كان هنا ,,,شهم كندا ,,, مدريدي عاشق سامي ,,,
تشرفت بوجودكم ..
هذه المقالة بعنوان (( جواب على كتاب )) ....... نشرت سنة 1959
يحمل إلي ّ البريد كل أسبوع نحوا ً من ثلاثين رسالة يبعث بها إليّ سامعو أحاديثي في الإذاعة و قرّاء مقالاتي في الصحف و لكني لم أجد فيها كلها مثل الرسالة التي تلقيتها أمس. رسالة من أم جاءتني في ( يوم الأم ) ليس فيها من فصاحة اللفظ شيئ و لكنها في البلاغة آية من الآيات , وهل البلاغة إلا أن تقول ما يصل بك إلى الغاية و يبلغ بك
القصد ؟
تقول هذه الأم أنها سمعت بعيد الأم لكنها لم تره, و عرفت شقاء الأم بالولد لكنها لم تعرف بر الولد بالوالدة .و هي لا تشكو عقوق ولديها فهما صغيران ما بلغا سن العقوق و لكنها تشكو ضيق ذات اليد و فقدُ المُسعد و المعين و أنها تصبّر النفس حينا ً و يتصّرم أحيانا صبرها , و تسألني : أتطلق الولدين من إسار المدرسة و تبعث بهما يتكسبان دُريهمات تعينهما على العيش؟ و تسأل ماذا تجني منهما إن درسا و هي لا تملك ثمن كِساء المدرسة ولا نفقاتها؟
فكيف يستطيعان أن يكملا الدرس و يتمّا التحصيل و هما بالثوب البالي و الجيب الخالي ؟
و ما تمنيت أن أكون غنيّا إلا اليوم لأستطيع أن أواسيها باليد و المال لا بالقلم واللسان, و لكني أديب و الأديب لا يملك إلا قلبه و لسانه وهاتان كلمتان من القلب : كلمة لها هي , و كلمة للقرّاء .
أما الكلمة التي هي لك, فأحسب أنها تبدو للناس غريبة لأن الأدباء ما تعودوا أن يقولوا مثلها لأنهم لا يجرؤون أن يعرضوا على الناس حقائق صورهم ليراها الناس كما هم , بل يعرضون صورا ً محرّرة مزوّقة قد بدلها (رتوش) المصوّر و فنه و قد تكون أحلى و أجمل و لكنها ليست صورهم إنهم لا يكشفون للقراء قلوبهم لكن يعرضون عقولهم. و إن كان هذا الذي سأقوله اليوم سنّة عند أدباء الأفرنج من سنن الأدب المسلوكة لا بدعة من البدع المتروكة .
إنها قصة و لكن لم يخترعها خيال كاتب و لم يؤلفها قلم أديب بل ألّفت فصولها الحياة و جئت أرويها كما كانت . أرويها لتعلمي و تعلم كل أم بائسة و كل ولد نشأ في الفقر أن المجد و العلاء رهن بأمرين : بتوفيق الله أولا ً و الله يوفق كل عامل مخلص , و بالعلم و الجد ثانيا ً.
و اسمعي القصة الآن :
كان في دمشق – من نحو أربعين سنة – عالم جليل القدر , كريم اليد , موفور الرزق ,داره مفتوحة للأقرباء و الضيوف وطلبة العلم , وموائده ممدودة , لمّا أضاق الناس بالحرب العامة الأولى و سّع الله بفضله عليه فلم يعرف الضيق , و كان من ذوي المناصب الكبار و المكانة في الناس.
و نشأ أولاده في هذا البيت لا يعرفون ذلّ الحاجة ولا لذعة الفقر . و لكنهم أصبحوا يوما ً(من أيام سنة 1925 ), الولد الكبير البالغ من عمره ستّ عشرة سنة و إخوة له صغار تتراوح أعمارهم بين عشر و بين شهر , فإذا بالوالد قد توفيّ.
و ارتفع الستر , فإذا التركة ديون للناس فباعوا أثاث الدار كله ليوفوا الدين , ثم تركوا الدار الفسيحة في الصالحية و نزلوا تحت الرصاص (و كانت أيام ثورة) يفتّشون عن دار يستأجرونها فوجدوا دارا ً ..أعني كوخا ً , زريبة بهائم , مخزن تبن ..في حارة الدميجة. هل سمعتِ بها في آخر العُقيبة, قرب المكان الذي يسميه الناس من التوائه و ضيقه
" محل ما ضيّع القرد ابنه " هذا هو اسمه صدقيني..!
في غرفتين من اللبن و الطين , في ظل دار عالية لأحد موسري الحارة تحجب عن الغرفتين الشمس و الضياء, فلا تراهما قط الشمس ولا يستطيع أن يدخلهما الضوء, ليس فيهما ماء إلا ماء ساقية وسخة عرضها شبران و عمقها أصبعان , تمشي من (تورا) في الصالحية إلى هذه الحارة , تتلقى في هذا الطريق الطويل كل ّ ما يُلقى فيها من الخيرات الحسان !وليس فيها نور إلا نور مصباح كاز, نمرة ثلاثة ...يضيئ تارة و " يشحّر" تارات و السقف من خشب عليه طين إن مشت عليه هرّة ارتجّ و اضطرب و إن نزلت عليه قطرة مطر وَكَفَ و سرّب.
هنالك على أربعة فرش مبسوطات على الأرض متجاورات ما تحتهن من سرير , تغطيهن البسط و الجلود كان ينام هؤلاء الأولاد الذين رُبّوا في النعيم و غذوا بلبان الدلال تسهر عليهم أم - مثلكِ – حملت ما لم تحمله أم, تدرأ عنهم سيل البقّ الذي الذي يغطي الجدران و أسراب البعوض التي تملأ أركان الغرفة و الماء ينزل من السقف. تَظل الليل كله ساهرةً تُطفئ بدمع العين حرقة القلب , تذكر ما كانت فيه وما صارت إليه و الأقرباء و الموسرين الذين لم يكونوا يخرجون من دار الوالد , كيف تخلوا عن الأولاد و أنكروهم , حتّى جاؤوا يوما يزورون جار الدار الموسِر يهنئونه بالعيد ولم يطرقوا – والله – عليهم الباب! و لم يُعنها أحد إلا أخ لها في مصر أمدها بجنيهات مصرية قليلة لك يكن يُطيق أكثر منها .
