهن أكثر صدقا من الرجال وعندما يقررن شيئا فإنهن يضحين بكل شيء من أجله. إنهن يستحققن أن نستمع إليهن وأن نتيح لهن فرصة التأثير في المجتمع والحصول علي حقوق الرجال نفسها. ولكن طبعا في إطار يتفق مع ديننا وتقاليدنا وحضارتنا. فإننا حافظنا دائما علي الأخلاق طوال تاريخنا المجيد». تركت السمك للحارس عندما خرجت من عند صدام وأخذت واحدة كان الحارس قد شواها علي النار.

كان موقف صدام تجاه المرأة بالمقارنة بباقي الرؤساء في الشرق الأوسط موقفا تقدميا علي الأقل من الناحية الرسمية. فقد غضب الشيوخ والملالي في العراق ــ ذلك المجتمع المتدين الذي تسيطر عليه الأحكام القبلية ــ عندما سمعوا أنه في المستقبل يجب علي الرجل أن يتكفل بمصروفات مطلقته وأن ينتظر ثلاث سنوات قبل أن يسمح له أن يخرجها هي والأطفال من البيت الذي كانوا يسكنون فيه معا، وأن كل ما في البيت من أثاث وممتلكات يصبح من حق المرأة دون نقاش في حالة الطلاق. كما أصبح للمرأة حق الانفصال عن زوجها.

زوجة لعدي
ولكن صدام نفذ قرارات الإصلاح تلك علي الرغم من كل الأصوات المتعالية بالاعتراض. ولم تمض فترة طويلة إلا وتعرضت القوانين الجديدة لاختبار صعب إذ حدثت واقعة في عائلة صدام.

رجع برزان أحد الإخوة غير الأشقاء لصدام من إجازة إلي العراق من جنيف حيث كان يشغل منصب سفير العراق لدي الأمم المتحدة، وجاء صدام لزيارته، وكانت مشكلة بخصوص «سجا» ابنة السفير، إذ طلب صدام منه أن يزوجها لعدي.

وبالنسبة لفتاة صغيرة جميلة ومثقفة كان عدي هو أسوأ شخص يمكن أن تتزوجه، فلم يكن هناك في بغداد من هو أكثر منه مرضا.

وبالفعل تم الزواج بعد شهرين وبعد الزفاف بأربعة أيام كان عدي بصحبة عدد من الداعرات في جناح بفندق الرشيد مما أدي لفضيحة جديدة في بغداد.

خرجت سجا إلي بيت ساجدة لأن والديها كانا في جنيف وحاولت دون جدوي أن تقنع عمها بالموافقة علي تطليقها، ولكن الرئيس رفض وطلب منها أن تتحدث مع عدي في ذلك الموضوع. ولكن عدي رفض الحديث في موضوع الطلاق وقال لها: «إن عائلتنا لا تعرف الطلاق».

علاقة صدام وبرزان
ورأي عدي أن يلجأ للحل المعتاد لديهم في عرف البدو وهو أن يتزوج الرجل بامرأة أخري ويترك الأولي علي حالها، ويكفيها أنه يوفر لها المأوي والطعام والملبس، وهذا ما أراد فعله مع زوجته. كانت إقامتها عند حماتها بمثابة التواجد في سجن. وقد رأيتها عدة مرات وأنا أقوم بزيارات منزلية الي عند ساجدة وكان من الفظيع جدا أن أري عينيها الباكيتين وهما تستغيثان طلبا للمساعدة. ومن حسن الحظ أن أباها انتبه أخيرا لمدي جدية المشكلة ونزل إلي بغداد واستطاعت ابنته أن تزوره وسافرا سرا من العراق إلي جنيف.

ساءت العلاقة بين صدام وبرزان عندما عُزِل برزان من منصبه كرئيس للمخابرات سنة 1983 وبالطبع لم تتحسن العلاقة بعد فشل الزيجة التي أجبرت عليها ابنة السفير. ثم ازداد الوضع سوءا بعدما استدعي صدام أخاه غير الشقيق من جنيف سنة 1998، وكانت أحلام زوجة برزان وقتها علي فراش الموت ولكن ذلك لم يؤثر في موقف صدام، استطاع برزان بصعوبة شديدة إقناع صدام بأنه لا يستطيع أن يترك زوجته وحدها وهي تموت في احد مستشفيات سويسرا.

وفي رأيي كانت أحلام أكثر نساء عائلة صدام شجاعة وصدقا. كانت ذكية وماهرة ولم تكن تتجنب الاصطدام بالرئيس أبدا . سمعتها أكثر من مرة وهي تنتقد نظام الحزب الواحد والديكتاتورية وعدم وجود حرية صحافة أو حرية رأي في العراق، وكانت دائما تقول: «سينهار هذا النظام إن آجلا أو عاجلا».

ولم يكن صدام يحتمل رؤية زوجة أخيه وكان يسميها «الحية الصفراء» وعلي النقيض منه كان برزان يحبها من كل قلبه. بعد موتها بدأ في بناء مقبرة كبيرة لها في تكريت، كان من المفترض أن تصل لارتفاع خمسين متراَ ولكن حكومة صدام انهارت قبل أن يكتمل المشروع.

تم تعيين برزان عند عودته من سويسرا مستشارا للرئيس، ولكن صدام لم يسأله أبدا عن رأيه في أي شيء. وكذلك لم يسأل الأَخوين سبعاوي ووطبان بعد أن عزلهما من منصبيهما كوزير للداخلية وكرئيس للمخابرات في منتصف التسعينات. وعلي الرغم من ذلك فقد احتفظا بالحراس وبالسيارات المرسيدس والليموزين المدرعة وكانا يحظيان باحترام كبير.

في نهاية أبريل 2001 اتصل بي برزان وطلب مني الحضور لأن لديه أمرا هاما يجب ألا يطلع عليه أحد سواي.

ومن شدة فضولي ذهبت إليه علي الفور، وبعد تقديم القهوة قال لي وكان يتصبب عرقا ويبدو شاحبا: لقد اتخذت اليوم قرارا ويسعدني أن تساعدني في تنفيذه. سألت نفسي ما إذا كانت هناك محاولة انقلاب علي صدام ويريدني أن أشترك فيها، وتوقعت أسوأ الاحتمالات. إذ كان برزان أبرز منتقدي صدام سرا وعلانية وكان أولاد صدام يكرهونه كرها شديدا.

زواج برزان
ولكن برزان لم يقل لي شيئا وإنما طلب مني أن أصحبه في سيارته إلي شارع المنصور. وتوقفنا هناك عند بيت فاضل البراك، رئيس المخابرات السابق، الذي اتهمه صدام منذ سنوات بالخيانة وتم إعدامه. ودخلنا الي البيت المجاور له، واستقبلنا رجل وقور كبير السن، كان يعمل لسنوات عدة قاضيا. بل كان قاضيا محترما ومعروفا قبل أن يحال إلي المعاش. هذا الرجل الوقور هو أبو أرملة فاضل. وقد جاءه برزان طالبا الزواج من ابنته. قال الأخ غير الشقيق لصدام: كما تري لقد جئتك اليوم مع صديق عزيز علي، أقدره وأحترمه أكثر من كل إخوتي.. لم أحضر معي أي شخص آخر لأنه هو وحده بمائة رجل.

وعلي الرغم من أن التقاليد العربية كانت تفرض علي الخاطب أن يأتي في كوكبة من أهله وأصدقائه وعشيرته كتعبير عن احترامه لأبي الفتاة المطلوبة، لكن القاضي قد ظهر عليه التفهم والقبول وقال لنا: يسعدني ويشرفني أن استقبلكم هنا في بيتي.

وحكي له برزان عن صعوبة ظروفه بعد وفاة زوجته التي كان يحبها كثيرا وقال له إنه هو الآخر قد مر بظروف صعبة كالتي مرت بها كريمته جنان في السنين الماضية، وقال: أنا أحترمها وأقدرها جدا، وأحب أن أطلب يدها منك للزواج.

