المنتديات الموقع العربي الموقع الانجليزي الهلال تيوب بلوتوث صوتيات الهلال اهداف الهلال صور الهلال
العودة   نادي الهلال السعودي - شبكة الزعيم - الموقع الرسمي > المنتديات العامة > منتدى الثقافة الإسلامية
   

منتدى الثقافة الإسلامية لتناول المواضيع والقضايا الإسلامية الهامة والجوانب الدينية

إضافة رد
   
 
LinkBack أدوات الموضوع طريقة عرض الموضوع
  #1  
قديم 30/05/2003, 01:44 PM
مشرف سابق بمنتدى الثقافة الإسلامية
تاريخ التسجيل: 15/12/2000
المكان: القصيم
مشاركات: 2,953
مقالات الشيخ سلمان العودة في جريدة الجزيرة

http://www.suhuf.net.sa/writers/20031239.html

بين الثبات والتجديد (1/3)
الشيخ سلمان بن فهد العودة

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (2) )الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (3) )مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (4)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لهذا الموضوع قصة وذلك أن بعض الاخوة في ولاية كاليفورنيا من الولايات المتحدة الأمريكية في مسجد النور طلبوا مني مشاركة معهم في مؤتمر أقاموه وكانوا يقترحون أن يكون العنوان (المراجعات المنهجية في الواقع الإسلامي المعاصر) فألقيت لهم حاضرة عبر الهاتف ثم طلب مني اخوة آخرون في الجامعة الإسلامية العالمية في كوالالمبور في ماليزيا محاضرة أيضاً في موضوع (التجديد في الشريعة الإسلامية) وحدثت هؤلاء وأولئك فتبين لي أن الحديث بين هذين الموضوعين فيه شيء من الاشتراك لا بد من كشفه وبيانه وبناء على ذلك جمعت شتاته في هذا المقال.
والعمل الإسلامي في هذا العصر سواء كان عمل جماعات أم أفراد أم مؤسسات أم غير ذلك يمر بمتغيرات ومراجعات منذ فترة ليست باليسيرة، لكن وتيرة هذه المراجعات وزخمها يتزايدان يوماً بعد يوم خصوصاً في ظل العولمة التي تحاول أن تجمع العالم كله تحت سلطة أممية واحدة سياسة واقتصاداً وإعلاماً وثقافة ثم ثانياً بسبب أحداث 11 سبتمبر وما ترتب عليها من الاجراءات العسكرية والسياسية والأمنية وغيرها، فبذلك مر العالم كله بتحولات سياسية وفكرية عميقة، وتبعاً فإن الواقع الإسلامي هو جزء من الواقع العام يتأثر به سلباً وايجاباً.
لقد كان بعض الإسلاميين منذ فترة طويلة يحاربون ويعترضون على ما يسمى بالمشاركة السياسية أو الدخول في البرلمانات، أو محاولة التأثير من الداخل كما يقال، ثم بدا لهم أن هذا باب لا بد من ولوجه فأصبح الذين كانوا بالأمس يجوبون القطر محذرين من هذه المشاركة ومبينين أن فيها خطراً وأن فيها لبساً ومتخوفين من هذه التجربة صاروا يفعلون الشيء ذاته داعين إلى ترشيح فلانٍ أو فلان أو هذه القائمة أو تلك الجمعية اقتناعاً منهم بأن هذا لا بد من فعله ولا بد من مزاحمة الشر بالخير، كذلك حمل بعض الإسلاميين السلاح لمواجهة بعض الأنظمة الحاكمة في عدد من البلاد الإسلامية وربما كان أقدم هذه التجارب هي التجربة التي جرت في سوريا، وكان من جرائها النتائج الكبيرة المعروفة ونزيف الدماء الهائل وضياع الأموال وانسداد أبواب كانت مشرعة للدعوة في وقت من الأوقات، وتلا ذلك أحداث مشابهة في أكثر من قطر إسلامي كمصر وبعد فترة طويلة من هذه التجربة ترتب على ذلك الإعلان الكبير عن أن هذه التجربة مرت بظروف صعبة واكتنفتها أخطاء عديدة وأنه لا بد من تصحيح المسار وتدارك العثار وضبط المصطلح والشعار لدى هؤلاء الأخيار.
كان ثمة آخرون من الدعاة يحملون على البث الفضائي ويحذرون منه ويتحدثون عن مخاطره وبعد ذلك وجدوا أنفسهم مضطرين - بعدما أصبح هذا البث واقعاً لا سبيل إلى تجاهله - أن يقتحموه بدعوتهم وأن يزاحموا فيه الشر بالخير وأن يعتمدوه كوسيلة جديدة من وسائل الدعوة كما يعتمدون الانترنت أو الكتاب أو الشريط أو الجريدة أو المجلة أو غيرها والوسائل لها حكم الغايات، هذه مجرد نماذج وغيرها كثير تشير إلى أن هناك ما يحتاج إلى تجلية وايضاح.
والمسلم يدعو: {اهًدٌنّا الصٌَرّاطّ المٍسًتّقٌيمّ}، وهذا الدعاء رباني عظيم في دلالته، ولحكمة الله لعباده أن يتلوه ويقرؤوه في كل صلاة بل في كل ركعة فلا تصح الصلاة إلا بهذا ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب كما في البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، ولأمرٍ ما شرع الله عز وجل هذا، ولا شك أن المسلم يوقن يقيناً قطعياً أن ذلك لحكمة عظيمة، وأن غيره لا يقوم مقامه فيه، والهداية المطلوبة هي أربعة أنواع: الهداية الأولى هي منح الله عباه القوى والقدرات والملكات التي بها يتوصلون إلى معرفة الخير والمصلحة وإلى معرفة الشر والمفسدة.
ومن ذلك أن الله تعالى زودهم بالحواس المعروفة من سمع وبصر ولمس وغير ذلك ومنحهم سبحانه العقول التي يحصلون بها العلم والتعلم ولهذا قال الله سبحانه:{وّعّلَّمّ آدّمّ الأّّسًمّاءّ كٍلَّهّا} إن الله جعل لآدم ثم لذريته من بعده قدرة على التعلم والفهم والإدراك لا تتحقق لغيرهم، فربنا سبحانه هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وهذا وإن كان للحيوان نصيب منه بما هداه الله إليه بفطرته فهو يعرف أين يختار المرعى وأنه يأكل إذا جاع ويشرب إذا عطش ويتقي بعض المخاطر حتى إنك تجد للحيوانات وللحشرات وللهوام والدواب من بديع صنع الله تعالى الشيء الذي يندهش منه العقل إلا أن الله سبحانه فضل الإنسان على غيره من ذلك بما لا يخفى.
فالهداية الأولى: هي أن الله زود الناس بالملكات التي بها يحصلون على الهداية ويعرفون الخير فيفعلونه والشر فيجتنبونه، ولهذا كان العقل مناط التكليف والسؤال والجزاء.
