المنتديات الموقع العربي الموقع الانجليزي الهلال تيوب بلوتوث صوتيات الهلال اهداف الهلال صور الهلال
العودة   نادي الهلال السعودي - شبكة الزعيم - الموقع الرسمي > المنتديات العامة > منتدى المجلس العام
   

منتدى المجلس العام لمناقشة المواضيع العامه التي لا تتعلق بالرياضة

إضافة رد
   
 
LinkBack أدوات الموضوع طريقة عرض الموضوع
  #1  
قديم 12/01/2010, 06:24 PM
كاتب مفكر بالمجلس العام
تاريخ التسجيل: 22/11/2005
المكان: في زمنٍ حياديّ
مشاركات: 1,847
للمدن تفرد وحديث / الطيب صالح

"إنك لا تدخل المدن، ولكنك تغوص في أعماق ذاتك"

منذ أول مرة قرأت فيها لهذا الأديب، عرفتُ أنني مقبلٌ على خير كثير، فأدبه بحقٍّ "أدب شريف"، لا يضيع وقتك بقرائته، وإنما أنت تزيد إلى علمك وأدبك، وتستثمر في عقلك، أديبٌ درس في بريطانيا، وعمل في هيئة الإذاعة البريطانية وعمل في اليونيسكو ودعم مشاريع محو الأمية في الوطن العربي، في أدبه أحب المتبني، وأحب كل جميل في الشرق والغرب.


الطيب صالح، عبقري الرواية العربية، وصاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" الرواية التي اختيرت ضمن أفضل مئة رواية عالمية في القرن العشرين، الذي مثل في روايته العلاقة بين السوداني والانجليزية، التصادم بين الشرق والغرب في هذه العلاقات الإنسانية. هذا الطيب صالح، الموسوعة الفكرية والفلسفية والأدبية.

اخترت لكم منه مقالة في وصف مكة، من كتابه "مختارات ٣: للمدن تفرد وحديث: الشرق" وهو كتاب يجمع مجموعة من مقالات نشرت سابقا له في مجلات ومنشورات كمجلة المجلة. عسى أن تعجبكم.
اضافة رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12/01/2010, 06:25 PM
كاتب مفكر بالمجلس العام
تاريخ التسجيل: 22/11/2005
المكان: في زمنٍ حياديّ
مشاركات: 1,847
مكة المكرمة

إنك لا تدخل المدن، ولكنك تغوص في أعماق ذاتك، بحثًا عن صور المدن في خيالك. مكة المكرمة ما هي في الواقع المرئي؟ مجرد مكان. بطحاء ضيّقة تكاد تخنقها الصخور الجُرد التي تحيط بها. عمارات وطرق وأسواق. وجموع من البشر. بعض قُطان هذا المكان، يبيعون ويشترون، ويأكلون ويشربون، ويروحون ويجيئون، وكأنهم في قرية أخرى، وكأنهم في واد آخر.

سبحان الله. في هذا المكان بالذات، هرولت المرأة، وصرخ الطفل، وانبثق النبع. ثم توافدت أفئدة الناس وارتفعت أركان البيت.

ثم تفجّر نبع آخر، تفجر بعد قرون، وتفجر في اللحظة نفسها، وتفجّر منذ الأزل، قبل أن تكون السماوات والأرض. امرأة أخرى وطفل آخر. كان إسماعيل مثل اليتيم، وهذا محمد بن عبد الله، يتيم بالفعل. أشرقت السماوات والأرض. كفت الذئاب في الوديان عن مطاردة الغنم، ولبدت السباع في شعاب الجبال، وسكنت الطيور في أوكارها. أرهق الزمان سمعه للصوت العجيب، الذي يأتي من كل مكان ومن لا مكان. ولم يدر أهل مكة، إلا السعداء الذين كانوا يعلمون وينتظرون، أن ميلاد الطفل العربي اليتيم، كان بشيرًا بمولد عالم جديد، انطلاقة فرح كبير، له وقع المأساة.

لذلك، فأنت حين تدخل مكة، فإنك لا تدخل مدينة بعينها، في مكان بعينه، تجيء وكأنك تعود إلى نقطة منطلق الأحداث وكأنك تدخل في مركز الدائرة. وأنى لك يا مسكين أن تقوى على كل ذلك؟

تعالَ عند الفجر أو في الضحى أو قبيل الغروب. تعال في الصيف أو في الشتاء، تعال من أم درمان أو من أصفهان أو تطوان. تعال من جدة. سِرْ في الطريق الذي سارت فيه قوافل المحبين الأوائل رحمهم الله أمثال حاج الماحي، واغطس في لُجّة الليل، وانهلْ من ضوء الفجر، وافتح نوافذ روحك قدر المستطاع لانعكاسات ألوان السماء والأرض والجبال.

