
19/01/2010, 11:14 PM
|
كاتب مفكر بالمجلس العام | | تاريخ التسجيل: 22/11/2005 المكان: في زمنٍ حياديّ
مشاركات: 1,847
| |
المدينة المنورة 2 ما أكثر الضوء في هذا المكان. تشعر أحيانا لكثرة الضوء، أن الشمس هنا لا تغيب ولا تشرق. كأن الضوء ثابت يصدر عن منبع مستقل. ضوء مثل بُرعم الزهر أول الربيع، رهيف مشوب بخضرة. الخضرة التي في بساط الروضة، بين الضريح والمنبر، وفي قبة الحرم لله كيف تحس بالربيع وأنت في الشتاء، وبالصباح وأنت في المساء.
كذلك أحس المحبّون قبلك، وقد كانوا أرسخ قدمًا وأقوى مراسًا، وأفصح لسانًا. كذلك أحس البوصيري والبرعي وشوقي والبارودي. وهذا (حاج الماحي)، العاشق السنّاري، رأي ضوء القبة بعين بصيرته، قبل أن يراه في الحقيقة: القُبّة أُم كسا الصاجْباني ....................... شوقي للرسول يا أخواني
بسم الله شرع الغاني ....................... لقي البير عسل مليانِه
أشرب فيها بي كيزاني ....................... أتْروي زين وأدي أخواني
ثنِّيت بالنبي العدناني ....................... المختار عظيم الشّانِ
قنديل يثرب السلطاني ....................... سيد الحُر وثُم العاني
محبوب ربنا الربّاني ....................... جامع الفضل والإحسانِ
تسير في شارع أبي ذر الغفاري، وما أحسن ما أسموا ذلك الشارع، أبو ذر الذي عاش وحده ومات وحده، ويبعث وحده. أنت في الضحى وأنت عند المغيب وأنت بعد العشاء، ولكن كأنك دائمًا في الفجر. الضوء عطرٌ يعلق بك ويسعى بين يديك ويلازمك ما دمت في هذه المدينة، في رحاب سيّد المدينة. ولو كان لك بيان البوصيري لقلت مثل قوله: حاشاهُ أن يحرِمَ الرّاجي مكارمَه ....................... أو يُرجعَ الجار منه غير محترم
ومنذ ألزمتُ أفكاري مدائحه ....................... وجدتُه لخلاصي خير مُلتزم
ولن يفوت الفنى منه يدًا تربتْ ....................... أنّ الحيا ينبتُ الأزهار في الأكُم
ولم أُرد زهرة الدنيا التي اقتطفت ....................... يدا زهير بما أثنى على هَرم
رحمك الله ما أجمل ما قلت، وما أبلغ ما قلت، لأن كعب بن زهير بن أبي سلمى، بعد ذلك مدح الرسول الكريم، فخلعَ عليه بردته، فاشتراها منه معاوية فأصبحت شارة الملك إلى عهد العثمانيين، وهي (البردة) التي أسبغها الرسول الأمين على البوصيري في منامه. فقام من حينه صحيحًا معافى.
الضوء والمطر يلازمانك مثل صديقين ودودين وأنت تتجوّل في طرقات المدينة، هل تبصر وراء عمارات الأسمنت وطرقات الأسفلت وزحام السيارات ذلك العالم القديم الطريف، البعيد القريب؟ ترى نخل المدينة وبيوت الطين وعرائش الجريد؟ تسمع الأذان كأنه شُرع لساعته، وترى رجالاً ونساء ربطوا بطونهم على الجوع. أين كانت دار سعد بن عباد؟ وأين كانت دار علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب؟ أين كان يسكن أبو عبيدة وخالد وعكرمة؟ أين كانت دار عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر؟ بأبي وأمي عبد الله بن عمر. كان يبكي ويقول: ((عسى الحافر أن يقع على الحافر)). حتى وهو قريب العهد من ذلك الزمان الجميل، كان يتحسر عليه، فكيف بنا نحن وقدم بنا العهد، وأصبحنا غثاءً كغثاء السيل؟
رحم الله البارودي إذ يقول في بردته: وأمّ طيبة مسرورًا بعودته ....................... يطوي المنازل بالوخّادة الرُّسُم
ثم استهلّت وفود الناس قاطبة ....................... إلى حماه فلاقت وافر الكرم
فكان عام وفود كلّما انصرفت ....................... عصابة أقبلت أخرى على قدم
وأرسل الرّسل تترى للملوك بما ....................... فيه بلاغ لأهل الذّكر والفهم
هيهات. ذلك زمان ولّى ولن يعود، وعبثًا يحاولون. أقصى ما يمكن عمله، إشاعة شيء ولو قليلاً، من روح ذلك الزّمان.
حاولْ جهدك الآن أن تسترجع شيئًا، أن تستحضر شيئًا، وما في استطاعتك إلاّ أقل القليل. تشتري مسبحة أو مصلاة أو قارورة عطر. تقف تتأمل الوجوه. وما أجمل الوجوه في هذا المكان. الناس هنا في أحسن أحوالهم، بيض وسود وحمر، إناث وذكور. يسيرون مطمئنين متجهين بكل جوارحهم إلى منبع الضوء، وكل منهم يجد لوهلة حلاوة ذلك العهد، وأنت أيضًا. ولن تذوق أبدًا تلك الحلاوة إلا في هذا المكان، فما لك إذًا لا تقيم أطول بتلك الرحاب، وتتمرّغ بذلك الجناب؟
وأنت فقير جدًا. لا تملك صفاء حب حاج الماحي والبوصيري، ولا فصاحة البارودي ولا بلاغة شوقي، فبماذا جئت تتوسّل وكيف تقول؟
لا عليك، فأنت في مقام كريم. حسبك أن تقول، كما قال شوقي: يا أفصح الناطقين الضادَ قاطبةً ....................... حديثك الشّهدُ عند الذائق الفَهِم
حلّيْت من عَطَل جيد البيان به ....................... في كلِّ مُنتثرٍ من حسن منتَظِم
بكلّ قولٍ كريم أنت قائلُه ....................... تحيي القلوب وتُحيي ميّت الهِمم
|