تكملة الموضوع :
على أية حال يمكننا بالرجوع إلى النص القرآني أن نلحظ أن هناك تعريفاً بالمرة الثانية يرفع كل التباس، وإليك بيان ذلك:
)ثم(: وهي للتراخي في الزمن : سنة... عشرات السنين... آلاف... لا ندري.
)ثم رددنا لكم الكرة عليهم(: تعاد الدولة لليهود على من أزال الدولة الأولى. ولم يحصل هذا في التاريخ إلا عام (1948 م)، إذ ردت الكرة لليهود على من أزال الدولة الأولى. والذين جاسوا في المرة الأولى هم: المصريون والأشوريون، والكلدانيون. أما التدمير الكامل فكان بيد الآشوريين والكلدانيين. وأحب هنا أن يعلم القارئ أن الآشوريين والكلدانيين هم قبائل عربية هاجرت من الجزيرة العربية إلى منطقة الفرات، ثم انساحت في البلاد، حتى سيطروا على ما يسمى اليوم العراق وسوريا الطبيعية. وقد أسلم معظم هؤلاء وأصبحوا من العرب المسلمين. وهذا ما حصل لأهل مصر أيضاً. أما اليونان والرومان فلم يكن لهم يد في زوال المملكة ولم تُرد الكرة لليهود عليهم. ولم يكن اليهود في يومٍ من الأيام أكثر نفيراً. أما نجاح اليهود في الحصول على شيء من الاستقلال في العهد اليوناني والروماني، فلا يمكن اعتباره رداً للكرة لأن اليونان والرومان لا علاقة لهم بالجوس الأول، ثم إن اليهود استطاعوا أن يحصلوا فقط على ما يسمى اليوم (الحكم الذاتي).
)وأمددناكم بأموال( لاحظ إيحاءات: )أمددناكم(، ثم أنظر واقع (إسرائيل) قبل قيامها وبعد قيامها إلى يومنا هذا، فقد قامت واستمرت بدعمٍ مالي هائل من قبل الغرب. ولا أيظن أنني بحاجة إلى التفصيل في هذه المسألة التي يعرفها الجميع.
)وأمددناكم بأموالٍ وبنين( : قوله تعالى: )وبنين( لا يعني أنهم لم يُمدوا بالبنات، إذ لا ضرورة للكلام عن البنات في الوقت الذي نتكلم فيه عن رد الكرة وقيام الدولة، وحاجة ذلك إلى الجيوش الشابة المقاتلة. قرأت في كتاب (ضحايا المحرقة يُتهمون) والذي قام على تأليفه مجموعة من الحاخامات اليهود، أن حكومة هتلر عرضت على الوكالة اليهودية أن تدفع الوكالة خمسين ألف دولار، مقابل إطلاق سراح ثلاثين ألف يهودي، فرفضت الوكالة هذا العرض مع علمها بأنهم سيقتلون. ويرى مؤلفو الكتاب أن سبب الرفض هو أن الثلاثين ألفاً هم من النساء، والأطفال، والشيوخ، الذين لا يصلحون للقتال في فلسطين. فقد كانت الوكالة اليهودية تحرص على تهجير العناصر الشابة القادرة على حمل السلاح، أي (البنين).
)وجعلناكم أكثر نفيراً(: والنفير هم الذين ينفرون إلى أرض المعركة للقتال. ومع أن العرب كانوا أكثر (عدداً)عام 1948 م، إلا أن اليهود كانوا أكثر نفيرا، ففي الوقت الذي حشد فيه العرب (20) ألفا، حشد اليهود أكثر من ثلاثة أضعاف (67) ألفا.
هناك ستة عناصر لقيام الدولة الثانية (الأخيرة) نجدها في القرآن الكريم، تُدهش وأنت تراها بعينها عناصر قيام دولة إسرائيل عام 1948 م:
1- تعاد الكرة والدولة لليهود على من أزال الدولة الأولى. وهذا لم يحصل في التاريخ إلا عام 1948 م كما أسلفنا.
2- تمد إسرائيل بالمال يساعدها في قيامها واستمرارها، ويظهر ذلك جليا بشكل لا نجد له مثيلا في دولة غير إسرائيل.
3- تمد إسرائيل بالعناصر الشابة القادرة على بناء الدولة. ويتجلى ذلك بالهجرات التي سبقت قيام إسرائيل والتي استمرت حتى يومنا هذا.
4- عند قيام الدولة تكون أعداد الجيوش التي تعمل على قيامها أكبر من أعداد الجيوش المعادية. وقد ظهر ذلك جليا عام 1948 م، على الرغم من أن أعداد العرب تتفوق كثيراً على أعداد اليهود.
5- يُجمع اليهود من الشتات لتحقيق وعد الآخرة. وهذا ظاهر للجميع[16].
