شكراً أخي خالد بن عبد الرحمن،،، وسوف أكمل هنا الحلقات التي لم أكملها بعد بمشيئة الله تعالى
الحلقة الرابعة عشر
حلت الساعة الثانية ظهرا التي حددها الدكتور قولدمان لحدوث الوفاة، بيد أن قلب أخي مازال متشبثا بالحياة من خلال قشة منفطرة تكاد أن تنقطع بين لحظة وأخرى. وكان مع الدكتور ممرضتان تساعدانه في ومراقبة الأجهزة الطبية وإعطاء بعض الحقن الذي يطلبها الدكتور من وقت لآخر، وبعد مرور أكثر من ساعة بدأ الدكتور أكثر تفاؤلا وأستدعى طبيباً آخراً اسمه الدكتور واردل للإشراف عليه، وفهمت من حديثهما أنه يعتقد بأن أخي قد مات بالفعل ثم عاد للحياة مرة أخرى، لكن إذا ما مرت الساعات الثلاث القادمة على خير، فمن المحتمل أن يتجاوز المرحلة الحرجة، وأوصاه بمتابعته عن كثب ومن ثم غادر الغرفة. نظرت لأبي وللدكتور عبد الله وسليمان وخالد فشعرت بأن اللحظات العصيبة قد رسمت آثارها على محياهم جميعاً وكأن الدماء جفت في عروقهم جميعاً، فقد كانت وجهوهم شاحبة وشفاهم بيضاء متشققة، أما أمي فقد كانت خائرة القوى ودموعها قد أغرقت نقابها بالكامل وأصبحت تترنح في حركتها في الغرفة من الأسى والقنوط الذي أصابها. قامت أمي بعدما غادر الدكتور قولدمان فسقت أخي ملعقة من ماء زمزم ومسحت به على وجهه ورأسه ودعت الله بأن يشفيه وأن لا يحرمها منه وأن لا تفقده وهو في عز شبابه، بل أنها دعت فقالت "يا رب إحفظه لي حتى لو أنك أبقيته على اغمائته الحالية ما بقي له من عمر، فقد رضيت بذلك، ولكن لا تأخذه من بين يدي، يا رب".
ومرت الساعات الثلاث الحرجة بسلام وبدأت ولله الحمد تتحسن النتائج فاستبشرنا خيرا واستطاع الجميع الاستئذان بالخروج بعد أن أطمأنوا عليه وخاصة أنهم قد قضوا أكثر من 7 ساعات من اللحظات الحرجة التي أنهكتهم، فودعناهم وشكرناهم على حسن صنيعهم وأصالة معدنهم، وبقيت أنا وأبي وأمي والممرضتان. عند الساعة التاسعة مساء طلبت من والداي الذهاب وقلت لهما بأني سأنام معه في نفس الغرفة هذه الليلة، وسأتواصل معهما عبر الهاتف إن استجد شيئاً، فغادرا بعد إصراري على أن ينالا قسطاً من الراحة ويعودانه في الغد الباكر.
استمرت حالته في التحسن مع تقدم الوقت حتى أن الممرضتين استطاعتا مغادرة الغرفة بعد إطفاء الإضاءة وطلبا مني استدعائهما إذا احتجت لأية مساعدة، فشكرتهما واستلقيت على الأريكة الجلدية السوداء أرقبه عن كثب، ثم تناولت المصحف وبدأت بقراءة سورة ياسين وسط الظلام مكتفياً بالنور الصادر عن الأجهزة الطبية المتصلة بأخي. لكني سرعان ما غطيت بنوم عميق بسبب ما كابدت طوال اليوم من نصب وتعب وأنا لم أنهي نصف السورة، فبدأت تخالجني وتتلقفني الأحلام والكوابيس فأستشعرها وكأنها حقيقة وليست كالأحلام العادية التي تمر علي كل يوم. فرأيت نفسي وأنا أسير بنعش أخي فوق عربة سوداء تجرها ستة من الخيول السوداء، ويتبعني جمع غفير من جماعة المسجد الإسلامي ونحن نسير وسط شارع ريجنت بارك باتجاه شارع بورتلاند ثم نقطع ريجينت ستريت والبيكادلي ونهر التيمز، متجاوزين آلاف المتسوقين الذين يرمقونا بفضول، وآخرين بحزن من داخل الحافلات الحمراء ونحن في طريقنا نحو مقبرة بروك وود في جنوب غرب لندن.

