(13) العام الدراسي الجديد للسنة الثانية :
كانت بدايةً مختلفة هذه المرة، فقد اصبحت أكثر نضجاً من ذي قبل .. مجموعتي الدراسية كما هي ما عدا سام والذي يبدو أنه قد فشل في تحقيق النجاح .....وقد أعاد الأمتحانات كاملة وفشل مرة أخرى ويبدو أنه قدم ألماساً للطلية لأعادة السنة الأولى ووافقوا على طلبه هذا على الرغم من أن الكثيرين رفضت طلباتهم وفصلوا من الكلية...
حقيقة أصبحت دراستنا أكثر متعة فجميع العلوم التي ندرسها تعلقت بما كنا نبحث عنه.. من أعضاء الجسم ووظائفه وتشريحه وأمراضه وقد تضمنت هذه المرحلة ثمةأمر لم نحبذه هو الكم الهائل من العلوم الاجتماعية..فأصبحنا وكأننا نُؤهل لنكون عاملين في الخدمة الإجتماعية بدلاً من تأهيلنا للعمل كأطباء ..!!
هذا الأمر ضايقني كثيراً واستنكرته لكون الطبيب في بلادي لايعرف أي شئ عن حالة مريضه الاجتماعية وليس من الضروري له معرفة ذلك ..!!
أن مسارالطب قد تغيراليوم فمعرفة الحالة الإجتماعيه باتت ملازمة لمعرفة الحالة الصحية ..فكانو يقولنا لنا مثلاً أن كبير السن المريض والذي قد يعاني من أمراض مزمنة لايمكنك أن تحسن من حالته الصحية ( بإذن الله ) الا بعد تغييرك لوضعه الإجتماعي وإدخاله الرعاية الإجتماعية فبذلك تكون قد حققت رعاية طبية شاملة ..
في هذه المرحلة أحببت ( مادة علم الأعصاب )كما احبها الكثيرون مثلي فهي مادةٌ مثيرة تجعلك تفكر في قدرة الخالق سبحانه وتعالى وزاد من حبنا لهذه الماده هو الدكتور (تونستال) والذي كان يحضر وهو في حالة إعياء شديد بعد شربه الخمر..ولكنه تميز في إخلاصه لعمله وتفانيه في الشرح فهو يملك طريقة عجيبة في إيصال المعلومة للطلبة مهما بلغت درجة صعوبتها .. لقد ظل حبي لهذه المادة حتى بعد تخرجي ولو كان طب الأعصاب متقدم من الناحية العلاجية أكثر من الحالة التشخيصية لخترت هذا التخصص في الدراسات العليا.........
كان الدكتور تونستال ملحداً لايؤمن بآلهه وكلما سألته عن حقيقة وجود الكون يرجع الاجابة إلى شئ واحد الا وهو الطبيعة ونظرية دارون التكونية ..مشكلته انه يبدا بهذا الحديث وبعدها لايرغب بالمناقشات وطرح الاسئله عليه في هذا المجال عند وجود أحد من الطلبة وان حصل ذلك فهو يجيب بأدب ونفاق إنجليزي ( خادع ) .. وعندما ينفرد بي يبدأ بالاحاديث الاستفزازية وأن ما أؤمن به هراء وكم من حوار ساخن دار بيني وبينه على انفراد..!!.....ولك أن تتخيل ماهي نتيجة الحوار مع مخمور.....
المستر (فوسي) وهو جراح متقاعد أراد أن ينهي حياته العلمية في التدريس الطبي .. للمعلومية الجراحين في بريطانيا يطلق عليهم لقب السيد ( المستر ) وليس الدكتور ، فالجراح عندما يتخرج يسبق اسمه لقب الدكتور وحينما يحصل على الزمالة في الجراحة يسمى السيد والسبب في ذلك انه عندما أنشئت الكلية الملكية للجراحين ببريطانيا قبل أكثر من 200 عام كان الحلاقين هم من يقوم بالعمليات الجراحيه فهم يحلقون الروؤس ويخلعون الاسنان ويشقون البطون أذا استدعى الامر ذلك ولك ان تطلق لمخيلتك العنان لتتخيل ما يقومون به إيضا من أمور جراحيه ..
لنعد للمستر ( فوسي ) فقد تميز بالبراعة في التدريس كما عرف عنه بعدم التفرقة بين الطلبة فلا يمكن أن يحسسك أنك أجنبي كما لايمكن أن يسألك أي سؤال شخصي...
