هذا الموضوع عن خرافة اجتماعية لا علاقة لها بالدين؛ على الرغم من أن البعض يريد أن يلصقها بالدين رغماً عن الجميع، فهناك العديد من العادات والخرافات الاجتماعية التي يتم إلصاقها بالدين بغرض تأييد هذه الأوهام والخرافات فيتم لي عنق النصوص الدينية كي تؤيد العادات الاجتماعية والأمثلة على ذلك لا حصر لها ووقع فيها حتى علماء كبار تأثروا بالسياق العام لمجتمعهم فانساقوا في أحكامهم لما يوافق تلك الرؤى الاجتماعية حتى لو كانت متضمنة مخالفة للأسس الدينية؛ وهذا ينطبق على عدة رزايا اجتماعية نُعانيها ومنها اعتقادات متخلفة بخصوص الجن والسحر وما يُسمى بالمس وأنا لا أود استخدام هذه الكلمة لأسباب سأوضحها في ثنايا الموضوع..
والحقيقة أن هناك المئات من الذين يدافعون عن هذه الخرافات والمعتقدات بسبب استفادتهم منها؛ فهم إما ممن يأكلون أموال الناس بالباطل ويدعون العلاج وفك السحر والمس بالقرآن وهناك ممن يستفيدون من وجود الجن والعفاريت بغية إبقاء المرضى مرتبطين بهم نفسياً وهناك من المرضى من يدعي وجود هذه الأمراض حتى يكسب عاطفة الآخرين أو حتى يدعي بأن تصرفاته لا يمكنه التحكم بها وآخرين مخدوعون بما يفعل هؤلاء من ألاعيب وخداع؛ والبعض يدعي وجود أزمة مساكن لدى الجن فلذلك يستأجرون شقق مفروشة في أجساد الآدميين؛ وكما أن هناك من البشر من يقطن لوحده في فيلا كبيرة وهناك من العمالة الأجنبية يتجمعون في غرفة ضيقة فكذلك الحال بالنسبة للجن..
فهناك أناس يسكنهم جني واحد فقط وهناك من يسكنه سبعة أو عشرة أو حتى مئة..
وأود أن أؤكد على عدة أمور.
أنا هنا لا أناقش عن حقيقة وجود الجن؛ فمن ينكر ذلك هو يكذب بنص القرآن؛ ولكن نحن هنا نتناقش عن لي عنق الحقيقة الذي مارسه العديد من المستفيدين من وجود الخرافات أو أساءوا تفسير الظواهر التي أمامهم فأتت تفسيراتهم للآيات والأحاديث كإسقاط لما يرونه ويشاهدونه أو بالأصح يعتقدونه..!!
الجن:
تكاد تتفق الأمم باختلاف أديانها على وجود الجن ككائنات غير مرئية للبشر؛ ومعتقد المسلمين هو ما ورد في القرآن بأنهم خلق مكلف خلقوا للعبادة
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات : 56]
وأنهم خلقوا من نار
والجآن خلقناه من قبل من نار السموم [الحجر : 27]
وخلق الجان من مارج من نار [الرحمن : 15]
وأن إبليس من الجن
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا [الكهف : 50]
وأن إبليس مثلهم خلق من نار
قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [الأعراف : 12]
قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [صـ : 76]
وأنهم غير مرئيين
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون [الأعراف : 27]
وفي سورة الجن عندما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن وكانوا يستمعون لم يرهم النبي صلى الله عليه وسلم بل أن الله هو الذي أخبره باستماع الجن
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا [الجن : 1]
وعلى الرغم من أنهم غير مرئيين فإن الوحيد الذي سخر الله له الجن وسيطر عليه هو نبي الله سليمان عليه السلام وهذه من مُعجزاته "كما أن موسى عليه السلام كان من مُعجزاته انفلاق البحر عيسى عليه السلام إحياء الموتى بإذن الله" ومن يدعي أنه يرى الجن أو أن السحرة يرون الجن ويتحدثون معهم فهو يفتري على الله الكذب..
ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب [صـ : 34]
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب [صـ : 35]
فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب [صـ : 36]
والشياطين كل بناء وغواص [صـ : 37]
وآخرين مقرنين في الأصفاد [صـ : 38]
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب [صـ : 39]
وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [صـ : 40]
وبنص حديث في صحيح البخاري يذكر النبي صلى الله عليه وسلم حدوث معجزة له بمشاهدة عفريت من الجن:
إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي ، فأمكنني الله منه فأخذته ، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمان: { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي} . فرددته خاسئا
وللعلم..
لا يوجد آية قرآنية واحدة تقول بدخول الجن في الإنس.
لا يوجد حديث نبوي واحد في صحيح البخاري يقول بدخول الجن في الإنس.
بل كلها تفسيرات مُتكلفة للآيات وإسقاطها على الخرافات التي يعتنقها المُفسر؛ أما الأحاديث الموضوعة والضعيفة وخارج صحيح البخاري فهي تُعد بالعشرات تلك التي تؤيد دخول الإنس في الجن..
ومما سبق نرى بأن الجن خلق لطيف وجميل وغير مرئي ومنهم مسلمون ومنهم كفار..
أما الذين يدعون بأنهم يشاهدون الجن بل وبعضهم يدعي بإمكانية التزاوج بين الجن والإنس حتى إني شاهدت في قناة المجد مقابلة مع ساحر تائب يدعي بأن الجن كانوا يأتونه في صورة نساء يعرفهن في أواخر الليالي..!! ولن أقول ماذا كان يفعل معهن ولكن واضح أنهن عشيقاته من البشر ولكن كي يبرر الزنا يدعي بأنهن جنيات.
وغاية الافتراء على إخواننا الجن أن ننسب إليهم تلك الأكاذيب بأن لهم علاقة بالسحر والشعوذة والشيوخ الدجالين الذين يدعون إخراج الجن من الناس..!!
وعلى من يدعي ذلك أن يأتي بآية قرآنية أو حديث من صحيح البخاري وليس أحاديث ضعيفة وموضوعة.. فالافتراء على خلق الله واتهامهم والطعن فيهم يجب أن يؤيد بآيات وأحاديث صحيحة وليس بأقوال علماء لم يشاهدوا في حياتهم إلا الخرافات..
السحر:
كما أن الجن ارتبط بالعديد من الخرافات فكذلك الحال مع السحر الذي أعرض الناس عن وقف الإيمان به بما جاءت به الآيات والسنة الصحيحة وأخذوا يتقبلون في ذلك كلام المشعوذين والدجالين من البشر الذين يتكسبون من الشعوذة ويأكلون أموال الناس بالباطل.
فالسحر ليس سوى تخييل ولا شيء غير ذلك؛ وعلى من يدعي بأن السحر هو دخول الجن في الإنس وسيطرتهم عليه فهو يدعي بأن الساحر أوتي ملك سليمان..!!
فالحقيقة أن السحر كل ما به هو تخييل للمرء فعل الشيء وهو لم يفعله أو العكس "وهو ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم عندما سُحر"
أو تحرك الأشياء وهي لم تتحرك "كما حدث من قبل سحرة فرعون في الحبال والعصي"
أو تخييل المرأة لزوجها في صورة بشعة حتى يكرهها ويطلقها "كما تقول بذلك آية سورة البقرة"
فكل ما يحدث من السحر هو تخيلات وتصوير الأشياء على غير حقيقتها..
وكما هي العادة فإن ديننا العظيم لم يأتِ فيه دليل واحد صحيح تأييداً للأكاذيب والخرافات التي يدعيها الناس في عصرنا هذا..
وهنا سأورد جميع ما يتعلق بالسحر في القرآن الكريم..
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [البقرة : 102]
ومعجزة موسى عليه السلام كانت بإبطال سحر سحرة فرعون..
ولاحظوا بأن سحر سحرة فرعون هو أعظم سحر في التاريخ وتأملوا وصف الله عز وجل في القرآن:
قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم [الأعراف : 116]
وتأملوا ما هو أعظم السحر هذا..
قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى [طه : 65] قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى [طه : 66]
قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس [الأعراف : 116]
فألقى موسى عليه السلام عصاه وحدثت المعجزة؛ فما كان يفعله السحرة هو تخييل وخداع بصري بينما ما حدث من عصا موسى عليه السلام أنها تحولت إلى أفعى حقيقية بإذن الله والتهمت حبالهم وعصيهم ولذلك سجدوا مباشرة فور رؤيتهم لهذه المعجزة فما كانوا يفعلونه كان تخييل وخداع بينما الذي حدث من موسى هو تحول الحبال إلى أفعى حقيقية..
وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى [طه : 69] فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى [طه : 70]
بربكم هل يوجد آية مما سبق تقول باستخدام السحرة للجن..؟؟
إذاً نقول للمشعوذين وأتباعهم الذين يدعون أن السحر يكون باستخدام الجن؛ من أين لكم هذا..؟؟
وفي السنة النبوية وفي صحيح البخاري سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط فكان يفعل الشيء ويخيل إليه أنه لم يفعل والعكس وهو ما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها..
أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر ، حتى كان يخيل إليه أنه صنع شيئا ولم يصنعه.
واتقاء السحر هذا وعلاجه يكون بسورة الفلق وسورة الناس.. ويقرأ المرء على نفسه وليس الإتيان بمشعوذ كي يقرأ عليه ويكشف عورات المسلمين كما يحدث من البعض الذي يجعل المشعوذ يدخل على نساءه وأهل بيته..!!
روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده رجاء بركتها.
فالآيات والأحاديث الصحيحة "وأكرر هنا الصحيحة" تؤكد بأنه لا علاقة بين السحر واستخدام الجن بل هذا من الكذب والافتراء على خلق من خلق الله عز وجل.
بقي أن أقول بأن قضية التشكل "أو تمثل الجن بالبشر أو الحيوانات" أيضاً لم ترد به آية أو حديث في صحيح البخاري..
بل إن ذلك كان فقط من خصائص الملائكة وليس الشياطين كما يزعم الدجالون..!!
فالملائكة فقط هي التي تتمثل في صورة البشر كما كان مع مريم.
فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا [مريم : 17]
أو كما أتى ملك الموت موسى عليه السلام في صورة بشرية ففقأ موسى عينه في الحديث المشهور في كتب السنة.
أو كما كان يحدث مع النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يأتي إليه جبريل في صورة أعرابي.
علاقة الشيطان بالإنسان:
الشيطان "وبنص القرآن" لا يملك أي سيطرة على البشر؛ ومن يدعي ذلك فإنه يقدح في إيمانه..
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [النحل : 98]
إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون [النحل : 99]
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا [الإسراء : 65]
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم [إبراهيم : 22]
ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين [سبأ : 20] وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ [سبأ : 21]
وكل علاقة الشيطان "القرين" بالإنسان هي الوسوسة والإغواء وإلقاء الأماني واقتراح الأفكار الخبيثة والتبذير وكفر النعمة وإيقاع العداوات وكل ذلك بالوسوسة والوسوسة فقط وليس بالدخول في الإنسي وركوبه كما يدعي أصحاب الخرافات والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً وأذكر منها:
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم [البقرة : 268]
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [المائدة : 91]
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [الزخرف : 36]
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا [الإسراء : 27]
وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا [الإسراء : 53]
فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون [الأنعام : 43]
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [الأنعام : 121]
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين [الأعراف : 20]
تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم [النحل : 63]
فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [طه : 120]
وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين [المؤمنون : 97]
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين [الشعراء : 221] تنزل على كل أفاك أثيم [الشعراء : 222]
إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم [محمد : 25]
قل أعوذ برب الناس [الناس : 1] ملك الناس [الناس : 2] إله الناس [الناس : 3] من شر الوسواس الخناس [الناس : 4] الذي يوسوس في صدور الناس [الناس : 5] من الجنة و الناس [الناس : 6]
وما تركت من الآيات كثير وهي تؤكد عدم سيطرة الشيطان على الإنسان إلا بالوسوسة..
×××
بعد كل ما استعرضنا من أدلة من القرآن والسنة الصحيحة سيقف البعض دَهِشاً ومُستغرباً من انتشار خرافة استخدام الجن في السحر وما يدعونه بالتلبس والمس..!!