وبعد أن وصلنا المقبرة، صلينا عليه صلاة الميت فنزلت معه القبر نحو مثواه الأخير وسجيت جسده اللحد ووجهته شطر المسجد الحرام، لكن فجأة بدأ تراب القبر ينهال علي من كل الجهات وأنا قابع في وسطه، فحاولت أن أستغيث بأعلى صوتي لمن هم في الأعلى كي لا يحسبون أني أنا الذي سوف أدفن، ولكن لم يكن ليصدر عني أي صوت وكأني فقدت القدرة على النطق، ورأيت فوق سطح القبر، الذي أصبح عميق جداً، سليمان الزنجي وهو ينظر نحوي نظرات تشفي ويدفع الرمال وهو منتشي للغاية ويساعده في ذلك نسيم الجزائري.

حاولت القفز للأعلى فأعاقني عمق القبر الذي يصل طوله نحو مترين، وبدأ التراب يغمر جسدي ووصل حتى رأسي وأنا أغوص وسط القبر ويكاد التراب يكتم أنفاسي. وبينما أنا أحاول النجاة بنفسي بعد أن فقدت كل أمل في ذلك، ظهرت لي فجأة من داخل القبر يد أخي فجذبتني بقوة نحو الأسفل، فحاولت التخلص منها بكل ما بقي لدي من قوة، ولكن قواي خارت وأنا أسبح داخل الظلام الدامس ورائحة الطين تحشر أنفاسي، فأغمضت عيناي وسددت أنفي حتى انتهى بي المطاف وسط اللحد. فوجدت أخي وقد تخلص من كفنه وتقرفص داخل اللحد الذي بدأ لي أنه فسيحاً وأكبر بكثير من الحجم الذي حفرته، ويشرف على منظر خلاب تحيطه حديقة غناء أبهى جمالا من الهايدبارك في أوج الربيع، ويتخللها أنهاراً وأشجاراً تتلألأ وتسبح فيها طيور السنور والبجع والحمام الأبيض. سألت أخي بخوف ورهبة ممزوجان بسعادة، ألم تمت بعد يا أخي؟؟؟ وكيف تخلصت من الكفن، وأين نحن الآن، هل نحن في الحياة الدنيا أم في الآخرة، رد كلا، كلا يا أخي، نحن بين الدنيا والآخرة، ولم أمت أنا ولن تموت أنت، فالله قد كتب لي من العمر بقية ولا بد لي أن أحياها لأني قد دفنت قبل أواني ويجب علينا أن نخرج سوياً من هنا وبأسرع وقت وبأية طريقة لنعيش ما بقي لنا من الحياة، أجبته بخوف وذعر شديدان، كيف يمكننا ذلك ونحن تحت التراب وفوقنا من يتربص بنا إن حاولنا الخروج؟؟، فنظرنا حولنا فوجدنا على يمين اللحد أحد المسلمين متكئاً على سرير ويتناول التين والعنب، فأخبرناه بأنا نريده أن يساعدنا لنخرج من هنا، فابتسم لنا ابتسامة صافية وأخبرنا بأنه يتوجب علينا إذا ما أردنا العودة للحياة الدنيا بأن نقطع تلك المفازة التي تقع فيها قبور الكفار في الجهة المقابلة من اللحد، وهي صحراء قاحلة لا يوجد فيها ماء أو كلاء، وقد يقضى علينا قبل أن نصل طريق الحياة فنعود لنفس هذا المكان الذي نحن فيه الآن، ونصحنا أن نبقى هنا في مكاننا فهو أجمل من الدنيا كما نرى. وبالرغم من جمال المكان إلا أننا تمسكنا بخيار الحياة الدنيا فعدونا فوق الرمال لا نلوي على شيء ونحن نقطع المفازة برمالها الحارقة وجوها اللاهب شديد الحرارة. وبعد أن قطعنا نصف المسافة وتجاوزنا قبور الكفار، دخلنا وسط وادي عميق وضيق جداً وذي صخور كلسيه عالية تتشكل صخوره كوجوه أناس عرفناهم في الدنيا ويمتلئ الوادي بأشجار طلح متشابكة تحمل شوكاً كأنه رؤوس الشياطين. فأسرعنا الخطى أكثر فأكثر وفجأة ظهر خلفنا قطيع من الإبل السوداء ترمقنا بنظرات متوعدة وتعدوا خلفنا تريد أن تفتك بنا، فبدأنا بقراءة المعوذات ونحن نلهث وتكاد تنقطع أنفاسنا من وادي الشياطين المرعب

