مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #3  
قديم 03/02/2009, 01:21 PM
ميّادة ميّادة غير متواجد حالياً
زعيــم فعــال
تاريخ التسجيل: 31/01/2008
مشاركات: 401
.

الفصل الثاني



مضت أيام العمل الأولى على خيرِ ما يُرام . عقدَ مديرنا الجديد اجتماعاً للتعارف المبدئي على الطاقم الإداري و المهندسين و لتوضيح الخطوط العريضة
لسياستهِ في الإدارة الجديدة .
يبدو أنّه رجلُ وقت , لا يتنازل عن الثواني الهاربة من ساعاتِ العمل .. حدّثنا بلهجة واثقة عن أهمية التعاون لانتهازِ الفرص في كسبِ وقتٍ إضافيّ يضمنُ سيرَ خطط النجاحات كما هو مرسومٌ لها بالضبط
تُلفتني هذهِ الدقة المُتناهية في حديثه و إرشاداته التي كانت عمليّة أكثر مما يجب .
هذا يُعزز مخاوفنا كموظفين مُتساهلين نوعاً ما في الفترة الأخيرة من الإدارة المنصرمة . لكن على ما يبدو أننا سنتعرض لأيام عمل قاسية لكنها أكثر فاعليةً و نتاجاً
استلمَ المشروع المهندس فهد بمساعدة من طاقم إداري من قسمنا و الجميل في هذا أنني لستُ على قائمة من لهم تعاملاً مباشراً مع السيد المتعجرف فهد.

أصبحتُ أستغل ساعة عمل إضافية في مكتبي لأنجز بعض المهام التي أكلّف بها . فلن أكونَ فريسةً سهلة يلوكها لسانُ مديرنا السليط .
ثم أعودُ بعدها بأعباءٍ مُضاعفة إلى المنزل .. أو مقبرة الأحياء كما يحلو لأختي مُنى تسميته .
مُنذ أن تزوجت منى و أمي تغالبُ حنينها بوضع رُزنامة التقويم أعلى التلفاز في الصالة .. و تبدأ بتقليبِ أوراقهِ بولهٍ يوميّ لرؤيةِ وجهِ منى و أحفادها مساء الأربعاء .
فمنى الرفيق الروحيّ لأمي .. صديقة أحاديثها الطويلة عبرَ أسلاكِ الهاتف , قبل أن تتزوج أختى منى لم تكن أمي تفزّ ولعاً عندما يرنُّ جرس الهاتف
و لم تعتد أن تُغالبَ سنها في المشي سريعاً نحوَ باب المنزل الرئيسيّ عندما تسمعُ من بعيد صوتَ أبواق سيارة سائقهم .
أصبحت تعتني أكثر في الجزءِ الخلفيّ من حديقةِ المنزل .. و ألحّت بشده على أبي لأن يُحيلها إلى صالة ألعابٍ صغيرة و مفتوحة و إلى أرضٍ مُعشبة تستطيع أن تُقيمَ بها الحفلاتِ الموسميّة لأبناءِ منى الصغار .
منذُ أن رحلتَ منى افتقدَ بيتنا روحاً كانَ يتّكئ عليها .. و أصبحَ حضورها الأسبوعيّ يُحيلً بيتنا إلى كرنفالاتٍ و أعراس و شجاراتٍ مستمرّة مع طفليها

أبي شخصُ عمليّ .. و هادئٌ جداً .. و لا يكادُ يفارق مكتبته الضخمة إلا عندما تُكرر أمي اختلاسها النظرَ إليه من خلالِ البابِ الموارب .
فهيَ تقضي يومها فقط بإعدادِ قهوتهِ المُرّة و جريدتهِ في الصباح , و وضعها أمامهُ على منضدة صغيرة في زاوية المكتب . ثم تعدّ لهُ أخرى في ذاتِ الفنجانِ مساءً و تُفرغ منفضةَ سجائره
لا يُمارسُ والدي دوره الأبويّ إلا مساءَ الأربعاء ..وحدهم أبناءُ منى من يضخّون الفرحَ في روحِ والدي , و يمنحوننا فرصة أن نراهُ مُبتسماً و ضاحكاً كطفلٍ شقي .
وحدهم من يملكونَ كافة الصلاحيات للّعبِ و إحداث الشغب و الضجيج في مكتبِ والدي . و كلما هرعت منى لتوبيخهم أوقتها نظراتُ التأنيبِ في عينيّ والدي .
- خلّوا عيالي على راحتهم !

أستطيعُ بحسّ الأنثى أن أرصد شهقاتِ أمي الخفيّة كلما نطق والدي " عيالي " .. الحُرقة لأنها لم تُنجب لهُ ابناً ما زالت تعتصرُ قلبها .
أمي تحبُّ والدي كثيراً .. و دائماً أسترق السمع إليها و هي تحكي لمنى عن مغامراتهم الصامتة قبل الزواج . تُحبّهُ بعظمةِ حبِّ المرأة الشرقيّة .. بعظمةِ ولائها و تفانيها و خدمتها لزوجها
و أبي يُحبّها بصمتِ الشرقيّ المُتعالي على الكلام .. إنهُ لا يبوح فعلى قدرِ القراءة النهمة التي أفنى عمره في ملاحقة الكتب من أجلها إلا أنه لم يشعر بأن تلك القراءة قد
ابتلعت لسانه فلم يعد قادراً على البوحِ سوى للورق .. و عبرَ عمودهِ اليوميّ في الجريدة . و هذهِ إحدى الفضائل التي ورثتها عن أبي .

تقولُ أمي أنّ الله قد اختصرَ في وجهي ملامحه .. و في روحي طبائعه , لكنه لم يذكر لي مُطلقاً شيئاً كهذا
و حتى أنا لا أعلم هل هو يؤمن بهذا التكوين النفسيّ المُشترك بيننا أم أن شيئاً ما قد اعترى حياته و يخشى أن يمتدّ إليّ أيضاً .
فأبي ما زالَ لُغز حيرتي الأول .

منذ طفولتي و شخصيّته تستعصي على إدراكي , إلا أنّني لم أبكي يوماً لأنّه لم يصحبني إلى مدينةِ الألعاب أو لأختارَ هدية نجاحي بنفسي
فقد كانَ العم صالح يقومُ بدورهِ الأبويّ معي على أكملِ وجه !
الابتسامة التي افتقدتها في أبي أراها كلَّ يومٍ في عينيّ العم صالح .. لم أحزن يوماً عندما أركض لأستقبلَ أبي أثناءَ وصولهِ و أفتّش بالأكياسِ في يده فلا أجد سوى كتباً جديدة , فقد كان العم صالح يطرقُ بابَ بيتنا محمّلاً بأكياسِ الحلوى و الألعاب .
لم يدرك أبي حتّى الآن أنه رتقَ غيابهُ كأب بحضورِ العم صالح إلى بيتنا .
اضافة رد مع اقتباس