فكيف استدلوا على ذلك وإذا كان ركوب الجن للإنسي غير موجود فكيف أتت هذه الخرافة.
هم يستدلون بآيات كما سبق أن ذكرت في البداية ويفسرونها على أحوالهم التي يعانونها وليس على حقيقة الآية..
ومنكري دخول الجن في الإنسان كُثر ولكن للأسف أن استعراضهم للأدلة ضعيف وكلهم يجترون كلام الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله الذي ذكره في تفسيره لآية سورة البقرة في كتابه "مفاتيح الغيب" ويحومون حوله..
ومن المُضحك المُبكي أن رمي التهم والتصنيفات كان منذ قديم الزمن في المخالفين.. فكل من يخالف المرء كان يتم رميه بالأهواء وهو ما حدث مع فخر الدين الرازي الذي اتهمه مؤيدو الخرافات بأنه من المُعتزلة..!!
مع أن فخر الدين عاش حياته ينافح عن الدين في وجه المعتزلة والفلاسفة ولكنها كما قلت لكم من المُضحكات المُبكية..!!
فلدى البعض كل حجتهم أن تلك أقوال كفار أو معتزلة أو رافضة..!!
مع أن الحكمة ضالة المؤمن؛ سواء أخذها من فم يهودي أو نصراني أو معتزلي أو رافضي أو مجوسي أو بوذي أو حتى من أفواه المجانين..!!
فلو كنا سنرد قولاً لأن شخص القائل لا يوافقنا المذهب لرددنا كل العلوم والتكنولوجيا المعاصرة..!!
هذا مع أن ترجمة الرازي أؤكد عليها بأنه لم يكن من المعتزلة بل كان يخالفهم ويرد عليهم وكل ما هنالك أن البعض تحدث أنه مشكوك في أنه معتزلي بسبب ردوده وكتاباته العقلية..
وهنا وقبل أن استعرض أدلة دخول الجن في الإنس سأذكر مبحث بسيط عن تفسير الآيات..
فتفسير القرآن يجب أن يكون أولاً بالقرآن ثم بالسنة الصحيحة وليس تفسير القرآن بناءاً على الوقائع والمشاهدات..
مثال ذلك الآية الكريمة:
وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [الأنبياء : 87]
فالبعض ومنهم معاوية رضي الله عنه اعتقدوا أن تفسير كلمة نقدر من القدرة؛ ومعلوم أن المرء إذا اعتقد أن الله لا يقدر على أي شيء فإن هذا كفر مبين وحاشاه نبي الله يونس أن يعتقد ذلك في ربه..
وهذا ما بينه ابن عباس رضي الله عنهما لمعاوية رضي الله عنه بأن نقدر من القدر "أي التضييق" وليس القدرة..
وأمثلة ذلك من القرآن فيجب أن نفسر كلمة نقدر بما يشابهها من القرآن مثل:
الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع [الرعد : 26]
إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا [الإسراء : 30]
وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون [القصص : 82]
الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم [العنكبوت : 62]
أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون [الروم : 37]
والآن نأتي إلى أدلة القائلين بدخول الجن في الإنسان..
دليلهم الأول:
من الأدلة على تلبس الجني بالإنسي المراد الدخول به ما في كتاب الله تعالى قوله تعالى (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس).
وأخذوا يوردون أحاديث ضعيفة بأن تفسير الآية هو ركوب الشيطان "بزعمهم" الإنسان وتخبطه إياه؛ وسأورد رد فخر الدين الرازي بتصرف عليهم وهو أن معنى الآية واضح بأن التخبط الحاصل مع آكل الربا هو تخبط بسبب وسوسة الشيطان؛ فالمس معناه واضح في القرآن في أنها وسوسة شيطان وذكر فخر الدين الآية التي تتحدث عن نبي الله أيوب..
واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب [صـ : 41]
وذكر بأن كلمة مسني هي بالوساوس الفاسدة ومحاولات الإغواء.. انتهى كلامه بتصرف.
والحق أنه لا يوجد عاقل مسلم سيقول بأن نبي الله أيوب عليه السلام دخل فيه جني..!!
وكذلك في آية سورة الأعراف التي تتحدث عن المتقين..
