الأحكام الشرعية المتعلقة بزكاة الدَّين تعريف الدَّين:
الدين في اللغة: واحد الديون، وكل شيء غير حاضر دين، وقد دانه أقرضه، فهو مدين ومديون، ودان هو؛ أي استقرض، فهو دائن أي عليه دين [لسان العرب، ابن منظور، (13/164)، ومختار الصحاح، الرازي، (1/218)].
الدَّين في اصطلاح الفقهاء: عبارة عن مال حكمي في الذمة [بدائع الصنائع، الكاساني، (5/234)].
أقسام الدين:
الدين إما أن يكون للشخص على الغير أو للغير على الشخص؛ بمعنى أن الشخص الذي ستتعلق بدينه الزكاة إما أن يكون: دائن أو مديون، والحديث عن تعلق الزكاة بالدين يختلف بحسب ذلك؛ ولذلك سأقسم الحديث عن زكاة الدين إلى قسمين:
القسم الأول: زكاة الدين الذي للغير على الشخص "دين المديون":
إذا كان شخص له مال تجب فيه الزكاة وعليه ديون قدر ماله أو أكثر أو أقل؛ فإن كانت لا تنقص النصاب فلا تمنع من وجوب الزكاة، وعليه أداء زكاة ذلك المال باتفاق العلماء.
أما إذا كان هذا الدين ينقص المال عن النصاب أو يقضي عليه؛ فإن في وجوب الزكاة عليه عند المذاهب الفقهية المشهورة أقوال؛ نلخصها في التالي:
أقوال الفقهاء:
عند الشافعية ثلاثة أقوال؛ أصحها: لا يمنع وجوب الزكاة سواء أكان الدين حالًّا أو مؤجلًا، وسواء أكان من جنس المال أم لا، والثاني: يمنع، والثالث: يمنع في الأموال الباطنة وهي الذهب والفضة وعروض التجارة، ولا يمنعها في الأموال الظاهرة؛ وهي: الزروع والثمار والمواشي والمعادن [المجموع، النووي، (5/317)].
عند الحنابلة: (يمنع الدين وجوب الزكاة في الأموال الباطنة، وهي الأثمان وعروض التجارة، فإن كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه، هذا إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه، ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب أو ما لا يستغني عنه، فإن كان لا ينقص به النصاب؛ أسقط قدر الدين وأخرج زكاة الباقي، فإن كان له ثلاثون مثقالًا وعليه عشرة؛ فعليه زكاة العشرين) [المغني، ابن قدامة، (2/344)].
وعند الحنفية: الدين يمنع الزكاة، فمن كان عليه دين يحيط بماله فلا زكاة عليه، وإن كان ماله أكثر من الدين زكى الفاضل إذا بلغ نصابًا [اللباب، عبد الغني الميداني، (1/137)].
وعند المالكية: أن الدين يسقط زكاة القدر المساوي له من العين، فمن له نقد أو عروض تجارة تجب فيه الزكاة وعليه دين ولو مؤجلًا؛ فإنه يخصم مما عنده ويزكي الباقي إن كان نصابًا [تبيين المسالك، الشنقيطي، (2/81)].
قال ابن رشد [بداية المجتهد، ابن رشد، ص(238)]: وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة؛ فإنهم اختلفوا في ذلك:
1. فقال قوم: لا زكاة في مال حيا كان أو غيره، حتى تخرج منه الديون، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكى، وإلا فلا، وبه قال الثوري وأبو ثور وابن مبارك وجماعة.
2. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الدين لا يمنع زكاة الحبوب، ويمنع ما سواها.
3. وقال مالك: الدين يمنع الزكاة الناض [هو ما تحول ورِقًا أو عينًا، أي حاضرًا، انظر: لسان العرب: ابن منظور، (7/236)]، فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه؛ فإنه لا يمنع.
4. وقال قوم: بمقابل القول الأول، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلًا.
والسبب في اختلافهم: اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين؟ فمن رأى أنها حق لهم؛ قال: لا زكاة في مال من عليه الدين؛ لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي المال بيده.
ومن قال هي عبادة؛ قال: تجب على من بيده مال؛ لأن ذلك هو شرط التكليف وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف، سواء أكان عليه دين أو لم يكن، وأيضًا فإنه تعارض هنالك حقان: حق لله وحق للآدمي، وحق الله أحق أن يُقضى.
والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المدين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام فيها (صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) [متفق عليه، رواه البخاري، (4347)، ومسلم، (130)]، والمدين ليس بغني.
الراجح:
كلام ابن رشد هو الأقرب إلى الصواب وإليه ذهب جمهور العلماء المعاصرين؛ وذلك للأدلة التالية:
1. عن السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول: (هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تحصل أموالكم فتؤدون من الزكاة) [رواه مالك في موطأه، (596)]، وفي رواية: (فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك ماله)، وعن يزيد بن حصيفة أنه سأل سليمان بن يسار، (عن رجل له مال وعليه دين مثله أعليه زكاة؟ فقال له: لا) [رواه مالك في موطأه، (598)].
2. إن ملكية المديون ضعيفة وناقصة؛ لتسلط الدائن عليه ومطالبته بدينه، ومن شروط المال الذي تجب فيه الزكاة تمام الملك.
3. أن رب الدين مطالب بتزكيته لأنه ماله وهو صاحبه، فلو زكاه المديون لوجبت الزكاة في المال مرتين.
4. إن المديون دينًا يستغرق النصاب أو ينقصه ممن يحل له أخذ الزكاة؛ لأنه من الفقراء ومن الغارمين.
5. أن الصدقة لا تجب إلا عن ظهر غنى، ولا غنى للمديون وهو محتاج لقضاء دينه.
القسم الثاني: زكاة الدين الذي على الغير للشخص "دين دائن":
من كان له دين على آخر، وهذا الدين يبلغ نصابًا وحال عليه الحول وهو لا زال في ذمة المدين؛ ففي وجوب الزكاة فيه أقوال للفقهاء نجملها ثم نذكر القول الذي نرجحه:
أولًا ـ مذهب الحنفية [المبسوط، السرخسي، (2/194)]:
الديون على ثلاث مراتب عند "أبي حنيفة" رحمه الله تعالى:
(1) دين قوي: وهو ما يكون بدلًا عن مال كان أصله للتجارة لو بقي في ملكه، وحكمه: لا يلزمه الأداء ما لم يقبض أربعين درهمًا، فإذا قبض هذا المقدار أدى درهمًا، وكذلك كلما قبض أربعين درهمًا.
(2) ودين وسط: وهو أن يكون بدلًا عن مال لا زكاة فيه لو بقي في ملكه؛ كثياب البذلة والمهنة، وحكمه: لا يلزمه الأداء ما لم يقبض مائة درهم؛ فحينئذٍ يؤدي خمسة دراهم.
(3) ودين ضعيف: وهو ما يكون بدلًا عمَّا ليس بمال؛ كالمهر، وبدل الخلع، والصلح عن دم العمد، وحكمه: لا تلزمه الزكاة ما لم يقبض ويحول الحول عنده.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: الديون كلها سواء، وكلها تجب الزكاة فيها قبل القبض.
ثانيًا ـ المالكية [الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي، (1/468)]:
من أقرض غيره مالًا؛ فلا يزكي هذا الدين إلا بعد قبضه، وإنما يزكه بعد قبضه إن كان نصابًا لسنة واحدة فقط، ولو بقي الدين في ذمة المدين سنين.
ثالثًا ـ مذهب الشافعية [المجموع، النووي، (6/22)]:
إذا أمكن استيفاء الدين بأن كان على مدين مليء باذل له، أو جاحد له، ولكن عند الدائن بينة إثبات، فإن كان الدين حالًّا غير مؤجل وجبت الزكاة فيه، وإن كان الدين مؤجلًا فأصح الأقوال فيه: تجب الزكاة فيه، ولكن لا يجب إخراجها في الحال.
أما إذا كان يتعذر استيفاؤه لإعسار المدين أو جحوده ولا بينة للدائن، أو لمطل المدين أو غيبته؛ ففي وجوب الزكاة فيه أقوال، الصحيح منها: وجوب الزكاة، ولكن لا يجب إخراجها قبل قبض الدين، فإذا قبضه الدائن أخرج زكاته عن المدة الماضية.
رابعًا ـ مذهب الحنابلة [المغني، ابن قدامة، (3/46)]:
الدين عندهم نوعان:
الأول: دين على معترف به باذل، فعلى صاحب هذا الدين زكاته، إلا أنه لا يلزمه إخراج زكاته حتى يقبضه فيؤدي لما مضى من المدة.
