مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #1  
قديم 03/10/2004, 10:03 AM
prince1111 prince1111 غير متواجد حالياً
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 02/12/2001
المكان: نادى الهلال
مشاركات: 2,420
مذكرات وفضايح صدام حسين .. يكتبها طبيبه الخاص


[ALIGN=LEFT][/ALIGN]
منقول

د. علاء بشير.. طبيب صدام حسين الخاص


أخيراً صدر كتاب الدكتور علاء بشير، طبيب صدام الخاص باللغتين النرويجية والعربية (دار الشروق في القاهرة) وتتولي 17 دار نشر اخري في العالم ترجمته الي مختلف لغات الدنيا لأهميته. اراد الدكتور الفنان علاء بشير من كتابه إعطاء صورة اقرب الي الحقيقة للجيل المقبل حول مرحلة مأساوية من تاريخ العراق، آملا ان تساهم هذه الرواية للاحداث في منع تكرار هذه المأساة الكارثية التي ارتكبها شخص مريض يرتاب لكل شيء حوله الي درجة حوَّل معها العراق الي بركة دم.

ويحمِّل بشير الشعب العراقي جزءا من مسؤولية وصول صدام الي السلطة واستمراره لثلاثة عقود، لكنه يقر بانه لم يكن ليستطيع رفض منصبه بعد ان ملأ عشرات الاوراق ورد علي مئات الاسئلة، وقد كان آخر لقاء للطبيب مع صدام قبل 6 اسابيع من الحرب لفحص ظهره.



############## الحلقة الأولي: ##############


صـــــــدام:
أنت علاء بشير الفنان.. ستصبح طبيبي الـخاص



أعددنا احتياجات المستشفيات من دون أن نعرف بالـحرب مع ايران
في حدود الساعة الخامسة صباحا من يوم الثالث والعشرين من سبتمبر من عام 1980 ايقظني صوت انفجار هائل. كنت قد قضيت الليل في مستشفي الواسطي في بغداد، فقفزت من سريري ونظرت من النافذة لأري النيران والدخان الاسود فوق حي زيونة، وهو من الاحياء الخاصة بالجيش. كانت بشائر اشعة الشمس قد بدأت علي استحياء تشق الظلام في هذا الوقت المبكر من الفجر، حيث انعكست ذهبية لامعة علي اجنحة قاذفات القنابل التي كانت تحلق فوق هذا الحي من المدينة وتلقي بأحمالها المميتة.

كان اول خاطر يخطر لي هو انها محاولة انقلاب، ولكنني رأيت بعد ذلك ان الطائرات إيرانية. ففي اليوم السابق كان صدام حسين قد امر السلاح الجوي من جهة، والجنود بدباباتهم من جهة اخري، ان يتوغلوا في الاراضي الايرانية في الجبهة الشمالية والجنوبية في شرق البلاد التي يبلغ طولها خمسمائة كيلومتر.

ها هو إذن رد طهران
بعد ذلك بعشرين دقيقة وصلت اولي سيارات الاسعاف لتنقل الموتي والجرحي. كان اول الضحايا ولد في الخامسة من عمره، كان قد قضي الليلة مع والديه واخوته الكثيرين فوق سطح المنزل ليستمتعوا بنسمات الخريف الباردة. كان رأسه قد فصل عن جسمه، لا يربطه به سوي بعض الجلد المغطي بالدماء والطين والغبار. وكان والده ووالدته واخته قد لقوا ايضا حتفهم بعدما أطاح بهم الضغط الشديد الناجم عن انفجار قنبلة بالقرب من السطح الي حديقتهم الصغيرة. كان منظر الدم المتجلط والطين الاحمر والغبار يستدعي في النفس صورة التماثيل السومرية من الطين المحروق.

صراع طويل
في الراديو الذي ادرته علي برنامج الموجة القصيرة «صوت اميركا» كان احد المحللين في وكالة المخابرات الاميركية يعلق علي اندلاع الحرب. ما زلت اتذكر انه قد تنبأ بصراع طويل، دموي إلي أقصي الحدود، مضيفا ان هذا الصراع سيستمر لسنوات طويلة ولن يخرج منه اي من العراق او ايران مكللا بالنصر.