، فلما دنت منا العير وأوشكت أن تنهش رقابنا نفث عليها أخي فاندثرت كرمال واستوت على الأرض. فأكملنا عدونا نحو خط الحياة الدنيا وقبل أن نصلها بأمتار بسيطة سقط أخي منهكاً من التعب فعدت إليه أرجوه أن يكمل ما بقي من الطريق لأنه لم يبق سوى أمتار قليلة ونعود للحياة، إلا أنه لم يستطيع أن يتحرك من مكانه وبدأ يستغيث ويطلب الماء، ....أريد ماء، نديم لا تدعني أموت من العطش، أريد جرعة من الماء، حتى أنه صرخ بأعلى صوت فأحدث دوياً هائلا تردد صداه في جنبات وادي الشياطين،،،،، ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،فصحوت مذعوراً من النوم على صوت استغاثته أتعوذ بالله من شر الشياطين ومن هذا الكبوس المرعب، وتحسست نفسي وسط ظلام الغرفة وسكونها والذي لا يقطعه سوى صوت قطرات المغذي التي تسقط رويدا رويدا، فاستعدت توازني وحمدت الله أنني ما زلت على قيد الحياة وأنه مجرد كابوس وسوف يهدأ روعي بعد قليل. وبالرغم من أني أدركت أني كنت أحلم طوال الوقت، بيد أن كلمات أخي التي ترددت في الحلم "أريد ماء، نديم سأموت من العطش، اسقني ماء أرجوك" لا زالت تتردد على مسمعي، فأنصت جيداً وإذا بي أسمع أخي هذه المرة يرددها حقيقة وسط الظلام وليس حلماً، فتحول خوفي ووجلي إلى بهجة وأضأت الأنوار وتفحصته وهو شبه نائم وتأكدت أنه الحياة قد دبت فيه من جديد، فهاهو يتمتم دون أن يشعر بتلك الكلمات،

