نادي الهلال السعودي - شبكة الزعيم - الموقع الرسمي - مذكرات مغترب (قصص X قصص) محدث يومياً

لوطن .. شوق متأخر !
كانت القصائد الوطنية –في سابق أمري- من المواضيع التي لا أفهمها في كتب الأدب!, أعرف الوجد والخمريات والغزل …, كلها أشياء محسوسة يمكن أن يُكتب بها ويُتوجّد عليها, حتى ولو كانت أمورا تافهة!, لكن الوطن لم أقتنع قناعة تامة بأن هناك شعور وعاطفة تحن للتراب أو الصخر أو الشوارع والأبنية الصماء !!, قد تُذكر عرضا كما عرّض بها قيس ابن الملوح في قوله:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
و ما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
وكان كل ما أعرفه عما يملأ الصحف اليومية من نثر وشعر وطني أنه ضرب من ضروب التسول والتزلف!, وأن ما يكتبه الشعراء والأدباء المغتربون إنما هو لأبعاد سياسية بحتة !, كل هذه المفاهيم كنت اختزنها وإلى فترة قريبة , وبعدما أتيت إلى هنا حيث الغربة, استقبلني ذلك الشعور, وجدت في نفسي شوقا إلى الوطن, شوق ليس كشوق قيس بن الملوح وإنما شوق يجتذبني إلى حقيقة لا حسية ليس إلى شخص معين ولا إلى (جدار معين)!!,أو نظام معين, إنما إلى لا شيء … !!
أرضي .. وطني .. مداي .. نطاقي .. وكل ما ينتسب إلى هذا الأمر من شخصيات وعادات وأجواء وأشياء!, أحن للوطن كلما رأيت الماليزيين يتحدثون عن ماليزيا, وكلما تحدث الأوربيين عن أوربا (وما أكثرهم هنا) !!, بدأت أعيد وجهة نظري حول كل ما أنكره في وطني, انظر إليه بعين غير العين التي كنت أنظر فيها, بدأت أفهم معنى الشوق للوطن والحنين لثراه:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
أذكر أن أحد الأصدقاء كان يصرف جل أحاديثه حول السلبيات التي في وطنه!, ولم أسمعه يعترف بميزة لوطنه طول معرفتي به!, وفقدته فترة من الزمن حيث كان يدرس في الخارج وكان هذا الخروج الأول له خارج الحدود, وبعدها بفترة قدر الله لنا أن نلتقي فكان ثلاثة أرباع حديثه حول محاسن وطننا والنعم التي ننعم بها, فسألته على شكل مداعبة: لم أعهدك مداحاً للوطن هل تعرضت لإغراء معين؟!!, فأجابني بأن أكبر إغراء تعرض له هو معرفته لقيمة بلده بعدما رأى غيرها!, وهذا جزء مما يجده المغترب.
كانت المرحلة الثالثة بالنسبة لي في الغربة هي مرحلة التأقلم , حيث تجاوزت مرحلة الاستنكار ومرحلة التعرّف, فقد وجدت في نفسي الكثير من التأثر في أساليب البيئة المحيطة, فقد نسيت عادة السهر ليلاً!, هذه العادة التي كثيرا ما يُعرف بها العرب!, ولعل من أسباب ذلك هو مناخ المنطقة, فجزيرة العرب من المناطق الحارة فلا تحلو أجواؤها إلا في الليل, حيث يستمتع أهلها بهبوب النسمات العليلة ليلا, وفي هذا فسحة لهم لجلسات السمر والقراءة ونحوها, أما أصحاب المناطق المعتدلة جواً فهم يثمنون أوقات النهار لأنهم يشاهدون فيها الخضرة والأنهار والأجواء الممتعة, ولا يكون لهم في الليل سوى النوم, وكان من العادات التي وجدتها هنا حب النظام والسير على وتيرة واحدة , وصل بهم هذا الحب إلى حد الغباء, فلا تستبعد أن ترى في مركز التسوق طابورا طويلا يمتد عند أحد النوافذ, وفي جواره نافذتين فارغتين بلا أي زحام!!, حيث يستطيع القادم أن يدفع حسابه مباشرة دون انتظار!!, وكثيرا ما تجد عند إشارة المرور طابور السيارات ممتدا على خط واحد بينما المسار المجاور بنفس الاتجاه فارغ تماماً!!, وكثيرا ما يكون التنظيم والترتيب أداة تقدم فلم أتضايق من دخان السجائر كما كنت أجده في مجمعات الرياض!, فهنا لا يُتصور بأنك ستشم رائحة الدخان داخل أي مبنى!, الأسواق والفنادق والدوائر الحكومية !, حتى في سيارة الأجرة لا يستطيع السائق أن يشعل سيجارته وأنت معه, وما أسوأ هذا الدخان الذي أتلف الصحة والمال, ولم تستطع الشعوب المسلمة أن تتغلب عليه , فمن المؤسف أن تذكر الدراسات أن أكبر نسبة مدخنين بين الشباب في العالم هم في دولة عربية (الأردن)!
