ذلك الذي قصصناه عليك -أيها الرسول- من أخبار الغيب التي أوحاها الله إليك, إذ لم تكن معهم حين اختلفوا في كفالة مريم أيُّهم أحق بها وأولى, ووقع بينهم الخصام, فأجْرَوْا القرعة لإلقاء أقلامهم, ففاز زكريا عليه السلام بكفالتها.
وما كنت - يا نبي الله - هناك حين قالت الملائكة: يا مريم إن الله يُبَشِّرْكِ بولد يكون وجوده بكلمة من الله, أي يقول له: "كن", فيكون, اسمه المسيح عيسى ابن مريم, له الجاه العظيم في الدنيا والآخرة, ومن المقربين عند الله يوم القيامة.
ويكلم الناس في المهد بعد ولادته, وكذلك يكلمهم في حال كهولته بما أوحاه الله إليه. وهذا تكليم النبوَّة والدعوة والإرشاد, وهو معدود من أهل الصلاح والفضل في قوله وعمله.
قالت مريم متعجبة من هذا الأمر: أنَّى يكون لي ولد وأنا لست بذات زوج ولا بَغِيٍّ؟ قال لها المَلَك: هذا الذي يحدث لكِ ليس بمستبعد على الإله القادر, الذي يوجِد ما يشاء من العدم, فإذا أراد إيجاد شيء فإنما يقول له: "كُن" فيكون
ويجعله رسولا إلى بني إسرائيل, ويقول لهم: إني قد جئتكم بعلامة من ربكم تدلُّ على أني مرسل من الله, وهي أني أصنع لكم من الطين مثل شكل الطير, فأنفخ فيه فيكون طيرًا حقيقيا بإذن الله, وأَشفي مَن وُلِد أعمى, ومَن به برص, وأُحيي من كان ميتًا بإذن الله, وأخبركم بما تأكلون وتدَّخرون في بيوتكم من طعامكم. إن في هذه الأمور العظيمة التي ليست في قدرة البشر لدليلا على أني نبي الله ورسوله, إن كنتم مصدِّقين حجج الله وآياته, مقرِّين بتوحيده.
وجئتكم مصدقًا بما في التوراة, ولأحلَّ لكم بوحي من الله بعض ما حرَّمه الله عليكم تخفيفًا من الله ورحمة, وجئتكم بحجة من ربكم على صدق ما أقول لكم, فاتقوا الله ولا تخالفوا أمره, وأطيعوني فيما أبلغكم به عن الله.
فلما استشعر عيسى منهم التصميم على الكفر نادى في أصحابه الخُلَّص: مَن يكون معي في نصرة دين الله؟ قال أصفياء عيسى: نحن أنصار دين الله والداعون إليه, صدَّقنا بالله واتبعناك, واشهد أنت يا عيسى بأنا مستسلمون لله بالتوحيد والطاعة.
ربنا صدَّقنا بما أنزلت من الإنجيل, واتبعنا رسولك عيسى عليه السلام, فاجعلنا ممن شهدوا لك بالوحدانية ولأنبيائك بالرسالة, وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون للرسل بأنهم بلَّغوا أممهم.
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (54) «سورة آل عمران»
ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل بعيسى عليه السلام, بأن وكَّلوا به من يقتله غِيْلة, فألقى الله شَبَه عيسى على رجل دلَّهم عليه فأمسكوا به, وقتلوه وصلبوه ظناً منهم أنه عيسى عليه السلام, والله خير الماكرين. وفي هذا إثبات صفة المكر لله -تعالى- على ما يليق بجلاله وكماله; لأنه مكر بحق, وفي مقابلة مكر الماكرين.
ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى: إني قابضك من الأرض من غير أن ينالك سوء, ورافعك إليَّ ببدنك وروحك, ومخلصك من الذين كفروا بك, وجاعل الذين اتبعوك أي على دينك وما جئت به عن الله من الدين والبشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمَنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, بعد بعثنه, والتزموا شريعته ظاهرين على الذين جحدوا نبوتك إلى يوم القيامة, ثم إليّ مصيركم جميعًا يوم الحساب, فأفصِل بينكم فيما كنتم فيه تختلفون من أمر عيسى عليه السلام.
فأمَّا الذين كفروا بالمسيح من اليهود أو غَلَوا فيه من النصارى, فأعذبهم عذابًا شديدًا في الدنيا: بالقتل وسلْبِ الأموال وإزالة الملك, وفي الآخرة بالنار, وما لهم مِن ناصر ينصرهم ويدفع عنهم عذاب الله.