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [الأعراف : 201]
فهل تفسيرها بأن عباد الله الذين اتقوا يدخل فيهم الجن والعفاريت..!!
إذاً وطالما أن تفسير كلمة مس هو الوساوس والغواية الشيطانية فلماذا يفسرون "يتخبطه الشيطان من المس" بأنها دخول جني في إنسان..؟؟
الجواب صمت كصمت القبور..
دليلهم الثاني:
أحاديث كلها تدور في نفس ألفاظ هذا الحديث:
كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فجاءت امرأة من الأنصار فقالت يا رسول الله إن هذا الخبيت غلبني فقال لها إن تصبري على ما أنت عليه تجيئين يوم القيامة ليس عليك ذنب ولا حساب قالت والذي بعثك بالحق لأصبرن حتى ألقى الله قالت إني أخاف الخبيث أن يجردني فدعا لها فكانت إذا أحست أن يأتيها تأتي أستار الكعبة تتعلق بها فتقول اخسأ فيذهب عنها..!!
ويقولون بأن الخبيث هو الجني الذي يدخل في هذه المرأة السوداء..
وبالطبع لا حاجة بي أن أقول بأن الحديث ضعيف وهذه خلاصة الدرجة من الموسوعة الحديثية..
الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: الهيثمي- المصدر: مجمع الزوائد
خلاصة حكم المحدث: فيه فرقد السبخي وهو ضعيف
ولكن وزيادة في التأكيد لمن في قلبه شك سأورد الحديث من صحيح البخاري..
فالحادثة وقعت حقيقة لهذه المرأة السوداء وهي أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي ولكن تأملوا الحديث في صحيح البخاري..
قال لي ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى ، قال : هذه المرأة السوداء ، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف ، فادع الله لي ، قال : ( إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ) . فقالت : أصبر ، فقالت : إني أتكشف ، فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها .
..!!
الحديث في صحيح البخاري وكذلك بذات المعنى في صحيح مسلم ولا يوجد به جن ولا عفاريت ولا خبيث..!!
بل هو صرع فقط ولا علاقة للجن والعفاريت به..
فتأمل الألعاب البهلوانية التي تمارس في لي عنق التفسير واستخراج الأحاديث التي توافق أهوائهم..
الدليل الثالث وهو يكاد يكون أقوى أدلتهم وهو ما روي عثمان بن أبي العاص:
لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن أبي العاص قلت نعم يا رسول الله قال ما جاء بك قلت يا رسول الله عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي قال ذاك الشيطان ادنه فدنوت منه فجلست على صدور قدمي قال فضرب صدري بيده وتفل في فمي وقال اخرج عدو الله ففعل ذلك ثلاث مرات ثم قال الحق بعملك قال فقال عثمان فلعمري ما أحسبه خالطني بعد.
الحديث هذا من صحيح ابن ماجه وصححه الألباني.. وعلى الرغم بأن بعض طلبة العلم وهنوا إسناد هذا الحديث إلا أننا سنتجاهل ذلك..
فهذه الحادثة صحيحة وعثمان ابن أبي العاص كان والي الرسول صلى الله عليه وسلم على الطائف.
ولكن ويا للغرابة..
الحديث موجود في صحيح مسلم..!!
ولنقرأ الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه أن..
أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله . إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي . يلبسها علي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذاك شيطان يقال له خنزب . فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه . واتفل على يسارك ثلاثا " فقال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني.
..!!
إذا الرواية الصحيحة عن مسلم لنفس الحادثة لا يوجد فيها ضرب ولا تفل ولا إخراج للشيطان..!!
ولكم الحكم من أين تأخذوا دينكم.
من القرآن وصحيح البخاري ومسلم.
أم من الدجالين والمشعوذين..
×××
بداية القصة في التاريخ:
قد يتساءل البعض بعد كل هذا..
هل هناك أصل لفكرة دخول الجن في الإنسان..؟؟
الحقيقة أن من الأخطاء التي وقع فيها من يقتاتون على تفسير الرازي رحمه الله أنهم يرددون فقط حجة الرازي رحمه الله ثم يرددون بسخرية أن دخول الجن في الإنسان لا يوجد إلا لدى المسلمين..