الثاني: دين على معسر أو جاحد له أو مماطل به؛ وهذا فيه روايتان عند أحمد؛ الأولى: لا تجب، والثانية: يزكيه إذا قبضه لما مضى من المدة.
الآثار المروية في زكاة الدين:
1. عن ابن عمر: (إذا كان دينك في ثقة فزكه، وإن كنت تخاف عليه التلف فلا تزكه حتى تقبضه) [رواه عبد الرزاق في مصنفه، (7111)].
2. عن ابن عمر قال: (ليس في الدين زكاة) [رواه عبد الرزاق في مصنفه، (7125)].
3. عن ابن عمر قال: (زكوا زكاة أموالكم حولًا إلى حول، وما كان من دين ثقة فزكه، وإن كان من دين مظنون فلا زكاة فيه حتى يقضيه صاحبه) [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، (10251)].
4. عن علي أنه كان يُسأل عن الرجل له الدين على الرجل، قال: (ما يمنعه أن يزكي؟ قال: لا يقدر عليه، قال: وإن كان صادقًا فليؤدِ ما غاب عنه) [رواه عبد الرزاق في مصنفه، (7116)].
5. عن الحسن قال: (سُئل علي عن الرجل يكون له الدين على الرجل، قال: يزكيه صاحب المال، فإن أدى ما عليه وخشي أن لا يقضي قال: يمهل فإذا خرج أدى زكاة ماله) [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، (10246)].
6. عن عائشة قالت: (ليس في الدين زكاة) [رواه عبد الرزاق في مصنفه، (7115
7. عن عائشة قالت: (ليس فيه زكاة حتى يقبضه) [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، (10259)].
8. عن ابن جريج قال: (أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في دين لرجل على آخر، يعطي زكاته؟ قال: نعم)، قال ابن جريج: (فكان عطاء لا يرى في الدين صدقة، وإن مكث سنين، حتى إذا خرج زكاه واحدة، وكان يقول في الرجل يبتاع بالمال فيحل، فإذا حل ابتاع به وأحال به على غرمائه ولم يقبض في ذلك، قال: لا صدقة فيه، قال عطاء: وإن كان على وثيق فلا يزكه حتى يخرج) [رواه عبد الرزاق في مصنفه، (7121)].
9. عن عطاء قال: (ليس على صاحب الدين الذي هو له، ولا الذي هو عليه زكاة) [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، (10261)].
10. روى عبد الرزاق عن معمر، قال: (سألت الزهري عن الرجل يكون له الدين، أيزكيه؟ قال: نعم، إذا كان في ثقة، وإذا كان يخاف عليه التوى فلا يزكيه، فإذا قبضه زكاه لما غاب عنه) [رواه عبد الرزاق في مصنفه، (7131)].
11. عن حماد قال: (الزكاة على من المال في يده)، قال: (وكان ابن المسيب يقول: إذا كان الدين والسلف على مليء؛ فعلى سيده أداء زكاته، فإن كان على معدم؛ فلا زكاة فيه حتى يخرج فيكون عليه زكاة السنين التي مضت، قال ذلك الأمر) [رواه عبد الرزاق في مصنفه، (7129)].
قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن زكاة الديون "24":
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة، [من 10-16، ربيع الآخر، 1406هـ/22-28، "ديسمبر"، 1985م]، بعد أن نظر في الدراسات المعروضة حول زكاة الديون، وبعد المناقشة المستفيضة التي تناولت الموضوع من جوانبه المختلفة؛ وتبين منها:
أولًا: أنه لم يرد نص من كتاب الله تعالى أو سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم يفصل زكاة الديون.
ثانيًا: أنه قد تعدد ما أثر عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم من وجهات نظر في طريقة إخراج زكاة الديون.
ثالثًا: أن قد اختلفت المذاهب الإسلامية بناء على ذلك اختلافًا بينًا.
رابعًا: أن الخلاف قد انبنى على الاختلاف في قاعدة: هل يُعطى المال الذي يمكن عليه صفة الحاصل؟
قرر ما يلي:
أولًا: تجب زكاة الدين على رب الدين عن كل سنة، إذا كان المدين مليئًا باذلًا.
ثانيًا: تجب الزكاة على رب الدين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسرًا أو مماطلًا.
............................................................ |