ربما أكثر مصطلح يمر على مسامع من يقرأ في السياسة هو الليبرالية أو التحررية التي يقوم حولها جدل غير منطقي بأنها مُعادية للدين.
فالليبرالية "التحررية" ليست عبارة عن دين أو مذهب أو آيديولوجية حتى تتعارض مع عقيدة أو دين؛ بل هي "فلسفة أو حركة تهدف إلى تقرير الحرية الفردية والفكرية".
أي أن الغرض من الليبرالية هو إقرار الحريات الفردية وضمانها لأفراد المجتمع حتى لو كانت هذه الحرية في اتخاذ مواقف معارضة سياسية أو اجتماعية.
وبالتأكيد أن المُعارضة السياسية والاجتماعية ليست على الدوام سيئة أو تحمل الشرور؛ فالذي كفل التقدم في عصور الإسلام الأولى وبالذات في عهد الخلافة الراشدة هو توفر مناخ التعددية السياسية ولا تأتي الويلات إلا مع أُحادية الرأي.
في الحقيقة أن الخلط بين التحررية ومعاداة الدين نشأ من بدايات التحررية في الغرب؛ ففي بداياتها كانت الليبرالية ضد السلطات الكنسية "وبالتالي ضد الدين" أو بالأصح أن نشأة الليبرالية كان اعتراضاً على قمع الحريات الفردية الذي كانت تمارسه الكنيسة ضد المجتمعات الأوربية والنماذج كثيرة مثل اضطهاد السلطات الكنسية لجاليليو واحراق كتبه بعد قوله المخالف للعهد القديم بأن الأرض تدور حول الشمس وكذلك حظرهم لكتب كوبرنيقس ونيوتن وغيرهم من العلماء والمُفكرين الذين كانت تضطهدهم بسبب ما ينشرونه من "تجديفات" وأفكار معادية للدين ومن هنا كانت حركة المجتمعات الأوربية في المعارضة الدينية وفصل الدين عن المجتمع.
وذات الأمر كان مع المعارضة السياسية التي كان يتم قمعها بوسائل بشعة ولا إنسانية مما أدى إلى انتشار قيم الخوف من إظهار الآراء فكانت الفردية في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية التي لا تخدم سوى مصالح طبقة واحدة دون سائر الشعب..
هذه الأمور مجتمعة، تسببت في وجود شريحة واسعة من المُفكرين والمُصلحين السياسيين والدينيين الذين ينادون بضرورة توفر أجواء تكفل لهم حرية التعبير عن آرائهم وتوجهاتهم الفكرية..
هنا كانت انطلاقة الليبرالية الحقيقية..
فظهرت خلال تلك الفترة المؤلفات التي تنتقد الكتاب المقدس وتعرض الأخطاء الضخمة الموجودة بين دفتيه وكذلك نشأة المعارضة الفكرية للعقيدة الكاثوليكية "البروتستانت" وإن كانت لم تمض قُدماً في تحرير العقيدة المسيحية من الخرافات.
إذاً..
الرغبة في نقد الخرافات الدينية بحرية، وكذلك نقد الحكم السياسي الجائر في أوربا والتقاليد الاجتماعية البالية هو الذي أدى إلى انتشار قيم التحررية "الليبرالية"..
وفي الحقيقة أن أجواء الليبرالية هذه هي التي دفعت عجلة التقدم لدى الغرب للأمام؛ بعد أن ظلوا قروناً يعانون الفردية في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية "هذه الفردية التي تخدم فقط مصالح ثلة من الطبقات البرجوازية" وتنأى عن هموم الشريحة العظمى من المجتمع؛ هذه الأجواء هي التي كفلت التقدم الاقتصادي والصناعي لأوربا..
هذا في مجتمعات الغرب.. أما في المجتمعات الإسلامية فالأمر غريب..!!
فليس بالضرورة أن تكون توجهات الليبرالية عقائدية.. إلا أنها في العالم الإسلامي "للأسف" استنزفت طاقاتها لمحاربة ومناكفة العقيدة والدين على الرغم من أن أغلب الرزايا التي أخرت العالم العربي كانت جرّاء الموروثات الاجتماعية والفكرية البالية التي يعتنقها المجتمع حتى أن غالبيتهم "أي المفكرين التحرريين" لم يتعرضوا للديكتاتورية لدى الحكومات "سواء سياسياً أو اقتصادياً" وهذا كان سبب آخر للخلط في المفاهيم بين التحررية والإلحاد بسبب أن مُدعي الثقافة لم يمارسون التحررية إلا ضد الدين وأهملوا أهم جوانبه الأُخرى.
إلا أن ذلك ليس مُبرراً لترك التحررية وإقرارها للشعوب؛ فالتعامل السيء لا يوجب نبذ الأفكار وبيئة العمل التي تكفل التقدم والازدهار للمجتمعات.
إذاً المقياس لصدق توجهات المفكرين "المثقفين" يكون باستغلال وتبني التحررية "الليبرالية" لمحاربة التقاليد الاجتماعية الفاسدة وليس التصادم مع الدين والعقيدة؛ وسوء استخدامها من قبل "البعض" لمحاربة العقيدة والدين هو السبب الذي أدى بالمجتمع إلى نبذ المناهج الليبرالية وغيرها.
في المقابل لا نستطيع أن نُغفل أن الليبرالية تثير الكثير من المخاوف والتهديدات "إيجاباً وسلباً"
فهي تمثل تهديداً للديكتاتورية؛ تهديداً لأصحاب التقاليد الاجتماعية البالية؛ فالليبرالية تفتح االباب على مصراعية لحرية مناقشة الكثير من التقاليد الهمجية ووضعها تحت مَشَارط المثقفين.
إلا أنها في ذات الوقت قد تمثل تهديداً للمجتمع مع افتراض وجود شرائح واسعة في المجتمع من المنحلين أو ذوي التوجهات المضادة للدين أو الدولة "كما يحدث من بعض الليبراليين في أمريكا وأوربا الذين ينادون بالمشاعية الجنسية أو المثليين الذين ينادون بحرية الزواج بين أفراد الجنس الواحد..!!"
فهي حينئذ تكون كما يقول أشعيا بيرلن : التحررية "الليبرالية" للذئاب تعني الموت لقطعان الغنم..!!*
* المقولة الأصلية كانت: الحرية للذئاب تعني الموت لقطعان الغنم..