،، فحمدت الله سبحانه الذي يحي العظام وهي رميم، وسقيته بالملعقة قليلا من الماء ثم طلبت الممرضات الذين وصلن على عجل وفحصنه وأخبروني بأنها لمعجزة كبيرة أن يعود للحياة وتظهر علامات الشفاء بسرعة كبيرة هكذا. مبروك يا نديم لقد انتهت الفترة الحرجة، وهذه أول بوادر الخير، فحمدت الله من أعماق قلبي وصليت ركعتين شكرا له عز وجل، وبعد أن أطمأنت أنه بخير عدت للأريكة أرقبه وأنا في غاية السعادة، ومن ثم غطيت في نوم عميق دون أحلام مرعبة هذه المرة.
وبفضل من الله وبعد أيام معدودة بدأ أخي يستعيد وعيه ويفتح عينية ويتعرف على من حوله شيئاً فشيئاً، وكان في البداية يتحدث معنا وكأنه قد فقد بعض من عقله، فأول مرة تحدث فيها معي بعد أن استطاع التعرف علي، أمسك يدي بقوة وشد عليها ونظر لي نظرة غريبة وكأنه يراني لأول مرة ثم قال لي (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون اخي اشدد به ازري)، فأستغربت من طريقته وسألت الطبيب عن ذلك فأخبرني بأنها بسبب المخدر الذي أعطي له لكي يساعده على تخفيف سكرات الموت، والآن سوف يتم تخفيضها حتى تسحب نهائيا ويعود طبيعيا مع مرور الوقت.
تحسن أخي تحسنا كبيرا وبدأ بجلسات العلاج الطبيعي التأهيلي لتقوية عضلات جسمة، فأستعاد قدرته على المشي بعكاز، وعاد فنمى شعر رأسه الذي تساقط بسبب العلاج الكيميائي، ثم استطاع بعد مدة بسيطة التخلص من العكاز والسير بتوازن لمسافات لا بأس بها وزادت مناعته حتى اقتربت من مناعة الانسان الطبيعي.
*****************************
خلال فترة تحسنه، تحسنت كذلك نفسياتنا وعادت لنا بعض البهجة التي فقدناها، ولقيت في أحد الأيام والدتي تتاجذب أطراف الحديث مع سميرة توفيق في صالة المستشفى وكانتا منسجمتان جدا في الحديث، فوالدتي قبل ما يسمى "بالصحوة" كانت مثل غيرها من النساء السعوديات في نهاية الستينات وبداية السبيعنات الميلادية، تحب التمثيليات البدوية وتحفظ أغاني سميرة توفيق الشهيرة كلها والتي كنا نحن كأطفال نحفضها كذلك ودوما نترنم بها جل أوقاتنا، مثل أغنية "لعين موليتين واثنعش مولية جسر الحديد إنقطع من دوس رجليَّ" و "بالله تصبوها القهوه وزيدوها هيل واسقوها للنشامى ع ظهور الخيل" و ” رف الحمام مغرد .. يا دادا مجوز ولا فرداوي .. يا دادا كنك ناوي يا حبيب .. يا دادا ترا انا قليبٌي ناوي وشلك بالعشب المرعي .. وشلك باللي يريدونه". فنادتني والدتي وأخبرتني بأن سميرة كانت ماخذه على خاطرها في أول لقاء لأنا تقريبا تجاهلناها عندما رحبت بنا بحرارة، ويومها كان أخي مريضا ولم نحفل بها، وبالرغم من أن والدتي اعتذرت منها وشرحت لها الظروف وتقبلت سميرة بكل حب ورضا ما قالته والدتي، إلا أن والدتي قالت يجب أن ندعوا سميرة لوليمة عندنا في الشقة لنرضي خاطرها. ويبدو أن والدتي أحبت سميرة الأنسانة قبل الفنانة، فحاولت أن تظهر أن الاعتذار منها هو حق قد ركبنا ويجب أن نقوم بالواجب، فسعدت بذلك لأنه أمر سيفرح والدتي وسيسري عنها ويغير من روتينها اليومي في زيارة المستشفى والتسوق من الأماكن الشعبية التي تعشقها.