فقال له القاضي: بارك الله لكما.

لم يخبر صدام
كانت جنان امرأة جذابة جدا في الأربعينات من عمرها، استقبلتنا بصحبة ولديها وبناتها الثلاث، وجميعهم اتموا دراسته الجامعية، وكانوا مرتدين أفضل ثيابهم بمناسبة زيارتنا، وقدموا لنا الشاي والجاتوه.

وفي طريق عودتنا من الخطبة الناجحة ونحن في السيارة سألت برزان ما إذا كان أخبر صدام برغبته في الزواج فأجابني: «لا، ولماذا أخبره»؟

فقلت له: لو كنت أعرف أنك لم تخبره لما أتيت معك. فسألني: «لماذا؟... يمكنني أن أفعل ما أشاء... صدام أيضا يفعل أشياء كثيرة دون أن يسأل أحدا أنه لا يسألني عن أي شيء».

«هذا شيء مختلف تماما، فكيف سيكون موقفك إذا تزوج ابنك دون أن يخبرك»؟

فأجاب عن سؤالي قائلا: «لم يصبح لي أي أهمية لا علي المستوي السياسي ولا علي المستوي العائلي، لذلك أفعل الآن ما أشاء».

فقلت له: «أظن أن ما حدث اليوم سيوقعني في مشاكل».

وبعد سبعة أيام تم الاحتفال بالزفاف، وكما توقعت فقد غضبت علي عائلة صدام بسبب مساعدتي لبرزان. قالت لي ساجدة: «لقد كان من الخطأ مساعدتك له، إنها ضربة قاسية للعائلة بأكملها أن يتزوج برزان أرملة رجل خائن».

ومن حسن الحظ لم يقل صدام أي شيء عما حدث، ولكنه دعا إخوته غير الأشقاء الثلاثة ليتباحث معهم الأمر.

قال صدام لبرزان: «يجب أن تطلقها فورا وإلا فلن تصبح أخونا بعد اليوم».

لم يوافقهم برزان علي مطلبهم ولم يطلقها بعد ذلك. الآن انقطعت جميع حبال الوصل بين برزان وإخوته صدام وسبعاوي ووطبان.




اضافة رد مع اقتباس
  #14  
قديم 03/10/2004, 11:12 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة الرابعة عشر: ##############

عدي يسرق مستشفيات بغداد ليجهز مستشفي خاصا اشتراه
ضرب الأميركيون مركز المخابرات فتهشم مستشفانا


حرامي المصعد
كان مكي حمودات، وهو ضابط كبير برتبة لواء ركن، قصير القامة أشيب الشعر في الخمسينات من عمره، وكان يري في نفسه رجلاً مهماً، لأنه المستشار العسكري لعدي صدام حسين.

عندما زارني في المستشفي في صباح العشرين من يونيو سنة 2001، لم يحضر ليتباحث معي في قضايا عسكرية أو سياسية وإنما جاءني لأمر آخر، حيث قال:

«يحتاج نجل الرئيس إلي المصعد الذي لديكم».

كان المصعد الذي لدينا هو الوحيد في مركز صدام لجراحات التجميل في بغداد، وكنت أنا مديره الطبي والتنفيذي منذ 1976، عندما كان المركز مجرد مستشفي استقبال حوادث عادي. وكان مستشفانا يتكون من مائة وعشرة من الأسرة وأكثر من ثلاثمائة موظف بينهم خمسون طبيباً. وكان المبني يتكون من طابقين فقط.

وهــذا ما كان يشــير إليــه الفـــريق مكي في كلامــــه، حيث إنه علي بعد كيلومتر واحد شرقاً من مستشفانا كان مستشفي الحيدري للنساء، الذي يتكون من طابقين من دون مصعد.

لذلك فإن اللواء مكي كان يري أنه من الأفضل أن ينتقل المصعد من عندنا إلي هناك، لأننا في رأيه يمكن أن نصعد السلم بين الطابق الأرضي والأول بغير عناء.

تجارة.. الصحة
قبل هذه الواقعة بأسابيع استولي عدي علي مستشفي الحيدري للنساء والتوليد في سرية تامة، وكان بصدد تحويله إلي أحدث مستشفي في العراق. فقد فطن عدي إلي إمكان التربح من قطاع الصحة. ولأنه كان يريد أن يبقي الأمر سريا، فقد واجه صعوبة في الحصول علي التجهيزات الطبية والتقنية والمعدات اللازمة عبر القنوات الرسمية ليتمكــن من تحقيــق مشروعــه. وكان المصعد مــن أهم ما ينقصه. شرح لي اللواء الركن الموقف وصرح لي بأنه يعتبرني مَرِنا بدرجة كافية ستجعلني أوافق علي طلب عدي.

فقلت له إننا نحتاج المصعد في مستشفانا، وبالإضافة إلي ذلك فأنا لا أستطيع أن أتنازل عن شيء من الملكية العامة من دون أمر من السلطة العليا.عندها أخرج لي ورقة من جيبه الداخلي ووضعها علي المكتب أمامي، كانت الرسالة الموجهة إلي من الدكتور عميد مدحت مبارك وزير الصحة موجزة في جملة واحدة تقول: «دكتور علاء، هل تعتقد أنه من الممكن أن ينقل المصعد من مستشفاكم إلي المستشفي الجديد الخاص بعدي»؟ فقلت معترضاً: «هذا ليس خطابا رسميا، والصيغة هي سؤال وليس أمرا بأن نقوم بفك المصعد من مكانه وتركه لكم».

متاهة النظام
استشاط اللواء الركن غضباً واحمر وجهه وخرج ضارباً الباب بعنف لأنه سيعود إلي عدي صفر اليدين.

وشعرت أن ما حدث ستكون له عواقب وخيمة ليس فقط عليّ ولكن علي وزيري الدكتور مبارك أيضاً.

ولأن الدولة أصبح يغشاها الفساد والظلم فلم يبق أحد من الوزراء أو في الجهاز الإداري إلا وتعيَّن عليه أن يتوخي الحذر دائماً . فلم يعد هناك أمان. عندما أفكر في تلك الأيام أجدها كابوساً كئيباً. وكان من الطبيعي وقتها أن نكتسب بعض الصفات الخاصة التي تساعدنا علي ألا نضيع في متاهة النظام الحاكم وما يواجهنا من تعقيدات شخصية وسياسية وعملية. وهذا ما أثار إعجابي بوزير الصحة الدكتور مبارك الذي استطاع البقاء في منصبه منذ نهاية حرب الخليج وحتي دخول الغزو الأميركي إلي العراق في شهر أبريل من العام المنصرم.

كانت لدي مدحت مبارك قدرة عالية جداً علي التأقلم مع كل المتغيرات الاجتماعية والسياسية. حيث وُلد الدكتور ـ الذي كان في عمري نفسه ـ وتربي في السليمانية في شمال العراق. وقد اشتهر في البداية كمقاتل في حرب العصابات التي كان يقودها وقتئذ قائد الأكراد مصطفي برزاني. يقول البعض إن عائلته تنتمي إلي قبيلة النُعيمي العربية. قد يكون جمال العراق في هذا الخليط الرائع للقوميات المتآخية افتراضا. وعلي أي حال فقد غَيَّرَ الجهة التي كان ينتمي إليها وهو طبيب شاب وأصبح مديرا للمستشفي الحكومي الجمهوري الموجود في بلدته.

وقد حدثت محاولتان لاغتياله من قِبَل جماعات المقاومة الكردية. حتي أنه أصيب في المحاولة الثانية بجروح بالغة في الصدر بعد أن أُطلقت عليه عدة أعيرة نارية من مدفع كلاشينكوف. ولذلك قرر بعدها الحياة في بغداد الأكثر أمناً. ثم عُيِّن بعد ذلك مستشاراً طبياً للرئيس، وحصل بعدها علي مقعد في البرلمان، وبعد فترة قصيرة قضاها كوزير للشؤون الاجتماعية عينه صدام وزيراً للصحة.