لا اعتقد ان محلل وكالة المخابرات الاميركية كان يدرك انه مُحِقٌّ فيما قاله
أذهلتني مفاجأة الحرب تماما، لكن في واقع الامر ربما كان عليَّ ان استشعر ان شيئا ما سيحدث؛ فقبل ذلك بستة اشهر كنت عضوا في لجنة طارئة كانت مهمتها التحري عن مدي حاجة المستشفيات المدنية والعسكرية في العراق الي الادوية والمعدات وغيرها من التجهيزات الطبية. كان نصف اعضاء اللجنة من وزارة الصحة والنصف الآخر عينته وزارة الدفاع، وكان يتكون من الضباط والاطباء علي حد سواء، وحتي عندما طُلب منا بعد عدة اشهر من تشكيل اللجنة ان نعطي بيانات محددة عن مدي النقص في المحاليل وبلازما الدم ومراهم الحروق والمضادات الحيوية الضرورية في حال حدوث «كارثة وطنية» قد تخلف من الجرحي ما قد يصل الي عشرة آلاف جريح، حتي عندها لم ادرك انني اشترك في الاعداد للحرب ضد جيراننا!

السيطرة علي شط العرب
علمنا ان شط العرب هو السبب وراء هجوم القوات المسلحة العراقية علي ايران. ففي الشمال من مدينة البصرة يلتقي نهرا دجلة والفرات ليكونا هذا النهر العظيم الذي يواصل سيره لمسافة مائة كيلومتر حتي يصب في الخليج العربي لتكوّن بذلك آخر ثمانين كيلومترا من مجراه الحدود بين العراق وايران. يمثل شط العرب المنفذ الوحيد للعراق علي الخليج العربي. ويحكي ان السندباد في «ألف ليلة وليلة» قد ابحر من شطّ العرب في رحلاته الاسطورية.

حارب العرب في الغرب والايرانيون في الشرق لمئات السنين من اجل السيطرة علي هذا النهر المهم استراتيجيا والمتعرض لظاهرة المد والجزر، والذي يشهد حركة ملاحية نشطة. كانت الحدود بين العرب والايرانيين تسير في الجزء الاكبر من النهر بمحاذاة ضفة النهر في الجانب الايراني.

في شهر مارس من عام 1975 اعلن في اجتماع الوزراء في منظمة الاوبك في الجزائر ان صدام حسين والشاه الايراني محمد رضا بهلوي قد اتفقا علي تعديل الحدود لتسير بمحاذاة اعمق نقطة في عرضه.

كانت ايران تساند حينها بالمال والسلاح زعيم الاكراد مصطفي البرزاني ومحاربيه المعروفين باسم البشمركة الذين قاموا بتمرد جديد ضد القوات الحكومية في شمال العراق، وذلك بعد ان ساد جو من الهدوء النسبي في المناطق الجبلية، وهو ما يرجع الفضل فيه الي اتفاقية مهمة بين صدام وبرزاني في عام 1970، حيث اتفق كل من الطرفين علي ان يحصل الاكراد في خلال الاعوام الاربعة التالية علي ما يشبه الحكم الذاتي الكامل، لكن كالمعتاد كان هذا وعدا زائفا، ففي مارس من عام 1974 انتهت المهلة المحددة لتشكيل حكومة الحكم الذاتي دون ان يمنح صدام الاكراد استقلالهم الذي كان قد وافق عليه كتابيا.

في بادئ الامر لم يجد مصطفي البرزاني اي صعوبات في ان يحرك الشاه الايراني الذي تجمعه علاقة طيبة بالولايات المتحدة الاميركية لمساندة ثورة الاكراد التي بدأها بعدما تبين له انه قد خُدع من قِبَل صدام. كانت واشنطن لا تزال تتابع تقرب العراق من الاتحاد السوفيتي بعظيم الارتياب، لذا لم يكن مضرا بالمصالح الغربية ان تسهم ثورات جديدة وحرب اخري في اضعاف النظام في بغداد اقتصاديا وسياسيا، ذلك ما كانت تعتقده كل من وكالة المخابرات الاميركية والبيت الابيض.

لكن الشاه طعن الاكراد في ظهورهم عن طريق اتفاقية الجزائر في عام 1975، فلم يعد المتمردون يحصلون علي السلاح والمال، وذلك عندما اعلن صدام موافقته علي تحديد الحدود الجديدة في وسط شط العرب. عندها وجد البرزاني نفسه مجبرا علي وقف الاعمال القتالية الي اجل مسمي، وهرب الي ايران حيث كان يقيم هناك مائة الف لاجئ كردي، معظمهم من النساء والاطفال والشيوخ.