6- عندما يُجمع اليهود من الشتات يكونون قد انتموا إلى أصول شتى، على خلاف المرة الأولى فقد كانوا جميعا ينتمون إلى أصل واحد وهو إسرائيل عليه السلام. أما اليوم فإننا نجد أن الشعب الإسرائيلي ينتمي إلى (70) قومية أو أكثر.
انظر إلى هذه العناصر الستة ثم قل لي: هل هناك عنصر سابع يمكن إضافته؟! وهل هناك عنصر زائد يمكن إسقاطه؟! وبذلك يكون التعريف جامعاً كما يقول أهل الأصول.
لم يرد تعبير : )وعد الآخرة ( في القران الكريم إلا في سورة الإسراء، في الآية (7)، والآية (104). والحديث في الآيتين عن بني إسرائيل: )فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم(، )فإذا جاء وَعْدُ الآخرةِ جِئْنا بِكم لفيفا (في بداية سورة الإسراء تم تفصيل الحديث في المرتين، وفي نهايات سورة الإسراء تم الإجمال في الحديث عن المرتين )فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعاً (103) وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا(104) ( أي قلنا من بعد غرق فرعون لبني إسرائيل: اسكنوا الأرض المباركة، وبذلك يتحقق وعد الأولى. وقد كان القضاء بحصول المرتين بعد خروج بني إسرائيل من مصر. )فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً(. وهذا يعني أن اليهود بين(الأولى) و(الآخرة ) يكونون في الشتات، بدليل قوله تعالى : )جئنا بكم( ومن هذه الآية تم استنباط العنصر الخامس والسادس: "نجمعكم من الشتات في حالة كونكم منتمين إلى أصول شتى". وهذا معنى: )جئنا بكم لفيفاً(. والله أعلم. أما قولنا إن الأرض هي الأرض المباركة، فيظهر ذلك جليا في الآيتين

136، 137) من سورة الأعراف: )فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآيتنا وكانوا عنها غافلين(136) وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفونَ مشارق الأرض ومغاربها التي بركنا فيها..( من هنا يمكن أن نوظف التاريخ لتحديد الأرض المباركة شرقاً وغرباً. والمعروف أن بني إسرائيل سكنوا واستوطنوا فلسطين والتي لم تكن في الصورة الجغرافية المعاصرة، إلا المشارق والمغارب. وقد بوركت فلسطين في القرآن الكريم خمس مرات وقُدست مرة واحدة:
1- )وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي
باركنا فيها(.
2- )إلى المسجدِ الأقصا الذي بركنا حولهُ... ( [الإسراء: 1 [.
3- )ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ( [الأنبياء: 71[.
4- )تجري بِأمرهِ إلى الأرض التي بركنا فيها( ]الأنبياء: 81 [.
5- )وجعلنا بينهم وبين القرى التي بركنا فيها قرىً ظاهرةً( ] سبا:18 [.
6- )يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة... ( ]المائدة: 21 [.
تتحدث الآية الأولى عن الأرض التي سكنها بنو إسرائيل بعد إخراجهم من مصر وغَرَق فرعون. وهي الأرض المقدسة التي وُعِدوا أن يدخلوها في الآية السادسة.
أمّا المسجد الأقصى فمعلومٌ أنه في فلسطين. أمّا الآية الثالثة فتتحدث عن نجاة إبراهيم ولوط (عليهما السلام) إلى الأرض المباركة. ويتفق أهل التاريخ على القول بأن لوطاً عليه السلام كان في منطقة (أريحا)، في حين سكن إبراهيم عليه السلام (الخليل) ودفن فيها. أمّا الآية الرابعة فتتحدث عن سليمان عليه السلام، ومعلوم أن مملكته كانت في فلسطين، وعاصمتها القدس. أمّا الآية الخامسة فتتحدث عن العلاقة بين (سبأ) و(مملكة سليمان) عليه السلام ومعلوم أن مملكته عليه السلام تعدت في اتساعها حدود فلسطين المعاصرة. أمّا فلسطين فقد كانت الجزء الأساسي والرئيسي في مملكته.
)إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتُم فلها ( وَعْظ يحمل معنى التهديد.
) فإذا جاء وعدُ الآخرة ( : إذا تحقق وعد الإفسادة الثانية، وحصل من اليهود العلو والطغيان، عندها ستكون العقوبة:
)ليسوءوا وجوهكم ( ولم يقل )ليسوؤن وجوهكم(. وفي الأولي كان جواب (إذا) هو (بعثنا). فأين جواب (إذا) في الثانية؟ أقول: هو أيضاً (بعثنا) والمعنى: فإذا جاء وعد الثانية بعثناهم لتحقيق ثلاثة أمور: ليسوءوا... وليدخلوا... وليتبروا.