تحدثت مع أبي عن دعوة سميرة فوافق بدوره، وبالرغم من أنه رجل متحفظ ووقور ويظهر الكثير من الكياسة أمامنا، بيد أنه يبدو لي بأن خبرات لبنان القديمة ظهرت فجأة "كرمال خاطر سميرة توفيق"، فقال ليس من المناسب يا إبني أن ندعوها لشقتنا المتواضعة، لكن من الأفضل أن نأخذها في جولة سياحية في نهر التيمز ونعمل لها غداء يليق بمقامها أثناء الرحلة. وفعلا لم يخب ظني، فبدلا من أن نحجز طاولة يتيمة في السفينة التي ذكرها أبي، تحجج بأنه يريد أن يكون هنالك خصوصية حتى تأخذ والدتي راحتها وحجز السفينة عن بكرة أبيها وأحضر غداء فخماً وخاصاً من مطعم فخر الدين مع ست مباشرات لبنانيات مثل لهطة القشطة. فكانت رحلة ممتعة حقا، فبجانب الطعام اللذيذ والخدمة الخمسة نجوم وسوالف سميرة البدوية الذربة وطيبتها وانسجام أمي الشديد معها وإعجاب سميرة بالقصائد التي قالتها أمي وقد دونت بعضها، فقد مررنا خلال الرحلة التي أقوم بها لأول مرة على مبنى البرلمان وساعة بيق بن ولندن القديمة "ازيلت الآن وتطورت إلى منطقة الدوكلاند" وأجملها لما رسينا عند الأصيل واتجهنا لكوخ عتيق ذي أضواء خافتة ونار مشتعلة عند مدخلة ويقع على رابية فوق الضفة الجنوبية من النهر. فجلسنا نرقب هدير مياه النهر الخلابة والذي تمخر فيه أنواع شتى من الفلك، وشربنا فيه القهوة قبل أن نعود أدراجنا نحو مبنى البرلمان. وهذا الكوخ كان قد اتخذه الأديب الكبير شكسبير سكنا له في لندن لفترة من الزمن عندما كان يعرض مسرحياته الخالدة في شارع شافتسبري افينيو، في منطقة الفنون والمسارح في الويست اند.
****************************
في ليلة الكريسماس "لاحظوا عدم وجود ترتيب زمني للأحداث، لأني أكتب الحدث عندما أتذكره فقط" كنت ذاهب لزيارة أخي، بعد أن سبقني والداي فركبت الباص رقم 7 من البايزوتر في بداية شارع الكوينز واي، وكنت ألبس بنطلون رياضة، وفي طريق الكوينز واي رأيت شخص ملامحة ليست بغريبة عني يميل للسمرة وشعره منكوش، حسبته انجليزي من أصول أفريقية يجلس في قهوة الفكر العربي ويشرب عصير كبس، تجاوزته ووصلت لمحطة الباصات مقابل حديقة كنجنستون بارك وركبت الباص اللندني العتيق الأحمر ذي الطابقين متجهاً نحو وسط أكسفورد ستريت، لأتوقف هنالك ومن ثم أمشي لمسافة بسيطة نحو المستشفى في هارلي ستريت. ولمن لم يحالفه الحظ ولم يركب باص لندن الأحمر العتيق ذي الطابقين، والذي توقف العمل به في 9 ديسمبر 2004 عند الساعة الواحدة ظهرا، سأشرح له بعض الذكريات الحلوة عنه، فباص لندن الأحمر الشهير ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمدينة لندن مثله مثل أكشاك الهواتف العامة الحمراء منذ أكثر من خمسين سنة، فقد استخدم الباص الأحمر لأول مرة بطرازه العتيق في العام 1954، وأحبه الناس وأقبلوا عليه بشكله الفريد ذي الطابقين. كان باص لندن الأحمر مفتوح تماماً من ركن الجهة الخلفية اليسرى ولا يوجد فيه باب، إنما يوجد درجة بسيطة وعمود في مدخله ليسند الراكب في القفز للداخل والارتكاز على العمود لحفظ توزانه عند استقلال الباص، وكنت دوماً أفضل صعود سلمه الحلزوني وأجلس في الطابق الأعلى لأكتشف معالم الطريق أثناء تنقلي به. وبعد برهة من ركوب الباص كان يمر علينا الكمساري ومعه مكينة تذاكر ويسأل الراكب عن وجهته ومن ثم يعطيه وصل بعد أن يستلم ثمن الرحلة. عندما يرغب أحد بالنزول، هنالك جرس بزر أحمر موجود في الطابق الأول يضغطه الراكب مرة واحدة لطلب النزول، وبعد أن ينزل الراكب يقوم الكمساري بضغطه مرتين ليتحرك السائق، كنت أضغط مرة واحدة للنزول، وعندما أقفز للخارج أقوم بضغطه مرتين ليتحرك الباص فأغيظ بذلك الكمساري لأني أتدخل في عمله