كان من المقرر ان تنهي اتفاقية الجزائر التي وقَّع عليها كل من العراق وايران الصراع بين الشعبين الشقيقين الي الابد. ذلك ما ورد في الاتفاقية، لكن لم تمر سوي اعوام قلائل حتي اخذت الاتهامات تنهمر من جديد بسبب انتهاك الحدود في شط العرب، سواء من جانب بغداد او من جانب طهران، وفي اثناء ذلك أُسقِط الشاه المريض بالسرطان، واستولت الاصولية الشيعية بعد ثورة 1979 علي السلطة بقيادة آية الله روح الله الخميني.

ولم تتحسن العلاقة بين «الشعبين الشقيقين» عندما عاد خميني يساند بالمال والسلاح البرزاني والبشمركة الذين بدأوا تمردا من جديد في المناطق الكردية في شمال العراق.

كانت الاخبار المستمرة حول انتهاك ايران للحدود في شط العرب او في اماكن اخري بمحاذاة خط الحدود الطويل تلقي بظلالها علي فصل الصيف السابق لاندلاع الحرب، فقام الجيش العراقي ببعض الاعمال الانتقامية في الاراضي الايرانية ردا علي ذلك، لكنني لم اكن اري ــ مثلي مثل معظم العراقيين ــ ان هذه المناوشات من شأنها ان تصبح حربا حقيقية.

أسباب أخري للحرب

إذن بدأت الحرب
اعلن الجانب الرسمي ان انتهاكات ايران المستمرة للحدود جعلت شن هجوم علي ايران امرا لا مفر منه، لكننا كنا نظن ان هناك اسبابا اخري خفية لهذا الاندلاع الفجائي للحرب.

وعند التأمل العميق يمكن ان نفهم بسهولة ان الخميني واتباعه كانوا يسببون الخوف والرعب لصدام والنخبة السنية المحيطة به، حيث كان معظم العراقيين في آخر الامر شيعة، مثلهم مثل الاصوليين الذين استولوا علي السلطة في ايران، ولم يكن احد يعلم اذا ما كانت الثورة الاسلامية يمكن ان تمتد الي العراق العلماني ام لا؟

كان نزار الخزرجي واحدا من اهم قادة صدام العسكريين، حيث عين رئيسا لأركان الحرب في نهاية الحرب مع ايران التي امتدت ثمانية اعوام. كان نزار لا يخفي عليّ ابدا ان الرئيس كان يري ان الهجوم علي ايران امر ضروري ليتقي به هجوما مستقبليا من ايران. «كان لابد من الهجوم قبل ان يتمكن آية الله ومن معه من الموالي ان يستعيدوا القوة الحربية الكبيرة للجيش الايراني الذي كان قد شهد ضعفا كبيرا في صفوفه بسبب الفوضي التي عمت بعد سقوط الشاه، وبعد عمليات التطهير التي قام بها الضباط بعضهم بين بعض. كانت نصيحة المخابرات الحربية العراقية لصدام واضحة».

طرد الخميني
كانت العلاقات بين الرجلين القويين في بغداد وطهران قد تجمدت بعدما القي بالخميني في شهر اكتوبر من عام 1978 خارج مدينة النجف في العراق ــ المدينة المقدسة لدي الشيعة ــ حيث كان آية الله يبلغ من العمر آنذاك ستة وسبعين عاما. كان قبلها بأربعة عشر عاما قد عبر الحدود الي العراق ونزل بالقرب من ضريح الامام علي بعدما احتدم الخلاف بينه وبين الشاه، واضطر الي الذهاب للمنفي.

كان الشاعر والاديب الذي تقلد منصب وزير الاعلام والثقافة، شفيق الكمالي، قد كُلف بإبلاغ الخميني برسالة صدام التي فحواها ان استمرار بقاء آية الله في النجف من شأنه ان يصبح خطرا علي امن العراق ومصلحته القومية، وانه بالنظر الي الحالة غير المستقرة والمتوترة في ايران، وحفاظا علي العلاقة بين البلدين، فإن عليه ان يرحل.

