
11/06/2009, 12:58 AM
|
زعيــم مميــز | | تاريخ التسجيل: 10/10/2008 المكان: فى قلب الهلال
مشاركات: 3,349
| |
لتوكل إن "التوكل على الله" تعالى شأنه، شُعبة عظيمة من شُعَب الإيمان، ومقام رفيع من مقامات الربَّانيين، وقد حث عليه القرآن الكريم بأساليب شتَّى، وصور متنوعة، وكذلك السُنَّة النبوية المشرفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجاً للمؤمن "المتوكل" على ربه حق توكله.
ولما كانت هذه الشعبة، أو هذا المقام أو الخُلُق الربَّاني، من المقامات التي دخل عليها خلط وخبط، وسوء فهم عريض، حتى التبس التوكل بالتواكل وطرح الأسباب، ورويت في ذلك حكايات عن بعض الصوفية، فيها مبالغات تخرج عن منهج الوسطية التي جاء بها الإسلام، كما تخرج عن نظام السنن التي أقام الله عليها هذا الخَلْق، وربطها بشبكة الأسباب والمسببات.
ولذا يطل علينا (الدكتور يوسف) القرضاوي بكتابه القيم، ودراسته الماتعة (التوكل) ، وقد وضع فيه ما يضيء لنا السبيل، ويساعدنا على أن نثق بربنا، ونتوكل عليه، ويعلمنا الاجتهاد في رعاية الأسباب المشروعة، كما أمرنا الله، وأن ندع النتائج إلى مسبب الأسباب، ورب الأرباب، فالكون كله بيده، والمرجع إليه وحده.
وقد قسم الدكتور القرضاوي الكتاب إلى ( ثمانية فصول) كما سيأتي:
الفصل الأول: فضل التوكل
وفيه بين لنا فضيلة الدكتور أن التوكل إنما هو عبادة من أفضل عبادات القلوب، وخُلُق من أعظم أخلاق الإيمان، وهو ـ كما قال الإمام الغزالي ـ منزل من منازل الدين، ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معالي درجات المقرَّبين، بل هو كما قال الإمام ابن القيم: (التوكل نصف الدين، والنصف الآخر الإنابة)، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود: 88].
الحاجة إلى التوكل
وحاجة المسلم ـ السالك لطريق الله ـ إلى التوكل حاجة شديدة، وخصوصاً في قضية "الرزق" الذي شغل عقول الناس وقلوبهم، وأورث كثيراً منهم - بل أكثرهم - تعب البدن، وهم النفس، وأرق الليل، وعناء النهار.
وربما قبل أحدهم أن يذل نفسه، ويحني رأسه، ويبذل كرامته، من أجل لقمة العيش التي يحسبها أنها في يد مخلوق مثله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، فحياته وحياة أولاده في قبضته، فهو قادر ـ في نظره ـ أن يحيي ويميت كما قال "نمرود" في محاجة الخليل إبراهيم عليه السلام.
بل ربما زاد أحدهم على ذلك، فأفتى نفسه بأكل السحت، وأخذ الرشوة، واستباحة الربا، وأكل المال بالباطل، خوفاً على نفسه إذا شاخ بعد الشباب، أو مرض بعد الصحة، أو تعطل بعد العمل، أو خشية على ذرية ضعفاء من بعده. وقد قال الإمام عبد الله بن المبارك: من أكل فلساً من حرام فليس بمتوكل، والمخرج من هذا كله هو الاعتصام بالتوكل على الله تعالى.
ثم تبين لنا هناك أن أحوج ما يكون المسلم إلى التوكل، إذا كان صاحب دعوة، وحامل رسالة، وطالب إصلاح، فهو يجد في التوكل ركناً ركيناً، وحصناً حصيناً، يلوذ به في مواجهة طواغيت الكفر، و "فراعنة" الظلم، و قوارين" البغي، و "هوامين" الفساد، فهو ينتصر بالله، ويستعز بالله، ومن انتصر بالله فلن يغلب أبداً، ومن استغنى به فلن يفتقر أبداً، ومن استعزَّ بالله فلن يذل أبداً.