في هذا الجو يا سيدتي...و ماذا تظنين هذا الجو؟ فيه أقبل الولد و إخوته على الدرس و التحصيل . وكانت أطراف البلد للثوار ليس للفرنسيين إلا وسط المدينة. فكانوا يمرون على الموت في طريقهم إلى المدرسة كل يوم و يخترقون جبهة الحرب و صبروا و وثقوا بالله و أعانهم الله و وفّقهم حتى صاروا .... ماذا تُقدرين أنهم صاروا الآن ؟
صار الولد الثاني قاضيا ً و صار أديبا ً شاعراً مصنفا ً و الثالث أستاذا ً كبيراً في الجامعة و أول من حمل لقب دكتور في الرياضيات في سورية , و الرابع مدرسا ً موفقا ً و أديباً أما الولد الأكبر فلا أقول عنه شيئاً لأن شهادتي فيه مردودة ,فهو صديقي الذي لا أفارقه أبدا ً والذي أكون معه ليلي و نهاري و أراه كلمّا نظرت في المرآة .
و ما قصصت هذه القصة إلا تسلية لك و تهويناً عليك , و لتوقني أنه ربما كان ينتظر ولديك هذين اللذين لا يجدان الغذاء و الكساء ينتظرهما مستقبل يحسدهما عليه أبناء الأغنياء. فقولي لولديك ألا يخجلا إن لم يجدا الثوب الأنيق أو الكتاب الجديد أو المال الفائض , فإن أكثر النابغين كانوا من أبناء الفقراء . و كاتب هذه السطور ( وإن لم يكن من النابغين الذين تُضرب بهم الأمثال ) كان يجيئ إلى المدرسة الثانوية بالبذلة التي فصلتها له أمه من جبة أبيه, و قد عجز عن أداء رسم شهادة الحقوق فساعده عليه بعض المحسنين .
و أنا أعرف والله في أعلام البلد اليوم من نشؤوا في أشد الفقر, ثم نالوا بالعلم أوسع الغنى و أعلى المناصب و لو كن أعلم منهم الرضا بذكر أسمائهم لسميت لك خمسة أسماء كلهم على طرف لساني الآن . و أنا أعرف محكمة صار ابن آذنها قاضيها و ابن رئيسها شيئا ً كالآذن فيها!
أما الكلمة التي للقراء الذين كانوا الليلة البارحة عندما أرعدت السماء و أبرقت ونزلت على الأرض عل المقاعد المريحة في الغرف الدافئة فلم يعرفوا ما حال الفقراء في تلك الليلة .... إني أقول لهم :
إن في البلد في حيّكم , بين جيرانكم كثيرات من أمثال هذه السيدة التي كتبت إليّ و إن في البلد من يرتجف هذه الليلة من البرد لا يلقى جمرة مشتعلة و أن هنالك تلاميذ يقرؤون بعيون تزيغ من الجوع و القرّ و يكتبون بأصابع محمرة من البرد. و إن في هؤلاء من لو أُمد بالطعام واللباس و أُعين في الدراسة , لكان عبقرياً تعتز بمثله الأوطان و تسمو الأمم
و اذكروا أن من بين ا ُجراء الخبّازين و صبية المحامين من خُلق ليكون من كبار العلماء و أفراد النابغين , لكن الفقر عطّل مواهبه و سدّ أمامه طريق النبوغ فلم يجد ذكاؤه مسربا ً يسرب منه إلا الإجرام .
إن أكثر المجرمين الذين يسكنون السجون كانوا صبية أذكياء , و لكن المجتمع قال لهم : حرامٌ عليكم الدرس و التحصيل لتكونوا من أفذاذ المثقفين , فكونوا إذن من أذكياء المجرمين !
إن الذي ينفقه الأغنياء على الترف و السرف يكفي لتعليم كل ولد في البلدة و إطعام كل جائع و إسعاف كل فقير. إن عرسا ً واحداً من أعراس الموسرين الكبار تكفي نفقته لإطعام عشر عائلات شهراً كاملاً , وما ينفَق على أكاليل الزهر في الجنائز و طاقات الورد في الأفراح يفتتح مستشفى مجانياً للفقراء و ما يُنفق في الولائم والحفلات وما يُصرف في الملاهي و الموبقات يكفي لسد حاجة كل محتاج.
و أنا لا أقول دعوا هذا كله , فإنكم لن تفعلوا,ولكن اجعلوا من أموالكم نصيباً لهؤلاء المعَذّبين في الأرض...زكّوا عن أموالكم فإنكم لا تدرون هل تدوم لكم أو تذهب عنكم .
و هل أخذ أحدٌ على الدهر عهداً أن لا تحول عنه الحال و أن لا يذهب من يده المال ؟ ومن الذي جعل لولد الغني الحق في أن يبقى أبداً سيداً يُعطى ما يطلب و ينال ما يريد .. ومن يثق بأن ولده لن يحتاج غداً إلى ولد الفقير يسأله ويرجو رفده ؟ و إذا وثقتم ببقاء المال , فهل تثقون ببقاء الصحة؟ أتأمنون النوازل و الأمراض و المكبات؟
فاستنزلوا رحمة الله بالبذل , و ادفعوا عنكم المصائب بالصدقات.
و أنا لا أُخاطب أرباب الآلاف المؤلفة فقط, بل أخاطب القرّاء جميعاً. إن الناس درجات أمَا تفرح إن أعطاك صاحب الملايين ألف ليرة ؟ فأعط أنت المعدم عشر ليرات . إن الليرات العشر له كالألف لك , و الألف عند " المليونير" كالعشر عندك. و الثوب القديم الذي تطرحه قد يكون ثوب العيد عند أناس آخرين , فلماذا لا تسرهم بشيئ لا يضرك
و لا تُحس فقده ؟
و لو كل امرئ يعطي من هو أفقر منه لما بقي في الدنيا محتاج . فيا أيُها القرّاء , أسألكم بالله : لا تدعوا كلمتي تذهي في الهواء , فإني والله ما أردت إلا الخير لكم. ويا أيتها الأم التي كتبت إليّ , ثِقي بالله فإن الله لا يضيع أحداً أبداً.
رفيق درب أمي ومن يعتلي القمة بين مُشاهداتها .. فكرٌ متحضر .. وبعد نظر .. واستقراءٌ للأمورِ بنضج ..! شاهدت بعض الحلقات من أرشيف برنامجه .. حيث قامت قناة المجد مشكورة بعرضها في إحدى قنواتها .. في رمضان .. يشدني بمطلعه البشوش ,, لتشرب حديثه حتى النهاية ..
رحمه الله .. رحمة واسعه .. وجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء .. ونفع بمن تعلم على يده ..
***
في مقاله ,, تحدث عن السواد الأعظم ممن نبغ من أراضي الشام .. أثناء الاستعمار .. وصعوبة العيش .. والرغبة الجادة في التعلم .. خصوصاً في الجيلين السابقين لنا .. كانت أواخر طفرة الثقافة ..!!
