مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #15  
قديم 19/01/2010, 11:13 PM
صقر فيصل صقر فيصل غير متواجد حالياً
كاتب مفكر بالمجلس العام
تاريخ التسجيل: 22/11/2005
المكان: في زمنٍ حياديّ
مشاركات: 1,847
المدينة المنورة 1

"قمت باختيار المقاطع التالية من مقالاته الثلاث عن المدينة"

ما أجمل الفجر في هذه المدينة. السماء صافية، وأنت تحس بالدّفء رغم لذعة البرد، وأيادي الحرم النبوي العشر ترتفع في السماء مضيئة ضوءًا وديعًا لا يُعشي العين، كأنّما يجذب إليه خيوط الفجر الطّالع، كما تجذب أصابع ناعمة ثوبًا من الحرير. الفجر هنا لا يطلع من الشرق، بل يجيء من الجهات كلها في دائرة تحيط بالمدينة. حقًا إنها المدينة المنوّرة.

تسير في شارع ((أبي ذر الغفاري)) يحدوك الصوت الذي لا يأتيك من مآذن المسجد ولكن تحس به مثل صلصلة حُليّ ذهبية في صدرك. صوت هو مجموعة أصوات، تأتي من أماكن شتّى ومن عصور غابرة. تدخل في ذلك الزحام المطمئن، تدخل في هدوء كما يدخل الخيط في نسيج الثوب. هذا الزحام له مذاق غير الذي رأيته بمكّة.

اجلسْ بعيدًا عن (الرّوضة) وتأدّب واحتشم. لا تتعجّل المثول في تلك الحضرة. انتظر كما انتظر (حاج الماحي):

اعطونا الإذن ندخل على السُّلطان
....................... سيّد الدَّار ضمن قال عبيدي (أمان).

فيما بعد سوف تقف خاشعًا تحمل نعليك تحت إبْطك، علامة التذلُّل عند قومك الكرام الذي لا يطيب لهم الذّل إلا في مثل هذا الموقف.

كان الصاحب بهاء الدّين وزير الملك الظّاهر، لا يسمع قصيدة الإمام شرف الدين أبي عبد الله البوصيري المسمّاة بـ(البردة) إلاّ واقفًا حافيًا عاري الرأس، وكان يحب سماعها كثيرًا ويتبرك بها هو وأهله.

يطوف بخاطرك الإمام البوصيري رحمه الله. ما أشدّ ما أحب الرّسول الأمين، وما أجمل ما غرّد بذلك الحب:

أمِن تذكّر جيرانٍ بذي سَلَم
....................... مزجْتَ دمعًا جرى من مُقْلةٍ بدمِ
أم هبَّت الريح من تلقاء كاظمة
....................... وأوْمض البرقُ في الظّلماء من أضَم
فما لعينيك إن قلت اكفُفا همتا
....................... وما لقلبك إن قلت استفقْ يهِم
أيحسبُ الصَّب أن الحب منكتمٌ
....................... ما بين منسجم منه ومضطرمِ

كان إمامًا في ذلك المضمار، وقد سار في أثره عدد من محبي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، منهم أمير الشعراء الذي لم يعرف شعره جلالاً وسموًّا كما حدث في (النبويات). وجاءت أم كلثوم بصوتها العبقري فإذا للكلمات أجنحة. ما أعظم الفن حين تلتئم عناصره في خدمة مثل هذه الأعتاب.

ريمٌ على القاع بين البان والعلم
....................... أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرُم
لمّا رنا حدثتني النفسُ قائلةً
....................... يا ويح جنبك بالسم المُصيب رُمي

هذا، والحقّ يقال، مطلعٌ لا يقلّ جمالاً عن مطلع قصيدة البوصيري، وإن كان ذاك أقوى مراسًا على السباحة في بحر العشق.
اضافة رد مع اقتباس