لا سلام ولا نظرة
دخل الكمالي ومعه وفد كبير شقة الخميني في المدينة المقدسة، وقبل ان يسمح لهم بالدخول علي الخميني، ظهر سكرتيره الخاص واخبرهم ان آية الله الخميني لا يرغب في مصافحة احد، وان عليهم ان يكتفوا بتحية الاسلام المعروفة «السلام عليكم»، وعندما دخلوا الحجرة التي يستقبل فيها الخميني ضيوفه، كان الخميني يجلس مع المترجم علي الارض. قال الكمالي: «السلام عليكم»، لكن آية الله رد عليه السلام ببرود ولم ينهض ايضا، فكان علي اعضاء الوفد العراقي ان يجلسوا هم ايضا علي الارض، قبل ان يصرح وزير الاعلام والثقافة برغبة صدام.

كان الخميني يحملق في سقف الحجرة او في مترجمه او سكرتيره بشكل لافت للانتباه، فلم يكن لينعم علي وزير الاعلام او اي من المبعوثين من بغداد بنظرة واحدة. كان يجيب عن الاسئلة بنعم او بلا، او يترك مهمة الاجابة عنها لسكرتيره الخاص. ولم ينظر الخميني الي الرسل القادمين من بغداد الا بعد ان انتهي الحديث الذي لم يدع فيه الكمالي مجالا للشك في انه لا يوجد حل آخر سوي ان يغادر الخميني العراق في اقرب وقت ممكن.


محرك نفاث
«كان ينظر الينا الواحد تلو الآخر دون ان ينبس بكلمة، كان له حضور قوي. كنت اشعر كما لو كنت اقف في مهب محرك نفاث عندما كان يصوب عينيه نحوي. بدأت ارتعد»، ذلك ما رواه لي الكمالي فيما بعد مضيفا: «كان لدينا جميعا الشعور نفسه عندما خرجنا من عنده».

كان شهر رمضان المعظم قد بدأ عندما بدأ آية الله واتباعه يتحركون من النجف الي البصرة ليعبروا من هناك الحدود الي الكويت. غير انه لم يسمح له بالعبور في اول محاولة بسبب بعض المشاكل المتعلقة بالتأشيرة الخاصة به، فاضطر الي الرجوع وقضاء الليل في فندق قريب من مطار المدينة.

كان مدير الصحة في المحافظة آنذاك، نزار شاهبندر، عضوا في لجنة مهمتها الاشراف علي كل شيء يخص فترة اقامة الخميني والاعتناء به. «كان الخميني غاضبا وثائرا بشكل جنوني»، ذلك ما قاله لي شاهبندر فيما بعد. لم يكن يرغب في التحدث مع احد، كما امتنع عن تناول وجبة الافطار في الفندق. لم يتناول الخميني شيئا من الطعام الا عندما عبر الحدود الي الكويت في مساء اليوم التالي، حيث اراد البقاء هناك الي ان يستقل الطائرة الي فرنسا.

ربما لم يكن غريبا علي صدام - الذي كانت تُنقل اليه بالطبع كل التفاصيل ــ ان يتوقع وفق تصوراته البدوية ان الخميني سوف ينتقم لنفسه ان آجلا او عاجلا فكان لابد لصدام اذن من ان يسبقه.

تحول مستشفي الواسطي الي مستشفي عسكري صرف فور نشوب الحرب. ولاننا كنا متخصصين في جراحة التجميل واعادة التاهيل، فان اصعب حالات الجرحي واكثرها تعقيدا كانت ترسل من الجبهة الينا، ويتضح من ملفات المرضي اننا قد قمنا بأكثر من اثنتين وعشرين الف عملية جراحية في هذا المستشفي في اثناء الاعوام الثمانية التي استمرت فيها الحرب. اما حجم الموت والمعاناة فانه لا يمكن لأحد ان يقدر ابعاده الا اذا كان هو نفسه قد شهد مثل هذه الماساة الانسانية العظيمة لفترة طويلة.

ما زالت بعض الحالات المأساوية تسلبني في الليل نومي، مثل حالة الملازم ذي الواحد والعشرين ربيعا الذي اتي الينا في خريف عام 1982 من الجبهة مباشرة الي مستشفي الواسطي، ومعه خمسة عشر آخرون من الضباط والجنود المصابين. كانوا قد احتموا تحت شاحنة كبيرة عندما تعرضوا لوابل من قصف المدفعية الايرانية المكثف، غير ان الشاحنة قد قصفت علي الفور. بترت شظية كبيرة الذراع اليمني للملازم تماما.

