بل لا شكر على واجب!!
أ.عبدالملك الشايع إنه لمن الحمق أن تبحلق في أحد خروق السفينة ثم تصيح: وجدت السبب وجدته، وسفينتك غارقةٌ في قاع البحر ملأى بالخروق.
من يتابع حرب الفساد في بلدي يتوهم أن الفساد محصورٌ في شق ضيق هو (مشروع تصريف مياه الأمطار في مدينة جدة) وأننا -بحمد الله- بريئون من الفساد ظاهراً وباطناً، وأن ما جرى في جدة هي النقطة السوداء في ثوبنا النقي الطاهر. الفساد يا سادة أكبر وأعظم، وهو متغلغل في شرايين هذا البلد، وهو لا يحتاج إلى عدسة مكبرة ولا إلى ميكروسكوب لاكتشافه، فالفساد هو سمة مميزة لمشاريعنا الكبرى، وهو واحد من أركان الصفقة المحلية التي لا تصح إلا بها. فمن العبث إذن الحديث عن حربٍ شاملة ضد الفساد وقصارى ما بأيدينا من أدوات الحرب المعلنة لجنة مشكلةٌ لهدفٍ خاصٍ، ولا بأس من التضحية بعدها ببعض صغار الفاسدين تستراً على كبارهم، وهذا طبعاً في أحسن الأحوال.
الطريف أن هذه الحرب الصحفية الشاملة لم تبتدأ فصولها مع بدايات الكارثة وإنما تأخرت حتى صدور البيان الرسمي، فجاءت بقضها وقضيضها تتكلم وتمدح وتتوعد وتهدد، وهكذا رضيت لنفسها أن تكون مجرد ردة فعلٍ بدل أن تكون هي صانعة الأفعال، وصارت مجرد بوقٍ رسمي بدل أن تكون بوقاً مزعجاً ضاغطاً على الجهاز الرسمي، ولكن ما ثمة ما يستغرب، فهذا هو حال إعلامنا أصلاً، بل هذا هو حالنا جميعاً.
تذكرت وأنا أتابع هذا المهرجان الصحفي الصاخب ضد الفساد شيئاً مما تعلمته في مادة (مبادئ في الإدارة 301) في جامعة الفهد الموقرة من أن "الابتزاز والرشوة هي ممارسات موجودة في كافة أنحاء العالم، وأنها تظهر بشكل كبير في الجزائر والعراق والسعودية وبوليفيا وكينيا وأندونيسيا ونيجيريا ودولاً أخرى". [من كتاب (الإدارة لهلريجل سلوكوم)]. يومها ثار الطلاب وأسفوا أن تمر هذه العبارة في كتابٍ مقرر، وأسفت حينها على فضيحتنا بين الناس، فهذا هو موقعنا من قائمة الفساد العالمي، وتقارير الشفافية العالمية تؤكد هذا سنوياً، ويكفي أن تنظر في واقع أجهزتنا جميعاً التعليم والصحة والأمن والبلديات .. الخ الخ هل فيها ما يجبر الخاطر ويفتح النفس.
بالله أغمض عينيك واستحضر واقعنا المر ثم تخيل واقعاً من غير مرارة، أليس الفرق بين الصورتين كبيراً بل كبيراً جداً. الفرق بينهما مختصر في قول الشاعر الألماني بريشت: (أن تسرق عن طريق تأسيس بنك أسهل من أن تسرق عن طريق تهديد صراف في بنك)، الظاهر أن ربعنا تعلموا هذا الفرق جيداً.
حين قرأت البيان الرسمي لكارثة جدة وطالعت ردود الأفعال المحلية تأكد لديّ فعلاً أننا نعيش في وطنٍ يغرق في بحر من الفساد، بدل أن يغرق في خيرات النفط، وظللت أتساءل:
هل كان لهذا البيان اليتيم أن يولد أصلاً، لولا فضائل اليوتيوب وبركات الشيخ قوقل؟!
وهل المقصود به فعلاً محاسبة كل الأطراف المسؤولة عن كارثة جدة أم المقصود امتصاص حالة الغضب المتنامية؟!
وهل تشكيلة اللجنة الحالية تساعد حقيقةً على معرفة جناة جدة الحقيقيون أم أنها تتضمن صك البراءة لبعض كبار الجناة؟!
وهل يستحق البيان مهرجانات الشكر والإطراء أم هو لا يتعدى حدود الواجب الشرعي في مثل هذه الكوارث، ولا شكر على واجب؟!
ثم أليس في هذا الفرح الطاغي وذلك المهرجان الصحفي ما يؤكد حجم الفساد المستشري، إذ شكَّل البيان بلغته الاستثنائية صدمةً للشارع المحلي إذ استخدم البيان لغةً لم يألفوا إلا خلافها، ولم يتعودوا إلا على ضدها، فصار البيان كالشاذ المخالف للأصل، وكالاستثناء المؤكد للقاعدة؟!
وماذا سيحصل لمشاريع جدة المستقبلية هل ستسلم هي الأخرى من الفساد أم ستكون فرصة سانحةً لمكافأة كبار الفاسدين مرة أخرى؟!
وأخيراً هل ثمة كوارث حقيقية ستنزل على رؤوس أولئك الفاسدين من جنس ما وقع من الكوارث في جدة أم أن أقصى وأقسى ما يتوقع إعفاء هذا وتغريم هذا ومنع هذا من العمل ، وهذا طبعاً لسكان قاع الهرم لا قمته؟!
إن كنا نريد الحديث عن الإصلاح فليكن ولكن بشفافية ووضوح وصراحة لئلا يتحول حديثنا حول الفساد إلى لون من الفساد يُشرِّع لوجوده ويقر بحقه في الحياة، فمحاربة الفساد لا يكون بخدمة كبار الفاسدين بالتجرؤ على نقد صغارهم، ولا يكون بتضخيم الكلام حول فساد جزئي بالتستر على الفساد الطاغي في كل شيء، ولا يكون بردة فعلٍ لحدث خاص ينتهي بانتهائه دون أن يقدم لنا ضمانات عدم الخيانة مستقبلاً. يجب أن يتحول الحديث حول الفساد إلى حديث حول مشاريع حقيقية تحول دون وقوعه ابتداءً أو تقلل من وجوده على الأقل، ويجب أن يرفع الأخيار أصواتهم بالمطالبة بما يدفع بمشروع الإصلاح الحقيقي قُدماً كالمطالبة (بتوسيع المشاركة الشعبية في الشأن العام) وتشجيع عمليات (الحسبة والمساءلة والمراقبة) ورفع سقف (الشفافية والحرية) وفرض سلطة (الشريعة) على الجميع وتفعيل دور (الإعلام الحر)، وبغير ذلك لن تنكسر دائرة الفساد المغلقة التي تحاصرنا وتخنقنا وستظل تخنقنا مع كل كارثة وفجيعة.
ولعلي أعترف بعجزي عن رسم خارطة طريق محلية للإصلاح، ولست أعلم كيف سننتقل من نقطة الصفر التي نحن فيها إلى نقطة الصلاح المنشودة على وجه التفصيل.
لكني أعلم أن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة.
وأن الأزمة الحقيقية في بلادي ليست أزمة إدارة بل أزمة إرادة، ولو وجدت إرادة الإصلاح لوجدتَ صلاح الإدارة تتبعها على الأثر.
وأعلم أننا لسنا في رأس قائمة الدول الأكثر غنىً وإن كنا في القائمة، ولا في رأس قائمتها الأكثر غباءً، لكن يسوؤني -والله- أن نكون (أغبى) (أغنى) دولة في العالم!!
والسلام.
***
رسالة (لهواة الظلم) يقول الله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) .
رسالة (لحرامية الأراضي) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أراضين).
لا أدري هل هو شعور خاص، لكني أجد لذةً وانتشاءً حين أقرأ مثل هذه النصوص وأجد لها طعماً خاصاً، ولا أستبعد أن تلذذي بها هو كتلذذ أولئك (الساديون) حين يتسلطون علينا ويشبعوننا ضرباً وركلاً، ولكن لا بأس فلسنا سواء، فالضحكة الأخيرة لنا، والله الموعد!!