حين تدخل أم القرى، وترى مآذن البيت العتيق المعمور، فإنك لن تكون مهيّأ للدخول، ولن تكون أهلاً للدخول. لا تتعجل، تريث قليلاً وانظر إلى الحشود الراكعين والساجدين. انظر إلى الطائفين حول الكعبة، كما يجري الماء في عروق الشجرة. تخيّلْ نقطة البدء كما وصف التجاني يوسف بشير رحمه الله:
ربِّ في الإشراقة الأولى على طينة آدمْ
....................... أمم تزحم في الغيب وأرواحٌ تحاوَمْ

ادخل الآن في الزحام. إنك عار كما ولدتك أمك لو تدري، رغم الإزار حول وسطك وعلى كتفيك. كانوا يطوفون عُراةً في الزمان الأول، زمان بكورة الحياة، ولم يكن ذلك من أفعال البذاءة. البذاءة جاءت عندما سقطوا وسقط عنهم لباس الطُّهر الفردوس، وبدت لهم، كما بدت لآدم وحواء، سوءاتهم.

اندسّ في غيابات الزحام، فأنت في الحقيقة لا شيء، لا أكثر من نثار الهباء في ملكوت الله، مهما بلغ شأوك في موازين أهل الدنيا. فُك الأغلال التي كبلتك بها الدنيا. تخفّف من أثقالك قدر المستطاع. إن كنت صاحب جاه فارم عنك أعباء جاهك، وإن كنت صاحب مال، فألق بخزائنك في هذا البحر، وإن كنت صاحب اسم أو صيت، فلن يغني عنك اسمك ولا صيتك في ذلك الزحام. انْس إن استطعت، ولكنك لن تستطيع، فأنت في الدنيا وبها، وهي محيطة بك مثل الموت، أقرب إليك من حبل الوريد. إنما حاول جهدك، فوشيكًا سوف تعود إلى ما كنت فيه، وقد تفيق وقد لا تفيق.

قبل الحجر الأسود فهو ليس حجرًا، وتعلق بأذيال الكعبة، واستنشق العطر، فهو ليس من عطور هذا الزمان. وتكون سعيدًا إذا جرت الدموع من عينيك، وخفق قلبك واهتزّت أركان ذاتك.

هرولْ بين الصفا والمروة، كما هرولت أم الوليد أول الأمر، والطفل يبكي، ولا ماء ولا قوت ولا أهل، وشيء جليل يوشك أن يحدث له طعم المأساة.

ثم اجلس في صحن المسجد، وتأمّل وتمهّل، وتزوّد وسعك. عما قليل سوف تعود إلى ما كنت فيه. سوف تطمرك الحياة بهمومها وأهوائها وأكاذيبها. سوف تعود إلى جاهك وسلطانك، إلى مالك وخدمك وحشمك، إلى اسمك وصيتك. كنت متسربلاً وأنت عار في هذا المكان. وحين تتلبّس ثيابك وأوهامك وشهواتك، سوف ترتدّ إلى عُريك القديم. فتمهّل ولا تعجلْ، وقد تفيق وقد لا تفيق.

اخر تعديل كان بواسطة » صقر فيصل في يوم » 12/01/2010 عند الساعة » 06:42 PM
اضافة رد مع اقتباس
  #3  
قديم 12/01/2010, 06:59 PM
زعيــم فعــال
تاريخ التسجيل: 17/02/2008
المكان: .. عروس البحر ..
مشاركات: 493
.,
ولقلمه ايضا تفرد وحديث ..
احساس كامل بالموقف .. وانت على اعتاب كلماته ..
كانك تلج معه هذا المشهد وتراه بعينيك صورة لا كلاما ..
فكرا لا زخرفة ..

.,

صقر فيصل ..
اقتباس رائع ..صراحه اول مرى اقرأ للطيب صالح .. وليست الاخيره ..
فقلمه يجبرك ..
يعطيك العافيه
.,
اضافة رد مع اقتباس
  #4  
قديم 12/01/2010, 08:01 PM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 19/01/2007
المكان: غربـة
مشاركات: 2,040
اهــلاً صقر فيصل ،،

اولاً .. أُهنئك على الإختيار المميز ، لأديب ذو أناقة ورقيّ رفيعين ..
يطيب لي أن اقرأ قطرات عِطره.. بل مِداد جمالياته اللامنتهية !
يتسع مــدى العذوبة كُلما أعدنا تجربة القراءة ..

رحمه الله رحمةً واسعة ،،



قرأتها على عجل وإقتبست الأجمل ..

إقتباس

ثم اجلس في صحن المسجد، وتأمّل وتمهّل، وتزوّد وسعك. عما قليل سوف تعود إلى ما كنت فيه. سوف تطمرك الحياة بهمومها وأهوائها وأكاذيبها. سوف تعود إلى جاهك وسلطانك، إلى مالك وخدمك وحشمك، إلى اسمك وصيتك. كنت متسربلاً وأنت عار في هذا المكان. وحين تتلبّس ثيابك وأوهامك وشهواتك، سوف ترتدّ إلى عُريك القديم. فتمهّل ولا تعجلْ، وقد تفيق وقد لا تفيق


يا الله !!


سأقضي ليلتي مع هذه المقالة ،


شكراً الى حين عودة أخــرى


اضافة رد مع اقتباس
  #5  
قديم 13/01/2010, 01:41 AM
الصورة الرمزية الخاصة بـ مدريدي جداً
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 15/05/2005
المكان: !!! I Dont Know Yet
مشاركات: 2,307
صقر فيصل...


حلقت حتى أتيتنا بمعزوفة من أعالي الجبال...

عند قراءة هذه الكلمات تبدأ بالدخول في عالم يُسمح فيه للإنسان
بالتحليق...

ففجأة تجد مآذن الحرم تظهر لك من بعديد ثم ما تلبث أن تبدأ الطواف بالبيت
العتيق و صولاً بالجلوس في الصحن و التفكر في عظمة هذا المكان...


سحر و وصف عميق لم أقرأ مثله في حياتي...


رحم الله الطيب...



صقر...
أتمنى أن تتحفنا بمزيد من الإقتباسات...
دمت مبدعاً...





تحياتـ ي ـــ
اضافة رد مع اقتباس
  #6  
قديم 13/01/2010, 09:58 AM
الصورة الرمزية الخاصة بـ هلالي من ارض اليمن
مشرف منتدى المجلس العام
تاريخ التسجيل: 02/08/2005
المكان: بين الحلم والأسوار !
مشاركات: 13,589
نسأل الله له الرحمة والمغفرة والجنة



يحفظك ربي أخي الغالي : فيصل

كما كان النص رائعا فقد كنت رائعا في أختيار النص

لم أعرف الطيب الصالح سوى في عموده الشهري بالصفحة الأخيرة من ( مجلة المجلة ) وهو يتقلد عمامته والزي السوداني مما أضفى على شخصيته طابع الأصالة والتميز بين ثنايا تلك الصفحات الى جانب مقالاته الرائعه ( رحمه الله ) ،،

ثم كان ذات يوم عندما وجدت رسالة من أخينا الحبيب ( فياض ) يحدثني فيها عن ( موسم الهجرة الى الشمال ) و التي قام بعد ذلك بارك الله فيك بعمل ملخص عنها ولكن ما فاجئني في حديث فياض في ذلك الوقت أن هذه الرواية كانت قد نفذت من معرض الكتاب الذي كان مقاما في تلك الفترة التي أعقبت وفاة الأديب : الطيب صالح ( رحمه الله ) .. وحقيقة ما يجدر الإشارة به هو حجم الأحترام الذي يجده هذا الأديب الجميل في الأوساط الثقافية لدي المجتمع السعودي .. واتمنى أن لا تكون الذاكرة خانتني في تفصيل ما



كم نسعد بحضورك إيها الراقي

لا عدمناك

والله يعطيك العافية ،،،
اضافة رد مع اقتباس
  #7  
قديم 13/01/2010, 06:44 PM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 31/03/2005
المكان: جـدة
مشاركات: 3,627
اهلا فيصل
اختيار رائع وفيه حكم كثير
ماشاءالله عليك ينبوع معرفه تعلمت منك اتطلع واقرى بكل المجالات

الله يحرسك .. واصل







تحياتيـ
عاشقة الزعيم15

اضافة رد مع اقتباس
  #8  
قديم 15/01/2010, 12:43 PM
كاتب مفكر بالمجلس العام
تاريخ التسجيل: 22/11/2005
المكان: في زمنٍ حياديّ
مشاركات: 1,847
إقتباس
الرسالة الأصلية كتبت بواسطة شمـ v.i.p ـوخ
.,
ولقلمه ايضا تفرد وحديث ..
احساس كامل بالموقف .. وانت على اعتاب كلماته ..
كانك تلج معه هذا المشهد وتراه بعينيك صورة لا كلاما ..
فكرا لا زخرفة ..