بينما التاريخ والواقع يقولان لنا بأن فكرة دخول الأرواح في البشر فكرة قديمة جداً وتمتد إلى آلاف السنين..
بل إنها هي الفكرة الرئيسة التي اعتمد فيها النصارى في القول بألوهية عيسى عليه السلام..!!
فهذه الخرافة لم تكن وليدة المجتمعات الإسلامية في العصور المتأخرة بل إنها تسربت إلى مجتمعاتنا من مجتمعات وثنية..
فعلى سبيل المثال لا الحصر..
الهندوس يؤمنون بحلول الأرواح في الأجساد وتناسخها وكذلك أقوال لليونان وأفلاطون حيث يعتقدون بأن روح الإنسان بعد وفاته من الممكن أن تحل في جسد قطة أو أسد أو خنزير وخلافة..
ذات الأمر بالنسبة للصين من حلول الأرواح إلا أنهم يعتقدون بحلول أرواح الآباء في أبناءهم وكذلك الحال في أدغال أفريقيا وقبائل الهنود الحمر..
ومع تطور التاريخ وصلوا إلى الاعتقاد بأن الأمراض عبارة عن أرواح شريرة تحل في جسد المريض..
فيوجد "تعاويذ" لقدماء المصريين لطرد البرد وكذلك الحال كان في أوربا ولكن بشكل أشد..
فأوربا كانت فيها هذه الفكرة "أن الأمراض عبارة عن أرواح شريرة أو شياطين بتعبير المسلمين" إلى وقت قريب "تقريباً القرن السادس عشر الميلادي".
وكانوا يركنون إلى الشياطين لتفسير الأمراض الغريبة التي تصادفهم مثل الأمراض النفسية والصرع والأهم من ذلك أن الكنائس كانت تكسب جرّاء ذلك الأموال الطائلة..
وفي هذا قضايا مشهورة حتى أن من ضمن الذين يدعون بأنه حل في أجسادهم شياطين الرسام العالمي الشهير سلفادور دالي والذي قام بإخراج الجني منه الكاهن الإيطالي غابرييل ماريا بيراردي فشكره سلفادور دالي بإهدائه رسم للمسيح على الصليب..!!
إضافة إلى ذلك قضية مشهورة في الغرب لفتاة ألمانية كانت تتحدث بصوت رجال وتتحدث عن وجود ستة شياطين بداخلها؛ وفي جلساتها مع القساوسة تحسنت قليلاً إلا أن حالتها انتكست وتوفيت فتم القبض على القساوسة وعلى والدها وإيداعهم السجن وتسجيلات جلسات محاولات إخراج الشياطين منها موجودة على الشبكة العنكبوتية وفي اليوتيوب..!!
ولنا أن نعذرهم في هذا التفسير؛ فالعلوم الطبية وأساليب العلاج كانت متأخرة بشكل كبير، وبالطبع إذا افتقد الإنسان للتفسير الواقعي فإنه يُحيل المُشاهدات إلى الخرافات، فدائماً وعلى مر التاريخ تتواجد الخرافة متى ما تواجد الجهل وقل العلم وقلت الثقافة..
فعلى سبيل المثال يذكر ول ديورانت في كتابه "قصة الحضارة" أن الكنيسة كانت تتكسب من إخراج الشياطين من مرتاديها إلى أن نقل المسلمين واليهود العلوم الطبية إلى أوربا فكان أن اعتبرت الكنيسة ذلك انقلاباً على سلطتها وطعناً في الإيمان فحرمت الكنيسة استقبال الأطباء اليهود داخل بيوت النصارى حتى أنه حدث عامي 1246م و1267م اجتماعات كنسية حرمت على الأطباء اليهود علاج أتباع الكنيسة مطلقاً؛ ومع هذا التحريم فإن البابا بونيفيس الثامن عندما مرض استعان بطبيب يهودي لمعرفته أن ما داخله ليس شيطان ولا ملاك بل مرض عضوي؛ فكان يأمر أتباع الكنيسة بعدم الذهاب إلى الأطباء ولكن ما إن يتورط هو في الموضوع وتصبح حياته على المحك فإنه ينسلخ من قناعاته الخرافية.