عرف عنه هو والدكتور السالف الذكر ( تونستال ) بالشراهة في التدخين خارج مبنى الكلية ..علمت فيما بعد أنه قد توفي بسبب جلطة في الشريان الأورطي الايمن وهي بالمناسبة نادرة الحدوث في هذا الشريان بالذات بسبب أتساعه ولكنه امر الله الذي لامفر منه..
أما مادة علم الأجتماع فقد تولت تدريسها الدكتورة ( ماري ) وهي من أصول أيرلندية.. تميزت الدكتورة ماري بحدة الطبع وتقلب المزاج فكثيراً ما كنت توقف محاضراتها وتطلب من هذا أو تلك الصمت والهدوء أو مغادرة القاعة الدراسية وهو أمر لم أعتد على حدوثه منذ قدومي لبريطانيا!!
والغريب في الأمر أنها على النقيض من ذلك حينما تتحدث إليها في نهاية المحاضرة فتبدوا لك كالحمل الوديع..!!
ذات مره كانت المحاضرة عن تأثير الإعلام على آراء الناس ..والهدف من ذلك كان كيف نستخدم الإعلام في التثقيف الصحي وكيف يأثر الإعلام على بلورة آراء الناس .. فسألت من هو برأيكم أسوء رجل في العالم ..؟؟
فصاح بعض الطلاب أنه (صدام حسين) !! حينها أنا وصديقي العربي أخذنا ننظر بعضٍ بدهشة وأكتفينا بهز الرؤوس مبدين عن عدم رضانا بهذا المثل فهناك من هو أسوء منه..!! وكان وقتها طبول الحرب تدق إعلاناً بدنو الحرب على العراق .. وكانت أقصى ما يمكن أن نفعله كعرب لضعفنا وهواننا......
الدكتوره ماري تداركت الوضع وأخذت توضح أن سبب اختبارهم لهذا الشخص هو الإعلام حيث انه يوجه ويسلط الاضواء عليه على انه اسوء رجل في زماننا..!!
حينما خرجنا من الكلية وكان الوقت متأخر رأيتها تتحدث مع زميلةٍ لها وهي ترمقني بعين فيها شئ من الاسف!!
وفي شهر مارس من سنتي هذه عام 2003م أعلنت الحرب على بغداد..
كنت حينها أمشي في الكلية وأسمع الهمسات فسمعت شخصاً يتحدث لبعض زملائه بأن الحرب قد بدأت على العراق كنت في طريقي لحضور مادة الزيارة العائليه دخلت الغرفة وأن وأن في حالة لاأعي ما يدور حولي ..كان الدكتور ( جون ) ذو شخصية مرحة بدأ محاضرته بإبداء الأسف على حرب العراق..ثم بدأ الدرس وطلب من كل طالب الحديث عن العائلة التي قام بزيارتها وحين جاء دوري وكنت في شرود وذهول وتفكير بما حلّ وبما سمعت من أخبار ويبدو أنه لاحظ ذلك فأراد تغيير مجرى الحديث حتى لايصلني الدور فأقع في الحرج سألني أن كنت أرغب بمواصلة الدرس أو الخروج متى احببت وترك لي حرية الاختيار وقد قدرت له ذلك كثيراً..
مرت الاحداث وتوالت الى ان سقطت بغداد والناس من حولي بين مؤيدٍ ومعارض ،وأذكر حينها أنها خرجت مظاهرة المليون المضادة والمناهضة للحرب والمطالبة بالانسحاب الفوري هذه المظاهره جابت شوارع لندن ..
لنعد لسنتي الدراسية ..مرت سنتي الثانية وبدأت الامتحانات النهائيه وكانت رويتيناً أعتدنا عليه ولكن اختبار مادة علم الاعصاب كان مختلفاً. فهو الاصعب على الاطلاق على الرغم من الوقت الذي بذلته في المذاكره ..
كانت القاعة لاتسمع فيها الا بكاء وشهيق بعض الفتيات وكان الدكتور ( تونستال ) هو المراقب بدا حينها لامبالياً بعدها أخذ يدور في القاعة لتهدئة بعض الفتيات..
خرجت من القاعة وأنا على يقين تام من رسوبي في هذه المادة ..أصعب الحظات التي مرت علي حينما كنت أنتظر نتيجة مادة أتوقع الرسوب فيها أكثر من توقعي النجاح وهو أصعب شعور ولحظات يمر بها الطالب ..!!
جاء وقت إعلان النتائج وجاء الاعلان عن رسوب 55 طالباً وطالبة من أصل 170 في المادة السالفة الذكر!!
ولله الحمد أني قد نجحت في جميع المواد بما فيها هذه المادة ( مادة الأعصاب) الذي كانت نتيجتي فيها على حافة الرسوب .. |