***
وفي هذه المرحلة أيضا كنت أكثر توغلا في ثقافة الشعب وعاداتهم, حيث منحني التقدم في اللغة فرصة أكبر, وقد تجاوزت تلك المواقف المحرجة التي كنت أرتكبها على شكل شبه يومي مع الباعة والسائقين وغيرهم .. , أفهم من لغة أجسادهم وأبني على أساس ذلك ردة فعلي, وكثيرا ما تخونني فطنتي!, فلا استنكر سماعي لضحكات الموظفين وأنا خارج من المحل!!, ولا ألقي عليهم باللائمة حيث أني مقتنع بأن تصرفي فعلا كان غير ذكي !, ففي انعدام اللغة تتبين قدرة الإنسان على التعبير بالفطنة والذكاء, حدثني أحد أقاربي أنه دار بينه وبين أحد مدرسي اللغة في بريطانيا نقاش حام حول البعث, حيث أن الأخير كان يسخر من عقيدة البعث بعد الموت أمام الطلاب, وكان صاحبنا في الأسبوع الأول من الدراسة, بمعنى آخر لا يستطيع أن ينطق إلا بكلمتي (Yes \ No) وقد فهم مضمون كلام المعلم, وطلب من المعلم أن يسمح له بأن يرد على وجهة نظره عبر لغة الإشارة!!, فأجابه المعلم بالقبول وحدد موعدا بعد نهاية المحاضرة, وفعلا استطاع أن يشرح له عبر الورقة والقلم أغلب ما كان يريد قوله, وفي الغد فاجأ المعلمُ الطلاب وهو يعلن اعتذاره مضمنا بثنائه على ذكاء التلميذ في إيصال الفكرة, ومثل هذه المواقف تحدث حينما تثار حفيظة المرء وهو لا يملك اللغة المناسبة.
في إجازة نهاية الأسبوع عرض علي أحد الأصدقاء مرافقته في نزهة صباحية, فذهبنا مع الصباح الباكر إلى قرية بعيدة يذكر أنه يعرف شيخا مسنا يسكن فيها اسمه عبد الله عبد الغفور, وكان يتحدث عن كرم خلقه ورقة أسلوبه, وجمال الطبيعة المحيطة به, فوصلنا إلى منزل هذا الرجل عبر طريق شديد التعرج في منطقة شبه نائية, ونزلنا من السيارة فإذا بنا نسمع صوت الترحيب من بعيد إذ عرف سيارة صاحبي, أول ما فاجأنا -غير المنطقة النائية وافرة الشجر- قِدم البيت حيث كان بيتاً ريفياً يسع القادم أن يرى كل غرفه بلا أي حواجز, كان مبنيا من الأخشاب الطبيعية, عرفت فيما بعد أن هذا المسن هو الذي بناه بنفسه قبل ما يزيد على خمسين عاما, أقبل علينا من جهة الصوت رجل متوسط الطول عريض المنكبين , ذو لحية كثة غمرها البياض, تكتنز وجها أجعداً, وعينين غائرتين, وابتسامة مضيئة, كان يظهر من سحنته أنه ذا أصول هندية!, رحب بنا وعانق صاحبي, وكان لا يتحدث سوى لغة الماليزيين (الماليه) و اللغة الإنجليزي التي كانت لغة التواصل بيننا,طلبنا منه أن يأذن لنا بالتجول في مزرعته وبيته قبل أن يأذن لنا بالجلوس, فرحب بنا وأستأذن لصنع الشاي, وخرجت مع صاحبي للمزرعة, كانت المزرعة متباعدة الأطراف زاهية الخضرة, تحفها الأشجار باسقة الطول والتي تعتبر مصدر رزق لصاحبها, لندرتها وغلاء أثمانها, وعلى بعد مئة متر تقريبا حظيرة للأغنام مصنوعة من الخشب, لاحظت أن الأغنام لديهم تحمل سمات غير المعروفة لدينا في جزيرة العرب, وعلى بعد مئة متر أخرى نهر ماء نمير متدفق يشق المزرعة من منتصفها, كان المكان ساكنا عدا أصوات الأغنام ونغمة الماء الهادئة, تقدمنا أكثر فإذا بحارس الأغنام يشير مرحبا بنا من بعيد وعلى رأسه قبعة الخوص التي تقي من المطر, سرقنا الوقتُ سريعا في المزرعة حتى سمعنا بصوت صاحب الدار ينادينا للشاي, دخلنا فإذا بالجلسة مصنوعة هي الأخرى من الأخشاب الطبيعية, وقد قدم لنا الشاي وذكر أن أوراق الشاي طازجة حيث تُزرع قريبا من هنا, بدأ صاحبي بالحديث مع الرجل المسن عن آخر لقاء كان بينهما, أما أنا فأخذت أجول بنظري في أطراف المنزل, وقد شد انتباهي مكتبة عامرة في ركن من أركانه, فأخذني الفضول إلى سؤاله عن المكتبة وهل هي خاصة به ؟