الهداية الثانية: الهداية العامة بأن الله بعث الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب وخاتمتها القرآن ولهذا قال تعالى: {وّلٌكٍلٌَ قّوًمُ هّادُ } وقال سبحانه: {إنَّ هّذّا القٍرًآنّ يّهًدٌي لٌلَّتٌي هٌيّ أّقًوّمٍ} فبين أن الرسل هداة، وأن القرآن الكريم والكتب السماوية قبله كانت هداية للناس {إنَّا أّنزّلًنّا التَّوًرّاةّ فٌيهّا هٍدْى وّنٍورِ} وهكذا بقية الكتب حتى جاء القرآن مهيمناً عليها، وهذه الهداية يسميها، العلماء هداية الدلالة والارشاد، فالله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وّإنَّكّ لّتّهًدٌي إلّى" صٌرّاطُ مٍَسًتّقٌيمُ} فأثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الهداية بتعليمه الناس وتلاوة القرآن وبيان السنة، يكون هدى الناس وإن كان نفى عنه نوعاً آخر {إنَّكّ لا تّهًدٌي مّنً أّحًبّبًتّ}.
الهداية الثالثة: الهداية الخاصة وهي هداية التوفيق للصالحين من عباد الله تبارك وتعالى أن يهديهم الله إلى صراطه المستقيم ولهذا يقول الله عز وجل: {وّهٍدٍوا إلّى الطَّيٌَبٌ مٌنّ القّوًلٌ وّهٍدٍوا إلّى" صٌرّاطٌ الحّمٌيدٌ} ويقول سبحانه {أٍوًلّئٌكّ الذٌينّ هّدّى اللّهٍ فّبٌهٍدّاهٍمٍ اقًتّدٌهً} ويقول عز وجل: {وّالَّذٌٌينّ جّاهّدٍوا فٌينّا لّنّهًدٌيّنَّهٍمً سٍبٍلّنّا} فهذه هداية التوفيق والإلهام ان الله تعالى يأخذ بيد من يشاء من عباده إلى الصراط المستقيم، ولذلك يقول بعض العلماء: إن آيات الله سبحانه وتعالى في الكون مبثوثة لا يحصيها إلا هو، ولكن المستفيد منها قليل فكم من ناظر في ملكوت السموات والأرض لا يتجه إلى هدى، ولا ينصرف عن ردى، ولكن الله يهدي من يشاء.
ومن الواضح أن هذا النوع من الهداية - هداية التوفيق وهداية الإلهام - يتجزأ ويتكون للإنسان شيئاً فشيئاً ويحصل عليه الانسان بالتدريج ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى:{وّالَّذٌينّ جّاهّدٍوا فٌينّا لّنّهًدٌيّنَّهٍمً سٍبٍلّنّا} فهم لما جاهدوا في الله سبحانه وتعالى كانوا مهتدين وإلا لما جاهدوا في الله تعالى، ولكن وعدهم الله تعالى بقوله: {لّنّهًدٌيّنَّهٍمً سٍبٍلّنّا} بمزيد من الهداية والتوفيق والعلم والمعرفة ومزيد من العمل والرحمة لم يكن لهم من قبل، وهكذا قول الله سبحانه:{إنَّ الذٌينّ آمّنٍوا وّعّمٌلٍوا الصَّالٌحّاتٌ يّهًدٌيهٌمً رّبٍَهٍمً بٌإيمّانٌهٌمً} فهم أولاً آمنوا وعملوا الصالحات، والإيمان هداية، وعمل الصالح هداية، ومع ذلك قال: {يّهًدٌيهٌمً رّبٍَهٍمً بٌإيمّانٌهٌمً تّجًرٌي مٌن تّحًتٌهٌمٍ الأّنًهّارٍ فٌي جّنَّاتٌ النَّعٌيمٌ} فهم آمنوا وعملوا الصالحات، وهذه هداية، ثم تذرعوا بها إلى هداية أكمل وأعظم منها في الدنيا وفي الآخرة بوعد الله تبارك وتعالى، وهكذا قول الله عز وجل: {وّالَّذٌينّ آمّنٍوا وّعّمٌلٍوا الصَّالٌحّاتٌ لّنٍدًخٌلّنَّهٍمً فٌي الصَّالٌحٌينّ}، فيتكلف العمل الصالح أولاً ثم يصبح سهلاً يسيراً عليه بالاعتياد والتمرين.
فمن أنواع الهداية الظاهرة في هذه الآية أن هدايتهم الأولى كانت تكلفاً وتصبراً، ثم تحولت إلى جبلة وعادة وكلفة بغير تكلف فتلقنوا هذه الأعمال، ولهذا كان قيامهم الليل أول الأمر في عناء وجهد، ثم تحول إلى عادة مألوفة لا يصبرون بدونها، ولا يجدون لذتهم إلا فيها، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى:{يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا اتَّقٍوا الله وّآمٌنٍوا بٌرّسٍولٌهٌ يٍؤًتٌكٍمً كٌفًلّيًنٌ مٌن رَّحًمّتٌهٌ وّيّجًعّل لَّكٍمً نٍورْا تّمًشٍونّ بٌهٌ وّيّغًفٌرً لّكٍمً وّاللَّهٍ غّفٍورِ رَّحٌيمِ} فخاطبهم بالإيمان، ودعاهم إلى أن يتقوا الله وأن يؤمنوا برسوله، وهذه هدايات، فإذا فعلوا ذلك قال:{يٍؤًتٌكٍمً كٌفًلّيًنٌ مٌن رَّحًمّتٌهٌ وّيّجًعّل لَّكٍمً نٍورْا تّمًشٍونّ بٌهٌ} فهذا النور هو ثمرة الهداية ثمرة التقوى ثمرة الإيمان ثمرة العمل الصالح أن يكون لهم نور يمشون فيه في الدنيا فيفرقون به بين الخطأ والصواب والحق والباطل بل يفرقون به بين الصوابات المتعددة أيها أفضل وبين الأنواع التي كلها خير أيها أخير، ولهذا قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: «ليس الفقيه من يعرف الخير من الشر، إنما الفقيه كل الفقيه من يعرف خير الخيرين وشر الشرين» وهنا قال:{وّيّجًعّل لَّكٍمً نٍورْا تّمًشٍونّ بٌهٌ} وفي الآية الأخرى قال: {إن تّتَّقٍوا اللّهّ يّجًعّل لَّكٍمً فٍرًقّانْا} فهذا الفرقان يكون في قلب الانسان وعقله، وفي خبرته وعلمه فيفرق بين الأشياء ويختار أيها أفضل وأكمل وأنبل مما يقصر عنه فهم غيره.
الهداية الرابعة: الهداية إلى مجاورته سبحانه وتعالى في جنات عدن في جنات النعيم، قال الله عز وجل: {وّنّزّعًنّا مّا فٌي صٍدٍورٌهٌم مٌَنً غٌلَُ تّجًرٌي مٌن تّحًتٌهٌمٍ الأّنًهّارٍ وّقّالٍوا الحّمًدٍ لٌلَّهٌ الذٌي هّدّانّا لٌهّذّا وّمّا كٍنَّا لٌنّهًتّدٌيّ لّوًلا أّنً هّدّانّا اللّهٍ} فتمام الهداية إنما يتحقق بمصير الناس إلى جنات النعيم في جوار الرب الرحيم فهذه الهدايات الأربع يطلبها العبد يطلبها في دعائه.
وقد اختلفت عبارات المفسرين في معنى قوله {اهًدٌنّا الصٌَرّاطّ المٍسًتّقٌيمّ}.
فقال علي بن أبي طالب وأبي بن كعب رضي الله عنهما «اهدنا» معناها ثبتنا على الصراط المستقيم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أرشدنا، وروي عنه أيضاً أنه قال: وفقنا وألهمنا، فهناك الثبات وهناك هداية الارشاد وهناك هداية التوفيق والإلهام.