ثم أشار فضيلته إلى أن القرآن الكريم عني بالتوكل، أمراً به، وثناءً على أهله وبياناً لفضله وآثاره في الدنيا والآخرة، مبينًا أن القرآن قد أكد لنا أن "التوكل" كان خلق رسل الله جميعاً، منذ نوح شيخ المرسلين إلى محمد خاتمهم، صلوات الله عليهم جميعاً.
يقول تعالى على لسان الرسل جميعاً: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
أما عن أثر التوكل فقد قال تعالى في بيان أثره: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، فجعل نفسه تعالى جزاء للمتوكل وأنه كافيه وحسبه، وكفى بهذا فضلاً، فقد قال في السورة نفسها: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، فجعل لها جزاءً معلوماً، وجعل نفسه تعالى حسب المتوكل وكافيه.
وفي سنة المصطفى نجد النبي الأمين صلى الله عليه وسلم يخبر في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب من هذه الأمة، بأنهم وُصِفوا كالتالي: (هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون) [رواه البخاري، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو، (5705)، ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، (547)].
الفصل الثاني: حقيقة التوكل:
وهنا يوضح لنا الدكتور القرضاوي أنه إذا كان للتوكل كل هذا الفضل، ولأهله كل هذا الحمد والثناء من الله ورسوله كما ذكر في ثنايا كتابه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما حقيقة هذا التوكل، وما حده وما معناه؟
وفي بيان حقيقة التوكل، عرض الكاتب لأقوال جمهرة من السلف والخلف، غير أنه توقف عند تعريف الغزالي رحمه الله ليخلص منه إلى أن التوكل: (التوكل: مشتق من "الوكالة"، يقال: وكَّل أمره إلى فلان، أي فوَّضه إليه، واعتمد عليه فيه.
ويسمى الموكول إليه "وكيلاً"، ويسمى المفوِّض إليه متكلاً عليه، ومتوكِّلاً عليه، مهما اطمأنت إليه نفسه، ووثق به، ولم يتهمه فيه بتقصير، ولم يعتقد فيه عجزاً وقصوراً، فالتوكل: عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده.
وبهذا نتبين أن التوكل، كسائر أبواب الإيمان ومقامات الارتقاء الروحي ـ تشتمل على جوانب ثلاثة: الجانب المعرفي الإدراكي، والجانب الوجداني العاطفي الذي يُعبر عنه بـ "الحال"، الجانب الإرادي السلوكي الذي يُعبر عنه بالعمل).
ومن كلام ابن القيم رحمه الله في هذا الصدد الحث على أهمية: (رسوخ القلب في مقام التوحيد: فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده، بل حقيقة التوكل: توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك، فتوكله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد التوحيد: تكون صحة التوكل، فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شُعبة من شُعَبِ قلبه، فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشُعْبة).
الفصل الثالث: مجال التوكل ومتعلقه:
وهنا بين لنا الدكتور أن مجال التوكل واسع، ومتعلقه شامل لكل ما يطلبه الخلق ويحرصون عليه، من أُمور الدنيا، ومطالب الدين، فمنه التوكل في أمر الرزق، فقد قال ربنا جل في علاه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60].
ولذا لما جهل عرب الجاهلية هذا الأمر، اقترفوا أشنع جريمة: قتلوا أولادهم بأيديهم شر قتلة، بأخبث دافع: من أجل إملاق (فقر) واقع، أو خشية إملاق متوقع، أي مخافة أن يطعموا معهم، ويزاحموهم في رزقهم، غافلين عن أن رزقهم يأتي معهم.
ولكن الجاهلية المعاصرة كما أوضح الدكتور القرضاوي ـ جاهلية القرن العشرين ـ طفقت تحيي بعض ما مات من الجاهلية القديمة، وتُخوِّف الناس من أمر الرزق، وتحرضهم على الإجهاض، إجهاض أطفالهم مخافة أن يطعموا معهم كما رأينا ذلك في أوراق مؤتمر السكان العالمي الذي انعقد في القاهرة (سبتمبر1994م).
أما المسلمون الأوائل، فقد أنسوا إلى وعد الله تعالى، وأيقنوا بصدقه، واطمأنوا إلى ضمانه، فلم يبخلوا ببذل الأموال، ولم يضنوا ببذل الأرواح، في سبيل الله.