كان يعطي انطباعا بانه اصغر من سنه كثيرا، وكان يبدو انه يتوق إلي حياة عادية مثل اي شاب في عمره، غير ان ذراعه التي ضاعت سلبته كل امل في المستقبل.

حاولت ان اسرّي عنه
«لقد كنتَ شجاعا وقدمت كثيرا لبلادنا. ستحصل الآن علي وسام تقديرا لشجاعتك، ويمكنك ان تحمله طيلة حياتك في فخر»، هذا ما قلته.

نظر الي عيني ثم اعقبها بنظرة الي ذراعي اليمني. وهنا لم يعد في مقدور الملازم الشاب ان يمسك دموعه.

فهمتُ قصده
كان الجيش العراقي قد تمكن في بداية الحرب من احراز بعض النجاحات، غير ان الايرانيين في خلال عام 1982 كانوا قد دحروا قوات صدام المهاجمة. وسعت دول عربية عديدة للتوصل الي وقف اطلاق النار، لكن الخميني الذي كان مزهوا بالانتصارات التي احرزها في معظم الجبهات قرر الا يوقف القتال الذي تحول الي حرب استنزاف كبدت الجانبين خسائر فادحة.

ومع الوقت تم استدعاء جميع الرجال الذين كانوا قادرين علي حمل السلاح، والذين كان يمكن الاستغناء عنهم في وظائفهم الاساسية، ففقدت الاسرة وراء الاخري عائلها، وعاش كثيرون في فقر مدقع.

تجنيد بالقوة
حكي لي احد اقربائي عن اسرة كانت قد انتقلت في اثناء الحرب من البصرة الي احدي الضواحي في الجنوب الشرقي من بغداد. كانت الاسرة تتكون من رجل وزوجته وطفل رضيع يبلغ من العمر ثلاثة اشهر، وما ان انتقلوا الي تلك الضاحية حتي كان مندوب حزب البعث هناك قد اتي اليهم وطلب من الرجل ان يسجل نفسه بأقصي سرعة ممكنة للمشاركة في الحرب مع قوات الجيش الشعبي.

«ارجوك، كن كريما وساعد زوجتي»، هكذا توسل الشاب الي الرجل قبل ان يذهب إلي الحرب، فهو لم يكن يعرف احدا في بغداد.

بعد ذلك بأسبوعين رأي الجيران زوجته تجلس علي السلم باكية، فلم يكن لديها ماء او اي شيء يؤكل في شقتها. كان الطفل قد فارق الحياة. ولم تجرؤ الام علي ان تغادر المنزل وتطلب المساعدة.

تولي الجيران دفن الطفل الرضيع واهتموا بالأم الشابة القادمة من البصرة. وبعد ذلك بشهر وصل نعش الزوج من الجبهة.

كان صدام يدرك ان عليه ان يخفف من المصير المر للحرب، فشرع يوزع السيارات علي اسر الجنود الذين سقطوا في الحرب.

حصلت كل اسرة علي سيارة جديدة ومبلغ عشرة آلاف دينار، وهو ما كان يعادل آنذاك ثلاثين الف دولار اميركي. وكان نادرا ان تُسلَّم السيارة ويُدفع مبلغ التعويض بلا مشاكل. ففي حال اذا ما كان المتوفي متزوجا، فقد كانت اللوائح تنص علي ان زوجته هي المستحقة، وهو الامر الذي كان والدا المتوفي واخوته نادرا ما يقبلونه. كانت هذه الخلافات كثيرا ما ينجم عنها الضرب واطلاق النيران والقتل اذا ما استعانت ارملة المتوفي بوالدها واخوتها وابناء اخواتها ليساعدوها!

كذلك فقد واحد من الممرضين في مستشفي الواسطي ولده في جبهة القتال. ما زلت اراه امامي. كان منهارا تماما علي الارض من شدة الحزن بحيث لا يمكنك مواساته. لم يمر سوي اسبوعين الا وكان يقود سيارة تويوتا كورونا جديدة وقد لطّخ ابواب السيارة بالدماء، فقد ذبح خروفا وسكب دماءه علي السيارة ليدفع عنها الحسد. وها هو ذا الاب يضحك الآن ملء شدقيه!