كما اختلفت عبارات المفسرين في الصراط المستقيم فقيل: هو كتاب الله تعالى، وقيل: الإسلام، كما قال ابن مسعود والحسن وأبو العالية وغيرهم، وقيل: طريق الجنة، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والصواب أن ذلك كله حق، وههنا يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله «13/382»: «فكل من المفسرين يعبر عن الصراط المستقيم بعبارة يدل بها على بعض صفاته وكل ذلك حق بمنزلة ما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء كل اسم منها يدل على صفة من صفاته فيقول بعضهم: «الصراط المستقيم» كتاب الله أو اتباع كتاب الله ويقول الآخر: «الصراط المستقيم» هو الإسلام أو دين الإسلام ويقول الآخر: «الصراط المستقيم» هو السنة والجماعة ويقول الآخر: «الصراط المستقيم «طريق العبودية أو طريق الخوف والرجاء والحب وامتثال المأمور واجتناب المحظور أو متابعة الكتاب والسنة أو العمل بطاعة الله أو نحو هذه الأسماء والعبارات، ومعلوم أن المسمى هو واحد وإن تنوعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته».
ولهذا نقول: إن الآية تدل على معانٍ كلها حق.
المعنى الأول منها: ثبتنا على الصراط المستقيم، ولهذا روى مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين اصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ثم قال صلى الله عليه وسلم :«اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك».
وروى الترمذي وغيره عن أنس وجماعة من الصحابة أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فقلت: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت فهل تخاف علينا؟ قال: نعم إن القلوب بين اصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» فالصراط المستقيم هنا هو الإسلام، فلا يبتغي المسلم ديناً سواه، وهو القرآن فلا يبتغي كتاباً غيره، وهو الإيمان فلا يختار الكفر على الإيمان طائعاً راضياً، وهو السنة فلا يصرف قلبه إلى بدعة أو مخالفة أو انحراف.
إن أركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان الستة وأصول الأخلاق وأصول المحرمات والمنهيات وأصول الاعتقاد المقررة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي هي محل اجماع من السلف الصالح رضي الله عنهم هي من الضروريات الظاهرة ومن قواعد الدين ومعاقده ومبانيه الثابتة المستقرة، فالمؤمن يدعو ربه صباح مساء في قيامه وركوعه وسجوده بالثبات عليها حتى يلقاه، لأن هذه الأشياء مما لا يجوز أن يكون فيها أي خلل أو اضطراب وكثير من الناس قد يقع عندهم شيء من الزلزال.
والزلزال قد يضرب منطقة معينة، ولكن الذين يرصدون الزلزال يدركون ان توابع الزلزال قد تمتد إلى مناطق بعيدة جداً، وإن لم يشعر الناس فيها بزلزلة قوية لكن يدركها العارفون، فهكذا بعض الناس ربما بسبب اضطرابهم في بعض الأمور يصل الزلزال عندهم إلى القواعد والمعاقد والأصول، وهذا خطر ينبغي الانتباه له، ويجب على المسلم أن يحاذره فإن أغلى ما يملكه المسلم وقرة عينه في الدنيا وسعادته في الآخرة وقربانه إلى ربه سبحانه وتعالى هو الإيمان بالله والتسليم لشريعته والوقوف عند حدودها.
فالمعنى الأول ثبتنا على الصراط المستقيم.
والمعنى الثاني زدنا هدى، قال تعالى: {وّالَّذٌينّ اهًتّدّوًا زّادّهٍمً هٍدْى اّآتّاهٍمً تّقًوّاهٍمً } وقال تعالى: {اّيّزٌيدٍ اللهٍ الذٌينّ اهًتّدّوًا هٍدْى} فالهدى لايتوصل الانسان إليه دفعة واحدة حتى الرسول صلى الله عليه وسلم كان الوحي يتجدد عنده مرة بعد مرة وكان يرتقي في مدارج الكمال زلفة بعد أخرى وكان يقول له ربه سبحانه: {وّاعًبٍدً رّبَّكّ حّتَّى" يّأًتٌيّكّ اليّقٌينٍ} واليقين هو الموت فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبد ربه، و يصعد سلّم العبودية، ويرتقي في مدارج الكمال حتى كان يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن الاغر المزني: إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»، وعلمه ربه أنه يطلب المزيد من العلم والعمل.
فمهم للإنسان أن يطلب الزيادة من الهدى، ومن زيادة الهدى الاطمئنان إلى ما عند ربه تبارك وتعالى، ولهذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لربه عز وجل:{رّبٌَ أّرٌنٌي كّيًفّ تٍحًيٌي المّوًتّى" قّالّ أّوّلّمً تٍؤًمٌن قّالّ بّلّى" وّلّكٌن لٌَيّطًمّئٌنَّ قّلًبٌي} فاطمئنان القلب بالإيمان هو من زيادة الهدى، وكذلك زيادة العلم بتفاصيل الإيمان وتفاصيل الأعمال هي من الهدى، ولهذا قال تبارك وتعالى: {وّإذّا مّا أٍنزٌلّتً سٍورّةِ فّمٌنًهٍم مَّن يّقٍولٍ أّيٍَكٍمً زّادّتًهٍ هّذٌهٌ إيمّانْا فّأّمَّا الّذٌينّ آمّنٍوا فّزّادّتًهٍمً إيمّانْا وّهٍمً يّسًتّبًشٌرٍونّ، وّأّمَّا الذٌينّ فٌي قٍلٍوبٌهٌم مَّرّضِ فّزّادّتًهٍمً رٌجًسْا إلّى" رٌجًسٌهٌمً وّمّاتٍوا وّهٍمً كّافٌرٍونّ} فالمؤمن جاءته آية جديدة فآمن بها وسلم وقرأها، وكل هذا زيادة إيمان، والمنافق كذب بها وردها وكفر فكان ذلك زيادة في نفاقه، ومن هنا قال الله سبحانه وتعالى لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: {وّقٍل رَّبٌَ زٌدًنٌي عٌلًمْا} وقد روى صالح ابن الإمام أحمد بن حنبل فقال: رأى رجل مع أبي محبرة فقال له: يا أبا عبدالله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، فقال: «من المحبرة إلى المقبرة» يعني لا يزال يطلب العلم إلى أن يموت.
وحتى في مرض الموت كان السلف يتلقون العلم ويطلبونه، وليس مقصود العلم المعرفة النظرية المجردة فقط، وإنما العلم والإيمان، ولهذا لما قيل للإمام أحمد - وهو في مرض الموت، وكان يئن من الوجع -: بعض السلف كانوا يقولون: إن الأنين يكتب، ترك الأنين رحمه الله..


