إنَّ خَلْقَ الله لعيسى من غير أب مثَلُه كمثل خلق الله لآدم من غير أب ولا أم, إذ خلقه من تراب الأرض, ثم قال له: "كن بشرًا" فكان. فدعوى إلهية عيسى لكونه خلق من غير أب دعوى باطلة; فآدم عليه السلام خلق من غير أب ولا أم, واتفق الجميع على أنه عَبْد من عباد الله.
الحق الذي لا شك فيه في أمر عيسى هو الذي جاءك -أيها الرسول- من ربك, فدم على يقينك, وعلى ما أنت عليه من ترك الافتراء, ولا تكن من الشاكِّين, وفي هذا تثبيت وطمأنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمَن جادلك -أيها الرسول- في المسيح عيسى ابن مريم من بعد ما جاءك من العلم في أمر عيسى عليه السلام, فقل لهم: تعالوا نُحْضِر أبناءنا وأبناءكم, ونساءنا ونساءكم, وأنفسنا وأنفسكم, ثم نتجه إلى الله بالدعاء أن يُنزل عقوبته ولعنته على الكاذبين في قولهم, المصرِّين على عنادهم.
إن هذا الذي أنبأتك به من أمر عيسى لهو النبأ الحق الذي لا شك فيه, وما من معبود يستحق العبادة إلا الله وحده, وإن الله لهو العزيز في ملكه, الحكيم في تدبيره وفعله.
قل -أيها الرسول- لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: تعالَوْا إلى كلمة عدل وحق نلتزم بها جميعًا: وهي أن نَخُص الله وحده بالعبادة, ولا نتخذ أي شريك معه, من وثن أو صنم أو صليب أو طاغوت أو غير ذلك, ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة من دون الله. فإن أعرضوا عن هذه الدعوة الطيبة فقولوا لهم - أيها المؤمنون - : اشهدوا علينا بأنا مسلمون منقادون لربنا بالعبودية والإخلاص. والدعوة إلى كلمة سواء, كما تُوجَّه إلى اليهود والنصارى, توجَّه إلى من جرى مجراهم.
يا أصحاب الكتب المنزلة من اليهود والنصارى, كيف يجادل كل منكم في أن إبراهيم عليه السلام كان على ملَّته, وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده؟ أفلا تفقهون خطأ قولكم: إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً, وقد علمتم أن اليهودية والنصرانية حدثت بعد وفاته بحين؟
ها أنتم يا هؤلاء جادلتم رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما لكم به علم مِن أمر دينكم, مما تعتقدون صحته في كتبكم, فلِمَ تجادلون فيما ليس لكم به علم من أمر إبراهيم؟ والله يعلم الأمور على خفائها, وأنتم لا تعلمون.
إنَّ أحق الناس بإبراهيم وأخصهم به, الذين آمنوا به وصدقوا برسالته واتبعوه على دينه, وهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به. والله وليُّ المؤمنين به المتبعين شرعه.
يا أهل التوراة والإنجيل لم تجحدون آيات الله التي أنزلها على رسله في كتبهم, وفيها أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الرسول المنتظر, وأن ما جاءكم به هو الحق, وأنتم تشهدون بذلك؟ ولكنكم تنكرونه.
يا أهل التوراة والإنجيل لِمَ تخلطون الحق في كتبكم بما حرفتموه وكتبتموه من الباطل بأيديكم, وتُخْفون ما فيهما من صفة محمد صلى الله عليه وسلم, وأن دينه هو الحق, وأنتم تعلمون ذلك؟
ولا تصدِّقوا تصديقًا صحيحًا إلا لمَن تبع دينكم فكان يهودياً, قل لهم -أيها الرسول- : إن الهدى والتوفيق هدى الله وتوفيقه للإيمان الصحيح. وقالوا: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلمون منكم فيساووكم في العلم به, وتكون لهم الأفضلية عليكم, أو أن يتخذوه حجة عند ربكم يغلبونكم بها. قل لهم -أيها الرسول- : إن الفضل والعطاء والأمور كلها بيد الله وتحت تصرفه, يؤتيها من يشاء ممن آمن به وبرسوله. والله واسع عليم, يَسَعُ بعلمه وعطائه جميع مخلوقاته, ممن يستحق فضله ونعمه.