في بادئ الامر كانت توزع سيارات تويوتا كورونا يابانية الصنع. وعندما ارتفع عدد الضحايا، انخفض مستوي السيارات الي السيارة فولكس فاغن باسات التي كانت تصنع في البرازيل وتستورد من هناك. كانت السيارات تأتي الي باب المنزل، غير ان معظم الارامل والاسر لم تكن تستطيع قيادة السيارات.

وبالرغم من ذلك فقد كانت السيارات تستخدم علي الفور، فتصاعد عدد الحوادث بشكل جنوني، وساهم عدد ضحايا حوادث المرور في ارتفاع تلال القتلي. وقد سمعت ان ذلك كان احد الاسباب التي جعلت صدام يوقف مشروع «سيارة في مقابل الابن» في وسط الحرب.

تم ايضا استنفار ما عرف بالجيش الشعبي في بدايات الحرب المبكرة. كانت هذه الميليشيا يسيطر عليها حزب البعث، وكانت قد اسست في عام 1970 لتتولي التدريب العسكري الاساسي لكوادر الحزب، فمثلت بذلك ثقلا مضادا للجيش النظامي في حال تدبير ضباطه لمحاولة انقلاب.

معاقبة رافض التجنيد
في خريف عام 1981 طُلب من اعضاء حزب البعث في جميع ارجاء العراق ان يكونوا قدوة لغيرهم وان يتطوعوا للخدمة العسكرية في الجيش الشعبي. سري هذا الامر ايضا علي ممثلي الحزب البارزين، غير ان كثيرا منهم رفض تنفيذ الامر بدعوي انهم ليس بمقدورهم الذهاب الي الجبهة لاسباب مختلفة، صحية او شخصية علي حد سواء.

كان الدكتور هاشم جابر واحدا من هؤلاء. كان استاذا في طب الاسنان ورئيسا لجامعة بغداد، وكان يعاني منذ وقت طويل متاعب في الكلي وضغط الدم المرتفع. وكانت عيادته الخاصة تقع بجوار عيادة جراحة التجميل الخاصة بي، فكنا زملاء علي علاقة جيدة واصدقاء. وفي ديسمبر عام 1981 تلقي الخبر بان عليه ان يسجل اسمه للخدمة العسكرية في قاعة الخلد بجوار القصر الجمهوري مع اربعمائة وعشرين عضوا من اعضاء حزب البعث ذي النفوذ الكبير.

كان صدام رقيقا، وكان صوته حنونا عندما افتتح الاجتماع.

«في بادئ الامر اود ان ادعو كل هؤلاء الذين ليسوا في حالة صحية جيدة او الذين يشعرون بانهم منهكو القوي، او لديهم غير ذلك من الاعذار القهرية التي تمنعهم من الانضمام إلي صفوف الجيش الشعبي كغيرهم، ان يتفضلوا بالجلوس في هذه القاعة الي اليسار»، ذلك ما قاله صدام.

نفذ دكتور جابر ومعه مائتان وثلاثون من اعضاء حزب البعث ما طلب منهم. كان من بينهم عديد من نواب الوزراء واعضاء كثيرون في مجلس الشعب.

«هنا اعلن إقالتكم بلا سابق انذار. لا اريد ان اراكم مرة اخري في حزب البعث»، ذلك ما قاله صدام.

إلي الجبهة
وفي آخر الامر ارسل هؤلاء الاعضاء البالغ عددهم مائتين وثلاثين الي الجبهة.

كان من المقرر ان يعقد لقاء القمة لرؤساء حكومات دول عدم الانحياز في عام 1982 في بغداد. تكلفت الاستعدادات مبالغ طائلة، فقد امر صدام ببناء فندق جديد، وهو فندق الرشيد، للمشاركين في القمة من اكثر من مائة دولة. كما قام بشراء عدد كبير من السيارات المرسيدس الليموزين للتنقلات، وغير ذلك الكثير.

وبسبب الحرب والحالة الامنية غير المستقرة في بغداد، حيث كانت تتعرض المدينة بشكل مستمر للهجمات الايرانية بالقنابل والصواريخ، اجلت القمة لمدة عام آخر وتقرر انعقادها في العاصمة الهندية نيودلهي. فتفتق ذهن احد الخبثاء من معسكر الرئيس عن فكرة استخدام السيارات المرسيدس الفاخرة الجديدة كهدايا للاكفاء من المهندسين والمعماريين والاطباء والمعلمين والكتاب والممثلين والنحاتين وغيرهم من ممثلي الثقافة لمكافأتهم علي ما اسدوه من خدمات فائقة لوطنهم في اثناء الحرب التي كانت لا تزال مستمرة.