[email protected]
اضافة رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01/06/2003, 02:07 PM
مشرف سابق بمنتدى الثقافة الإسلامية
تاريخ التسجيل: 15/12/2000
المكان: القصيم
مشاركات: 2,953
بين الثبات والتجديد (2/3)
الشيخ سلمان العودة


المعنى الثالث: اهدنا أي وفقنا للصواب فيما تختلف فيه الأنظار وتتفاوت فيه الاجتهادات ولهذا كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته في صلاة الليل (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). والحديث رواه مسلم وأحمد وأهل السنن، وهنا دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه فاستغاث به وقال: )رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل) الذين مهمتهم تتعلق بالحياة فجبريل ينزل بالوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل الموكل بالقطر الذي فيه حياة الأرض، وإسرافيل ينفخ في الصور لحياة الناس في قبورهم.
وذلك لأن المقام مقام طلب الهداية، والهداية هي نور وحياة للقلوب واللأبدان، فناسب أن يذكر اسم هؤلاء الملائكة.
وهذا يشمل الهداية الأولى بالثبات إلا أنه يشمل هداية جديدة، وهي طلب الهداية في مواضع الإشكال، ولهذا قال: (لما اختلف فيه من الحق) وكثيرا ما كان العلماء يدعون بهذا الدعاء في مواضع الاضطراب والاختلاف والمسائل الخفية.
وهنا نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل الهداية وليس الثبات كما في الحديث الذي قبله.
إن هذه الهداية هي في حقيقتها ثبات، ولكن قد لا تكون صورتها كذلك، إنها ثبات على المنهج، ومن الثبات أن يتبع المرء الهداية حيث كانت، فالدين المحض يسأل المرء الثبات عليه بكل حال، والرأي يطلب المرء الصواب فيه، ولهذا نقول: إن أعظم الثوابت هو الاجتهاد، وهو أساس المتغيرات فإن المرء إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر. لأن اجتهاد المرء ينتقل من فاضل إلى أفضل أو من مفضول إلى فاضل.
وعند البخاري وغيره عن زهدم قال: كنا عند أبي موسى الأشعري، وكان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء فأتي بطعام فيه لحم دجاج، وفي القوم رجل جالس أحمر فلم يدن من طعامه قال: ادن فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه، قال: إني رأيته أكل شيئا فقذرته فحلفت أن لا آكله، فقال: ادن أخبرك أو أحدثك إني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين فوافقته وهو غضبان، وهو يقسم نعماً من نعم الصدقة فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا: قال: (ما عندي ما أحملكم عليه) ثم أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب من إبل فقال: (أين الأشعريون؟ أين الأشعريون؟) قال فأعطانا خمس ذود غر الذرى فلبثنا غير بعيد فقلت لأصحابي: نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، فوالله لئن تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح أبداً، فرجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا : يا رسول الله إنا استحملناك فحلفت أن لا تحملنا، فظننا أنك نسيت يمينك، قال (إن الله هو حملكم، إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها).
فهنا تلاحظ أن النبي ژحلف على شيء، ثم فعل غيره وقرر في ذلك قاعدة عظيمة له ولمن يأتي بعده أنه قد يرى الشيء صواباً حتى يحلف عليه صلى الله عليه وسلم، ثم يبدو له أن غيره خير منه، لأنه تغيرت الأحوال والأحداث، إذ لم يكن عنده نعم فجاءته النعم، أو لم يكن يرى هذا الشيء فأراه الله تعالى إياه فيكفر عن يمينه الأول ثم يأتي الذي هو خير، ولهذا قال عمر بن الخطاب في رسالته لأبي موسى - والغريب أن أبا موسى طرف في الأمرين كليهما ضمن هذا الخطاب: ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه إلى رشدك أن ترجع فيه إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي بالباطل. ثم قال له: الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب إعلام الموقعين «هذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الأحكام والشهادة والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والفقه فيه ثم شرح ابن القيم هذه الفقرة بالذات في قول عمر لأبي موسى: «ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه عقلك وعدت فيه إلى رشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم «يقول في كلام جميل:» يريد أنك إذا اجتهدت في حكومة يعني في حكم ثم وقعت في هذه الحكومة مرة أخرى فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته فإن الاجتهاد قد يتعثر ولا يكون الاجتهاد الأول مانعاً من العمل بالثاني إذا ظهر لك أنه الحق، فإن الحق أولى بالإيثار؛ لأن الحق قديم سابق على الباطل فإذا كان الاجتهاد الأول قد سبق يعني هو الأول عندك وقد تعمل به؛ لأنك تقول: هذا أول اجتهاد، وهو أول ما ذهبت إليه، وأول ما نظرت فيه فيقول لك لا يمنعنك ذلك من أن تأخذ بالحق الجديد فالحق قديم يعني أسبق حتى من اجتهادك الأول والرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول، ثم نجد أن عمر رضي الله عنه وغيره من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كانوا يعملون بهذا النظام فعمر نفسه رضي الله عنه كما عند عبدالرزاق وغيره أنه قضى في مسألة المشركة وهي مسألة فرضية بقضاء ثم جرت مرة أخرى فقضى فيها عمر