تلك الأم .. كتبت حديثاً خرج من القلب ودخل القلب .. وكافحت وانتظرت بوادر أملٍ لم تظهر .. لكنها دلت طريقاً موفقاً للاستشاره .. أتمنى أن تكون تلك الكلمات لامست جروحها .. وأضاءت جبينها المُتعب ...! ياليتني أعرف ماحالها .. وحال أبناءها الآن ..!!
أشكرك أخي الكريم .. على هذا الإختيار الموفق .. وأنتظر المزيد
قرأت ما أوردته و قرأت ما وجهه الشيخ للقراء مرتين و أقتبسه .
شكراً لك .
إقتباس
الرسالة الأصلية كتبت بواسطة A.K.N 505
أما الكلمة التي للقراء الذين كانوا الليلة البارحة عندما أرعدت السماء و أبرقت ونزلت على الأرض عل المقاعد المريحة في الغرف الدافئة فلم يعرفوا ما حال الفقراء في تلك الليلة .... إني أقول لهم :
إن في البلد في حيّكم , بين جيرانكم كثيرات من أمثال هذه السيدة التي كتبت إليّ و إن في البلد من يرتجف هذه الليلة من البرد لا يلقى جمرة مشتعلة و أن هنالك تلاميذ يقرؤون بعيون تزيغ من الجوع و القرّ و يكتبون بأصابع محمرة من البرد. و إن في هؤلاء من لو أُمد بالطعام واللباس و أُعين في الدراسة , لكان عبقرياً تعتز بمثله الأوطان و تسمو الأمم
و اذكروا أن من بين ا ُجراء الخبّازين و صبية المحامين من خُلق ليكون من كبار العلماء و أفراد النابغين , لكن الفقر عطّل مواهبه و سدّ أمامه طريق النبوغ فلم يجد ذكاؤه مسربا ً يسرب منه إلا الإجرام .
إن أكثر المجرمين الذين يسكنون السجون كانوا صبية أذكياء , و لكن المجتمع قال لهم : حرامٌ عليكم الدرس و التحصيل لتكونوا من أفذاذ المثقفين , فكونوا إذن من أذكياء المجرمين !
إن الذي ينفقه الأغنياء على الترف و السرف يكفي لتعليم كل ولد في البلدة و إطعام كل جائع و إسعاف كل فقير. إن عرسا ً واحداً من أعراس الموسرين الكبار تكفي نفقته لإطعام عشر عائلات شهراً كاملاً , وما ينفَق على أكاليل الزهر في الجنائز و طاقات الورد في الأفراح يفتتح مستشفى مجانياً للفقراء و ما يُنفق في الولائم والحفلات وما يُصرف في الملاهي و الموبقات يكفي لسد حاجة كل محتاج.
و أنا لا أقول دعوا هذا كله , فإنكم لن تفعلوا,ولكن اجعلوا من أموالكم نصيباً لهؤلاء المعَذّبين في الأرض...زكّوا عن أموالكم فإنكم لا تدرون هل تدوم لكم أو تذهب عنكم .
و هل أخذ أحدٌ على الدهر عهداً أن لا تحول عنه الحال و أن لا يذهب من يده المال ؟ ومن الذي جعل لولد الغني الحق في أن يبقى أبداً سيداً يُعطى ما يطلب و ينال ما يريد .. ومن يثق بأن ولده لن يحتاج غداً إلى ولد الفقير يسأله ويرجو رفده ؟ و إذا وثقتم ببقاء المال , فهل تثقون ببقاء الصحة؟ أتأمنون النوازل و الأمراض و المكبات؟
فاستنزلوا رحمة الله بالبذل , و ادفعوا عنكم المصائب بالصدقات.
و أنا لا أُخاطب أرباب الآلاف المؤلفة فقط, بل أخاطب القرّاء جميعاً. إن الناس درجات أمَا تفرح إن أعطاك صاحب الملايين ألف ليرة ؟ فأعط أنت المعدم عشر ليرات . إن الليرات العشر له كالألف لك , و الألف عند " المليونير" كالعشر عندك. و الثوب القديم الذي تطرحه قد يكون ثوب العيد عند أناس آخرين , فلماذا لا تسرهم بشيئ لا يضرك
و لا تُحس فقده ؟
و لو كل امرئ يعطي من هو أفقر منه لما بقي في الدنيا محتاج . فيا أيُها القرّاء , أسألكم بالله : لا تدعوا كلمتي تذهي في الهواء , فإني والله ما أردت إلا الخير لكم.[/RIGHT]
في المقال , تحدث عن الأوضاع التي كانت في عصره .. لكنه القصة هي له
و لهذا اخترتها كأول المقالات لأنها كانت كسيرة بسيطة مختصرة و لكن بكتابته هو ..
الكريم القاضي ,,,
حقيقة لا أجد ما أضيفه على مداخلتك..
بالفعل كتب الشيخ علي رحمه الله تُخرجك من عالمك إلى عالم آخر من جمال اللغة وبساطة الكلمة ..
أول كتاب قرأته له كان الذي ذكرته في ردك كتاب " من حديث النفس " و هو الذي أخذت منه المقالة الأولى ... كتاب رائع
بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ...
و اذكر أني بدأت أقرأ فيه عندما أخذت مضجعي لأتصفحه قليلا ثم أنام لكن ما انتهيت إلا قُبيل الفجر دون أن أشعر بالوقت من حُسن ما فيه ..
هلالي من أرض اليمن ,,,
صدقت , بعض الأشخاص هم أوطان بحد ذاتهم ..
و هم كُثر في الأقطار العربية ..
شكرا ً لكرمك و حضورك ..
كنت أمس وراء مكتبي فسمعت صوتا هائلا له رنين وصدى، كأنه صوت رجل ينادي من قعر بئر، أو يصرخ في الحمام، يقول:
السلام عليكم.
فرفعت رأسي فإذا أمام وجهي بطن رجل، وكأنه بطن فرس ضخم من أفراس البحر، أما رأسه فكان في نصف المسافة بيني وبين السقف، ومدّ إليّ يدا كالمخاطب يصافحني، ثم عمد إلى أكبر مقعد في الغرفة فحاول أن يدخل نفسه فيه فلم يستطع، فلبث واقفا وعرض حاجته وهي دعوة إلى اجتماع للمصالحة بين أخوين من إخواننا، ولم يكن من عادي إجابة مثل هذه الدعوة، وهممت بالرفض، لولا أني قست بعيني طول الرجل وعرضه، وعمقه وارتفاعه، وآثرت السلامة ووعدته.