ولم تنهل الإهانات والمضايقات علي رجل في حكومة صدام مثلما انهالت علي هذا الوزير.

قصة المصعد
وكما توقعت، لم يمض وقت طويل حتي وقع مدحت مبارك في مشكلة كبيرة بسبب المصعد الموجود في مستشفانا. اتصل بي الوزير وطلب مني الحضور إلي مكتبه علي الفور، ولم يذكر لي الموضوع الذي يريدني بشأنه. وفهمت أن المشاكل قد بدأت، لأنه اتصل بي في السابعة صباحاً، وعلي غير العادة، من مكتبه وكان ذلك بعد يوم واحد من زيارة مستشار عدي العسكري لي.

كان الوزير مكفهر الوجه ويبدو عليه الإنهاك، عندما دخلت عليه قال لي: «لقد علم صدام بموضوع المصعد».

لا أعرف كيف، لكنه حكي لي كيف زاره ثلاثة من مسؤولي ديوان الرئاسة لاستجوابه حتي ساعة متأخرة من الليل. أعطوه خطاباً كتبه الرئيس بيده يطالبه فيه بشرح كيف يمكن لوزير يثق به الرئيس أن يخطر بباله أن يعطي لمستشفي خاص مصعداً مملوكاً لوزارة الصحة.

أعطاني مبارك الخطاب وكان فيه كلمات كثيرة مشطوبة مما يدل علي أن صدام قد كتبه وهو في ثورته.

كان صدام يسمح لقصي وعدي وباقي حاشيته بأن يفعلوا ما بدا لهم في ظل الاقتصاد المتهالك والفساد العام، لكنه كان يرفض أن تحدث سرقات واضحة من الأموال العامة.

سألني الوزير بصوت خافت:«بماذا أرد علي الرئيس»؟

فأوضحت له بداية أنني لست الشخص الذي أخبر صدام بموضوع المصعد، وذلك لأتجنب أي شك قد يساوره. والحقيقة إنني للآن لا أعرف من قام بإخبار صدام عن هذا الموضوع. فالرئيس له مصادره التي تمده بالمعلومات في كل مكان، ولذلك فقد كان من المتوقع أن يصل إلي مسامعه موضوع المصعد، وأن يهتم به كما يهتم بكل آمال الأمة وآلامها، فهل يسمح الرئيس بأخذ مصعد من مستشفي حكومي لينقل إلي مستشفي خاص.

تنصت علي المكتب
ولأني أعرف أنه يتم التنصت علي مكتب الوزير فلم يكن هناك مانع في أن أبالغ بعض الشيء.

واستطردت في كلامي ذاكراً أن المصعد معطل عن العمل منذ أكثر من عشر سنوات.

لقد غُيِّر اسم مستشفي الواسطي سنة 1996 إلي مركز صدام لجراحات التجميل، وكان المركز علي بعد ثلاثمائة متر من مركز آخر رمادي اللون، مكون من ثلاثة طوابق بها عدد قليل جداً من النوافذ الصغيرة، وكان ممنوعا الاقتراب منه لأنه مبني المخابرات.

وكلنا كان يعرف ما يحدث هناك.

أثناء الهجوم الجوي علي بغداد في فبراير 1991 قصف الأميركان هذا المركز الذي ربما كان أسوأ معتقل تعذيب أنشأته الحكومة العراقية. ولأن هناك أرضا غير مبنية بين ذلك المركز الذي دُمر تماماً وبين مركزنا، فقد تعرض مركزنا لأضرار كبيرة. وكانت أبواب المصعد هي أكثر ما تعرض للتلف.

وأثناء الفوضي التي حدثت في أعقاب الانفجارات تعرض المركز للسرقة، وكان من بين ما سُرق لوحات التشغيل وأجزاء مهمة من المصعد. وفي السنوات العشر التي تلت ذلك كان شراء أبواب جديدة وقطع غيار للمصعد في ذيل قائمة مشتريات وزارة الصحة. وكان هذا هو السبب في بقاء المصعد في مستشفانا.

اقترحت علي الوزير أن يخبر الرئيس بالحقيقة وهي أن المصعد معطل وأن الوزارة بصدد شراء مصعد جديد: «لذلك فلم أر مشكلة في أن أترك المصعد القديم المعطل لعدي، طالما يحتاج هو إليه».

ورأيت كيف تعلق مبارك ذلك الحائر والقلق بهذا الاقتراح وكأنه «غريق يتعلق بقشة». فربما يرضي صدام بهذه الإجابة.

وكان الأمر الأسوأ بالنسبة إلي الرئيس هو اكتشافه أن المصعد لم يكن هو الشيء الوحيد الذي أراد عدي الاستيلاء عليه من وزارة الصحة ليستكمل تجهيز مستشفاه الخاص في أسرع وقت، فقد طمع عُدي ليس فقط في المصعد ولكن أيضاً في كل شيء آخر احتاج إليه من مستشفيات بغداد الحكومية. كان الأطباء الذين عينهم يكتبون له قوائم بما يحتاجونه ثم يقوم مكي حمودات بالاستيلاء عليها وجلبها إلي مستشفي الحيدري.

كان هذا أسهل الحلول بالنسبة إلي عدي، كي لا يضطر أن ينتظر طيلة الشتاء والربيع حتي يتمكن من الحصول علي ما يحتاج إليه بالطرق الرسمية.

مندوب عدي
كان اللواء مكي يقوم بتفتيش المستشفيات في سرية تامة، وكان علي الأطباء والممرضات أن يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يرون مندوب ابن الرئيس وهو يستولي علي معداتهم الطبية وأجهزتهم الضرورية والأدوية، وحتي أدوات العمليات الجراحية. وبعدها كانوا يضطرون إلي العمل بما تبقي لهم بعد هذا السطو علي مستشفياتهم.

ولم يكن من السهل تعويض ما سرقه عدي، فقد كان طلب معدات أو تجهيزات جديدة بمثابة كابوس طويل ومخيف يؤرق مديري المستشفيات، علي الرغم من أن برنامج «النفط مقابل الغذاء» الذي طبقته الأمم المتحدة كان لابد أن يوفر لنا مثل هذه الاحتياجات، ولكن الواقع العملي كان علي خلاف ذلك فقد كانت البيروقراطية العراقية التي يجب أن تفحص مطالبنا كعادتها بطيئة ورديئة. ولم تساعدنا بيروقراطية العقوبات الاقتصادية هي الأخري. وأسوأ ما في الأمر هو عدم الاكتراث بالآراء والأحكام الطبية عند الشراء، لكن كان الأهم دائماً هو اختيار الموردين الذين يدفعون أعلي العمولات لعصابات الذئاب.

تولي صديقي الدكتور عدنان الناصري لفترة قصيرة إدارة مكتب شكاوي الرئيس، وكان بإمكان أصحاب الشكاوي أن يكتبوا له أو يتصلوا به هاتفياً ليحكوا له مشاكلهم شخصياً. وربما أبالغ إذا قلت ان مكتب الشكاوي هذا كان له تأثير كبير في حل المشاكل.

تنصت في كل مكان
ولكن من الغريب أن وصول مشكلة المصعد إلي مكتب الشكاوي وقد كان صديقي أحد الثلاثة الذين استجوبوا الوزير طوال الليل. وطلب مني الدكتور عدنان أن أحضر إلي مكتبه ليحصل مني علي بعض المعلومات عن الموضوع. ولما كنت أعلم أن مكتبه يتم التنصت عليه هو أيضاً، لذا فقد قلت له ما قلته نفسه لوزير الصحة.

وضع أمامي ورقة صغيرة علي المكتب مكتوب فيها: «عندي صورة من خطاب وجهه صدام لعدي بخصوص المصعد». وكانت عادتنا في المكاتب الحكومية في بغداد عند الحديث في أمور حساسة أن نكتب وريقات صغيرة لبعضنا البعض لنتبادلها، وذلك من باب الاحتياط.

