أتساءل .. كيف استطعت البقاء في البيت وقد خلا من وجودهم ! بل إنني أستمعُ إلى ضجيج أصواتهم كأنها لم ترحل معهم .. لقد بقيّت بالقُرب من أُذني توحي اليّ بأنه لم ينته شيء ،،
كانت الليالي كئيبة بقدر الألم الجاثم على صدري .. بقدر ما فقدتهم واحداً واحداً كنتُ أعيش لحظاتٍ تعيسة .. و لما لا أعيش هذا الجنون وقد غابوا عن حياتي .. وشيءٌ ما يُردد بأنهم " لن يعودوا من جديد" !!
أنني أهربُ من كل شيء .. حتى من الآخرين الذين حاولوا مواساتي ، لكنهم ابداً وقطعاً لن يفهموا كيف يموت قلبي بعد موتهم .. وكيف تتلون الحياة بالأسود حِداداً بلا أيُ نهاية !
مضى شهر.. وما من ترياقٍ مُضاد لحزني .. ثم أحببتُ أن أشردَ قليلاً مع نفسي ، لنقل على وجهٍ أدق "مع ذكرياتي" التي تُزعجني بتكرارها . وللمرة الأولى أتمنى أن أنسى كل الفصول الفائتة من حياتي ، رغم ما حملتهُ من جذلٍ و سعادة الا أن حزني العميق يطغى علي أكثر من كل إحساسٍ آخر .. وكأن الحياة تتوقف هنا حيث توقفوا هم عن الحياة .
وأبتعدتُ وأنا أحملُ حقيبة الماضي ، أسيرُ بها نحو المستقبل .. و شيءٌ ما لا أفهمه .. لِما أُصر على التوقف في الحاضر ؟ ولما أجذبهُ كلما حاول الانصراف !
لم أرغب بالإستمرار ، لكن أحلام والديّ تُرهقني كلما استعرَضتها ذاكرتي . كانا يتمنيان أن يروني تلك الفتاة الذكية ، صاحبة الإصرار والعزيمة ، صانعة النجاحات ..
لقد توهما في قدرتي على ذلك .. إنني حقاً لا أقدر !!
توالت الليالي ، لا شيء يتغير .. سوى أنني بتُ أكثر حزناً و جوعاً ! وفراغاتٌ تملئ الأمكنة التي بيني وبين الآخرين .. لقد أصبحوا جميعهم أغراب ، نعم .. أنا لم أعد أعرفُ أحداً !
هاتفتني صديقتي ليلى .. طلبت أن نلتقي في أي مكان .. ربما لم تشاء أن تدلف على بيتٍ خاو من أصحابه .. ثم لا ترى سوى جسد متهالكٌ نحيل و وجهٌ أعياهُ الذبول..
قدرتُ لها ذلك ، وخرجتُ على موعدنا في حلةٍ سوداء لم تعرف الإشراق ولا الحياة .. أعرف أنها تفاجأت كثيراً بما رأتني عليه من حال ، لكنها تفهمني .
لقد حولت جلستنا تلك الى جلسةٍ مع طبيب نفسي ، ربما ظنت أن ثمة أمل يُنقذني ؛ يؤسفني أن أقول بأنها أخطأت في ذلك. لكن ذلك الموعد لم يكن سيئاً على الإطلاق ، فقد أخرجني من العزلة ..
وبدأ كل شيء ينفذ .. علِمتُ ذلك بعد أن جررتُ قدميّ بتثاقل الى المصرف وأطلعت على الحساب .. لم يعد هناك الكثير من المال !!
أفقتُ لحظتها وأنا أفكر .. ماذا سأفعل الآن ؟ لم أكن ذات يوم من عائلةٍ غنية .. وكل ما تركه والدي اليسير من المال ، ولم يتبقَ منه سوى ما يكفي لدفع إيجار البيت.. لقد احتضننا هذا البيت سنيناً إثر سنين بعد انتقالنا من المدينة التي يسكن بها بقيةُ من أعرف من العائلة ، ولذا لم أعد أشعر بالانتماء للآخرين .. فقد تعنوا لأجلي ثلاثة أيام من العزاء ثم عادوا إلى بيوتهم والى أبناءهم وأزواجهم ، لم يتغير شيء بالنسبة لهم .. فقط أنا من قُدر له أن يتألم ويفقد الكثير .
وهكذا بدأتُ أودع البيت بعد أن ودع الأخير أركانه الثلاث .. وها أنا الركن الرابـع .. أستعدُ للمغادرة بعد أن أدفع الإيجار وأرحل .
وليلة الرحيل .. لم أعرف النوم .. هل يُعقل أن اترك ملجئي الأخير وأذهب الى شقةٍ غريبة لم أعرفها قبل ذلك ..!! كنتُ سارحة في عالمي الصغير .. ما بين بيتٍ وشقة كنت أفكر بالهروب الى البعيد حيث تنتهي كل الأشياء المادية وأبقى وحدي أتقاسم مع روحي ما تبقى من الحياة . لكنه الواقع .. يجب أن أرضخ .. سأخرج من هذا البيت في الغد !
تنفس الصباح .. و ما أصعب أن أكون وحيدة .. أجمعُ الشتات وأمضي ، وحيدةٌ ايضاً أحاول الثبات .. ، ذهبتُ الى المصرف لأخذ الإيجار .. لكنني لم أستطع التصديق!! يا لها من مفاجأة لم أُعد نفسي لإستقبالها !
كل ما أذكرهُ وأنا متأكدة منه أن حسابي يحتوي على ستون ألف ، منها خمسون ألف للإيجار .. والآن لا يُمكنني أن أصدق أن الحساب أصبح الضعف !
ربما كنت أحلم ..! هكذا أخبرت نفسي .. نعم ربما ! وبعجلةٍ واضحة وجهت سؤالي للموظفة " هل هذا حسابي فعلاً ؟ كيف يمكن أن يكون هذا حسابي ؟ هل أنتِ متأكدة ؟ " لقد أجابتني " نعم هذا حسابك .." ولكن مهلاً .. لم يكن حسابي بهذا المبلغ !! لقد أصابني الذهول .. تضاربت أفكاري .. ولكن أول شيء تناهى أليّ أن أكلم المؤجر وأتراجع عن تسليم البيت .
يا لها من فرحةٍ عظيمة .. أن أعود الى البيت ولا أخرج منه .. وياله من إرتياح أن أُسدد المبلغ ولدي الكثير في حسابي .. ربما ابتسمت ذلك اليوم قليلاً .. وفي الوقت نفسه لم أتوقف لحظة عن التفكير " كيف حدث هذا ؟ " وكل ما كنت أظنه " أن خطأً ما قد حدث ! " .
تسلل اليّ القليل من الحياة .. واخيراً قررت أن أرتب البيت فقد عُدت له .. وسأُمضي به ما تبقى من الأيام المقبلة . لم أتكاسل عن ترتيبه وتجهيزه لنفسي .. كنت أنتظر أن أُقيم لنفسي حفلةً صغيرة لعلي بذلك أُسلي قلبي الذي لم يعرف السكون مذ زمن .