كنت أكره التدخين , وأحتقر من يضع ذلك السم الهاري بين شفتيه ,
حتى صادفت يوماً في إحدى المقاهي ذلك الهرِم , الذي رسم الزمن على وجهه جميع ملامح وتعرجات المشاعر التي ستجدها في أي وجه , إلا مشاعر السعادة !
أكاد أجزم أنه لم يشعر بطعم السعادة طوال حياته !
اعتقدت في بداية الأمر أن به جنون , على الأقل تدل على ذلك حركاته وتصرفاته وطريقة كلامه , وطريقة وضع السيجارة في فمه , قلتُ لهُ مداعباً , أو بلهجتنا ( قاط !) : يا عمي حرام عليك , تحط هالدخان في فمك , بكره اذا طقيت الثانية وش بتقول البنت بالله ؟ رمقني "العم" بنظرة مفادها ( مسوي أسلوب يعني ؟ ) , وقال : ي ولدي , أنت اذا طفشت وش تسوي ؟ , تروح تشكي على أحد .أنا زيك , أشكي وأسولف لهالدخان, لي 28 سنة محد فاهمني في هالحياة الا هو !
عندها , تأكدت أن براد الشاهي ( أبو أربع ) فارغ تماماً إلا من بقايا ورق الشاي وأغلقت التلفاز القابع في زاوية الجلسة وأغنية المرحوم طلال ( وترحل , صرختي تذبل .. في وآآآآدي لا صدى يوصل, ولا باقي أنييييين !! وترحل .. ) , وجمعت أغراضي المتناثرة,
وأوراق مادة علم الأمراض التي جلبتها معي , أخذاً بنصيحة أحد الأطباء عند ما نصحني مداعباً ( أحسن وقت للمذاكرة , وانتا تعسل ! ) بالمناسبة لم أرى ما تحويه تلك الأوراق من أول مرةٍ جلبتها معي لتلك الجلسة, أتوقع أن السبب أني لم أعمل بالنصيحة كما يجب, بالعامي (ما عسلت !). جمعت أشيائي وقفلت عائداً الى صومعتي في منزل الوالد , فبعد تلك الجملة لم أستطع النظر في عيني ذلك الرجل ...
/ \ / \
عندما أصلُ إلى جلستي المعتادة في قلب أحد المقاهي الواقعة خارج مدينة الرياض , التي أعتدتُ أن أزورها بين الحين والآخر , حتى أصبحت كالروتين المعتاد خلال الأسبوع . عندما يلمُ بي أمر ما , عندما أقع في مشكلة , أو أحمل هماً , مباشرة أتوجه إلى مكاني المفضل . كنتُ أراهم , جميعاًُ ( يعسلون ) , كنتُ كالغريب في ذاك المكان . فقط آتي لأحتسي شاهي ( أبو أربع ) ثم أعود أدراجي ! ذلك الإبريق دائما ما يكون كفيلاً بإعادتي إلى مودي الطبيعي ! لا أعلم أين يكمن السر , هل هي نوعية الشاهي ؟ أم شطارة من أعده ( العم سراج ) ؟ أم المكان برمته , أم ( رائحة المعسل ! ) , أعتقد أن السبب هو جو الرياض الرائع الذي إن كنت محظوظاً وابتسم لك الحظ فستعود بحالة متوسطة من ضيق في التنفس, مع سعال شديد, ( وعيونك تدَمع! ) خصوصاً أن جلستي المفضلة تقبع بعيداً جداً عن أقرب صالة أو جلسة مغلقة .. هناك بالخارج في الغبار الطلق , في أغلب الأحوال كانت ستدمع حتى لو كنت خارج الرياض , الأمر يستحق : ) . المهم, أنني أحببت ذلك المكان , وأحبني بدوره , أو كما أعتقد !
\ / \ /
عندما أسند ظهري إلى تلك المسندة الموضوعة على طرف جدارٍ قد بانت فيه معالم الشيخوخة , كأنما أزحت جميع الهموم عن كاهلي , ووضعتها بجانبي , هي أيضاً متكئة على نفس المسندة وعلى نفس الجدار .. غالباً ومع أول رشفة من شاهي العم سراج , الشاهي المذكور آنفاً .. يبدأ شريط ذكرياتي بالعودة إلى الخلف , والخلف جداً .. ذكريات قديمة رائعة , وأخرى حزينة , وأخرى ( حزينة جداً ) . لا تهم نوعية الذكريات , إن كانت جميعها محتواةُ في كلمة ( البراءة ) . يا الله , كم كنتُ مختلفاً جداً ! عندما كان يحلُ علينا فصل الصيف , الأجواء الصيفية رائعة جداً في مدينة الرياض , الجو حار جاف ليلاً , حار (جداً) جاف صباحاً , مع أشعة الشمس التي تأبى دائماً إلى أن تتسلط على شريط ( أبو نورة ) , الذي كنتُ أخبئه أسفل خزان المياه القابع في سطح المنزل ! فحسب قانون المنزل, لم يكن مسموحٌ لنا باقتناء تلك الأشياء , كانت أشبه باقتناء سلاح أبيض مع محاولة الاعتداء والتهديد العام لشخصٍ ما !