وبدأت أقرأ المكتوب في الورقة: «كيف تجرؤ وأنت ابني علي أن تأخذ من مبني حكومي عام شيئا لتضمه إلي ملكيتك الخاصة؟ إن العمل في مجال المستشفيات ليس مجال عملك. كيف تجعل طبيبة تدعي أنها اشترت مستشفي الحيدري، بينما يعرف الجميع أنك أنت صاحب هذا المشروع؟ يتعين عليك في المستقبل أن تتقدم للحصول علي موافقة وترخيص بالعمل وامتلاك مستشفي، مثلك في ذلك مثل أي مواطن عراقي».

ظهر واضحا في تلك الرسالة أن صدام كان في غاية الانزعاج من عدي. كتب له: «ينبغي أن تعرف أنك بهذه الأفعال لا تسيء إلي نفسك وحسب بل تسيء إليّ وإلي سمعتي. فإنك لو لم تكن ابن صدام حسين ما كان في استطاعتك فعل ما تفعل! إن الناس سوف يتكلمون عني بالسوء». طلبت من عدنان الناصري نسخة من هذه الرسالة، لكنه رفض لخطورة ذلك علي نفسه، وكان محقا في ذلك.

وكان الأب وابنه يتواصلان عادة عن طريق الخطابات، ويتجنبان الكلام في الهاتف لأنهما ينطلقان من أن مكالماتهم سيتم التنصت عليها. وفي المعتاد كان قصي وعدي يضطران إلي تحديد مواعيد مع أبيهم عن طريق سكرتيره الخاص والرجل القوي عبد حمود. ولم تكن هناك علاقة يومية بينهما وبين أبيهما، لذا لم يتبق أمامي بعد رفضي لطلب مستشار عدي العسكري وبعد أن تلقي عدي من أبيه خطاب تأنيب لهذا السبب إلا أن أنتظر انتقام عدي مني.


انتقام عدي في «بابل»
لذلك فلم اندهش عندما حضر إلي المستشفي بعد ثلاثة أيام اثنان من المحررين الصحفيين ومصور من العاملين في جريدة بابل التي يمتلكها ويرأس تحريرها نجل الرئيس.

بالطبع كان أول ما فعلوه هو تفقدهم للمصعد التعس والتالف، كما قاموا بتصويره من كل الجهات ثم جاءوا إلي مكتبي، وطلبوا مني التعليق علي وضع المصعد المعطل الذي اعتبروه فشلا إداريا سببه الإدارة السيئة للمستشفي التي لم تتمكن من عمل أي شيء لإصلاحه علي مدار عشر سنوات.

وأكدوا لي أنهم سيقومون بنشر هذا المقال في جريدتهم.

وأخبرتهم أني متشوق لقراءته وشكرتهم لاهتمامهم بهذه المشكلة وأن المستشفي يعتمد علي جهودهم الصحفية التي ستعود علينا بالفائدة بكل تأكيد:«لقد كتبنا مرات كثيرة لا حصر لها لوزارة الصحة وطلبنا منهم إمدادنا بالأموال وقطع الغيار اللازمة لعمل الإصلاحات ولكن حتي الآن دون جدوي، كما رأيتم بأنفسكم».

ثم شكرني المحرران والمصور وخرجوا، وسألت نفسي ما إذا كانوا سيقومون فعلاً بنشر هذا المقال، لأنهم إذا فعلوا فسوف أفقد عملي كمدير للمستشفي، فمعظم من هاجمتهم هذه الصحيفة واتهمتهم بالتقصير فقدوا أعمالهم سواء كانوا وزراءً أو مثلي في ذيل السلم الوظيفي.

وقد كانت لي مشكلة سابقة مع جريدة بابل في الفترة بين نهاية عام 1992 وبداية عام 1993 عندما دعاني عدي ذات مساء وحدثني في أمور كثيرة وامتدح إنجازاتي كطبيب وكفنان وطلب مني أن أكتب في جريدته كلاماً فيه إساءة لبعض الوزراء وأصحاب المناصب العليا في حزب البعث، وفي المقابل وعدني أن تقوم الجريدة بامتداحي وتمجيدي ونشر صورتي بالحجم نفسه الذي تنشر به صورة صدام علي صفحة الغلاف.

شتم المسؤولين
فأجبته بأنني لا أعرف تلك الشخصيات التي ذكرها ولذلك فلست مؤهلاً لهذه المهمة. ولكنه أكد لي أن ذلك لا يعد مشكلة علي الإطلاق، وأضاف قائلاً:

«سنمدك بكل المعلومات اللازمة».

علي الرغم من ذلك أعدت عليه رفضي للعرض وقلت له: «أنا لست موهوباً في الكتابة».

ولا أجــد مسوّغا لأن أسمح لنفسي بشتم المسئولين علي صفحات الجرائد من دون مبرر.

وبعدها بخمسة أيام نشرت الجريدة صفحة كاملة عن: مستشفي الدكتور علاء بشير الخاص في بغداد. ذكروا في المقال أن الدكتور علاء يتربح من مرضي جراحات التجميل ويطلب منهم أتعابا مبالغا فيها واتهموا سكرتيرتي بالاحتيال وبأنها تقنع المرضي الذين يقعون في مخالبنا بعمل صور بالأشعة وتحاليل دم، علي الرغم من أن معظمهم لا يكونون في حاجة الي ذلك. بالإضافة لذلك فقد اتهمونني بالعجرفة والغرور والوقاحة. وفي ختام المقال طالبوني ألا أنسي أنه حتي فرعون قد مات وأنه لم يأخذ معه شيئا مما جمعه من المال ومن عرض الدنيا.

حق الرد
وما إن نزلت الجريدة إلي الأسواق حتي أُوقف توزيعها. وفي اليوم التالي تلقيت اتصالاً من وزير الثقافة حامد حمدي الذي أخبرني أن لديه تعليمات بأن يتيح لي إمكان الرد. يمكنني أن أكتب ما شئت وسيظهر في جريدة اليوم التالي ويذاع في التلفاز. ولكني رفضت، فما كُتب في الجريدة لا يستحق الرد. وقلت له:

«دعهم يقولون ويكتبون ما يشاءون، فستثبت الأيام من كان منا علي حق ومن كان الكذاب. والناس يعرفونني ويعرفون أن هذا المقال مجرد هُراء. ومن لا يعرف ذلك الآن، فسيعرفه بعد فترة».

وبعد أسبوع قابلت ساجدة أم عدي واعتذرت لي علي ما جاء في المقال وأخبرتني أن صدام غضب جداً عندما قرأه وقالت إنهم يأسفون جميعا لما حدث، وأن عدي نفي عن نفسه أي مسؤولية وأخبر عائلته أن المقال تم تحريره ونشره دون علمه أو اشتراكه.

ولم يظهر أي مقال عن المصعد المعطل أو العمل الرديء في مركز صدام لجراحات التجميل مرة أخري، مما أصابني بالدهشة. وعلي الرغم من علمي بأن صدام مازال يكن لي الاحترام والتقدير إلا أن عدي كان يتمادي في تنفيذ رغباته رغم أنف أبيه. وكنت أشعر أن الرئيس لا يجرؤ علي وضع حد لحملات عدي الانتقامية خوفاً من أن يفلت زمام جنون عدي. كان نجل الرئيس يسيئ استغلال حرية الصحافة من خلال جريدة بابل وعن طريق محطة تليفزيون الشباب التي كان يمتلكها. وفي أحد الأيام وأثناء إجرائي لعملية جراحية، إذا بمُعد برامج من محطة الشباب يأتي إليّ في العيادة ويطلب مني أن أذهب معه لتصوير برنامج حواري.

فأجبته: «لا أستطيع الحضور معك فغرفة الانتظار فيها مرضي كثيرون ولا يمكن أن أرسلهم إلي منازلهم الآن».

فقال لي: «يجب أن تحضر وإلا فسيغضب عدي فهو مُصِر علي اشتراكك في هذا البرنامج».

فقلت له: «ولكنني حتي لا أعرف موضوع البرنامج ولست مستعداً له. يؤسفني أنني لن أستطيع الحضور».