ورغم أهمية أمر الرزق لدى أكثر الناس، فهو ليس كل ما يطلب الناس من أمر الدنيا، فهناك من يطلب الزوجة، وهي من أهم ما يُطلب من دنيا الناس، وهناك من يطلب الذُرِّية التي تكون له قُرَّة عين، وترثه من بعده، وهو مطلب مشروع دعا به الأنبياء والصالحون، ولذا كان التوكل في أمور الدنيا والآخرة.
فالمؤمن يتوكل على ربه أن يرزقه الزوجة الصالحة، والأولاد الصالحين، كما دعا بذلك عباد الرحمن: {الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعينٍ واجعلنا للمتقين إماماً} [الفرقان: 74]، كما يتوكل عليه حتى يمنحه العافية، وينصره على ظالمه.
وهنا تبين لنا أن أعظم مراتب التوكل هي: مرتبة من يتوكل على الله تعالى في إعلاء كلمته، ونصرة دعوته، وتأييد شريعته، وتبليغ رسالته، وجهاد أعدائه، والتمكين لدينه في الأرض، حتى يحق الحق، ويبطل الباطل، ويقوم العدل، وينقشع الظلم، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبذلك لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
الفصل الرابع: التوكل ورعاية الأسباب:
وفي هذا الفصل، يطل علينا الدكتور القرضاوي؛ ليوضح لنا أن التوكل ـ الذي أمر به القرآن والسُنَّة ـ لا ينافي رعاية الأسباب، التي أقام الله عليها نظام هذا الكون، وأجرى عليها سُنَّته، ومضت بها أقداره وحكم بها شرعه.
يقول الأستاذ أبو القاسم القشيري: واعلم أن التوكل محل القلب، والحركة بالظاهر لا تنافي التوكل بالقلب، بعد ما تحقق العبد أن التقدير من قِبَل الله تعالى، فإذا تعسَّر شيء فبتقديره، وإن اتفق فبتيسيره"، واستدل لذلك بالحديث المشهور عن أنس بن مالك قال: جاء رجل على ناقة له، فقال: يا رسول الله؛ أدعها وأتوكل؟ أو أرسلها وأتوكل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل) [رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب اعقلها وتوكل، (2707)، وحسنه الألباني في في صحيح سنن الترمذي، (2517)].
ومع ذلك روى القشيري رحمه الله حكايات كثيرة عن عدد من مشايخ الصوفية، تركوا الأسباب، بل رفضوها عمداً، ودخلوا البادية المقفرة من غير زاد، متوكلين على الله تعالى، منكرين على مَن يتعلق بسبب، في أي وجه، وأية صورة.
وهنا تعجب الدكتور من حالهم، وهو يذكر حال أحدهم حينما قال: (دخلت البادية مرة بغير زاد، فأصابتني فاقة، فرأيت المرحلة "القرية أو محطة الاستراحة" من بعيد فسررتُ بأني قد وصلت، ثم فكرت في نفسي: أني سكنت واتكلت على غيره تعالى، فآليت ألا أدخل المرحلة، حتى أُحمَل إليها. فحفرت لنفسي في الرمل حفرة، وواريت جسدي فيها إلى صدري! فسمعوا صوتاً في نصف الليل عالياً يقول: يا أهل البادية؛ إن لله تعالى ولياً حبس نفسه في هذا الرمل فالحقوه، فجاءني جماعة فأخرجوني وحملوني إلى القرية)!
وبعد ذكر حالهم، وطرفًا من أقوالهم، عقب الشيخ بأن العارفين الراسخين ـ على غير ذلك ـ فهم يعلمون أن السُنَّة على خلاف ما يحكى عن هؤلاء.
وذلك أن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ القولية والعملية والتقريرية ـ الأخذ بالأسباب، والدعوة إلى مراعاتها، مع تعلق القلب بالله تعالى، مسبب الأسباب، وصاحب الخلق والأمر.
أما معطلو الأسباب بالكلية، فقد ذكر الدكتور رد المحققين عليهم، مبينًا التالي (الحق أن المعرضين عن الأسباب بالكلية لا سند لهم من قرآن ولا سُنَّة، ولا من عمل الصحابة وتابعيهم بإحسان، وهم في حاجة إلى الاعتذار عنهم مما ارتكبوه، لا التأسِّي لهم فيما فعلوه!).