.,

صقر فيصل ..
اقتباس رائع ..صراحه اول مرى اقرأ للطيب صالح .. وليست الاخيره ..
فقلمه يجبرك ..
يعطيك العافيه
.,

وهذه سمة الأقلام التي لا ترص الكلمات رصا لتصنع الأدب، بل تستشعره وتكتبه ليكون في نفسها وقعه قبل نفوس الآخرين.

شكرًا لكِ يا شموخ، والله يعافيك
اضافة رد مع اقتباس
  #9  
قديم 15/01/2010, 09:09 PM
كاتب مميز بالمجلس العام
تاريخ التسجيل: 03/06/2003
المكان: نفس المكان
مشاركات: 1,444
سأصدقك القول ..
هكذا النقل وإلا فلا للمنقول !
لك يا صقر
اضافة رد مع اقتباس
  #10  
قديم 16/01/2010, 01:17 AM
الصورة الرمزية الخاصة بـ الكلاسيكي
عضو مجلس إدارة الموقع الرسمي
تاريخ التسجيل: 06/04/2003
المكان: دنـيــآي ~
مشاركات: 18,711
اهلاً وسهلاً صقر فيصل ..

كعاتدك متميز بالطرح .. وحسن الانتقاء ..
فعلاً مقاله تستحق الاهتمام والقراءه .. قرأتها وتمنيت لو انه اطال بطرحه ..
كيف لاتكون متميزه والحديث عن اطهر بقاع العالم !

كاتب رائع .. وراق لي قلمه .. كما يروق لي قلمك .
تقبل احترامي وتقديري ..
دمت بخير
اضافة رد مع اقتباس
  #11  
قديم 16/01/2010, 07:54 PM
الصورة الرمزية الخاصة بـ سيناتور هلالي
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 01/03/2009
مشاركات: 4,659
كاتب مبدع رحمه الله..

كانت كتاباته في مجلة المجلة دائما ماتغرس في نفسي معان جديدة لم أعرفها من قبل..بل كان أستاذا لي في بعض جوانب حياتي من خلال كتاباته الرائعة و المعبرة ..

صقر فيصل أقسم بالله إنك رائع..

واختيار للعنوان والكاتب أروع وأروع..

تحياتي لك أيها الرائع..

..سيناتور..
اضافة رد مع اقتباس
  #12  
قديم 17/01/2010, 07:09 PM
كاتب مفكر بالمجلس العام
تاريخ التسجيل: 22/11/2005
المكان: في زمنٍ حياديّ
مشاركات: 1,847
إقتباس
الرسالة الأصلية كتبت بواسطة عقد الياسمين
اهــلاً صقر فيصل ،،

اولاً .. أُهنئك على الإختيار المميز ، لأديب ذو أناقة ورقيّ رفيعين ..
يطيب لي أن اقرأ قطرات عِطره.. بل مِداد جمالياته اللامنتهية !
يتسع مــدى العذوبة كُلما أعدنا تجربة القراءة ..

رحمه الله رحمةً واسعة ،،



قرأتها على عجل وإقتبست الأجمل ..




يا الله !!


سأقضي ليلتي مع هذه المقالة ،


شكراً الى حين عودة أخــرى



أحمد الله أن قد وجدتِ في هذه ما يعجبُك يا أديبتَنا. وإن شاء الله يعجبك القادم.
شكرًا جزيلاً لكِ، ودمتِ رعاية المولى
اضافة رد مع اقتباس
  #13  
قديم 17/01/2010, 07:44 PM
الصورة الرمزية الخاصة بـ Q u S a Y
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 31/12/2008
المكان: الملحـق
مشاركات: 1,563
ً

طرح مميز من عضو مميز , فعلا مقاله تستحق القراءه
الطيب صالح من افضل الكتاب , { رحمه الله }

ً
اضافة رد مع اقتباس
  #14  
قديم 18/01/2010, 06:00 PM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 29/07/2004
المكان: أرض الله الواسعة !
مشاركات: 2,160
أهلاً بالأخ الحبيب فيصل ..

لا غرابة أن يجتمع طيّبان في هذا الموضوع .. أنت و هو !
انتقاء متميّز , و مقالة تُكتب بماء الورد . كيف لا و هي عن أشرف البقاع و أطهرها , عن مكة المكرّمة
الطيّب صالح أديب فريد قرأت له بعض المقالات و ستكون لي وقفة مع أدبه إن شاء الله عمّا قريب .