مرسيدس مكافأة
طُلب مني ان اتوجه إلي أحد قصور صدام لاستلم مكافأتي المتحركة علي عجلات، وذلك ليس بوصفي فنانا، وانما بوصفي طبيبا بعد ان قابلنا صدام، وكنا خمسة وعشرين طبيبا من جميع انحاء العراق، لتكريمنا بسبب معالجتنا للجرحي. ادهشني ذلك بعض الشيء لان السكرتير الخاص بصدام، أرشد ياسين، كان في الاعوام السابقة كثيرا ما يتصل بي تلفونيا او يأتي إليَّ ليخبرني كيف ان الرئيس معجب بإنتاجي الفني الذي لفت انتباهه في برامج التحقيقات التلفزيونية، او في المقالات النقدية في الصحف والمجلات.

سارق آثار
كان ياسين طيارا ولواء في السلاح الجوي، وكان هو نفسه مهتما اهتماما كبيرا بالفن والتحف، لكن هذا الاهتمام لم يكن مجردا تماما من الاغراض الشخصية. كان قد عزل من منصبه كسكرتير شخصي لصدام عندما نُشرت في الجرائد مقالات فحواها ان العديد من التحف العراقية النادرة التي يبلغ عمرها آلاف السنين قد سرقت وهُرِّبت خارج البلاد وبيعت بالملايين في السوق السوداء الدولية للآثار. كان اسم اللواء قد ذُكر في هذه الفضيحة التي انكرها اللواء ارشد عدة مرات، ولكن لأنه كان متزوجا من اخت صدام، نوال، فقد قدر له ان يبقي علي قيد الحياة، بعد عزله عن منصبه.

كنا زهاء خمسة وعشرين طبيبا ممن أُمروا بالذهاب الي قصر الرئاسة ليتسلم كلٌّ منا واحدة من السيارات الباقية كمكافأة لنا علي خدماتنا في الحرب. كان ذلك بعدما تقرر عدم انعقاد قمة دول عدم الانحياز لعام 1982 في بغداد. وقد اكد صدام اهمية الدور الذي قمنا به «بالنسبة إلي الجنود والضباط في الجبهة، وبالنسبة إلي أسرهم التي كان عليهم ان يتركوها ليحاربوا العدو.

ان الرجال من امثالكم هم الذين سيخلدون في تاريخ العراق، وليس رجال الاعمال واصحاب الملايين الذين لا يعنيهم سوي التربح».

ثم سلم علي كلٍّ منا وصافحنا باليد، كما اخذت لنا صورة جماعية بجانبه. وعندما وصل إليّ، توقف بعض الوقت امام اسمي.

سألني: «هل أنت بالمصادفة الفنان علاء بشير»؟

«شيء لا يعقل»، قالها صدام عندما اجبته انه انا. «لا تنصرف بعد ذلك لكي يمكننا التحدث سويا».


لوحات وتماثيل
بعدما انصرف بقية الاطباء، اخذ صدام يثني علي لوحاتي وتماثيلي ايما ثناء. لم يكن يعنيه في المقام الاول انني انا وزملائي في مستشفي الواسطي قد حققنا بعد اندلاع الحرب تقدما رائدا، وطورنا اساليب جديدة في مجال جراحة التجميل وجراحة اعادة التاهيل، وان ابحاثنا قد قُبلت ونشرت في الصحف العالمية البارزة.

«طالما قرأت ان اطباء في اوروبا كانوا في الوقت نفسه من مشاهير الكتاب والموسيقيين والمثّالين. وعلي ما يبدو فان لدينا الآن لأول مرة في تاريخ العراق جراحا فذا وفنانا عظيما في الوقت نفسه. انا سعيد وفخور ان يكون في بلادنا شخص مثلك». وبعد ذلك بثلاثة ايام اتصل بي احد العاملين في مكتب صدام واخبرني اني قد صرت عضوا في فريق الاطباء الخاص بالرئيس .




اضافة رد مع اقتباس