فسألني: «هل يمكنك أن تتصل بالمنتج»؟

فأجبته: لا، لن أفعل. اتصل أنت به وبعُدي وأخبرهما أنك لم تجدني وسأغلق أنا العيادة وأذهب إلي أي مكان لا يجدانني فيه.

خبر كان
كنت أعرف هذا الشاب، فهو ابن صديق لي يعمل مهندسا معماريا. قلت له: أبوك صديق عزيز علي، والآن ستفعل ما أخبرتك به. فوافق علي مضض وخرج من عندي. ولم تمض دقيقتان إلا وكان عندي مرة أخري قائلاً أرجوك يا دكتور علاء لا تتسبب لي في مشكلة، إذا اكتشفوا الأمر سأكون أنا في خبر كان.

«لا تخف، لا أحد غيرنا نحن الاثنين يعرف بالأمر».

«الله مطلع علينا ويعرف كل شيء، أرجوك اتصل بالمنتج».

مقابلة بالقوة
اتصلت به فقال لي: «عدي يجلس بجواري وطلب شخصياً اشتراكك في البرنامج مع مجموعة من الضيوف وأنا أخشي أنك إذا لم تحضر فسوف يقولون عنك أشياء كثيرة لن ترضيك».

كنا خمسة من المشاركين في البرنامج، مطربة أردنية وزوجها، مطرب عراقي وواحد من وزراء صدام وكنت أنا جالساً بجوار المذيعة وهي شابة بالغة الجمال، ودون أن يلاحظ أحد دفعت إلي بالورقة التي كُتبت فيها الأسئلة وأرادت من ذلك أن تُعلمنِي أنها لم تكن فكرتها هي ولا الأسئلة من إعدادها.

كان السؤال الأول: لماذا لا تحب التعاون مع محطتنا؟

وبعد أن أجبت عن السؤال بأنها ليست مشكلة تماماً بالنسبة لي أن أظهر في برامج عدي، استكملت أسئلتها التي كانت علي غرار السؤال الأول، مثلاً لماذا أتصرف وكأني أفضل من الآخرين، لماذا أنا دائماً عنيد وهكذا؟ وتحول الموضع برمته إلي حرب كلامية. وعندما انتهت الحلقة، اقتربت مني المذيعة وهمست إلي: «أرجوك أن تطلب مني اصطحابك إلي الخارج. وبدا عليها الخوف والهلع. غادرنا الاستديو معا واصطحبتني إلي الباب الرئيسي حيث انتظرها معد البرامج الشاب في سيارته القديمة ماركة فولكس فاجن، وتركنا المكان معاً، كان هذا الشاب هو خطيب المذيعة. ونحن في السيارة شكرانني وقالا لي أن عدي طلب مقابلة المذيعة الحسناء وحدها بعد التصوير في حجرة خلفية. وبعد شهر تزوجا وهربا إلي الأردن.




اضافة رد مع اقتباس
  #15  
قديم 03/10/2004, 11:18 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420



############## الحلقة الأخيرة: ##############

قصي ورغد يطلبان «تعديل» أنفي ابنتيهما عشية الـحرب
برزان قال لي:
حمود وعصابة الأربعة كلهم أشرار ومستشارون فاشلون لصدام


الانهيار
في السادس من يناير عام 2002 تم الاحتفال بيوم الجيش في عرض عسكري ضخم أراد به صدام أن يرِي العالم والعراقيين أنه مازال لديه جيش حديث وقوي. تجمع وجهاء البلد والمتفرجون المتحمسون في ميدان النصر بينما كان الآلاف من الجنود يمرون بالدبابات والسيارات المصفحة وسيارات النقل المحملة بالصواريخ أرض جو من تحت النصب التذكاري الذي كان يمثل سيفين متقاطعين ويذكر بالنصر في الحرب علي إيران وبالطبع كان التلفاز ينقل استعراض القوة هذا مباشرة ولم يعرض التلفاز الفوضي المرورية التي لم يسبق أن حدث مثلها في بغداد. ازدحمت تقريبا جميع الميادين والتقاطعات بعربات الجيش التي لم تستطع الوصول إلي ميــدان النــصر وتعطلت الواحدة تلو الأخري.. مئات السيارات توقفت عن العمل.

فضيحة مضحكة
وإذا كان هناك من يتوهم أن العراق كان لايزال بخير فقد تبددت جميع الأوهام في «يوم الجيش». كل بغداد كانت تتحدث عن هذه الفضيحة، وأطلقت النكات وضحكنا عليها.

كانت مظاهر الانهيار تطالعنا واضحة في كل مكان، ففي أماكن متزايدة من بغداد بدأت مياه الصرف الصحي في ملء الشوارع من الرصيف إلي الرصيف. كان الماء يصعد من الأرض ولا أحد يعرف من أين.

كان طفح مياه الصرف الصحي يحدث دائما بالطريقة نفسها فقد كان يصيب الحي تلو الآخر بالتناوب وعندما استقصيت هذه الظاهرة عرفت السبب: لقد أصاب جنون الفساد قطاع الصرف الصحي ببغداد أيضا.

عندما تطفح مياه الصرف الصحي في مكان وتملأه كان الناس يذهبون للمهندس المسؤول في الإدارة المختصة، وهناك كان الفني المسؤول متواجد دائما وفي مقابل رشوة مناسبة يقوم بتحويل مياه الصرف الصحي إلي حي سكني آخر.. كانت هذه تجارة مربحة.

فساد في كل مكان
امتد الفساد في كل المجتمع العراقي ولم يتوقف امتداده حتي في الوسط الأكاديمي فقد ازدادت الحالات التي يأخذ فيها المدرسون والأساتذة ــ الذين لم تعد الحكومة قادرة علي دفع رواتبهم ــ الرشاوي من تلاميذهم وطلابهم من أجل مساعدتهم علي اجتياز اختبارات القبول أو الامتحانات. بدأت الجامعات والمعاهد العليا في العراق التي كانت تعمل علي مستوي عال وتبعاَ للنموذج الإنكليزي، بدأت مثلها مثل كل شيء في المجتمع العراقي في الانهيار وقد ساهمت الطبقة الحاكمة في هذا الانهيار، فقد ظهرت علي كثير منهم فجأة عقد الإحساس بالنقص لأن الأعضاء الشباب في حزب البعث بدأوا في الترقي. وكان معظمهم من الحاصلين علي الشهادة الجامعية ودرجة الدكتوراه من جامعة بغداد. وكان معظم المقربين من صدام من الحاصلين علي شهادة إتمام التعليم الابتدائي أو الثانوي علي الأكثر.

وكان الحل بالنسبة لهم هو الدراسات التكميلية.

وبالتدريج بدأوا في الحصول علي جميع الشهادات والدرجات العلمية، خصوصا عدي استطاع أن يتفوق في ذلك، فقد اجتاز كل الامتحانات بهمة ونشاط وحصل علي درجة الدكتوراه وسط تهليل المشجعين وضحكات الشعب.

وتبعه عبد حمود وجمال مصطفي زوج حلا ابنة صدام الصغري ثم سبعاوي الأخ غير الشقيق لصدام ثم ابناؤه الثلاثة استطاعوا أيضا في وقت قياسي الحصول علي درجة الدكتوراه في علم القانون أو الاقتصاد السياسي.

كما تم ترتيب شروط خاصة في كلية العلوم السياسية لتهيئة الفرصة لكبار رجال المجتمع من أجل تحسين مؤهلاتهم الدراسية.

وكان يتم عادة الإعلان عن نتيجة الامتحانات قبل عقدها، ولأنهم كما ذكرنا من كبار رجال المجتمع فلم يكن من الممكن أن يجلس الممتحن مع باقي أقرانه للإجابة عن أسئلة الامتحان وإنما كانوا يجلسون في مكتب عميد الكلية مع اثنين من الأساتذة المكلفين بالإشراف عليهم وعند الضرورة بمساعدتهم.