قال: أين نلتقي؟ فخفت أن أدله على الدار فيدخل فلا أستطيع إخراجه، فقلت له: هنا الساعة الثالثة بالضبط.
قال: نعم، وولى ذاهبا كأنه عمارة تمشي.
وجئت في الموعد، فوجدت المحكمة مغلقة، وقد نسيت أن أحمل المفتاح فوقفت على الباب والناس ينظرون إليّ، فمن عرفني أقبل يسألني، فأضطر لأن أشرح له القصة، ومن كان لا يعرفني، حسبني أحد أرباب الدعاوى، فقال: (ما فيها أحد، سكرت المحكمة) فلا أرد عليه، وأنا واقف أتململ من الضجر، أرفع رجلا وأضع أخرى، وأقبل مرة وأدبر مرة، أنظر من هنا وهناك، فكلما رأيت من بعيد شيئا كبيرا أحسبه صاحبي، فإذا اقترب رأيت جملا عليه حطب، أو حمارا فوقه تبن، أو تاجرا من تجار الحرب الذين انتفخوا من كثرة ما أكلوا من أموال الناس، حتى مضت نصف ساعة، وأحسست النار تمشي في عروقي، غضبا منه ومن نفسي أن لنت له ولطفت به، وذهبت إلى الدار وأنا مصدوع الرأس، مهيج الأعصاب فألقيت بنفسي على الفراش. فلم أكد أستقر لحظة، حتى سمعت رجة ظننت معها أن قد زلزلت الأرض بنا، أو تفجرت من حولنا قنبلة، وإذا أنا بصاحبي الضخم، قد فتحت له الخادم فراعها أن رأت فيه فيلا يمشي على رجلين، فأدخلته عليّ بلا استئذان، وولت هاربة تحدّث من في الدار حديث هذه الهولة المرعبة.
ونفخ الرجل من التعب كأنه قاطرة قديمة من قاطرات القرن التاسع عشر، التي لا تزال تمشي بين دمشق وبيروت، وألقى بنفسه على طرف السرير، فطقطق من تحته الحديد وانحنى.
وأخرج منديلا كأنه ملحفة، ومسح به هذه الكرة المركبة بين كتفيه، وقال:
هيك يا سيدنا؟ ما بنتنظر شوية؟ شو صار؟ حمّل الحج؟ سارت الباخرة؟ الإنسان مسير لا مخير، والغائب عذره معه، والكريم مسامح، وعدنا وعد شرقي؟
قال الصديق وهو يحدثني: فلما سمعت هذه الكلمة وقفت عندها، أفكر فيها، ثم جئت إليك أقترح عليك أن تكتب عنها.
وعد شرقي؟ أليس عجيبا أن صار اسم (الوعد الشرقي) علما على الوعود الكاذبة، واسم (الوعد الغربي) علما على الوعد الصادق؟.
ومن علم الغربيين هذه الفضائل إلا نحن؟ من أين قبسوا هذه الأنوار التي سطعت بها حضارتهم؟ ألم يأخذوها منا؟
من هنا أيام الحروب الصليبية، ومن هناك، من الأندلس بعد ذلك، وهب في الدنيا دين إلا هذا الدين يجعل للعبادات موعدا لا تصح العبادة إلا فيه، وإن أخلفه المتعبد دقيقة واحدة بطلت العبادة؟ إن الصوم شرع لتقوية البدن،وإذاقة الغني مرارة الجوع حتى يشفق على الفقير الجائع، وكل ذلك بتحقق في صوم اثنتي عشر ساعة، واثنتي عشر ساعة إلا خمس دقائق، فلماذا يبطل الصوم إن أفطر الصائم قبل المغرب بخمس دقائق، أليس (والله أعلم) لتعليمه الدقة والضبط والوفاء بالوعد؟ ولماذا تبطل الصلاة إن صليت قبل الوقت بخمس دقائق؟
والحج؟ لماذا يبطل الحج إن وصل الحاج إلى عرفات بعد فجر يوم النحر بخمس دقائق، أليس لأن الحاج قد أخلف الموعد؟
أولم يجعل الإسلام إخلاف الوعد من علامات النفاق، وجعل المخلف ثلث منافق؟ فكيف نرى بعد هذا كله كثيرا من المسلمين لا يكادون يفون بموعد، ولا يبالون بمن يخلف لهم وعدا؟ أو يتأخر عنه، حتى صار التقيد بالوعد، والتدقيق فيه والحرص عليه، نادرة يتحدث بها الناس، ويُعجبون بصاحبها ويَعجبون منه… وحتى صارت وعودنا مضطربة مترددة لا تعرف الضبط ولا التحديد.
يقول لك الرجل (الموعد صباحا)، صباحا؟ في أي ساعة من الصباح؟ في السادسة، في السابعة، في الثامنة؟ إنك مضطر إلى الانتظار هذه الساعات كلها. (الوعد بين الصلاتين) وبين الصلاتين أكثر من ساعتين؟ (الوعد بعد العشاء). أهذه مواعيد؟! هذه مهازل وسخريات، لقوم لا عمل لهم، ولا قيمة لأوقاتهم، ولا مبالاة لهم بكرامتهم!
هذه مواعيدنا وفي ولائمنا، وحفلاتنا، وفي اجتماعاتنا الفردية والعامة.
دعيت مرة إلى وليمة عند صديق لي قد حدد لها ساعة معينة هي الساعة الأولى بعد الظهر، فوصلت مع الموعد فوجدت المدعوين موجودين إلا واحدا له عند صاحب الدار منزلة، وتحدثنا وحلت ساعة الغداء وتوقعنا أن يدعونا المضيف إلى المائدة فلم يفعل، وجعل يشاغلنا بتافه الحديث، ورائحة الطعام من شواء وقلاء وحلواء، تملأ آنافنا وتصل إلى معدنا الخاوية، فتوقد فيها نارا، حتى إذا اشتد بي الجوع قلت: هل عدلت عن الوليمة؟
فضحك ضحكة باردة وخالها نكتة، فقلت:
يا أخي جاء في الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة.. حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ونحن جماعة وهي واحدة، وهي قطة ونحن بشر!
فتغافل وتشاغل، ثم صرح فقال: حتى يجيء فلان.