)ليسوءوا وجوهكم( أي يُلحقوا العار بكم، أو يُسيئوا إليكم إساءة تَظْهر آثارها في وجوهكم. وقد يكون المقصود تدمير صورتهم التي صنعوها عبر الإعلام المزيف، بحيث تتجلى صورتهم الحقيقية، ويلحقهم العار، وتنكشف عوراتهم أمام الأمم التي خُدعت بهم سنين طويلة. وهذا يكون بفعل العباد الذين يبعثهم الله لتحقيق وعد الآخرة.
)وَلِيَدْخُلوا المسجدَ( المقصود المسجد الأقصى، والذي بُني بعد المسجد الحرام بأربعين سنة، وفق ما جاء في الحديث الصحيح.
) كما دخلوهُ أول مرةٍ( تكون نهاية كل مرة بدخول المسجد الأقصى، وسبق أن بينا أن نهاية المرة الأولى كانت عام (586 ق.م)، إذ دُمرت دولة يهوذا. وسقطت القدس في أيدي الكلدانيين. أما اليوم فقد اتخذ الإسرائيليون القدس عاصمة لهم، ولا شك أن سقوط العاصمة، والتي هي رمز الصراع، لهو أعظم حدثٍ في المرة الثانية، والتي سماها الله (الآخرة)، مما يشير من طرفٍ خفي إلى أنْ لا ثالثة بعد الأخيرة. وهذا مما يعزز قولنا: إن هذه هي الثانية إذ لا ثالثة، وقد سبقت الأولى.
"وليتبروا ما علوا تتبيراً: يُدمرون، ويُهلكون، ويُفَتتون كل ما يسيطرون عليه، إهلاكا، وتدميرا، وتفتيتا". وذلك يوحي بأن المقاومة ستكون شديدة تؤدي إلى رد فعل أشد. و(ما) تدل على العموم وهي بمعنى (كل) والضمير في (عَلَوْا) يرجع إلى أعداء بني إسرائيل. ويجب أن لا ننسى لحظة أن المخاطَب في هذه النبوءة هم اليهود: )لتفسدُن... ولتعلُن... عليكم... رددنا لكم... وأمددناكم... وجعلناكم... أحسنتم... أسأتم... وجوهكم... يرحمكم... عدتم( لذلك يجب أن نَصْرِف الضمائر التالية إلى أعداء اليهود في المرتين : ) فجاسوا... عليهم... ليسوءوا... وليدخلوا... دخلوه.... وليتبروا... علوا... (.
هل يكون التدمير في كل الأرض المباركة، أم في جزء منها؟ النص لا يبت في احتمال من الاحتمالين. ولكن يُلاحظ أن الحديث عن التتبير جاء بعد الحديث عن دخول المسجد الأقصى، مما يجعلنا نتوقع أن يكون التدمير في محيط مدينة القدس. وتجْدر الإشارة هنا إلى أن (الواو) لا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً: ) ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد وليتبروا... ( ولكن الترتيب يرهص بذلك. ويمكن تصور تراخي الدخول عن إساءة الوجه أما الدخول والتتبير، فقد يسبق التتبير الدخول، وقد يتلازمان، وقد يأتي التتبير بعد الدخول وهذا بعيد إذا كان من سيدخل هم أهل الإيمان.
)عسى ربكم أن يرحمكم (: دعوة إلى التوبة والرجوع إلى الله.
)وإن عُدتُم عُدنا( وإن عدتم يا بني إسرائيل إلى الفساد عدنا إلى العقوبة، ترغيب وترهيب يُناسبان المقام. فهل يتعظ اليهود بعد هذا الحد؟ المتدبر للقرآن الكريم يُدرك أن فِئة منهم ستبقى تسعى بالفساد أينما حلوا. قال سُبحانهُ وتعالى في سورة الأعراف: )وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب([17]. وقال سبحانه في سورة المائدة: )وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة... ([18] وهذه عقوبات دنيوية تحل بهم لفسادهم.
)إن هذا القرآنَ يهدي للتي هي أقوم.. (فهي إذن بشرى قرآنية.
)ويُبشرُ المؤمنينَ الذين يعملون الصالحاتِ(: فهي بُشرى للمؤمنين السالكين طريق الحق.
)وَأن الذينَ لا يُؤمنون بالآخرةِ اعتدنا لهم عذاباً أليماً (10)( هي بُشرى للمؤمنين وإنذار لبني إسرائيل الذين يؤمنون بالله والرسل بوجه من الوجوه، ولكنهم لا يؤمنون بالآخرة، فالعهد القديم يزيد عن الألف صفحة، ومع ذلك لا تجد فيه نصا صريحا بذكر اليوم الآخر.