ولم يفقد اليهود زعامتهم في الطب كما يقول ول ديورانت إلا بعد أن تبنت الجامعات الأوربية أساليب قائمة على المنطق في العلاج في القرن الثالث عشر.
ولكن سأعود قليلاً إلى فكرة حلول الأرواح في الأجساد..
ففكرة حلول الأرواح في الأجساد كانت المُستند لدى النصارى في القول بحلول الله "تعالى عما يقولون" في جسد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
فحسب معتقدهم أن الله عز وجل روح وحل في الناسوت الذي هو عيسى بن مريم ولقيت بالطبع الفكرة القبول لوجود الأرضية الخصبة لمثل هذه الأفكار مسبقاً.
ولم تكن فكرة حلول الأرواح الإلهية أو الشيطانية في الجسد فكرة مستحدثة لدى النصارى بل سبقهم في ذلك ديانات وثنية مثل الزرادشتية والهندوسية في تفسيرهم لنشأة الكون وكذلك اليونان.
وكذلك لم يتوقف هذا القول فيما بعد بل إنه التاريخ الإسلامي شهد مثل هذا القول من أمثال ابن الحلاج وابن عربي "وعلى القرّاء أن يفرقوا بن ابن العربي الطائي صاحب المذهب الفاسد وابن العربي العالم الجليل صاحب التفسير"؛ وبالطبع القول بالحلول كفر بواح..
الآن ومن هذا المنطلق نرى بأن حلول الأرواح في الأجساد هي نفس فكرة أصحاب الأوهام الذين يسمون الأشياء بغير اسمها..
فما يسمونه بالمس والتلبس له تسمية أصلية حرفوها وهي الحلول..!!
ولكن ولأن القول بالحلول يعتبر كفر بواح فإنهم يخشون تسمية دخول الجن في الإنسان بالحلول فأطلقوا عليه تسمية أخرى لا علاقة لها بالدخول "تلبس أو مس".
إضافة إلى ذلك فإن السبب الأكبر في قول الأولين والآخرين من بعض علماء الإسلام بحلول الجن في أجساد البشر هو مرض الصرع..
فالشخص المصروع الذي كان يقوم بحركات متشنجة غريبة ومخيفة بعد أن كان في حالة طبيعية لم يجد السابقون في تفسير حركاته سوى أنها حلول للجن في جسده.
والعلم الحديث أثبت أن الصرع هو نتيجة لاختلال كهربي في العقل وعلاجه يكون بجلسات طبية؛ فلماذا الاستمرار في الاعتماد على الخرافات في تفسير هذا المرض..؟؟
وكذلك البعض يتحجج بأن المرضى الذين يشاهدونهم رجال يتحدثون بأصوات نساء أو نساء يتحدثون بأصوات رجال وهو أمر طبيعي فأي كائن بشري حي يستطيع أن يقلد صوت شخص من الجنس الآخر وهناك من يستطيع تقليد الحيوانات فليس معنى ذلك أن هناك حيوان شبحي في داخله..!!
والبعض يتحجج بأن المسحور ما إن يُقرأ عليه القرآن فإنه الجني يخاف ويريد الخروج من الجسد..؟؟
ولا ندري من أين استقى الدجالون المعلومات أن الجن يخافون من القرآن مع أن في كتاب الله عز وجل سورة كاملة عن الجن وأنهم يستمعون إلى القرآن ولم يُذكر بأنهم يخافون من تلاوته.
وبشكل عام لا ندري من أين استقى المشعوذون كم المعلومات الهائل عن الجن وتزاوجهم وأطوالهم وأشكالهم إضافة إلى معلومات النفث والبصق والضرب التي يمارسونها ضد مرتاديهم؛ فخير البرية "محمد صلى الله عليه وسلم" لم يؤثر عنه حديث صحيح بأنه كان يفعل ذلك ولم يؤثر كذلك عن الصحابة ولا تابعيهم بإحسان..
في النهاية كل ما أدعوا إليه القرّاء هو أن يحكموا كتاب الله وسنة نبيه الصحيحة ثم عقولهم فيما قرأوه آنفاً وسيجدون أنه الحق وأن لا يتبعوا العادات والتقاليد والخرافات..
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [البقرة : 170]