قلت: إذا كان فلان قد أخلف الموعد، أفنعاقب نحن بإخلافه؟ وهل يكون ذنبنا أنا كنا غير مخلفين؟
والحفلات مثل الولائم، يكتب في البطاقة أنها تبدأ في الساعة الرابعة، وتبدأ في نصف الخامسة. وأعمالنا كلها على هذا النمط، ركبت مرة الطائرة من مطار ألماظة في مصر فتأخرت عن القيام نصف ساعة انتظار راكب موصى به من أحد أصحاب المعالي. ولما ثرنا معشر الركاب وصخبنا طار بنا، فلم يسر والله ربع ساعة حتى عاد فهبط، فارتعنا وفزعنا وحسبنا أن قد جرى شيء، وإذا العودة من أحل الراكب المدلل صديق صاحب المعالي، وقد تأخر لأنه لم يحب أن يسافر قبل أن يدخل الحمّام، ويستريح بعد الخروج كي لا يلفحه (اسم الله عليه) الهواء البارد، وكنت يومئذ عائدا من رحلة رسمية، فلما وصلت إلى مطار المزة في دمشق وجدت أكثر من مئتي إنسان بينهم مندوب وزير العدل، ينتظرون قدومي في الشمس منذ ساعة كاملة.
والسيارات مثل الطيارات، والدكاكين والدواوين، والمقاهي والملاهي، كل ذلك يقوم على تبديل المواعيد وإخلافها، حتى لم يبق لشيء موعد معروف، فيا أيها القراء خبروني سألتكم بالله، أي طبقة من الناس تفي بالموعد، وتحرص عليه وتصدق فيه، تدقق في إنجازه؟ الموظفون؟ المشايخ؟ الأطباء؟ المحامون؟ الخياطون والحذاؤون؟ سائقو السيارات؟ من؟ من يا أيها القراء؟.
يكون لك عند الموظف حاجة لا يحتمل قضاؤها خمس دقائق، فتجيئه وهو يشرب القهوة، أو يقرأ الجريدة، أو يشغل نفسه بما لا طائل تحته، فيصّد فيك بصره ويصوبه، ويقومك بعينه، فإن أنت لم تملأها، ولم تدفعه لمساعدتك رغبة فيك، أو رهبة منك قال لك: ارجع غدا. فترجع غدا، فيرجئك إلى ما بعد غد… لا أعني موظفا بعينه، ولا عهدا بذاته، بل أصف داء قديما سرى فينا واستشرى، ودخل وتغلغل..
ويكون لك موعد مع الشيخ، فيجيئك بعد نصف ساعة، ويعتذر لك، فيكون لاعتذاره متن وشرح وحاشية، فيضيع عليك في محاضرة الاعتذار نصف ساعة أخرى. وإن دعوته الساعة الثانية جاء في الثالثة. وإن كان مدرسا لم يأت درسه إلا متأخرا.
والطبيب يعلن أن العيادة في الساعة الثامنة ولا يخرج من داره إلى العاشرة، وتجيئه في الموعد فتجده قد وعد خمسة من المرضى مثل موعدك، واختلى بضيف يحدثه حديث السياسة والجو والكلام الفارغ، وتركهم على مثل الجمر، أو على رؤوس الإبر، ينتظرون فرج الله، حتى يملوا فيلعنوا الساعة التي وقفوا بها على باب الطبيب، ويذهبون يفضلون آلام المرض على آلام الانتظار، ويؤثرون الموت العاجل المفاجئ على هذا الموت البطيء المضني.
أما الخياطون والخطاطون، والحذّاؤون والبنّاؤون، وأرباب السيارات، وعامة أصحاب الصناعات، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنهم من أكذب خلق الله، وأخلفهم لوعد. الكذب لهم دين، والحلف عادة، ولطالما لقيت منهم، ولقوا مني، وما خطت قميصا ولا حلة، ولا صنعت حذاء، ولا سافرت في سيارة عامة سفرة، ولا بعثت ثوبا إلى مصبغة لكيّه أو غسله أو تنظيفه، إلا كووا أعصابي بفعلهم، وشويتهم بلساني، وإن كان أكثرهم لا يبالي ولو هجاه الحطيئة أو جرير أو دعبل الخزاعي، بل إنهم ليفخرون بهذه البراعة في إخلاف المواعيد، والتلاعب بالناس، ويعدونها مهارة وحذقا.
فمتى يجيء اليوم الذي نتكلم فيه كلام الشرف، ونعد وعد الصدق، وتقوم حياتنا فيه على التواصي بالحق لا يعد فيه المرشح وعدا إلا وفى به بعد أن يبلغ مقاعد البرلمان، ولا يقول الموظف لصاحب الحاجة إني سأقضيها لك إلا إذا كان عازما على قضائها، ولا الصانع بإنجاز العمل إلا إذا كان قادرا على إنجازه، والموظفون يأتون من أول وقت الدوام ويذهبون من آخره، والأطباء لا يفارقون المكان ساعات العيادة، والخياط لا يتعهد بخياطة عشرة أثواب إن كان لا يستطيع أن يخيط إلا تسعا، وتمحى من قاموسنا هذه الأكاذيب. تقول لأجير الحلاق: أين معلمك؟ فيقول، إنه هنا، سيحضر بعد دقيقة، ويكون نائما في الدار لا يحضر إلا بعد ساعتين.
ويقول لك الموظف: من فضلك لحظة واحدة. فتصير لحظته ساعة. ومتى تقوم حياتنا على ضبط المواعيد وتحديدها تحديقا صادقا دقيقا، فلا يتأخر موعد افتتاح المدارس من يوم إلى يوم ويتكرر ذلك كل سنة، ولا يرجأ موعد اجتماع الدول العربية في الجامعة من شهر إلى شهر، ولا تعاد في تاريخنا مأساة فلسطين التي لم يكن سببها إلا إهمال ضبط المواعيد وإخلافها. ولو أنا حددنا بالضبط موعد القتال، وموعد الهدنة، وجئنا (أعني الدول العربية) على موعد واتفاق لكان لنا في تاريخ فلسطين صفحة غير التي سيقرؤها الناس غدا عنا.
إن إخلاف الموعد الصغير، هو الذي جرّ إلى إخلاف هذا الموعد الكبير. فلنأخذ مما كان درسا؛ فإن المصيبة إذا أفادت كانت نعمة. ومتى صلحت أخلاقنا، وعاد لجوهرنا العربي صفاؤه وطهره، وغسلت عنه الأدران، استعدنا فلسطين، وأعدنا ملك الجدود.
في المقال , تحدث عن الأوضاع التي كانت في عصره .. لكنه القصة هي له
و لهذا اخترتها كأول المقالات لأنها كانت كسيرة بسيطة مختصرة و لكن بكتابته هو ..
أعلم ذلك أخي ,, لكني قصدت الأم التي استشارته في بداية المقال .. و قص عليها قصته !!