أما المدرسون الجامعيون الذين كانوا يرفضون الاشتراك في هذه العملية التعليمية الخاصة فكانوا يهددون بالطرد من عملهم وفي بعض الحالات بالسجن.

ابن عبد حمود
أما في كلية الطب التي كنت أستاذا فيها فلم يكن الوضع لحسن الحظ بهذا السوء وبالرغم من ذلك فقد وصل إلينا مهرجان الفساد الذي أحاط بالرئيس: كان لدي عبد حمود الذي حصل علي الدكتوراه في العلوم السياسية منذ فترة وجيزة الرغبة في أن يري ابنه طبيبا وفي الظروف الطبيعية لم يكن ابنه ليصبح طبيبا أبدا. كان خضر الجنابي المشرف عليه طبيباَ مساعدا في مقتبل العمر، وكان يعمل في مستشفي بغداد وفجأة سطع نجمه وترقي في المجتمع الأكاديمي بسرعة خاطفة لم نرها منذ حصول عدي علي درجة الدكتوراه في العلوم السياسية علم الاقتصادي السياسي في المؤسسة التعليمية نفسها. في غضون سنتين تحول الطبيب المساعد الجنابي إلي طبيب أول ثم إلي عميد الكلية.

ولولا دخول الأميركان العراق وسقوط الحكومة في شهر إبريل 2003 لكان عمر عبدالآن حاصلا علي شهادة في الطب وبأعلي التقديرات بلا شك.

أنا لا أشك في أن صدام كانت لديه الرغبة في وضع حد لهذه المأساة التي انتشرت في الجامعات والمعاهد العليا. ولكن وضعه كان يزداد انعزالا ولم يعد قادرا علي إجراء حملة تطهير بين رجاله المخلصين جدا، الذين كانوا في الوقت ذاته فاسدين وعاجزين.

السيئ والجيد
ولأنه كان يخاف علي أمنه الشخصي بشكل مرض فلم يكن باستطاعته تعيين أناس جدد يكونون مناسبين لشغل المناصب القيادية ولم يجرؤ علي التخلص من الأوغاد الذين نسجوا حوله خيوطهم. كان دائما يقول: «شخص سيئ تعرفه خير من شخص جيد لا تعرف عنه شيئا».

وقابلته في نهاية شهر يناير من عام 2002 عندما احتفلت اللجنة العليا للتعليم والتدريب الطبي التي كنت عضوا فيها باليوبيل العاشر.

وكان الدكتور همام عبدالخالق وزير التعليم قد رجاني أن اعد تمثالا ليقدمه لصدام في الحفلة كتعبير عن الشكر والعرفان نظير دعمه لعمل اللجنة.

وفرح صدام بالتمثال جدا.

وسألني: «كيف تسير التوسعات في مركز جراحات التجميل»؟

فأجبته: «علي أفضل وجه». بالرغم من علمي بأن الوضع كان عكس ذلك.

كنا قد شرعنا في التوسعات بناء علي مبادرة من صدام قبل ست عشرة سنة، عندما أعجب وتحمس لعملنا الذي أديناه في مستشفي الواسطي أثناء الحرب بين العراق وإيران وعلاجنا لأعداد كبيرة جدا من الجنود والضباط المصابين. فقد رأي صدام وقتها أننا بحاجة إلي مبان أحدث لنتمكن من تطوير مهاراتنا في مجال جراحات التجميل.

ننتظر التكييف والمصاعد
ولكن أعمال البناء توقفت بعد الحرب علي الكويت بعد تطبيق العقوبات الاقتصادية علي العراق. كان حسين كامل هو رئيس اللجنة وقتها وكانت الأولوية بالنسبة له هي استيراد ما يحتاجه الجيش والتصنيع.

ولم يفكر أبدا في شراء ما نحتاجه من جهاز تكييف مركزي أو مصاعد.

وكل ما قاله لي عندما توقفت أعمال البناء: «قريبا سيبدأ العراق في إنتاج مثل هذه الأشياء».

وكان صدام قد سأل في عام 1996 عما إذا كان العمل يتقدم وأجبته بأننا لا نزال في انتظار التكييف والمصاعد وغضب الرئيس جدا وسألني «لماذا لم تخبرني من قبل»؟
فأجبته: «لأني أعرف أنك مشغول بما هو أهم».

«لا.. هذا هراء. إن استكمال العمل في هذا المركز له أهمية كبيرة بالنسبة للأمة كلها. سأهتم بهذا الأمر بنفسي». وكتب خطابا موجها للوزراء المعنيين.

وعندما اجتمعت اللجنة العليا للتعليم والتدريب الطبي في ذلك اليوم من شهر يناير عام 2002 لم يكن قد تغير شيء في وضع المركز الطبي، فما زال المبني غير المكتمل بطوابقه الخمسة واقفا كما كان عندما توقف العمل فيه سنة 1991.

بعد الاجتماع جاءني الرئيس وأمسك بذراعي وقال: «لقد أجبت عن سؤالي عن المركز الطبي وقلت ان العمل يتقدم ولكنك لم توضح ما تقصد».

كان صدام قد أرسل حراسه إلي هناك قبل أيام ليقفوا علي حقيقة الأمر وقد أخبروه أن العمل بالمركز متوقف تماما.

فقلت له: «بالنظر للظروف الصعبة التي تمر بها بلادنا فأنا أظن أن إجابتي كانت سليمة».

معاقبة أحد ما
فلم يكن بإمكاني أن أشتكي للرئيس من كل ما يواجهنا من مشاكل لأنه كان سيبحث عن أي مسؤول في الهيئات الحكومية ليعاقبه، وبالتالي كان سيعاقب أحدهم وربما بغير ذنب. وكانت العقوبة في أفضل الأحوال فترة سجن طويلة.

وعندما كان الرئيس يغضب كان يتحول إلي خطر علي حياة الآخرين.

قال لي صدام: «اسمع يا دكتور، إذا كنت تريد أن ينتهي العمل في المركز بسرعة فعليك أن تذهب إلي المسؤول في مكتبه وتجذبه من رقبته وتضرب به الحائط ثم تطلب منه ما تريد. إذا بقيت مهذبا فلن تصل إلي شيء».

فأخبرته أنني أريد أن ابذل قصاري جهدي عن طريق القنوات الشرعية وقلت له:

«إذا ظهرت مشاكل لا أستطيع التغلب عليها فأنا أعرف أنني يمكنني اللجوء إليك» وكان الدكتور همام عبدالخالق سامعا لحديثنا، واستأذن صدام في أن يضيف شيئا: المشكلة هي أن تصورات الدكتور علاء وطموحاته أعلي بكثير من قدرات وزاراتنا. فنظر إليه الرئيس وقال:

«هل يجب إذاً أن نطلب من الدكتور علاء أن يستسلم، فقط لأنكم لا تفهمون طلباته»؟

ثم نظر إلي سكرتيره عبد حمود الذي كان يسحبه وراءه دائما وقال له:

«أصدر لجميع الوزارات والإدارات تعليمات مني ومن مجلس قيادة الثورة بأن يتعاونوا مع الدكتور علاء لإنهاء العمل في المركز».

دون فائدة
وأضاف الرئيس أن عبد حمود سيهتم شخصيا بالمشروع لذلك يجب عليَّ أن أكون علي اتصال مباشر معه.

وقبل أن يذهبوا أخذني حمود بعيدا عن الآخرين وقال لي:

«من الأفضل ألا تتصل بي شخصيا لأنني أكون عادة مشغولا جدا. اتصل بأحد المعاونين لي إذا صادفتك مشاكل».

وكما توقعت لم ينته العمل في المركز أبدا، وكل اتصالاتي بمعاوني حمود بقيت بلا فائدة.

تبعا للمصادر الرسمية كان قطاع البحث العلمي والتنمية يتطور بشكل كبير، فقد كان صدام يوزع الأوسمة الذهبية والفضية بكل سخاء علي الباحثين والعلماء الذين تميزوا بأعمالهم الفريدة.