رضي الله عنه بقضاء آخر، فقيل: يا أمير المؤمنين إنك قضيت قبل عام بغير ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: تلك على ما قضينا يومئذ وهذه على ما قضينا اليوم، فأخذ عمر رضي الله عنه باجتهاد ثم أخذ باجتهاد آخر بما ظهر له أنه الحق ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني ولم ينقض أيضاً القضاء الأول بالقضاء الثاني فجرى أئمة الإسلام كما يقول ابن القيم: من بعده على هذا المنوال، ومن هنا وجدنا الأئمة ينهون عن تقليدهم بل ويرفضون هم أن يقلدوا أنفسهم، فالإمام أحمد يكون له في المسألة الواحدة سبع روايات، وهي من القضايا التي قد يكون فيها نصوص، ولكن توجيه النصوص على محلها والنظر فيها واعتبار الناسخ والمنسوخ والنظر الى صحة الإسناد وعدمه، وهكذا الشافعي كان له مذهب قديم في العراق ثم مذهب جديد في مصر، وتلاميذ أبي حنيفة أصبحوا يخالفونه في نحو من ثلثي مذهبه رضي الله عنهم أجمعين.
وكان الشافعي يقول: إنما يؤخذ بالآخر فالآخر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: فنحن نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم إلى المدينة مثلاً كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء يحب موافقتهم طمعاً في إسلامهم وتأليفاً لقلوبهم، ثم خالفهم بعد ذلك، وأصبحت مخالفة أهل الكتاب والمشركين والوثنيين شريعة قائمة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وقررها وقعد أصولها، وهكذا نجد بعد هؤلاء الأئمة أن الإمام ابن تيمية ينتقل من المذهبية إلى الاجتهاد ويكتب ويتكلم ويفتي في كثير من المسائل التي خالف فيها المذهب وخالف فيها الشيوخ يتكلم برؤية شهودية لم تكن له من قبل حتى إنه يخالف رأيه بل أكثر من هذا فتجده في موضع يتكلم عن مسألة جريان الربا في الحلي فيقول: إنها باطلة باتفاق العلماء، ثم يقرر في آخر عمره وفي السجن في تفسير آيات أشكلت وهو كتاب مطبوع خلاف الرأي الذي قرره من قبل، وقال: إن عليه اتفاق العلماء وما ذلك إلا لأنه كبر عقله واتسع اجتهاده وزاد نظره وتغيرت رؤيته وأدرك ما لم يكن يدرك من قبل، وإلا فهو لا شك في المسألة الثانية أكثر احتياطا لدينه وأكثر ورعاً وحرصاً على مصالح الناس، ولكن أراه الله حينئذ ما لم يكن يرى من قبل، ولا يلزم من ذلك بالضرورة أن يكون الآخر صواباً، لكن المدرك هو سعة الأمر وأهمية التعبد بالاجتهاد الذي يراه الفقيه، ولا يقلد فيه نفسه ولا غيره.
ومن المهمات في هذه المسألة ضرورة فصل الدين الرباني المحض عن النقائص البشرية النفسية والعقلية فإنهما يختلطان على المرء أحياناً فتتدثر بعض الخصائص البشرية وبعض الطبائع الإنسانية بدثار التقوى حتى يلتبس الأمر على صاحبها، وفرز هذا عن ذاك بحيث كيعرف المرء ما كان ديناً محضاً صريحاً لا شوب فيه وما كان رأياً أو أمراً اجتهاديا أو أمراً شخصيا أو نابعا من طبيعة أو جبلة، وهذا لاشك من أعظم علامات الإخلاص لله ورسوله والنجاة من تلبس الهوى بالإنسان، ويدخل في هذا الانتقال من الاجتهاد المرجوح إلى الاجتهاد الراجح من الحصول على أجر واحد الى الحصول على أجرين معاً أجر الاجتهاد وأجر الصواب وهذا الاختلاف والترجيح والانتقال يكون في مسائل أذكر أربعاً منها على سبيل العرض السريع:
الأولى: مسألة الوسائل وليس الغايات، فالغايات متفقة، دعوة الناس إلى رب العالمين، تعبيدهم لله عز وجل، العمل بالكتاب والسنة، طلبب الجنة، طلب الرضوان. لكن الوسائل الى ذلك تختلف، ولهذا نرى أن وسائل الدعوة اجتهادية وليست توقيفية، وقد يجد للناس من الوسائل اليوم ما لم يكن عندهم من قبل إما أنه لم يكن موجوداً أو لم يكن مستخدماً أو لم تكن المصلحة الراجحة تقتضي إعتماده كوسيلة فالوسائل تختلف من زمان إلى زمان ومن مجتمع إلى مجتمع ومن بيئة إلى أخرى، وهي حركة ضمن دائرة المباح الأصلي في الجملة.
الثانية: ما يتعلق بالأساليب فأساليب الدعوة قد تختلف، استخدام الإنسان أسلوب السرية والعلنية ونوح عليه السلام يقول: {ثٍمَّ إنٌَي أّعًلّنتٍ لّهٍمً وّأّسًرّرًتٍ لّهٍمً إسًرّارْا} وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم سراً بمكة ثلاث سنين ثم جهر بدعوته. كذلك التفاوت بين الشدة واللين، استخدام أسلوب الشدة والقوة أو أسلوب اللين والصبر والتلطف مثل ذلك التعميم أو التخصيص، التربية الفردية أو الخطاب الجماعي، وهكذا كلها أساليب يطلب منها ما يحقق المقصود وما يحقق المقصود اليوم قد لا يحققه غدا وما يحققه في بلد قد لا يحققه في بلد آخر، ولهذا أذنت الشريعة أن يكون هذا مجال نظر واجتهاد وتوسعة.
الثالثة: ما يتعلق بالفروع وليس الأصول فأصول الشريعة والاعتقاد من المحكمات المسلمات القطعية التي لا خلاف فيها، لكن باب الفروع باب واسع اختلف موسى وهارون وهما نبيان كما جاء في صريح القرآن كما اختلف فيه أبوبكر وعمر حتى في حضور النبي صلى الله عليه وسلم في موضوع الأسرى وغيره، واختلف فيه أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، واختلف فيه الإمام النووي وابن حجر وابن تيمية وغيرهم، واختلف فيه ابن باز وابن عثيمين فلا غرو إذن أن يختلف الناس فيه إلى قيام الساعة وألا يكون ثمة تثريب على اختلاف الناس فيما كان من فروع الشريعة، والخلاف لمقبول هنا ليس بسبب الهوى أو التشهي أو المزاج أو الذوق، وإنما بسبب الاجتهاد والنظر في الأدلة والراجح والمرجوح والصحيح والضعيف والناسخ والمنسوخ وغيره.