قرأت ما كتبته أكثر من مره .. كان انتقائك موفقاً .. لشخصٍ محبوب من كثير .. أيضاً المقالات التي قرأتها تشدني لقراءة المزيد .. سبحان الله .. وأنا أقرأ كأني أسمع صوته يحكي .. فأسلوبة جداً واضح ..
رحمه الله .. وغفر له .. وغفر لابنتيه .. فقد توفيت الثانية في حادث سير في جدة قبل يومين ..
ياله من بستان .. وياله من أديب ..
رحم الله شيخنا واديبنا على الطنطاوي وجمعنا به في مسقر رحمته ,,,
حقيقة لي عن كتابات الطنطاوي فترة من الزمن لكن هذا الموضوع اعاد الى روح الادب
وذكريات الابداع .. فكم سهرت على حروف شيخنا الفاضل .. فقد كان مرجعا لي في الادب
حتى اني ما زلت اذكر كتاابه قصص من التاريخ وقد تمزقت اوراقه من كثرة القراءة والتوسد عليه
فصرت اعيد ترتيب اورقه المتناثرة .. وأقرأه ورقة ورقة
من رثاء العشماوي له :
منابع الشعر لم تبخل سواقيها ** فكيف يحبسها من كان يجريها
يا لائم الشعر صمتاً رب قافية ** تأبى مسيراً على أصوات حاديها
يا من يعاتبني في حزن قافيتي ** أما رأيت سهام الحزن ترميها
هل تطلب الشدو منها وهي واجمةٌ ** مما ترى وستار الليل يخفيها
رحيل أحبابنا نار مؤججة ** تُذيب أكبادنا وجداً و تصليها
بقَدْرِ ما طِرتُ بموضوعكَ و اختياراتكَ حبيبنا ، تنتابني موجةَ حزنٍ عارمةٍ كلّما عُدْتُ وَ للموضوعِ لأقرأَ من كتاباتِ الشيخِ ، وهو أمرٌ باتَ يلازمني منذُ أنْ بدأتُ بقراءةِ كتبِهِ و تعلّقتُ به و لستُ أجِدُ لذلك سبباً إلا أنني ربما أفتقدُ ماضياً جميلاً عبِقاً .
ملاحظة / القريات محافظة تقع في شمال المملكة قريبة من الحدود الأردنية ..
هذه الأحداث وقعت في سنة 1935م
يقول الشيخ: "ولما وصلنا القريات في السعودية استقبلنا أمير القريات بنفسه، وأخذ ونحن في مجلسه يقول: قهوة شاهي قهوة شاهي، فأخذ يدور علينا بها عبد أسود، ثم أديرت علينا المجمرة وفيها البخور فلم ندر ما نصنع بها ثم وجدنا الأمير يضم عليها عباءته حتى يتعشق الطيب بثيابه ثم يدعها فصنعنا مثله، وانتهى العبد من إدارته البخور فأخذ الأمير ينظر إلينا، فقام شيخنا الرواف واستأذن فقمنا معه وقال لنا شيخنا الرواف ألم تسمعوا المثل النجدي؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: "إذا دار العود فلا قعود"، فعلمت سر نظر الأمير لنا.
وبعد الظهر اجتمعنا مع الأمير للغداء ورأينا عادات لم نألفها وطرائف من الطعام لم نعرفها، فما كاد يستقر بنا المجلس حتى أقبل العبيد فمدوا سماطاً على الأرض ووضعوا عليه قصعة هائلة وقد مُلِئت أرزاً، وألقي فوقه خروف كامل بيديه ورجليه ورأسه، كأنهم والله أعلم خافوا أن نشك فيه فنحسبه دباً أو فيلاً أو قطاً فأبقوا على رأسه دليلاً قاطعاً على أنه خروف أصيل من أمة الضأن لا من شعب الثعالب.
وكان الخروف مفتوح العينين، ناعس الطرف، فأخذتني الشفقة عليه، وتوهمت أنه ينظر إلينا، ثم رأيت ألا مجال للوهم ولا الخيال، لأن القوم أحدقوا بالقصعة وشمروا عن سواعدهم، فِعلَ من يقدم على معركة، فخشيت أن يذهبوا بالأرز واللحم ويبقى لي الخيال والوهم!.
قال لي صديق ، معروف بجمود الفكر ، وعبادة العادة ، والذعر من كل خروج عليها أو تجديد فيها . قال:
- أتكتب عن زوجك في الرسالة تقول إنها من أعقل النساء وأفضلهن ؟ هل سمعت أن أحداً كتب عن زوجه ؟ إن العرب كانوا يتحاشون التصريح بذكرها ، فيكنون عنها بالشاة أو النعجة استحياء وتعففا ، حتى لقد منع الحياء جريراً من رثاء زوجه صراحة ، وزيارة قبرها جهارا . ومالك بن الريب لمّا عد من يبكى عليه من النساء قال :
فمنهن أمى وابنتاها وخالتى **** وباكية أخرى تهيج البواكيا
فلم يقل وامرأتى . . وكذلك العهد بآبائنا ومشايخ أهلنا . لم يكن يقول أحد منهم : زوجتى ؛ بل كان يقول : أهل البيت وأم الأولاد ، والجماعة ،والأسرة ، وأمثال هذه الكنايات . أفترغب عن هذا كله ، وتدع ما يعرف الناس ،وتأتى ما ينكرون ؟
قلت : نعم !
فكاد يصعق من دهشته مني ، وقال :
- أتقول نعم بعد هذا كله ؟
قلت : نعم ! مرة ثانية .
أكتب عن زوجتي فأين مكان العيب في ذلك ؟ ولماذا يكتب المحب عن الحبيبة وهي زوج بالحرام ،ولا يكتب الزوج عن المرأة وهي حبيبته بالحلال ؟ ولماذا لا أذكر الحق من مزاياها لأرغب الناس في الزواج . والعاشق يصف الباطل من محاسن العشيقة فيحبب المعصية إلى الناس؟ إن الناس يقرؤون كل يوم المقالات والفصول الطوال في مآسي الزواج وشروره ، فلم لا يقرؤون مقالة واحدة في نعمه وخيراته ؟
ولست بعد أكتب عن زوجي وحدها ؛ ولكنى كما كان هوجو يقول : "إني إذا أصف عواطفي أبا ، أصف عواطف جميع الآباء" .