ذلك الشريط الذي كان إهداءً من عمتي ( بيني وبينكم , سرقته من درجها ) , كنتُ أحفظ كل حرفٍ في كل أغنية , كل وصلة وكل لحن , وحتى الوقفات التي يتوقفها أبو نورة لالتقاط أنفاسه كنتُ أعلم أين سيقف بالضبط . قصة عشقٍ بيني وبين أغنية ( يا أبو فهد ) ....
سأبوح لكُم بأحد الأسرار التي لطالما حاولت كتمانها, فكما كنتُ أعتقد ( عيب أحد يدري ! ) .
أتذكر , عندما وضعت قدمي وخطيت أول خطوةٍ على أرض كليتي كلية الطب البشري , كنت أحمل هماً وأعتبره من الأسباب الرئيسية التي دعتني لدخول كيلة الطب البشري , ولو أني لم أكن أرغب بها في بداية الأمر ,
لا عليكم ...
الأمر هو , أن أجد لأطفالي البيئة المناسبة للعيش , والدراسة ,إن رزقتُ بأطفالٍ في المستقبل .. مبكر جداً هاه ؟
السبب وراء ذلك الهم وتلك الرغبة الملحة , هو معاناتي (الأليمة والأليمة جداً )
عندما كنتُ طفلاً ! .
عندما كنتُ في الثامنة من عمري , كنتُ كأي طفل طبيعي , مرح جداً , نشيط , ذكي دراسياً .. أصلا لم أكن أتنازل عن المركز الأول أبداً , يعني ( كنت دافور ) , ما كان يميزني حينها, ما حباني الله به من الجمال والوسامة في تلك المرحلة العمرية , حتى أني كنتُ أتلقى المدائح من أقربائي وأهلي , وكلمة ( ما شاء الله) .
كنتُ أحب ذلك المنزل الذي كنا نعيش فيه , وأكره ذلك الحي الذي يقع فيه منزلنا .
كانت سمعته سيئة ولا زالت , كان التواصل الاجتماعي في ذلك الحي معدومة تماماً , خلال 3 سنوات عشناها في ذلك المنزل لم نعرف جارنا الذي بجانبنا !
المُهم ,
أحد الأيام لم يكن الوالد متواجداً بالمنزل , وقد حذرني من الذهاب للمسجد بمفردي .
أمرني إن لم يكن متواجداً أن أكتفي بالصلاة في المنزل .
ذلك اليوم ,
قررتُ أن أذهب بمفردي
( الله وأكبر يعني لي سنة ما صار شيء وبيصير في هاليوم ! ) .
خرجتُ من المنزل لصلاة العصر .
عندما انتصف بي الطريق ,
فجأةً أحسستُ بسيارةٍ قادمةٍ من الخلف , لكن كأنها كانت قريبةً جداً !
فصوتُ محركها يبدو بجانبي تماماً , لم أعر الأمر أي اهتمام , إلا أني تمنيت لو كنت بالمنزل !
توقفت تلك السيارة فجأةً , نزل شابُ من السيارة , توجه نحوي , وقفت مذهولاً
أمسك بثوبي من الخلف , وجرني من خلف رقبتي !
بالضبط كما يُجر الخروف !
واركبني بالغصب في تلك السيارة !
حاولت تفادي الأمر والصراخ , لكن ( وييييين , ما عندي أحد ) , فقد كان الشارع خالياً تماماً لحظتها , حاولت فتح الباب والنزول , ولكن في كُل مرةٍ كنتُ أتلقى صفعة من أحدهم على وجهي !
( إسكت ولا كلمة , ترى بذبحك ! ) , كانت تلك الجملة هي جل ما أسمعه طوال الطريق .
مضى السائق , لم أعلم أين كنا سنذهب , كان الشخص الذي بجانبي واضعاً يده على فمي , محاولاً إسكاتي , والآخر ممسكاً بكلتا يداي .
بكيت , واستجديتهم لإنزالي , ولكن كان أحدهم يدخن ! والأخر يضحك !.
فعلاً ( قلوب من حجر ) .
المُبكي في الموضوع , هي تلك الكلمة التي كُل مرةٍ أتذكرها أتيقن فعلاً من حجم برائتي ومن حجم قساوة قلوبِهم .