الرابعة: الاجتهاد في النوازل الحادثة وليس في القواعد المستقرة والنازلة بطبيعتها شيء جديد تطيش له الأفهام وتذهل العقول وتستوحش النفوس، ولكن العبرة بما يؤول إليه الأمر ويستقر عليه الحال، ولهذا فإن الاجتهاد في النوازل يكون مجالاً وعرضة، ونحن نجد موسى وهارون قد اجتهدا في مسألة نازلة وهي كون بني إسرائيل عبدوا العجل فعاملها كل منهما بطريقة على حسب ما ذكر الله تعالى في كتابه، وإن كانوا كلهم وكل الرسل والأنبياء بعثوا بدعوة التوحيد ونبذ الأنداد والأصنام ورفض الشرك إلا أن معالجة نازلة في هذا الباب كانت محل اختلاف فعالجها هارون عليه السلام بأن نهاهم عن ذلك وصبر عليهم بينما موسى عليه السلام أخذ برأس أخيه يجره إليه ونهاه عن ذلك فقال له: {لا تّأًخٍذً بٌلٌحًيّتٌي وّلا بٌرّأًسٌي إنٌَي خّشٌيتٍ أّن تّقٍولّ فّرَّقًتّ بّيًنّ بّنٌي إسًرّائٌيلّ وّلّمً تّرًقٍبً قّوًلٌي} فمن معاني الهداية طلب ما هو الأفضل والأتقى والأكثر صواباً والأكثر رجحاناً.
الرابع من معاني الهداية: اهدنا الصراط المستقيم أي ألهمنا عبودية تناسب الحال التي نحن فيها فإن لكل مقام من مقامات الإنسان عبودية تخصه وتلائمه، فهناك عبودية الإنسان في حال الصحة، واستخدام قوته فيما يرضي الله سبحانه، لكن عبوديته في حالة المرض بالصبر والرضا والتسليم والدعاء، وهناك عبودية الغنى بالإنفاق في سبيل الله الشكر، وهناك عبودية الفقر التي هي الرضا والتسليم، وأن لا يمد عينيه أو يديه إلى ما عند الناس، وأن يدعو الله سبحانه وتعالى ويطلب الغنى منه دون غيره، وهناك عبودية القوة للفرد والجماعة والدولة والأمة بأن تصرف هذا القوة في طاعة الله، وفي حماية الإيمان والمؤمنين، وفي تأديب الظالمين والفاسقين والمعتدين، وهناك عبودية الضعف التي تقتضي الصبر والمصابرة والانتظار والتفكير وإعمال العقل والحيلة فقد يدرك الإنسان بالحيلة ما لا يدركه بالوسيلة والقوة، وكذلك التسليم لله سبحانه وتعالى بألا يسخط الإنسان هذا القضاء او القدر أو يخرج عن طوره أو يكفر بربه أو شك في دينه، وبعض الناس يقول: لماذا مكن الله الكفار وأعطاهم القوة؟ وحرم المؤمنين ومنعهم من ذلك؟فهذا مما يدل على أهمية إدراك العبودية في حال الضعف، وأنها غير العبودية في حال القوة، ومن العبودية في حال الضعف أن يسعى الإنسان بنظره وتفكيره وتخطيطه إلى استجماع واستحضار القوة الممكنة؛ بحيث يزول الضعف، واذا لم يزل عن هذا الجيل فليزل على الأقل عن الأجيال القادمة وأن نعرف لأجيالنا طريقا بدأناه نحن ليكملوه هم من بعدنا وهكذا عبودية الشباب غير عبودية الكهولة أو عبودية الشيخوخة ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لكل عابد شرة ولكل شرة فترة) رواه ابن حبان وأحمد والترمذي وغيرهم، وفي لفظ (إن لكل شيء شرة ولكل شيء فترة فإن كان صاحبها سدد وقارب فارجوه وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه) وهذا لفظ الترمذي، وفي مسند الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجال يجتهدون في العبادة اجتهاداً شديداً فقال: (تلك ضراوة الإسلام وشرته، ولكل ضراوة شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد وسنة فلأم ما هو ومن كانت فترته إلى المعاصي فذلك الهالك) فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى طبيعة الأشياء وأن لكل شيء عبادته أو عبوديته التي تلائمه، فالشباب مثلاً بطبيعتهم الحادة وحداثة التجربة لديهم يكونون كما يقول الرازي في الفراسة (ص 81) سراع التقلب يغلب عليهم الملال، يشتهون بإفراط، ويملون بإفراط، لأن النفس الخالية من التصورات تكون شديدة الرغبة في تحصيلها، فإذا قضت وطرها منها مالت إلى غيرها.ويغلب عليهم حب الكرامة، ورغبتهم في الغلو والظهور فوق رغبتهم في المال.
ولديهم سرعة التصديق بما يلقى إليهم، وبساطة التصور مما يولد نوعا من الإقدام.
أما في السن المتقدم فيغلب على المرء كثرة التعقلات والتصورات والتجارب، وكثرة التردد والشك، وقلة الجزم، والاعتدال في الولاء وفي الكراهية، والمعرفة بالعواقب.
وقريب من ذلك من ذكره ابن رشد عن بعض أهل الفلسفة حيث قال: فمما يتصف به الشباب: غلب الشهوات عليهم، وهم سريعو الغضب والرضا وهم محبون للكرامة، ولا يحتملون تجريحاً، ويصدقون القول سريعا لقلة خبرتهم، ويسهل خداعهم وإغترارهم؛ لأن من شأنهم التصديق من غير دليل أو بدليل ضعيف، والحياء يغلب عليهم، ثم هم يقدمون الجميل على النافع إذا أحبوا شيئا بالغوا في حبه، وإذا أبغضوا شيئاً بالغوا في بغضه، ويميلون إلى الهزل والمزح.أما أخلاق الشيوخ فلا يكترثون بحمد ولا ذم؛ لأن قصدهم الحقائق، ولا يجزمون بشيء البتة ويقرنون كلامهم بلعل وعسى!، ولا يحبون بشدة كما لا يبغضون بشدة، بل أمرهم وسط بلا إسراف، بل بما يقتضيه الحال، ويؤثرون النافع على الجميل، وهم بعد ذلك أطول صبراً وأمضى عزيمة لا يهزلون كثيرا، ولا يمزحون إلا نادراً).
فالمؤمن يدعو ربه أن يوفقه ويلهمه العبودية الملائمة لحاله كفرد ولحال المجموعة أو الأمة أو المجتمع، ولهذا يقول الإمام ابن تيمية في الفتاوى (22/400): كل عبد فهو مضطر دائما إلى مقصود هذا الدعاء وهو هداية الصراط المستقيم، فإنه لا نجاح من العذاب إلا بهذه الهداية ولا وصول إلى السعادة إلا به فمن فاته هذا الهدى: فهو إما من المغضوب عليهم أو من الضالين، وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله: {مّن يّهًدٌ اللّهٍ فّهٍوّ المٍهًتّدٌ وّمّن يٍضًلٌلً فّلّن تّجٌدّ لّهٍ وّلٌيَْا مٍَرًشٌدْا} فإن الصراط المستقيم أن تفعل كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل ولا تفعل ما نهيت عنه وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحظور، والصراط المستقيم قد فسر القرآن والإسلام وطريق العبودية وكل ذلك حق فهو موصوف بهذا وبغيره فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته بخلاف الحاجة إلى الرزق.
فالإمام رحمه الله ذكر المعنى الأول وهو ان الهداية في كل وقت بحسبه وأن العبد حينما يدعو ويقول: اهدنا الصراط المستقيم فلأنه اليوم محتاج إلى الهداية المتجددة زائدة على ما كان عنده بالأمس، وهو غدا يحتاج إلى هداية زائدة على ما عنده اليوم، ففي كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة هو محتاج إلى هداية جديدة تلائم مقامه وتحل المشكلة الماثلة أمامه فهذا معنى.
ثم أشار رحمه الله إلى أن هذه الهداية ضرورية، بخلاف الحاجة الى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات، والموت لا بد منه فإن كان من أهل الهداية كان سعيداً بعد الموت وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية فيكون رحمة في حقه.
وكذلك النصر إذا قدر أنه قهر وغلب حتى قتل فإذا كان من أهل الهداية والاستقامة مات شهيدا فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر بل لا نسبة بينهما؛ فلهذا كان هذا الدعاء هو المفروض عليهم، وأيضا فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين {وّمّن يّتَّقٌ اللهّ يّجًعّل لَّهٍ مّخًرّجْا} {وّيّرًزٍقًهٍ مٌنً حّيًثٍ لا يّحًتّسٌبٍ} وكان من المتوكلين {وّمّن يّتّوّكَّلً عّلّى اللهٌ فّهٍوّ حّسًبٍهٍ إنَّ اللهّ بّالٌغٍ أّمًرٌهٌ} وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن ينصر الله ينصره وكان من جند الله وجند الله هم الغالبون.
فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر، فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب يحصل به كل منفعة ويندفع به كل مضرة، فلهذا فرض على العبد، هذا يدخل فيه سؤال الله سبحانه وتعالى الإلهام لمعرفة الأحوال ومعرفة المراحل وتحقيق عبوديته كل منها في وقته، والإنسان لا يعرف ذلك إلا بتعليم الله تعالى له، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات فإن هم أطاعوك بذلك فأعلمهم أن في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم..) الحديث فإذا أجابوا إلى شيء دعوا إلى ما فوقه وإلى ما بعده وهذا يدل على ملاحظة التدرج في دعوة الناس أفراداً وجماعات ومن هذا التنوع في العناية بالموضوعات المختلفة فهناك أقوام يناسبهم أن يتحدث معهم في موضوع التربية، وآخرون يناسبهم الحديث معهم في تفصيلات العلم في الفقه والحديث والتفسير وغيرها، وفئة ثالثة تحتاج إلى من يحدثها في الجوانب الواقعية والمسائل والمشكلات السياسية، وفئة رابعة تحتاج إلى من يحدثها بالانتقال إلى الأعمال والمشاريع والمؤسسات وإلى الأمور العملية، وهكذا بحسب ما لدى هولاء من الكمال ومن الإيمان ومن العلم ومن القدرة، وبحسب ما عندهم من النقص أو الاختلال يكون ما يقدم لهم، ومن ذلك أيضاً ان الخطاب يقبل التنوع والتعدد، ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: {وّمّا أّرًسّلًنّا مٌن رَّسٍولُ إلاَّ بٌلٌسّانٌ قّوًمٌهٌ لٌيٍبّيٌَنّ لّهٍمً} فالرسالة تكون بلسان القوم المبعوث إليهم والمقصود من ذلك هو البيان، فالمقصود من دعوة الإسلام هو البيان للناس والبيان يكون بالقول ويكون بالفعل، والقول يتنوع والفعل يتنوع بحسب حال المتحدث وحال المدعوين، ولذلك كان خطاب الأمم ذات الحضارة والعلم المادي الدنيوي يختلف عن خطاب الأمم البسيطة الساذجة، فالدعوة في أوروبا مثلا تختلف في متطلباتها واحتياجاتها وفي همومها وفي المشكلات التي تواجهها في الشبهات التي تطرح عن الدعوة في أفريقيا أو الدعوة في آسيا، فحينما تدعو شخصا بسيطا ساذجا ليس عنده أي خلفية مسبقة يختلف الأمر عما إذا دعوت شخصاً مليئاً بالشبهات والنظريات والفلسفات والأقوال السابقة، واذا دعوت شخصا في الصحراء ليس كما لو دعوت شخصاً في المدينة ثم أحوال المجتمعات وتعقيداتها وظروفها يحتمل أبعد من هذا، فالشبهات غير الشبهات والهموم والمشكلات والحلول تتفاوت من قوم إلى قوم، غير الهموم وكل قوم يخاطبون بحسب ما يناسبهم، ووسائل التأثير مختلفة ونوعية الداعية الذي نحتاج إليه في أوروبا غير الداعية الذي نحتاجه في أفريقيا، والداعية في بلاد ينتشر فيها العلم الشرعي غير الداعية في بلاد يعم فيها الجهل، والدعوة في بلاد غنية غير الدعوة في بلاد فقيرة وهكذا.
اضافة رد مع اقتباس
  #3  
قديم 03/06/2003, 09:04 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 30/11/2001
المكان: روضـة سـدير
مشاركات: 1,695
بارك الله فيك
اضافة رد مع اقتباس
  #4  
قديم 06/06/2003, 05:20 PM
زعيــم متواصــل
تاريخ التسجيل: 27/05/2003
المكان: موطن نواف
مشاركات: 94
الله يجاك الخير والجنه
اضافة رد مع اقتباس
  #5  
قديم 07/06/2003, 09:02 PM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 24/11/2002
المكان: الرياض
مشاركات: 2,707
إقتباس
<center><normalfont><u>إقتباس من مشاركة الممنوع </u></center>
بارك الله فيك</normalfont>