ولو أن المسلمين في خير القرون ساروا على هذا النهج، ما انتصر لهم دين ولا قامت لهم دولة، ولا تأسست لهم حضارة، ولا مُكِّن لهم في الأرض، فإن هذا التوجه السلبي غريب على العقل الإسلامي، والروح الإسلامي، والنهج الإسلامي، الذي يعمل لتكوين الفرد الصالح، والأسرة الصالحة، والمجتمع الصالح، والأمة الصالحة، والدولة الصالحة.
الفصل الخامس: التداوي والتوكل:
وها هنا تعرفنا على أن من معتركات النزاع في باب التوكل: قضية الطب والتداوي، فالغالب على الصوفية الإعراض عن التداوي، وعن الرجوع إلى الأطباء، اتكالاً على الله تعالى، ورضاً بما قضاه وقدَّره، وربما استدلوا في ذلك بحديث: (السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب)، أما الفقهاء فهم يعارضون غلاة الصوفية في أمر التداوي وسؤال الأطباء، بناء على قاعدة الأسباب الثابتة بحكم سنن الله الكونية، وأحكامه الشرعية جميعاً، واتباعاً لما صحَّت به سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، ونطقت به سيرته، وأفصحت عنه الأدلة المحكمة الناصعة، ولهذا خصصت مصنفات الحديث المؤلَّفة على الموضوعات كتاباً خاصاً للطب. كما في الصحيحين والسنن وغيرها.
أما عن ترك بعض الصحابة وكبار السلف للتداوي، فتبين لنا أنه هذا ربما يكون لأسباب عدة منها: الأول: أن يكون المريض غلب على ظنه أنه انتهى أجله وأن الدواء لا ينفعه، ويكون ذلك عنده تارة برؤيا صادقة، وتارة بحدس وظن، وتارة بكشف محقق.
أو للسبب الثاني وهو: أن يكون المريض مشغولاً بحاله، وبخوف عاقبته، واطلاع الله تعالى عليه، فينسيه ذلك ألم المرض، فلا يتفرَّغ قلبه للتداوي، شغلاً بحاله.
أما الثالث: أن يقصد العبد بترك التداوي استبقاء المرض؛ لينال ثواب المرض بحسن الصبر على بلاء الله تعالى، أو ليجرِّب نفسه في القدرة على الصبر، فقد ورد في ثواب المرض ما يكثر ذكره.
الفصل السادس: من ثمار التوكل على الله:
وهنا تبدو لنا الثمار اليانعة، والقطوف الدانية، فالتوكل على الله تعالى: شجرة طيبة، لا تؤتي إلا ثماراً طيبة، في النفس وفي الحياة: حياة الفرد، وحياة الجماعة من خلاله، ومن هذه الثمار السكينة والطمأنينة: سكينة النفس، وطمأنينة القلب، التي يشعر بها المتوكل على ربه، ويحس بها تملأ أقطار نفسه، فلا يحس إلا الأمن إذا خاف الناس، والسكون إذا اضطرب الناس، واليقين إذا شك الناس، والثبات إذا قلق الناس، والأمل إذا يئس الناس، والرضا إذا سخط الناس، إنه أشبه بجندي أوى إلى حصن حصين، فيه فراشه وطعامه، وذخائره وسلاحه، يرى منه ما يرى، ويَرمي ولا يرمى، فلا يهمه ما يدور في الخارج من صخب الألسنة، أو اشتجار الأسنة.
ومن هذه الثمار: القوة التي يحس بها المتوكل على الله. وهى قوة نفسية روحية تصغر أمامها القوة المادية، قوة السلاح، وقوة المال، وقوة الرجال.
ومن ثمار التوكل: العزة، التي يحس بها المتوكل، فترفعه مكاناً علياً، وتمنحه ملكاً كبيراً، بغير عرش ولا تاج، وهي قبس من عزة المتوكَّل عليه، كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217]، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49].
ومن ثمرات التوكل على الله: "الرضا" الذي ينشرح به الصدر، وينفسح له القلب، قال بعضهم: (متى رضيت بالله وكيلاً، وجدت إلى كل خير سبيلاً)، وبعضهم جعل "الرضا" جزءاً من ماهية التوكل، أو درجة من درجاته، قال بعضهم: "التوكل هو الرضا بالمقدور"، وهذه الثمرات التي ذكرت ها هنا قليل من فيض جم كثير.