. لكن الآن الباصات الآن تعتمد على سائق واحد ويستخدم عادة الركاب بطاقة ذكية الكترونية للتنقل أو يدفع مسبقاً للرحلة من أجهزة أتوماتيكية توجد عند المحطة قبل استقلال الباص خاصة في وسط لندن.
في رحلتي لأخي في تلك الليلة في الباص رقم 7، كنت منشكحا على الآخر وأنا أقرأ الصحيفة في الباص

وعندما وصلت اكسفورد سيركس نزلت عند المحطة المقصودة بعد أن ضغطت الزر مرة واحدة للنزول، ومرتين حتى يتحرك الباص، ومن شدة البرد وضعت يداي في جيبي ولكني اكتشفت ويا للهول بأن مفتاح الشقة غير موجود في جيبي

، وأعتقد بأن ذلك حدث بسبب انشكاحي للأخر على مقعد الباص، فصعقت من المصيبة التي وقعت بها لأنه لا يوجد لدي مفتاح احتياطي فعدوت من الخرعة نحو الباص الذي نزلت للتو منه فسبقته وسبقت الذي قبله والذي قبل إلي قبله،

لأن هنالك عادة أكثر من باص يحمل الرقم 7، يخدم نفس الخط ويفصل بينهما دقائق معدودة، وتوقفت بعد ذلك عن العدو لأني خفت أن أخرج بسبب ركضي المتواصل عن حدود لندن

أو أني من الممكن لو استمريت في العدو أن أغرق في بحر المانش الذي يفصل بريطانيا عن فرنسا

، فأنتظرت الباصات عند أحد المحطات المتقدمة وبدأت بايقافها بكل قوة عين واحداً تلو الأخر وفتشتها جميعا أمام دهشة الكمساري والسائق وخوف الركاب من البلطجة إلي ما يقدر يقوم بها حتى رجل البوليس الانجليزي، ولكن للأسف لم أجد أثرا للمفتاح. عدت للمستشفى قافلة وياي واتصلت على جوال أبي وأنا في الطريق وأخبرته بالمصيبة الي حصلت وأني ضيعت مفتاح الشقة ولازم نروح فندق حتى الغد لين يحلها ألف حلال،،،،،أووووووووبس

،،،،،لحظة يا شباب، شلون مشت عليكم الشلخة،،،

خخخخخخخ

"كلمت أبي بالجوال ،،،،إذا أنتم مركزين صح، ترى القصة صايرة في العام 1984، يعني حتى البيجر ما كان موجود!!!!،

،،،، ما عليه واحد صفر عليكم، تصدقون كل شيء، بس الحقيقة إني وصلت المستشفى وأخبرت والدي بما حدث، وكانت موجودة معنا ممرضة اسمها مسز قراث، فقالت بكل بساطة مادمت بالليل ولا يوجد محل مفاتيح اتصل بالمطافيء وسوف يفتحون لك الباب. وفعلا اتصلت بهم وأعطيتهم العنوان وطلبوا من التواجد خلال نصف ساعة وذهبنا هنالك وبكل بساطة فتحوا الباب، ووصلت رسالة لنا بعد أسبوعين بأن الخدمة مجانية بمناسبة أعياد الميلاد،،،،،،واكتشفت إن الماراثون إلي سويته وتفتيش الباصات وتعطيل الأوادم إلي رايحين يحتفلون بأعياد الكريسماس ما كان يسوى علي،،،،والمسالة مافي أبسط منها،،،،،، بس تسلمون والله يا مطافي لندن وشكرا على العيدية الحلوة

.
معليش شطحت فيكم شوي، بس برجع وأقولكم عن صاحبنا إلي كان في مقهى الفكر العربي، فقد كنت أسير مرة أخرى في شارع الكوينزواي، بعد نحو خمسة أيام، وكانت تلك الليلة هي ليلة رأس السنة الجديدة ورأني نفس الشخص الموجود في قهوة الفكر العربي الأسمراني أبو كشة، وانتبه لي، لأنه يبدو أنه لم يكثر بعد من عصير الكبس، وناداني بالعربي .....نادم....نديم، لو سمحت يا أخ، إنت اسمك نادم، قلت لا، لا، أنا اسمي نديم، ورحب بي بشدة واكتشفت أثناء الحديث معه بأنه أخ أحد أصدقائي في الدمام وسبق أن تقابلنا بس هو عرفني وأنا ما عرفته، كان اسم الشخص "عباس صخونة" وهو يدرس اللغة الانجليزية ويتصرمح في لندن منذ ستة أشهر، سالني وين رايح، قلت بروح حفل معلاق،،

، قصدي رأس السنة الجديدة في الترافلقار سكوير، قال زين بجي معاك بس تعال خلني أكمل قهوتي. وبدأ الرجال يشرب العصير حتى الثمالة، وبعدين مشينا لمحل الاحتفال في ساحة الحمام زي ما يسمونه العرب، وكان عدد المحتفلين حوالي مئة ألف. كان الكل سعيداً ويغني ويرقص وهم ينتظرون آخر عشرة ثوان من السنة الحالية ليقوموا مع دقات ساعة "بيغ بين" وساعة كنيسة "تشرينق كروس" القريبة من موقع الحفل بحساب تلك الثواني العشر الأخيرة حتى تدق آخر ثانية فيعلن دخول السنة الجديدة ويبدأ الاحتفال والقبلات والأحضان والصخب والهيستيريا الجماعية واختلاط الحابل بالنابل والألعاب النارية والتمنيات بسنة سعيدة. وتذكرت خلال دقات الثواني العشر الأخيرة لساعة "بق بن" التي كانت تعلن من خلال طنينها الهادر اسدال الستار عن العام 1984، ومولد العام الجديد 1985،

