اللي فاته الجزء (8)
يرعص هنا
ذِكْرَيَات
كان بردى يخطو على مهل، يرد على الشمس الوليدة أول تحياتها، وهي تغمره برشاش من عطر أشعتها الحمراء، وكنت في السيارة الضخمة والرفاق، الذين خرجوا من بيوتهم في هذا الصباح قبل نزوحي إلى العراق، فأقلب النظر في وجوههم شاكراً لهم فضلهم، حزيناً لفراقهم ثم أتأمل بردى، صديق الصبا وسمير الوحدة، ونجي النفس، فأبصر في خلاله ظلال الحوار والصفصاف، تميس دلالاً وتيهاً، وأرى ظلال المآذن البعيدة السامقة تظطرب في الماء فأبصر فيها ذكرياتي حية تطالعني وتحدثني، وتعيد على مسمعي قصة حياتي، وتتلو علي تاريخي، فأحس بلوعت الفراق، وأشعر في تلكه الساعة بأني أحب دمشق... دمشق مثوى ذكرياتي، ودنياي وديني، وغاية أملي في حياتي، ثم يطوي المرج هذا الصوت كله، ولا يدع حيال عيني إلا صور إخوتي، فأتأملها بعين دامعة، وقلب جاف من الفراق، ثم تجتمع كلها بعين واحدة، هو أحب الوجوه إلي وأدناها إلى قلبي... وألمح في الماء مشهداً طال عليه العهد ونأى به الزمان، فأراه ينفض عنه غبار السنين العشر، ويعود حياً جديداً... رأيتني في محطة الحجاز (محطة القطارات الرئيسة في دمشق)، آية الفن الحديث في دمشق، والمحطة مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه، فمن مسافر عجل، ومن مودع باك، ومن و من بائع يصيح... ومن آت وذاهب، وطالع ونازل.. وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا (ميناء بفلسطين)، وإلى جانبي أختي الصغيرة.
أنظر إلى بعيد، فأرى هناك في أخريات الناس امرأة تمسك بطفلين، متلفعة بملاءة لا تبدي منها شيئاً، ولكن وراء هذا القناع الأسود عينان تفيضان بالدموع، عالقتين بمكاننا في القطار، وخلال تلك الدموع قلباً يخفق شوقاً ويسيل دمعاً، ووراء هذه الوقفة الساكنة ناراً تظطرم في الجوف، وزلزالاً شديد يدك نفسه دكاً.
وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد القلب خفقاناً، ثم قذف إلى الجو بدخانه، كأنما هو حي قد أخذ بموقف الوداع، فزفر زفرة الحب الدفينة، والألم الحبيسة، ثم هدر وسار، وراحت المحطة تبتعد عنا، وعيني بيد تلك المرأة التي تلوح لي بمنديل أبيض حتى غاب عني كل شئ، هناك تلفت فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يجد لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار - لولا أن تعلقت بي أختي التي كانت على صغرها أكبر مني، وعلى أنوثتها أقوى وأجلد... أردت أن ألقي بنفسي لأني لم أكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي التي كانت تعلقها بنا، وتعلقنا بها لا يشبه ما نرى من الأمهات والأبناء، وكان... آه وماذا تفيد كان، وقد كان ما كان.
تلك هي أمي، التي مر على (غيابها) عني سنوات طويلة، ولكني أحس كأن الحادثة كانت أمس، فتحز في نفسي ولا أطيق أن أكتب عنها حرفاً.
تلك هي أمي التي كانت لي أماً وأباً، بعد أبي رحمه الله، وكانت حبيبةً، وكانت أستاذةً ، وكانت دنياي، وكانت آخرتي... وكانت أمي، تلك هي أمي التي فوجئت كما تفاجأ الشجرة الغضة الفينانة في ربيعها الزاهر، حين تعصف بها العاصفة فتدعها جذعاً مقطوعاً جافاً.
تلك هي أمي التي ما نسيتها - علم الله – أبداً، ولم أذكرها أبداً، إنها تملأ نفسي، ولكني لا أجري ذكرها على لساني، أراها في أحلامي حيةً فأشعر كأني عدت حياً، وأهم بعناقها وأفتح عيني فأجد على وجهي حر لطمة الدهر الساخرة، ولكني أحمل اللطمة، وأغضي على القذى (أسكت على الذل)، ولا أخبر أختي بشيء، لئلا أذكرهم ما هم ناسون، أو أجدد لهم بالمصيبة عهداً، فأهمل ذكرى أمي ويهملونها... ولعل كل واحد منهم يحس مثلما أحس ويكتم مثلما أكتم.
ذكرت ذلك ساعة الوداع، لأني كنت متألماً، وليس لآلامي كلها إلا معناً واحد هو أني أذكر وفات أمي، ذلك هو الألم عندي لا ألم سواه.
فلما صحوت نظرت في وجوه المودعين، فلمحت وجه أمي مرة ثانية ولكني لمحته حياً ماثلاً في وجوه إخوتي الأحباء، فودعته بدمعة من العين، وابتسامة على فم، وإشارة بالكف، ثم سارت بنا السيارة تطوي الأرض، وتستقبل الصحراء.