(( قتيـــــــــــل الحـــــــــــرمان )) ....
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
قُدر لي زيارة دار الرعاية الإجتماعية مع أحد الأخوة جزاه الله خيراً ..... كنتُ متردداً في البداية ومتوجساً خيفة من هذه الزيارة لأني لأول مرة أذهب لهذه الدار ... كما أني لا أحتمل رؤية هؤلاء الأطفال وقد أكتست وجوههم البراءة ولا يعلمون ماذا يخبئ لهم المستقبل
....
دخلنا الدار ولفت نضري ما فيها من الشباب المتحمس والذين يعملون فيها بكل جهد ونشاط والإبتسامة لا تفارق محياهم .... كأنما وجدوا لهذا العمل فمن يراهم يطمئن قلبه على هؤلاء الأطفال فهم مع أولاءك في مأمن بإذن الله تعالى .....
كان منضر الأطفال يثير الأسى ويبعث لواعج الحزن في نفوسنا ..... تجد أحدهم يضحك ويقهقه ولو علم شيئاً عن هذه الحياة و مستقبلها لما نامت له عين من الهم والحزن ..... وتجد الآخر مستغرق في التفكير ....ينضر إلى البعيد .....صامت ..... لا ترف عينه ..... كأنما حاز من الدنيا مصائبها ..... يا ترى بماذا يفكر مثل هذا الطفل ؟ أتراه علم في أي مكان هو الآن ؟ أم لعله علم لماذا هو في هذا المكان وبقية الأطفال خارجه ؟
كثيرة هي الأسئلة والخواطر التي تمر على ذهنك وأنت ترى مثل هذا الطفل وبهذا العمر يفكر !!! ولا شك أنك ترى من هم في عمره خارج هذا المكان لا هم لهم سوى الضحك واللعب والخصام مع أقرانهم ....
حدث ما كنتُ أخشاه حقيقة فقد بعث في قلبي هذا الطفل الأسى وأصبحتُ أسيرٍ بمشاهدته ومراقبته عله يتكلم أويضحك أو حتى يبتسم ... ولكن هيهات .... السكوت مطبق والتفكير مستمر ..... طفل في عمر التاسعة يفكر بهذه الدنيا !!!!
أقتربت منه حاولت محادثته ولكن دون جدوى ... هرب مني .... حاولت اللحاق به ولكن أمسك بيدي المشرف على الأطفال وقال تعال معي قليلاً .....
ذهبت معه إلى حيث مكتبه .... كنا في مكتب يحيط به الزجاج بحيث يجعلك ترى من في الخارج من الطلاب وهم لا يرونك .... قال لا شك أنك مستغرب لحال هذا الطفل ..... قلت له بل أشد الأستغراب ......
قال لي هذا الطفل ليس ككل الأطفال فهو مميز عنهم ..... له تفكير مستقل ...... ليس له مجالسون ..... في فترة اللعب لا يلعب .... وعند النوم يكون آخرهم نوماً ..... لا يبتسم مهما ألقيت عليه من الطرف ....قليل الكلام ...... حتى الأكل فليس له منه إلا النزر الذي يقيم أوده ويحفظ له حياته ...بل إننا في بعض الأيام نهرع به إلى المستشفى ليعطى ما يسمى (بالمغذي) لأنه لم يأكل منذ مدة ....
قلت له لاحول ولا قوة إلا بالله .... لا بد لهذا من سبب .... فما هو السبب ؟
قال :- جميع الأطفال في هذه الدار تعرضوا لهذا المصير الذي تعرض له هذا الطفل ولكنهم لم يكونوا في مثل نضوجه وتفكيره .... ولو كان يتكلم أو يصارحنا بما فيه لعلمنا السبب وعالجناه ولكنه كما ترى .... لا يتكلم ولا يحدثنا بما يعانيه .....
ودعت المشرف وخرجت أبحث عن صديقي لنخرج من هذا المكان فقد أصابني من الهم والحزن ما الله به عليم لمصير هؤلاء الأطفال .......
خرجت أنا وصاحبي من الدار وقبل خروجنا رأيت ذلك الطفل وقد جلس في مكان بعيد بحديقة الدار وكان وضعه كما كان قبل قليل من التفكير و السكوت .....
في هذه الأثناء سمحت لنفسي أن أتخيل ماذا يدور في مخيلة هذا الطفل ؟ وأن أتكلم بلسانه وأبعث برساله حبرها الحزن و الألم .... أبعث برسالة عن هذا الطفل لأبيه ..... وهذه الرسالة بين يديكم .....
------------------------------------------------
حينما أسمع صوت الأطفال وهم سعداء خارج هذه الدار .... أتمناك ...... حينما أرى الأطفال وهم متعلقون بسواعد آباءهم خارج هذه الدار أريدك ...... حينما أشاهد الأطفال وهم فرحين مستبشرين بقدوم آباءهم أنتضرك ......
أبي ..... لقد قتلتني ..... أبي لماذا لا تريدني ؟ ...... أبي ..... هل لي بسؤال إذا سمحت لي ..... أبتي هل تحس أو تشعر كإنسان مثلنا ؟ هل تعلم معنى أن أفقدك وأنت موجود بهذه الدنيا ؟
أعلم يا أبتي أنك لا تعلم عني شيئاً وربما نسيتني مع كثرة أشغالك ....... ولكن ألا ترحم دمعتي في ليلة مخيفة باردة أريدك أن تكون معي وبجانبي .....
تأتي الأعياد .....يفرح الأطفال ....يبتهجون ......يخرجون إلى كل مكان مع آباءهم وأنا حبيس هذه الدار أبحث عنك في كل زاوية منها ولكني لا أجدك ........
