يأتي العيد عادة مصطحبا معه ذكريات الطفولة ببرائتها وطهرها وأحلامها الوردية
فليس هنالك حدود لخيال طفل .. وليس هنالك عائق يصطدم به .. وليس هنالك ما يمكن ان نقف عنده لمجرد برهة ! هي ارض فضاء تلك الأحلام التي ترتسم في مخيلتنا عندما كنا صغارا
.. نحن نبي تلك الأرض .. وننشئ طرقاتها .. ونرسم فصول المسرحية بين جدرانها .. حتى شخوص ممثليها .. نحن من نحدد لهم دور البطولة فيها !
عالم آخر ليس من واقعنا كنا نحيى به عندما كنا اطفالا .. كأننا في نزهة تصطحبنا من خلالها صديقتنا
( أليس ) في عالمها من ارض العجائب ! وما ان تبدأ اصواتنا بالحشرجة كأن هنالك من اقبض كلتا يديه حول اعناقنا يعتصرها ! ونحتفل ببضع شعيرات متناثرة اعلى شفاهنا
حتى تطل علينا حقيقة الواقع الذي نعيش فيه تلقينا من علو شاهق ولسان حاله على هذه الشاكلة !
بلادُ العُربِ أوطاني .. منَ الشّـامِ لبغدانِ .. ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ .. إلى مِصـرَ فتطوانِ
في المرحلة الإعدادية .. كنت من هواة جمع الخرائط !
نعم .. أعلم ان هنالك هوايات على شاكلة جمع الطوابع أو العملات أو حتى أغطية المشروبات الغازية
.. ولكن هذا القلب وما يريد ؟!
لا زلت اتذكر حجرتي في تلك المرحلة العمرية وقد جعلتها أشبه بغرفة للعمليات العسكرية
ولم يتبقى في ذلك الحين سوى ان ارتدي البزة العسكرية والقي التحية واعلنها مدوية
( هجووووووووووووم ) .. حقيقة لقد كنت مستمتعا جدا وانا اضع الخرائط على جدران الغرفة وأخرى أفترش بها الأرض والباقية اتلحف بها السرير !
تلك خريطة للعالم .. وأخرى للعالم الإسلامي .. وثالثة للعالم العربي .. واحداهن للدول العربيه المطلة على البحر الأحمر .. وأخرى جغرافية دول بلاد الشام .. وعاشرة عن الدول المطلة على البحر المتوسط .. وبضع خرائط تفصيلية لبعض الدول العربيه ! حقيقة لقد قضيت تلك الأيام وانا في حالة طوارئ
حتى انني لم اعد مبال بكل ما يحيط بي .. فمن يقدم على خوض معركة لا يبال بصغائر الأمور
في تلك المرحلة العمرية بدأت أستوعب ان هنالك ما يطلق عليه
( العالم العربي ) ولا زلت اتذكر معلم الجغرافيا وهو يحدثنا بحماس ويوثق في نفوسنا هويتنا الشخصية .. ولا زلت اتذكر وهو يتحدث ان تعداد سكان العالم العربي يعادل تعداد سكان الولايات المتحدة .. وان مساحة العالم العربي أكبر من الاتحاد السيوفيتي
( أكبر دولة في ذلك الوقت ) .. وان الثروات المعدنية والزراعية والحيوانية تعادل الولايات المتحدة والاتحاد السيوفيتي مجتمعين
( ملاحظة : المعلومات اعلاه تحققت من صحتها بعد عدة سنوات ) .. خلاصة القول لقد شعرت اننا اعظم أمة في التاريخ ووفق رواية أخرى
( من أراد ان تثكله أمه .. ويرمل زوجته .. وييتم أطفاله .. فليضع عينه بعيني ) مما جعلني في حالة من الزهو والأعتداد بالنفس لا يعلم بها الا الله
وعندما تحدث المعلم في وقت لاحق عن العالم الاسلامي .. لقيت نفسي اراجم الناس بالحجارة في الشارع ! فلم أعد أرى أحدا امامي
ثم كان الحديث ذات يوم عن حقنا في ارض
( فلسطين ) .. ولمواليد
بعد عام 1990 م
.. نود الإشارة أن الدولة العربية الوحيدة المحتلة في ذلك الوقت هي فلسطين !
.. كان الحديث مختلفا .. ففي الجغرافيا كانت فلسطين .. وفي التاريخ كانت فلسطين .. وفي الدين ايضا كانت فلسطين .. كانت فلسطين تلك الأرض العربية الخالصة .. وذلك الشعب العربي أصلا وفصلا والمسلم هوية ورسالة .. تعلمنا ان لدينا حق يجب ان يسترد .. لذلك أخذتني حماسة الطفولة وبراءتها وشفافيتها وقررت تحرير فلسطين !
لذلك كانت تلك الخرائط في صومعة ذلك الطفل
( الذي يكون أنا ! ) ترسم ملامح المعركة القادمة وتحركاتها من جميع الاتجاهات الثمان ! فمن هنا تتحرك الطائرات .. ومن هناك تتحرك الدبابات .. وبين ذلك وذاك تشق المياه الفرقاطات .. واما الصواريخ فهي ستنهمر مثل امطار خط الاستواء ! لن نبقي ولن نذر .. والبقاء لأمتنا والموت للأعداء
من المواقف الطريفة خلال رسم ملامح تلك الخريطة
.. انني جلست افكر عاجزا عن الوسيلة التي سوف تتحرك فيها الفرقاطات اليمنية من
( جزيرة سقطرى ) اليمنية في المحيط الهندي وهي تلتف من رأس الرجاء الصالح جنوب افريقيا مرورا بجبل طارق
( كنت أعد هذا الجبل من ممتلكاتي الخاصة ) حتى نفاجأ العدو
( كنت اسمع بالألتفاف على الخطوط الخلفية ) دون ان تتمكن الاقمار الصناعية من رصدنا !
ومن المواقف الطريفة الأخرى
.. انني كنت مشغول جدا في اختيار توقيت المعركة الكبرى
وقد هداني تفكيري في ذلك العمر أن التوقيت المناسب هو بدء العام الدراسي الجديد
حيث كنت اجد نفسي واقراني وأسرنا مشغولين مع كل عام دراسي جديد في أعداد اللوازم والاحتياجات .. وحدثت نفسي : طالما نحن ننشغل بهكذا يوم .. فمن الطبيعي انهم سيكونون مشغولين مثلنا .. وبالتالي سوف نفاجأهم وهم مشغولين بشراء الدفاتر والأقلام الملونة
كانت ايام جميلة
.. قضيت معها عدة سنوات وانا في حلم الضربة العربية المحررة لأرضنا العربيه .. ولم استيقظ من هذا الحلم الا مع فتنة عام 90 م .. عندما وجدت نفسي امام حقيقة مفادها :
أن الخريطة لم تعد واحدة كل عام وانتم بخير
كل عام والخريطة تنمو في عقول أجيالنا وقلوبهم في آن معا ،،، ختاما :
ماذا تحمل ذاكرتكم في ذلك الوقت ؟