لم أسمع زوجاً يقول إنه مستريح سعيد ، وإن كان في حقيقته سعيداً مستريحا ، لأن الإنسان خلق كفورا ، لا يدرك حقائق النعم إلا بعد زوالها ؛ ولأنه ركب من الطمع ، فلا يزال كلما أوتى نعمة يطمع في أكثر منها ، فلا يقنع بها ولا يعرف لذتها . لذلك يشكو الأزواج أبدا نساءهم ، ولا يشكر أحدهم المرأة إلا إذا ماتت ، وانقطع حبله منها وأمله فيها ؛ هنالك يذكر حسناتها ، ويعرف فضائلها . أما أنا فإني أقول من الآن – تحدثا بنعم الله وإقراراً بفضله – إني سعيد في زواجي وإني مستريح .
وقد أعانني على هذه السعادة أمور يقدر عليها كل راغب في الزواج ، طالب للسعادة فيه ، فلينتفع بتجاربي من لم يجرب مثلها ، وليسمع وصف الطريق من سالكه من لم يسلك بعد هذا الطريق.
أولها : أني لم أخطب إلى قوم لا أعرفهم ، ولم أتزوج من ناس لا صلة بيني وبينهم . . فينكشف لي بالمخالطة خلاف ما سمعت عنهم ، وأعرف من سوء دخيلتهم ما كان يستره حسن ظاهرهم ، وإنما تزوجت من أقرباء عرفتهم وعرفوني ، واطلعت على حياتهم في بيتهم واطلعوا على حياتي في بيتي . إذ رب رجل يشهد له الناس بأنه أفكه الناس ، وأنه زينة المجالس ونزهة المجامع ، وهو في بيته أثقل الثقلاء . ورب سمح هو في أهله سمج ، وكريم هو في أسرته بخيل ، يغتر الناس بحلاوة مظهره فيتجرعون مرارة مخبره . .
تزوجت بنتاً أبوها ابن عم أمي لحا ، وهو الأستاذ صلاح الدين الخطيب شيخ القضاء السوري المستشار السابق والكاتب العدل الآن . وأمها بنت المحدّث الأكبر ، عالم الشام بالإجماع الشيخ بدر الدين الحسينى رحمه الله . فهي عريقة الأبوين ، موصولة النسب من الجهتين.
والثاني : أني اخترتها من طبقة مثل طبقتنا . فأبوها كان مع أبي في محكمة النقض ،وهو قاض وأنا قاض ، وأسلوب معيشته قريب من أسلوب معيشتنا ،وهذا هو الركن الوثيق في صرح السعادة الزوجية ، ومن أجله شرط فقهاء الحنفية (وهم فلاسفة الشرع الإسلامي) الكفاءة بين الزوجين .
والثالث : أني انتقيتها متعلمة تعليماً عادياً ، شيئاً تستطيع به أن تقرأ وتكتب ، وتمتاز من العاميات الجاهلات ، وقد استطاعت الآن بعد ثلاثة عشر عاماً في صحبتي أن تكون على درجة من الفهم والإدراك ، وتذوق ما تقرأ من الكتب والمجلات ، لا تبلغها المتعلمات ،وأنا أعرفهن وكنت إلى ما قبل سنتين ألقي دروساً في مدارس البنات ، على طالبات هن على أبواب البكالوريا ، فلا أجدهن أفهم منها ، وإن كن أحفظ لمسائل العلوم ، يحفظن منها ما لم تسمع هي باسمه.
ولست أنفر الرجال من التزوج بالمتعلمات ، ولكني أقرر – مع الأسف – أن هذا التعليم الفاسد بمناهجه وأوضاعه ، يسيء على الغالب إلى أخلاق الفتاة وطباعها ، ويأخذ منها الكثير من مزاياها وفضائلها ،ولا يعطيها إلا قشورا من العلم لا تنفعها في حياتها ،ولا تفيدها زوجاً ولا أما . والمرأة مهما بلغت لا تأمل من دهرها أكثر من أن تكون زوجة سعيدة وأما.
والرابع : أني لم أبتغ الجمال وأجعله هوو الشرط اللازم الكافي كما يقول علماء الرياضيات لعلمي أن الجمال ظل زائل ؛ لا يذهب جمال الجميلة ، ولكن يذهب شعوورك به ، وانتباهك إليه ، لذلك نرى من الأزواج من يترك امرأته الحسناء ويلحق من لسن على حظ من الجمال ، ومن هنا صحت في شريعة إبليس قاعدة الفرزدق وهو من كبار أئمة الفسوق ، حين قال لزوجه النوار في القصة المشهورة : ما أطيبك حراما وأبغضك حلالا !
والخامس : أن صلتي بأهل المرأة لم يجاوز إلى الآن ، بعد ثمن قرن من الزمان ، الصلة الرسمية : الود والاحترام المتبادل ، وزيارة الغب ، ولم أجد من أهلها ما يجد الأزواج من الأحماء من التدخل في شؤونهم ، وفرض الرأي عليهم ، ولقد كنا نرضى ونسخط كما يرضى كل زوجين ويسخطان ، فما دخل أحد منهم يوما في رضانا ولا سخطنا .
ولقد نظرت إلى اليوم في أكثر من عشرين ألف قضية خلاف زوجي ، وصارت لي خبرة أستطيع أن أؤكد القول معها بأنه لو ترك الزوجان المختلفان ، ولم يدخل بينهما أحد من الأهل ولا من أولاد الحلال ، لانتهت بالمصالحة ثلاثة أرباع قضايا الزواج.
والسادس : أننا لم نجعل بداية أيامنا عسلا ، كما يصنع أكثر الأزواج ، ثم يكون باقي العمر حنظلا مرا وسما زعافا ، بل أريتها من أول يوم أسوأ ما عندي ، حتى إذا قبلت مضطرة به ، وصبرت محتسبة عليه ، عدت أريها من حسن خلقي ، فصرنا كلما زادت حياتنا الزوجية يوما زادت سعادتنا قيراطا .
والسابع : أنها لم تدخل جهازا ، وقد اشترطت هذا لأني رأيت أن الجهاز من أوسع أبواب الخلاف بين الأزواج ، فإما أن يستعمله الرجل ويستأثر به فيذوب قلبها خوفاً عليه ، أو أن يسرقه ويخفيه ، أو أن تأخذه بحجز احتياطي في دعوى صورية فتثير بذلك الرجل .
والثامن : أني تركت ما لقيصر لقيصر ، فلم أدخل في شؤونها من ترتيب الدار وتربية الأولاد ؛ وتركت هي لي ما هو لي ، من الإشراف والتوجيه، وكثيراً ما يكون سبب الخلاف لبس المرأة عمامة الزوج وأخذها مكانه ، أو لبسه هو صدار المرأة ومشاركتها الرأي في طريقة كنس الدار ، وأسلوب تقطيع الباذنجان ، ونمط تفصيل الثوب.