تذكرت، ولا أعلم لماذا

، تلك الأغنية الخالدة التي كنت أسمعها قسرا من "غصب وان" والتي أصبحت من مراسم كل عيد " مـن الـعـايـديـن .. ومـن الـفـايـزيـن .. إن شـاء الـلـه،،، مـن الـعـايـديـن .. ومـن الـفـايـزيـن .. إن شـاء الـلـه "، فلله درها من أغنية، فمنذ أن ظهرت تغير أكثر من أربعة وزراء إعلام ولم تتغير ولم يتبدل لحنها ولم يودها مطرب آخر ولم يعمل لها فيديو كليب وكأنها من المسلمات التي لا نقاش فيها، فبقيت كاتمة على أنفاسنا ولاحول ولا قوة إلا بالله. ولسوء الطالع أو النازل، لافرق، فإن بعض أصدقائي عندما يأتي العيد يحولها نغمة لجواله. وخلال آخر خمسة ثواني لدقات ساعة "بيق بن" تذكرت كذلك عيدنا المليئ بتصنع الابتسامة وعبارات المحبة والترحيب المككرة، فلا شيء يميز العيد لدينا...سوى الاسهاب بالمجاملات....وكثرة السؤال عن الحال ....، ومظاهر الاحتفال لدينا سيارات محملة بالبطانيات والعفش تجوب الطرق السريعة بين المدن، إلي في الشرق يروح الغرب والشمال للجنوب والعكس، فعيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ, بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ.
وعندما بدأت السنة الجديدة، يبدو أن صاحبنا "عباس صخونة" قد خرج عن طوره تماما مثله مثل بقية الناس من حوله، فقام بكل صفاقة بعمل حركة غريبة للاحتفال بطريقته الخاصة وسط الزحمة، فكان كلما مرينا من جانب حشد من البشر أعطاهم شلوت سريع ومن ثم يلتفت نحوي بخفة وكأنه يتحدث معي وليس له علاقة بمن فعل الشلوت، طبعا محد عرف إنه هو الي يعطي شلوت لأنه يسويها بحركة احترافية رغم انه خارج وعيه، وبصراحة شاركته مرتين أو ثلاث باعطاء الشلاليت بعد ما عجبتني الشغلة، لكن في آخر مرة تصوروا وش سوا "عباس صخونة" وبغباء منقطع النظير شات له واحد عسكري انجليزي عكنف طوله مترين من غير حساب طول الطاقية، ومن هول المفاجأة والصدمة من تصرفه الأرعن صرخت بلهجة دمامية بائسة "بلللللللللللل بللللللل بلللللل"،

وانتبه الشرطي لي وأنا أتأسى على ما سيغدو عليه حالنا لا محالة بالرغم من حذر "عباس صخونة" فعرف أننا نحن من أعطاه الشلوت المحترم فقبض علينا من رقابنا وقذف بنا في البقس بتاعهم وعلى طول إلى مركز البوليس إلي في "بادنقتون" وحشرنا لساعات مع السكارى والبلطجية، وهي أول مرة بحياتي أدخل فيها قسم بوليس كمدان. وبسبب كثرة الموقوفين تلك الليلة أخذوا عناويننا وأطلقوا سراحنا، وبعد نحو ثلاثة أسابيع استدعونا للمحكمة وحكموا على بأن أكتب عشرين صفحة، لثلاثة أيام، وفي كل صفحة أكتب" أنا أحترم رجال البوليس"، أما "عباس سخونة" فلأنه الفاعل، فقد حكم عليه بغسل درج ساحة الحمام لمدة ثلاث ساعات ولثلاثة أيام، أختارها عباس لتكون أيام الجمعة والسبت والأحد سحبة واحدة بعد أن اشترى له مكنسة ومساحة وسطل وعلبة تايد.
يتبع