, فأجابني بـ"نعم", فدفعني ترحيبه إلى سؤاله مرة أخرى عن نوع الكتب التي يفضل ؟, حيث كان وجود المكتبة العامرة في مثل هذا المكان الريفي غالباً ما تكون متعلقة باهتمام ديني, فالكتب العلمية التطبيقية وكتب التسلية أبعد ما تكون عن الفقراء وأهل الأرياف, فكانت إجابته غير متوقعة حيث ذكر بأنها مجموعة من القصص المسلية!, بدت لي ابتسامته مشوبة بالصفرة من سؤالي الثاني, وكأنها رسالة بعدم الاسترسال بهذه الأسئلة , ولكن إجابته أثارت التناقضات في ذهني , فلم يكن هذا الذكاء الذي يظهر من هذا العجوز يوحي بأن كل هذه المكتبة لا تعدوا سوى كتب قصص للتسلية!, لم استطع أن أكبت فضولي فطرحت سؤالي الأخير لأجعله على مفترق الطرق, وسألته عن أفضل من يقرأ له من كتاب القصة؟!, لم أنتهي من إتمام سؤالي إلا وبه يقول (هاري بوتر) وينفجر بضحكة عالية وضحنا معه !!, لأن العالم كان في تلك الأيام يرقص طرباً لصدور العدد الأخير من قصص (هاري بوتر) التي غسلت أدمغة الشباب بخرافتها!, بعدها تغير مسار الحديث حيث وصل بنا إلى بعض القضايا السياسية التي لا يمل الناس من طرحها, وتسلسل الحديث إلى أن ذكر ذلك الرجل أن أكثر المشاكل السياسية الحالية تنطلق من مشكلات فقهية!, وبدأ يذكر بعض الأمثلة وذكر رأيا يتباه كثير من الماليزيين هنا ومن هم مفتونون بما يقوله الإعلام, حيث أنه يرى أن الأئمة الأربعة كانوا يسيرون على مسارات متنوعة يجتمعون فيها بمنهج واحد, ثم أتى شيخ الإسلام ابن تيمية وخرج عن منهج السلف بعدد من المسائل, وتبعه بعد ذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب وسار بأبعد مما سار به ابن تيمية!, ومن عجائب قوله أنه يرى أن البيعة التي كانت بين الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب كانت مبنية على تسخير الدين لإخضاع الشعب بالقوة والسلاح!, أما أنا وصاحبي فقد فاجأنا صدور هذه الآراء من هذا الرجل الريفي, ولم نجد وسيلة لثنيه أو هز قناعته, فأشار لي خفية صاحبي أن هذا مضيعة للوقت ولعلنا أن نهدي له كتابا حول هذا الموضوع بما أنه محب للقراءة, عرض عليه صاحبي ذلك فعادة له لطافته ورحب بذلك, وقال صاحبي بأنه يملك كتابا يتحدث حول الشبهات المثارة حول دعوة الإمام محمد عبد الوهاب مع الرد عليها, بعد ذلك استأذنا وخرجنا من عنده وقد ودعنا بلطافته التي استقبلنا بها,وخرجت من عنده وأنا أقول في نفسي "ويريدني أن أصدق بأن مكتبته لا تحوي غير قصص للتسلية"!!, كان هذا النقاش جزء من كثير من النقاشات التي كثيرا ما تثار مع العرب في ماليزيا, فكارثة الإعلام والتغييب الفكري مصيبة أكبر مما نتصور!.

أعتذر لكم لأقول بأنه آخر جزء....

و إن كمنتم تريدون السلسلة الثانية أبلغوني.........و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته