عواطف
ذات ليل كئيب تكالب عليه الحزن ولم يكن ليستطع أن يدفعه فذكرى هزيمته الأولى تجعله يطرق له مستسلماً كما لم يعتد هو من قبل . هو نفسه ذلك الرجل الذي لم يعجز يوماً في مواجهة التحديات حتى غادرت قلبه كما يغادر عابر سبيل مدينة غريبة برتابتها ، موقوت فيها كل شيء كساعة حائط أثريّة توسّطت منزل خشبي دنّسه الروتين وعاث الضجر فيه الفساد ارتبط مصير قاطنيه بها ، كل شيء فيه بموعد حتى احتساء القهوة!
كان الحزن يمشي دائماً إلى جواره موازياً له يقاسمه سريره ويحتسي كل صباح قهوته السوداء معه ، تماماً كبقية الأقدار التي ترافقه ولم يُكّتَب لها بعد أنّ تقع ، حتى هذه المرة حينما هوى بكل ثقله مرةً واحدة كفجيعة تأتي دون سابق إنذار بكل ما تملك من اندفاع لتخلّف ورائها بعد أنّ ترّحل قلوب ثكلى أدماها الألم.
كان بالنسبة لها هو الرّجل الأول عشقاً ، وكانت هي بالنسبة له المرّأة الأكثر عشقاً! ، حتى أنّه لا زال يذكر قولهُ لها ذات صدق : سأصبح تلميذاً في قيعان جُبّك! لم يكن يتصوّر لأي سببٍ كان أنّ تكون نهايتهم مؤلمة كموت باغت صاحبه فجأة ، لم يكن ليتصور أبداً أن تكون نهايتهم مُحزنة إلى ذلك الحدّ ، مُفجعة إلى أبعد حد.
لم يكن بإمكان الصمت أن يغادره هذه الليلة بصمت! وهو الذي أمضى سنوات عمره الأولى في تعلّم النطق ، ليتقمّص الحزن هذه المرة دور أنظمة القمع العربية ليعلّمه بقية عمره كيف يكون الصمت!
فالحزن لا يأتي بالتقسيط كأي مصيبةٍ تماماً حينما تأتي ، فإنه يَحُط كسيلٍ جارف حينما تصبُّ السماء مائها ، فيحمل معه زبداً رابياً يجرف كل ما يواجهه حيث لا تدري ، ولا يمكن لك أن توقفه دون أن ترتطم في منحدر ذكرى!
يتذكّر خوفه من مواجهة عيناها دهشته ارتباكه وسذاجته التي لطالما فضحت أمره أمامها ، يتذكر ضعفه واستسلامه في مواجهة عطرها ، نعم عطرها الذي لطالما كان يُسّقِطه أرضاً معلناً الاحتضار!
لا زال يذكر كيف كانت تبخّره حينما تشرق شمسها لتختصر كل تلك العتمة التي تحيط به في ابتسامة ضوء تتفتق من ثغرها حتى يحين موعد أفولها من جديد! ، كيف لا وهي جزء مهم من طفولته وشبابه وبعضاً من ذاكرته!
مازال يذكر منذ البدء كل التفاصيل الأولى كل الوجوه العابرة على قارعة عمره كل الملامح ، وكأنها مجرد أقدار أقل من أن تُكّتَب له وأكثر من أن تكون مصادفة ، ولكن هي بالذات كانت قدره المحتوم الذي اعتلى صهوته دون أن يشّعُر وكأنّه مسلوب الإرادة قبل أن يطرحه هجراً ويرّحل!
هاهو الآن بالذات يتذكر عندما سألها ذات فضول : هل تحبين الكتابة أم الرسم ؟
لتفاجئه : عليك أن تختار ما هو أقرب لنفسك حينها ستجدني أنا! أجابها دون أن يهمس : الكتابة! نعم الكتابة ، فأنتِ في حالة تصالح دائم مع الكون لا تحتاجين لأن ترسمي وتعيدي تشكيل ما حولك ولا تحتاجين أيضاً لأن تبني علاقة جديدة مع البشر فملامحكِ متسامحة لأبعد حد ، بينما تكتبين لتقتليني في كل روايةٍ لكِ ألف مرة ومرة بعد أن يمارس قلمكِ معي استبداداً لم يعهده الأدب!
هاهو اليوم بعد عِقدٍ من الاحتضار يختصرها في ذكرى عابرة ذات شتاء قارس في غرفة صغيرة مهملة ، بها القليل من الأثاث العتيق وبعض الصور وقوارير العطور والمحابس التي خلّفتها ورائها ، حاول العبث بها فعبِثت بهِ الذكرى!
هاهو الحزن يتكالب عليه في ليلته الموحشة بعد كثير من الحنين كثير من الحيرة وكثير من القهر والحزن والخيبات والهزائم العاطفية ، وبعض من الخيانات والانتصارات الاستثنائية!
كل عام وأنتم بخير
ودمتم في رعاية الله وحفظه