والتاسع : أني لا أكتمها أمراً ولا تكتمني ، ولا أكذب عليها ولا تكذبني ، أخبرها بحقيقة وضعي المالي ، وآخذها إلى كل مكان أذهب إليه أو أخبرها به ، وتخبرني بكل مكان تذهب هي إليه ، وتعود أولادنا الصدق والصراحة ، واستنكار الكذب والاشمئزاز منه . ولست والله أطلب من الإخلاص والعقل والتدبير أكثر مما أجده عندها . فهي من النساء الشرقيات اللائى يعشن للبيت لا لأنفسهن . للرجل والأولاد ، تجوع لنأكل نحن ، وتسهر لننام ، وتتعب لنستريح ، وتفني لنبقي . هي أول أهل الدار قياماً ، وأخرهم مناماً ، لا تني تنظف وتخيط وتسعى وتدبر ، همها إراحتي وإسعادي . إن كنت أكتب ، أو كنت نائماً أسكتت الأولاد ، وسكنت الدار ، وأبعدت عنى كل منغص أو مزعج .
تحب من أحب ، وتعادى من أعادى . إن حرص النساء على رضا الناس كان حرصها على إرضائي . وإن كان مناهن حلية أو كسوة فإن أكبر مناها أن تكون لنا دار نملكها نستغني بها عن بيوت الكراء.
تحب أهلي ، ولا تفتأ تنقل إلى كل خير عنهم . إن قصرت في بر أحد منهم دفعتني ، وإن نسيت ذكرتني ، حتى أني لأشتهي يوماً أن يكون بينها وبين أختي خلاف كالذي يكون في بيوت الناس ، أتسلى به ، فلا أجد إلا الود والحب ، والإخلاص من الثنتين ، والوفاء من الجانبين . إنها النموذج الكامل للمرأة الشرقية ، التي لا تعرف في دنياها إلا زوجها وبيتها ،والتي يزهد بعض الشباب فيها ، فيذهبون إلى أوربة أو أميركة ليجيئوا بالعلم فلا يجيئون إلا بورقة في اليد وامرأة تحت الإبط ، إمرأة يحملونها يقطعون بها نصف محيط الأرض أو ثلثه أو ربعه ، ثم لا يكون لها من الجمال ولا من الشرف ولا من الإخلاص ما يجعلها تصلح خادمة للمرأة الشرقية ؛ ولكنه فساد الأذواق ،وفقد العقول ، واستشعار الصغار ،وتقليد الضعيف للقوى . يحسب أحدهم أنه إن تزوج امرأة من أمريكا ، وأى امرأة ؟ عاملة في شباك السينما ، أو في مكتب الفندق ، فقد صاهر طرمان ، وملك ناطحات السحاب ، وصارت له القنبلة الذرية ، ونقش اسمه على تمثال الحرية . .
إن نساءنا خير نساء الأرض ، وأوفاهن لزوج ،وأحناهن على ولد ، وأشرفهن نفسا ، وأطهرهن ذيلا ، وأكثرهن طاعة وامتثالا وقبولا لكل نصح نافع وتوجيه سديد . وإني ما ذكرت بعض الحق من مزايا زوجتي إلا لأضرب المثل من نفسي على السعادة التي يلقاها زوج المرأة العربية (وكدت أقول الشامية) المسلمة ، لعل الله يلهم أحدا من عزاب القراء العزم على الزواج فيكون الله قد هدى بي ، بعد أن هداني !
بارك الله في اليد التي كتبت و القلب الذي شعر و العقل الذي فكر ، بارك الله فيك حبيبنا A.K.N على هذا الموضوع الذي عشت معه لحظات جميلة.
أتذكر الشيخ لماماً ، قدّس الله ضريحه و جمعنا و من نحب في مستقر رحمته ، قبل نحو أكثر من ثلاثين سنة . عندما أذكره رحمه الله أتذكر مباشرةً والدتي أطال الله في عمرها و متعنا ببقاءها و هي مضطجعة على شقها الأيمن قبيل العصر تستمع برنامجه اليومي إذ ذاك.
عندما بدأت في مشوار الجامعة كان الشيخ رحمه الله رفيق غربتي و أنيس وحشتي . كنت أسترق الوقت الضيق أصلاً في الجامعة لأستل كتاباً أو كتابين من الجهة الجنوبية من مكتبة الجامعة و أصعد بها إلى أحد مقاعد الدراسة التي يخلو بها طلبة مرتبة الشرف المتعبين (!!) . لم أكن أقرأ كل شيْ أحصل عليه و لكنني أعيش معه و أرتاح أنه معي .
استمر معي هذا الديدن حتى بعد التخرج و الوظيفة . لازلت أسترق الوقت فأذهب إلى أحد شواطيء الجبيل حيث لا يوجد إزعاج و آخذ أقرأ من كتبه . سبحان من وهبه المقدرة على أن يجعلك تستمع له و أنت تقرأه !!
من لم يقرأ الذكريات فعليه أن يبدأ بها ، اقرأ ولن تندم بل ستزداد حباً للأدب و للأدباء و ستعرف معنى الكلمة الطيبة و الوضوح و المباشرة . ستعرف كيف يحب الرجل وطنه و كيف يتبع دينه . كيف يسامح من أخطأ عليه و كيف يتعامل مع من قتله في اليوم عدة مرات. ثم ليقرأ "من حديث النفس" فهذا الكتاب كُتب على مدى سنوات طويلة فلسوف تجد فيه أكثر من علي .
الشيخ رحمه الله سبق زمنه و بموته مات شاهدٌ على هذا العصر ، شاهدٌ صادق عالم ، عميدالأدب العربي بلا منازع كما قال الشيخ عائض القرني حفظه الله .
رحم الله الشيخ علي و رحمه الله أبي و رحم جميع موتى المسلمين .
تعال هنا .. وين رايح انت وموضوعك الصفحة الثانية ،،،
اخي الحبيب A.K.N 505 ... تحية طيبة
بارك الله فيك وفي وقتك ان منحتنا هذه المساحه المباركه لكي نعيش فيها لحظات مع علم من اعلام الأئمه فقها وأدبا وفكرا ... رحم الله شيخنا الجليل علي الطنطاوي واسكنه فسيح جناته ،،
عندما قرأت ما تفضلت به عن الشيخ الجليل الطنطاوي رحمه الله وكذلك ما تكرم به اخواني الأحبة .. أتى في بالي كم من الأقطار العربيه التي فقدت مثل هؤلاء النوابغ والقت بهم بعيدا عن أوطانهم ... فكانت الخسارة لأوطانهم اما مثل هؤلاء كالطنطاوي وغيره فهم وطنا بذاتهم ،،،