اضافة رد مع اقتباس
  #6  
قديم 08/06/2003, 04:17 PM
زعيــم متألــق
تاريخ التسجيل: 21/03/2003
المكان: جــــــــــــــــــــــده غير
مشاركات: 1,369
جزاك اله خير
اضافة رد مع اقتباس
  #7  
قديم 16/06/2003, 02:42 PM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 24/02/2001
المكان: Addhahran ==>> بالعربي == الظهران
مشاركات: 3,597
إقتباس
<center><normalfont><u>إقتباس من مشاركة الممنوع </u></center>
بارك الله فيك</normalfont>

اضافة رد مع اقتباس
   


إضافة رد


قوانين المشاركة
غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
غير مصرّح لك بنشر ردود
غير مصرّح لك برفع مرفقات
غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك

وسوم vB : مسموح
[IMG] كود الـ مسموح
كود الـ HTML غير مسموح
Trackbacks are مسموح
Pingbacks are مسموح
Refbacks are مسموح



الوقت المعتمد في المنتدى بتوقيت جرينتش +3.
الوقت الان » 12:37 PM.

جميع الآراء و المشاركات المنشورة تمثل وجهة نظر كاتبها فقط , و لا تمثل بأي حال من الأحوال وجهة نظر النادي و مسؤوليه ولا إدارة الموقع و مسؤوليه.


Powered by: vBulletin Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd

Google Plus   Facebook  twitter  youtube