أبي ..... الطعام متوفر لدينا ...... الألعاب متوفرة أيضاً ..... النوم المريح والهادئ متوفر ....... الملابس الجديدة موجودة ..... كل شيئ نحتاجه في هذه الدنيا نجده هنا ..... لكن هناك شيئ لم أجده وأبحث عنه ...... مستعد لأن أترك الطعام والشراب والنوم والملابس الجديدة ولكن أحصل على هذا الشيئ .....
أبتي ..... هل تعلم ماذا أريد ؟ هل تدري عن ماذا أبحث ؟ أتعلم أني لا أحس للطعام لذة ولا للنوم طعم ؟ كل ذلك بسبب هذا الذي حرمتني منه أنت .......
أريدك أنت يا أبتى ..... أريدك بجواري ..... أريد أن أٌقبلك حتى أرتوي من شفاك ...... أريد أن أضمك إلي ولا أتركك ..... أريد أن أخرج معك ممسكاً بيدك لا أفلتها ......... أريد أن أكون معك دائماً ...... أريد أن أرى وجهك ولو لمرة واحدة ......
آآآآآآآآآآآآآآآآه ....يا أبتي ..... ألا ترحمني وترحم أبنك المسكين وتعود لي يوماً ما .....
والله يا أبتي لو قالوا لي لك أموال الدنيا جميعها مع ذهبها وأراضيها ولكن دع أباك ولا تفكر فيه ...لقلت لهم : لا ..... خذوها أنتم وأعطوني لحظة من حياة أبي أستمتع فيها .......
لو تراني يا أبتي وقد علا الحزن وجهي ...... لو تراني يا أبي وأنا أحلم الأحلام المزعجة وأقوم فزعاً أحسبك بجواري تضمني إليك وتهدئمن روعي وتطمأنني ......ولكن لا أجد سوى الظلام مطبق يزيدني خوفاًوهلعاً .......
أبي ..... إنني أرى الكثير من الأطفال وقد نسوا آباءهم وتكيفوا مع هذه الدار وهم سعداء بذلك ولكني لا أستطيع أن أكون مثلهم ...... وليتني كنتُ كذلك لكان خيراً لي ....ولكن هذا قدري وهذا مصيري .
لو كنت قد مت يا أبتي فالحمد لله وهذا قضاء الله وقدره وليس لنا سوى الرضى والتسليم ...... ولكنك موجود وهذا ما يزيدني ألم .....
قل لي بالله عليك أين أنت ؟ أين مكانك ؟ أين ديارك ؟ في أي مكان تقيم ؟ سأحضر إليك ....... سأتحدى الصعاب وأمشي على الشوك ....... سأغوص في المحيطات .....وأقطع القفار في سبيل الوصول إليك ...... سأعارك الوحوش وأتصدى للهوام .....سأصبر على البرد وأتحدى الشمس .... أريد رؤيتك .... فقط رؤيتك ....
لو تعلم يا أبتي مقدار الشوق الذي أحمله للقاءك لما تأخرت عني لحظة واحدة ولكن ماذا أفعل لقلب من صخر .... لا يحس ولا يشعر ......
تفطر قلبي وضاق صدري .....ولكن لا حياة لمن أنادي ......
يا أبي لو أعلم أن صوتي سيصلك في أي مكان كنت ..... لما سكت عن منادتك ثانية واحدة .... أواصل الليل بالنهار علّني أوصّل لك صوتي ....
أبي .... حبيبي ....-- آآآآآآه ....كم هي جميله هذه الكلمة --- كم هي حلوة ..... أريد أن أقولها مرة أخرى ..... لا بل أريد أن أقولها مرات عديدة ......أُمني نفسي بها ولو بالشعور .....
أبي ربما تكون الآن في مكان ما من العالم الفسيح .....تقوم بعملك ....سعيد بأسرتك ..... راضي بما تقوم به ..... تنام هنيئاً .... تأكل بنفس مفتوحة .... لا يهمك شيئ من الدنيا ......بينما أنا أبنك من صلبك أتجرع مرارة الحرمان وألوك الأسى ... وأنت لا تشعر بي ولا تعلم عني شيئا....
ربما سبق علي القدر يا أبي ومتُ قبل أن أكحل عيني برؤيتك ...... ربما مرضتُ ولم أجد من يخفف عني ألمي ..... ربما بكيت ولم أجد من يمسح دمعتي ....... ربما ضربتُ ولم أجد من يدافع عني ........ربما تُهتُ ولم أجد من يدلني على الطريق الصحيح ....... ربما ..... ربما ....... ربما .......
أتعرف يا أبي ..... لن أسامحك أبداً على ما فعلت بي ....... أتعلم يا أبي لن أنسى لك هذا الفعل أبداً .......
عذراً لن أقول لك أبي ...... فأنت لا تستحقها .....سأقول لك يا إنسان ......
حتى هذه أحسُ أنها كبيرة عليك ......فالإنسان يحس ويشعر .........
إذا قدر لك يا أبي في يوم من الأيام وقررت الحضور ......ربما لن تجدني هنا ...... حينها ستجدني في مكان آخر قريب من هنا وهو المقبرة ...... لأن فراقك وبعدك قتلني ......... قتلتني يا أبي ......
أعضم جريمة في التاريخ وأسوأها أن يقتل الإنسان ابنه ...... ولكنك فعلتها ......
سأرحل من الدنيا وحيداً لا قريب يشيعني ولا أب يبكي علي ......
حتى بعد الموت لم أجد من يرحمني ......
طبيعي أن لا تعرف مكان قبري ..... ولكني سأقول لهم بأن يكتبوا على قبري ((( قتيل الحرمان ))) ....
التوقيـــــــــــــــــع
(( ابنك المحــروم )) ...
--------------------------------------------------
سيكون هناك رسالة أخرى للأم قريباً .... شكراً لكم ...shaheen