شكراً لا تكفيك
اضافة رد مع اقتباس
  #15  
قديم 19/01/2010, 11:13 PM
كاتب مفكر بالمجلس العام
تاريخ التسجيل: 22/11/2005
المكان: في زمنٍ حياديّ
مشاركات: 1,847
المدينة المنورة 1

"قمت باختيار المقاطع التالية من مقالاته الثلاث عن المدينة"

ما أجمل الفجر في هذه المدينة. السماء صافية، وأنت تحس بالدّفء رغم لذعة البرد، وأيادي الحرم النبوي العشر ترتفع في السماء مضيئة ضوءًا وديعًا لا يُعشي العين، كأنّما يجذب إليه خيوط الفجر الطّالع، كما تجذب أصابع ناعمة ثوبًا من الحرير. الفجر هنا لا يطلع من الشرق، بل يجيء من الجهات كلها في دائرة تحيط بالمدينة. حقًا إنها المدينة المنوّرة.

تسير في شارع ((أبي ذر الغفاري)) يحدوك الصوت الذي لا يأتيك من مآذن المسجد ولكن تحس به مثل صلصلة حُليّ ذهبية في صدرك. صوت هو مجموعة أصوات، تأتي من أماكن شتّى ومن عصور غابرة. تدخل في ذلك الزحام المطمئن، تدخل في هدوء كما يدخل الخيط في نسيج الثوب. هذا الزحام له مذاق غير الذي رأيته بمكّة.

اجلسْ بعيدًا عن (الرّوضة) وتأدّب واحتشم. لا تتعجّل المثول في تلك الحضرة. انتظر كما انتظر (حاج الماحي):

اعطونا الإذن ندخل على السُّلطان
....................... سيّد الدَّار ضمن قال عبيدي (أمان).

فيما بعد سوف تقف خاشعًا تحمل نعليك تحت إبْطك، علامة التذلُّل عند قومك الكرام الذي لا يطيب لهم الذّل إلا في مثل هذا الموقف.

كان الصاحب بهاء الدّين وزير الملك الظّاهر، لا يسمع قصيدة الإمام شرف الدين أبي عبد الله البوصيري المسمّاة بـ(البردة) إلاّ واقفًا حافيًا عاري الرأس، وكان يحب سماعها كثيرًا ويتبرك بها هو وأهله.

يطوف بخاطرك الإمام البوصيري رحمه الله. ما أشدّ ما أحب الرّسول الأمين، وما أجمل ما غرّد بذلك الحب:

أمِن تذكّر جيرانٍ بذي سَلَم
....................... مزجْتَ دمعًا جرى من مُقْلةٍ بدمِ
أم هبَّت الريح من تلقاء كاظمة
....................... وأوْمض البرقُ في الظّلماء من أضَم
فما لعينيك إن قلت اكفُفا همتا
....................... وما لقلبك إن قلت استفقْ يهِم
أيحسبُ الصَّب أن الحب منكتمٌ
....................... ما بين منسجم منه ومضطرمِ

كان إمامًا في ذلك المضمار، وقد سار في أثره عدد من محبي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، منهم أمير الشعراء الذي لم يعرف شعره جلالاً وسموًّا كما حدث في (النبويات). وجاءت أم كلثوم بصوتها العبقري فإذا للكلمات أجنحة. ما أعظم الفن حين تلتئم عناصره في خدمة مثل هذه الأعتاب.

ريمٌ على القاع بين البان والعلم
....................... أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرُم
لمّا رنا حدثتني النفسُ قائلةً
....................... يا ويح جنبك بالسم المُصيب رُمي

هذا، والحقّ يقال، مطلعٌ لا يقلّ جمالاً عن مطلع قصيدة البوصيري، وإن كان ذاك أقوى مراسًا على السباحة في بحر العشق.
اضافة رد مع اقتباس
   


إضافة رد


قوانين المشاركة
غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
غير مصرّح لك بنشر ردود
غير مصرّح لك برفع مرفقات
غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك

وسوم vB : مسموح
[IMG] كود الـ مسموح
كود الـ HTML مسموح
Trackbacks are مسموح
Pingbacks are مسموح
Refbacks are مسموح



الوقت المعتمد في المنتدى بتوقيت جرينتش +3.
الوقت الان » 07:38 PM.

جميع الآراء و المشاركات المنشورة تمثل وجهة نظر كاتبها فقط , و لا تمثل بأي حال من الأحوال وجهة نظر النادي و مسؤوليه ولا إدارة الموقع و مسؤوليه.


Powered by: vBulletin Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd

Google Plus   Facebook  twitter  youtube