الفصل السابع: من بواعث التوكل:
إن لكل عمل ـ من أعمال القلوب أو الجوارح ـ بواعث تدفع إليه، وتحض عليه، ومما يبعث على التوكل، ويعين عليه جملة أمور:
أولها: حُسن معرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، فمن عرف ربه رحماناً رحيماً، عزيزاً حكيماً، سميعاً عليماً، حياً قيوماً، غنياً حميداً، خبيراً بصيراً، قهاراً قديراً، رزاقاً ذا قوة متيناً، لا يخفى عليه شيء، ولا يعجزه شيء، فعالاً لما يريد، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وجد نفسه مدفوعاً إلى الاستناد إليه، والتوكل عليه.
ثانيها: الثقة به عز وجل، وهي ثمرة المعرفة، فإذا عرف الله حق معرفته وثق به ثقة مطلقة، تسكن إليها نفسه ويطمئن بها قلبه، ومن ذلك: الثقة بشمول علمه، وكمال حكمته، وسعة رحمته، وعموم قدرته، وطلاقة مشيئته، وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل أبر بهم من أنفسهم.
الفصل الثامن: عوائق التوكل:
وهنا تناول الشيخ، مسألة جد هامة، ألا وهي عوائق التوكل، موضحًا أنه إذا ما عرفنا بواعث التوكل، سهل علينا أن نعرف عوائقه، فبضدها تتميز الأشياء، ولا بأس أن أشير إلى أبرز المعوقات:
وأولها من غير شك: الجهل بمقام الألوهية، فمن لم يعرف رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وما له سبحانه من الأسماء الحسنى، والصفات العلا، لا يتصور منه أن يتوكل عليه جل جلاله .
من لم يعرف الله غنياً له ما في السموات وما في الأرض ملكاً وملكاً، يحتاج إليه كل ما سواه، ولا يحتاج إلى أحد مما سواه.
ومن العوائق كذلك: إعجاب المرء بنفسه، بل هو من المهلكات كما جاء في الحديث: (ثلاث مهلكات: شحٌ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه) [رواه البيهقي في شعب الإيمان، (764)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، (3039)].
والمعجب بنفسه، المغرور بشبابه وبقوته، أو بماله وثروته، أو بجاهه ومنصبه، أو بأنصاره وعصبته، أو بغير ذلك مما يعتز به الناس، لا يشعر بحاجته وافتقاره إلى الله، حتى يعتمد عليه، ويستند إليه، بل هو محجوب بنفسه عن ربه.
ومن موانع التوكل: الركون إلى الخلق، والاعتماد عليهم في قضاء الحاجات، والنصرة في الملمات، وتدبير الأمور، وتذليل الصعاب، ناسياً قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194]، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17].
ولا يفيق هذا الصنف من سكرته إلا إذا تغير حال من اعتمد عليهم، فمات الملك، أو تغير الأمير، أو عزل الرئيس، أو أقيل الوزير، أو سقط الحزب الحاكم، أو ضعف القوي، أو افتقر الغني وأفلس المليونير، الذي كان يركن إليه، ويتوكأ عليه، ولهذا قال ابن عطاء الله في "حكمه": (إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى، فلا تستعزن بعز يفنى)، ولذلك قيل:
اجعل بربك شأن عز ... ك يستقر ويثبت
فإن اعتززت بمن يمو ... ت فإن عزك ميت
وأخيرًا ...
فيا سعادة من انتصر على هذه العوائق في طريق المتوكلين، فعرف مقام ربه ذي الجلال والإكرام، وعرف فقر نفسه وفاقته الذاتية التي لا تفارقه ـ إلا إذا تحول من مخلوق إلى خالق! ـ وعرف ضعف الخلق وحاجتهم، وأنهم عباد أمثاله، لا يملكون لأنفسهم ـ ناهيك بغيرهم ـ ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وعرف قيمة الدنيا التي يتهافت الناس عليها من حوله، وأنها إن لم تزل عنه زال هو عنها.. وتمكنت هذه المعرفة من قلبه حتى غدت يقيناً يغمره، ووجداناً يعيشه، وإرادة تحركه، وهنا يدخل في زمرة المؤمنين حقاً: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]. |