وفي الليلة نفسها التي احتفلنا فيها باليوبيل العاشر قلدني الرئيس ميدالية ذهبية تكريما لي علي مجموعة من المقالات التي نشرت لي في واحدة من أشهر المجلات العلمية الطبية المختصة بجراحات التجميل.

كان عدد الذين كرمهم طارق عزيز مائة وعشرين شخصا. كان من بينهم اثنان من العلماء الذين تجاذبت معهم أطراف الحديث وأخبراني أنهما من معهد الأبحاث الذرية. وانتهزت الفرصة وسألتهما ما إذا كانت الإشاعة التي تتردد حول أن صدام يعمل علي إنتاج أسلحة ذرية صحيحة.

فأجابني أحدهما: «هذه الاشاعة ليس لها أي أصل من الصحة. لقد توقف هذا المشروع منذ سنوات عديدة. ولكن بعض الزملاء يكتبون تقارير وبرامج تطوير مطولة من أجل الحصول علي الشهرة أو علي بعض العلاوات».


جوائز بالجملة
كان مجموع الجوائز أربعين ميدالية ذهبية وثمانين ميدالية فضية ومبلغ 250000 دينار لكل واحد منا وكانت قيمة المبلغ وقتها حوالي مائة دولار أميركي.

وكانت أعلي جائزة يمكن لأحد أن يكرم بها هي جائزة صدام التي بدأ الرئيس سنة 2002 في منحها. وقد حصل عليها حوالي ستة أو سبعة أشخاص، كنت من بينهم وكانت الجائزة تمنح نظير «الخدمة الفريدة والممتدة للشعب».

وكانت أسباب المنح التي أعلنتها اللجنة هي عملي كجراح تجميل ومدير لمستشفي الواسطي الذي تغير اسمه سنة 1996 إلي مركز صدام لجراحات التجميل.

ولكن الرئيس تدخل وغير اسباب منحي الجائزة وكتب:

يمكن لأي شخص أن يقوم بإنجازات فريدة في مجال الطب ولكن من النادر جدا أن يقوم أحد بإنجاز متميز في مجال الفنون. ولذلك فقد استحق الدكتور علاء الجائزة بصفته «فنانا وليس كجراح تجميل». وطبقا للوائح كانت تمنح جائزة صدام مرة واحدة فقط لنفس الشخص، لذلك فقد دُهشت عندما حصلت عليها مرة أخري في بداية مارس 2003 قبل الحرب بأسابيع قليلة. كان صدام قد قرر منحي الجائزة بشكل استثنائي وكان عددنا هذه المرة قليلا جدا، تلقينا جوائزنا لخدمتنا للشعب العراقي، وهذه المرة تم تكريمي كطبيب.

100 في المائة
ولم أدر أبدا المبلغ المخصص لهذه الجائزة. وكان من المفترض أن يحدد صدام مبلغ الجائزة ولكن جنود الغزو الأميركي عاجلوه، ولم أحصل لا أنا ولا الآخرين علي جائزة مادية أو ميدالية أو شهادة تقدير تذكرنا بتكريمنا من قبل رئيس نجح في الانتخابات سنة 2002 بنسبة 100%، ليبقي في منصبه لسبع سنوات أخري.

وكما أعلن عزت إبراهيم الدوري المسؤول عن الإشراف علي عملية الاستفتاء فقد كانت نسبة المشاركين في الانتخابات هي أيضا 100%.

في السادس من يناير تم إلغاء العرض العسكري الذي يقام في عيد الجيش.

فقد اصبح من الواضح لكل مواطن عراقي عاقل أن العد التنازلي للحرب ضد أميركا وبريطانيا قد بدأ وأن العراق ليس لديه أي قدرة علي المقاومة. وبينما كان المفتشون يبحثون بلا جدوي عن أسلحة الدمار الشامل في العراق التي لم تكن بحوزة صدام، وبينما كانت التهديدات تنهال علينا من واشنطن ولندن، إذا بقصي يطلبني إلي بيته. ابنته ذات الخمس عشر سنة لم تكن راضية عن أنفها، وطلبت مني الأسرة أن أعدله.

تعديل الأنوف
بينما تدق طبول الحرب علي مشارف العراق كانت عائلة صدام منشغلة بمثل هذه الأمور. وعلي أي حال فقد كانت عملية بسيطة، قد أجريتها آلاف المرات في مستشفي المنصور من قبل.

وفي اليوم التالي طلبت إلي بيت رغد ابنة صدام زوجة حسين كامل فقد كانت ابنتها، حفيدة صدام ذات الستة عشر ربيعا، حرير، تريد تجميل أنفها هي الأخري.

وكأنهم لم يكتفوا بذلك.. فقد اتصلت بي بعدها أخت زوجة قصي للسبب نفسه. وفي الخامس عشر من فبراير كنت قد انتهيت من الثلاث عمليات.

وقد لفت نظري أن عائلة صدام لم تكن تدرك ما ينتظرها وما تعنيه الحرب وما ستجلبه عليهم. لم يكن تقييمهم للأمور سليما كما ظهر لاحقا فيما بعد.

في الثالث عشر من شهر مارس قبل بدء الحرب بأسبوع أجريت آخر فحص علي مريضاتي الثلاث. ولفت نظري اختفاء جميع النجف والأثاث الإيطالي من بيت قصي في الجادرية وبدا البيت شبه خال. كان للموت رائحة في ذلك المكان.

مصطفي ابن قصي
وكان قصي حاضرا عندما كنت أفحص ابنته، وبعد انتهائي من عملي دعاني لشرب القهوة معه، وكان ابنه الكبير مصطفي حاضرا أيضا. وكنا متفاهمين جدا، وكان يعطيني عند كل زيارة كمية كبيرة من الشوكولاته. كان مصطفي في غاية النشاط والحركة.

وعندما هاجمت قوات الاحتلال المكان الذي اختبأ فيه صدام بعد سقوط حكومته وبدأوا في إطلاق النار عليه وعلي عدي وقصي وابنه، قاومهم هذا الغلام ذو الثلاث عشرة سنة لأطول فترة ممكنة، ولكن لم تنفعهم كثيرا الأسلحة الرشاشة التي كانت معهم ضد نيران العدو المتفوقة.

كان قصي يرتدي بذلة صفراء أنيقة بخطوط بنية. ولم يبد عليه أنه في حالة جيدة وكان شارد الذهن. سألته عن حاله فقال انه كالمعتاد وقال: «عندما يتوقف الأساتذة والأطباء المتخصصون من جيلك عن العمل، فستحدث فجوة كبيرة». فقلت له:

«هذه الفجوة موجودة بالفعل» ثم ذكرته أن الحكومة قامت بتسريح أكثر من أربعين من المتخصصين والأساتذة في بداية الثمانينات لتعطي الفرصة لمجموعة من الأطباء الصغار أصحاب العلاقات بحزب البعث في الترقي السريع.

وقلت له: إن المشكلة لن تحل عندما نشغل المناصب المهمة بمن لا تتوافر فيهم المؤهلات اللازمة. افترض مثلا اني أطلب منك ترقية ضابط صغير ليصبح لواء ليقود فرقة أو لواء. فهل ستفعل ذلك؟

«هل تقصد تعيين عميد كلية الطب في جامعة بغداد»؟

فأجبته: «مثلا».

ارتكبنا أخطاء كثيرة
فقال لي: «ولكن حمود قام بتعيين ذلك العميد لأن ابنه كان في المرحلة النهائية من دراسته وكان من مصلحته أن يصبح المشرف عليه عميدا. ولم يكن همام عبدالخالق وزير التعليم العالي راضيا عما حدث».

نظر إلي قصي وقال: «أنت علي حق، لقد ارتكبنا أخطاء كثيرة، ونحتاج لفترة طويلة لإصلاح ما أفسدنا. وأظن أنه سيكون من الصعب جدا السيطرة علي ذلك الفساد الذي استشري في قطاع التعليم. سوف يكون الإنسان أكبر معضلة في عملية أي إصلاح بسبب الفساد الذي تعرض له.

أنا نفسي فكرت في وقت ما أن أحصل علي درجة الماجستير ولكني عدلت عن رأيي. إن كل ما يحدث في الجامعة ما هو إلا كذبة كبيرة. الامتحان الوحيد الذي أديته وما زلت فخورا بنجاحي فيه بامتياز هو امتحان الثانوية العامة لأنه لم يكن فيه أي غش أو تزييف».

ولم أر الابن الأصغر للرئيس بعدها أبدا.

ورجوته يوميا أن يأمر أحد رجاله بتوصيلي إلي بيت رغد لأفحص أنف ابنتها. وعلي الرغم من أن المسافة بين بيتها وبيت أخيها في الجادرية لا تتجاوز الخمسين مترا، إلا أنه كان من اللازم السير لمسافة كبيرة حول البيت للوصول لبيتها، ذلك لأن قصي كان قد أمر ببناء سور بين البيتين بعد أن هرب حسين وصدام كامل بأسرتيهما إلي الأردن في الليلة الموعودة من اليوم الحاسم سنة 1995.

قاد السيارة إلي هناك واحد من حراس قصي.

الحاشية تختفي
قال لي: «إن الموقف بات عصيبا.. عدد كبير من الحاشية اختفوا، إنهم يخشون الحرب».

كان بيت رغد أيضا شبه فارغ تماما وبالرغم من أنها كانت تبدو حزينة إلا أنها ابتسمت وهي تستقبلني وقالت: «لقد أقبلت علي بلدنا أوقات صعبة وعصيبة».

وتذكرت ما مرت به ابنة صدام بعد هروب زوجها إلي الأردن وكيف أن العائلة قتلته بعد رجوعه إلي العراق.

كان أنف ابنتها علي ما يرام.

وفي نفس اليوم زارني برزان، أخو صدام غير الشقيق، في مستشفي ابن سينا.

نقل مستشفي الرئيس من مكانه بالقرب من القصر الجمهوري خشية تعرضه للدمار إذا قصف القصر بالقنابل. لذلك فقد أخلي جناحاً كبيراً من مستشفي الكاظمية في بغداد ليتخذ من مستشفي ابن سينا مقرا له.

بدا علي برزان الاكتئاب، فلم يعد هناك شك في المصير الذي كان ينتظرنا.

ستعلن علينا الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا الحرب حتي ولو لم يشاركها فيها باقي القوي العظمي الممثلة في مجلس الأمن. وصدام لن يخضع لمطلب الرئيس الأميركي جورج بوش بمغادرة العراق هو وابناه ليقي بلاده ويلات الحرب والموت والدمار.

قال لي برزان: «لقد رأيت الليلة في المنام أنك غاضب مني ولذلك فقد جئتك لأسألك ما إذا كان هناك أي شيء حدث قد يعكر صفو مودتنا».

عصابة الأربعة
فابتسمت وقلت له: «أنا سعيد لأن هذا الحلم قد هيأ لنا فرصة للحديث». ثم ذهبنا إلي مكتبي.

«صدام هو السبب في كل شيء. ردود فعله علي قرارات مجلس الأمن كانت دائما خاطئة وبطيئة. عبد حمود وعصابة الأربعة: عزت إبراهيم الدوري وطه ياسين رمضان وعلي حسن المجيد وطارق عزيز، كلهم من الأشرار ومستشارون فاشلون. حاولت مرارا أن أقنعه بالابتعاد عنهم. هم وحدهم يتحملون الجزء الأكبر من المسؤولية في الحرب القادمة، ولكن صدام سيبقي هو دائما المسؤول عن عدم التخلص من ذلك الفساد الذي ألقي بنا إلي الهاوية.

حكيت لبرزان عن مقابلتي لأحد الضباط برتبة فريق أول وكان قد جاء إلي مستشفانا قبل عدة أيام لعلاج ابنته من بعض الجروح، وكان من الواضح أنه لم يلق الاحترام والمعاملة المناسبة من العاملين في الاستقبال.

لن يحارب أحد
عندما حضرت إلي المستشفي كان جالسا في غرفة الانتظار بالعيادة الخارجية وهو في شدة الغضب، لذلك فقد دعوته وابنته إلي مكتبي محاولا بذلك تهدئته، ولم يكن ذلك بالأمر الهين، فما لبث أن جلس حتي بدأ في صب الشتائم علي الحكومة: «لم أعد أحتمل أكثر من ذلك لقد أصبح الوضع سيئا لدرجة أنه لم يعد بمقدوري رعاية أسرتي». وأدهشني أن يقول لي كلاما مثل ذلك علي الرغم من أنه يراني لأول مرة، فقول شيء كهذا لأحد الغرباء قد يكلف المرء حياته.

سألته: «والآن تستعدون لحركة جديدة»؟

فأجابني: «ما هذا الكلام؟ لن يحارب أحد، إن الدفاع بدون قيادة، أم تعتبر أن عامل نظافة الدراجات البخارية السابق وبائع ألواح الثلج الذي جاء من تكريت قوادا»؟!

وكان يعني علي حسن المجيد ابن عم صدام وعزت إبراهيم الدوري نائب رئيس مجلس قيادة الثورة.

«هل تظن أن الجيش سيحارب تحت قيادة مثل هذه»؟

لم يعلق برزان علي ما حكيته له.

ثم قلت له: «أظن أن المآسي الحقيقة ستحدث بعد الحرب». وذكّرته بما حدث وما رأيته بعد الثورة وسقوط الملكية في الرابع عشر من يوليو سنة 1958 عندما قام الغوغاء بالتمثيل علنا بأجساد نوري السعيد وعبدالإله. وذكرت أيضا السرقات التي حدثت والدماء التي أريقت وقت ذلك الانقلاب كما حدث نفس الشيء بعد ذلك عند سقوط عبدالكريم قاسم سنة 1963 من المذابح وهتك الأعراض والممتلكات.

فنظر إلي برزان وسألني: «لماذا لا تحكي كل هذا لصدام»؟

فأجبته: «لأنه يعرف كل شيء».

يعدل صدر وحوض
كان وطبان أخو برزان قد أرسل لي قبلها بأيام داعرتين من صديقاته بصحبة أحد حراسه، أرادت أحداهما تصغير صدرها والثانية تعديل عظام الحوض حيث كانت فعلا كبيرة الحجم فأجبتهما أن الوقت غير مناسب تماما لأن البلد يستعد لخوض الحرب. وغضبتا جدا عندما أرسلتهما دون تلبية رغبتهما.

اتصل بي حارس وطبان بعدها بيوم قائلا: «إن رئيسي يسألك ماذا إذا كان من الممكن أن تساعد الفتاتين بالرغم من ذلك»؟

فأجبته: «لا».

لقد وصلت حياة وطبان إلي هذا المستوي المتدني فلم يعد يشغله غير الخمر والراقصات والداعرات. وكان هذا هو وضع سبعاوي أيضا، الأخ الأكبر لبرزان.

حكيت لبرزان عن صديقتي وطبان فقال لي:

«كنت دائما أقول إن ذلك الرجل لم يعد فيه أمل».

وعندما خرج برزان من عندي كانت حالته النفسية أسوأ مما كانت عليه قبل زيارتي.



أنتهى





اضافة رد مع اقتباس
   


إضافة رد


قوانين المشاركة
غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
غير مصرّح لك بنشر ردود
غير مصرّح لك برفع مرفقات
غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك

وسوم vB : مسموح
[IMG] كود الـ مسموح
كود الـ HTML مسموح
Trackbacks are مسموح
Pingbacks are مسموح
Refbacks are مسموح



الوقت المعتمد في المنتدى بتوقيت جرينتش +3.
الوقت الان » 06:25 PM.

جميع الآراء و المشاركات المنشورة تمثل وجهة نظر كاتبها فقط , و لا تمثل بأي حال من الأحوال وجهة نظر النادي و مسؤوليه ولا إدارة الموقع و مسؤوليه.


Powered by: vBulletin Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd

Google Plus   Facebook  twitter  youtube