طوال الطريق كنتُ أقول لهم ( والله لا أعلم الله عليكم ! ) , وكانوا ينظرون لي وبكل إستهزاء ( علمه بسرعة ) !
توقفت السيارة , وصلنا إلى منزلٍ غريب , ترجل السائق وفتح الباب ,أدخلوني بسرعة , ذلك الشخص لا يزال واضعاً يده على فمي .
منزلٌ غريب , مهجورٌ نسبياً ,
عددٌ من النخل , دراجة طفلٍ بالية , الغبار يغطي كامل الفناء , مدفأة مهشمة في زاوية الفناء , وبقايا رماد قد اختلط بالماء , كرة قدمٍ قاومت عوامل التعرية حتى استسلمت للأمر الواقع ( وماتت ) , لم يعد فيها هواء , تحول لونها للأسود بسبب أشعة الشمس .
كانت نبضات قلبي قد وصلت للحد الأعلى منذ ولادتي , كنتُ أحس بالنبض في أذني من شدته .
( وين نوديه ؟ ) , ( حطه في الملحق ! )
أدخلوني غرفةً جانبية في الفناء , كانت كمستودعٍ أو شيءٍ كذلك , كان عددهم أربعة , أغلقوا علي الباب وتركوني بمفردي, بعد أن حذروني (ولا كلمة , تفهم يا كلب !؟) .
أخذتُ أدعوا الله ,
والله , في كل مرة أتذكر الدعاء الذي كنت أدعوه , أدخل في موجة من الضحك , كنتُ أٌقول
( تكفى يا رب , الله يخليك يا رب ) وكل مرةٍ أحاول إكمال الدعاء تأخذني الغصة , طفل , لم أكن أعلم أن يا رب هي نفسها يا الله .
المُهم ,
حتى تلك اللحظة , لم أفهم ما هو الخطاء الذي اقترفته , ولم أكن أعلم ماذا يريدون بالضبط .
( سمع الله لمن حمده ) , كنتُ أسمع إماماً يصلي , ليس ببعيد , فصوته قريب جداً .
هل أصرخ ؟
لكن, سيقتلونني لا محالة ..
لم أتوقف عن البكاء ( الصامت ) , كان الباب مغلق من الخارج ,
جلست في زاوية الغرفة منتظراً وكل ألم الدنيا يعتصرني .
ما هي إلا دقائق حتى دخل شخصٌ منهم , وبيده سكين !
فعلاً إنها سكين حقيقية , هل سيقتلني أم ماذا ؟
لن أستطيع أن أصف لكم مشاعر الخوف والهلع والألم النفسي تلك اللحظة , لكم تمنيت أن تبتلعني الأرض لحظتها أو أن يسقط ذلك المنزل ونموت جميعاً , أو أن أستيقظ فجأةً وأجدني استيقظت لتوي من أحد تلك الكوابيس المرعبة ,
( شفت هالسكين , قسم بالله لو أسمع صوت واحد , قسم بالله لا أقطع رقبتك )
قالها ويده اليسرى على رقبتي من الخلف , والأخرى ممسكاً بها السكين على رقبتي من الأمام .
( أي شيء أٌقوله لك تسويه وأنت ساكت , ولا نفس أسمع , فاهم ؟ )
لم أستطع أن أجيب بسبب البكاء , ( فاهم ولا لا !؟ ) ..
لم أجب ..
ضغط على السكين حتى أحسست أنه قد قطع رقبتي فعلاً من شدة الألم ,
(إيه فاهم ) خرجت من فمي بعد عناء ..
قفلة :
( وتذكر يوم كنا صغار !؟ ..
وتذكر يوم أصرح لك ,
أبي أكبر ... بصير انسان متعلم ,
أبي أكبر ... اببني مدرسة اطفال , عشان الناس تتعلم
وكنت أحلم وكنت أحلم .. أبي أكبر ... أببني بيت وبتزوج !
وتذكر يوم أقول اني ابتزوج ؟
ترى من جدي بتزوج , هذاك الوقت يا ظافر !
كبرنا وكبرت الأيام , وتعلمنا وتغيرنا , وتحقق كل كلامي صدق , إلا أني ابتزوج !
يا خوك شلون بتزوج ؟
اجل اسمع بقول لك سر ,
وتكفى اسمعه وانساهـ ,
أنا ياخوك , من سنتين
غلطت , وقادني جرحي , لأكبر جرح في الدنيا ..
تعرف الي بلحظة, قال : وشو ذا الحب بجرب ,
أبي أعرف صحيح الي يحب .. يموت متعذب !
أنا حبيت يا ظافر
وتعذبت , وعرفت شلون ... تشوف الدنيا بس بعين ! )
من إحدى كتاباتي, فلربما أخرجتكم من جو القصة قليلاً