مع بداية القرن الرابع عشر للهجرة ، كانت مصر والعالم العربي بشكل عام على موعد مع طفرةٍ أدبية مميزة ، ساهمت بشكل قوي في إعادة اللغة العربية الفصحى إلى الواجهة من جديد ، بعد أن ساهم الإستعمار الأجنبي للأراضي العربية في تغييب هذه اللغة ، وإبراز اللهجات المحلية الفقيرة من الإبداع قياساً باللغة الأم لأهل تلك الأراض .
*****
ولعل من أشهر أدباء مصر في تلك الطفرة إن صح التعبير هو الشاعر المصري الكبير أو أمير الشعراء أحمد شوقي ، إضافةً إلى شاعر النيل حافظ إبراهيم ، الذي لطالما كان منافساً شرساً لشوقي وذلك في سباقهم نحو التربع على عرش أمارة الشعر ، ومن بعدهم يأتي الأدباء الكبار في مصر من أمثال صاحب ديوان النظرات الأديب مصطفى صادق الرافعي الذي كتب عنه الناقد والأديب محمد سعيد كتاباً مميزاً بعنوان (( حياة الرافعي )) يحكي فيه ماخفي عن القراء من أسرار صديقه الرافعي ، هذا بالإضافة إلى طه حسين ، وعباس محمود العقاد ، وغيرهم الكثير من كتاب الصحف والمجلات التي إزدهرت في تلك الحقبة بإزدهار الأدب العربي ..
*****
ولعل من أبرز جماليات تلك الحقبة في مصر بعيداً عن جمال الشعر والنثر ، هي تلك الحروب الفنية الخفية ، التي تدور رحاها بين الأدباء الكبار ، بهدف إسقاط الآخر ، والصعود على الأكتاف لنيل الشهرة والجماهيرية في أوساط مجتمعاتهم ..
ولكن تلك الحروب مع شدتها وضراوتها ظاهرياً ، إلا أنها تميزت بإبداع متناهي لمن يجيد قراءة المضمون ..
*****
فهاهو الرافعي يرمي سهام النقد المبدع على منافسيه في ساحة الأدب ، متخفياً بأسماءٍ مستعارة في مقالاته الصحفية في الصحف الأدبية ، كما أوضح ذلك الأستاذ محمد سعيد في كتاب حياة الرافعي ..
*****
أما هناك في ساحة الشعر فقد كانت الحرب الضروس قائمة بين حافظ وشوقي ، فشوقي كان شاعر البلاط الخديوي وقد عاش في رخاء ونعيم ، بحكم قربه من الأمراء والسلاطين ، وقد ساهمت تلك الحياة المنعمة في صياغة شعر شوقي وتفرده بالخيال الواسع والثقافة الكبيرة ، حتى بعد مفارقته البلاط ..
بينما كان حافظ إبراهيم أو شاعر الشعب ، رجلاً بسيطاً عانى من الطبقية في مصر في تلك الحقبة ، ولطمه الفقر ، وقد كان لذلك أشد الأثر في شاعريته التي تميزت بجزالة اللفظ ورقة المعنى ..
*****
الفرق بين حافظ وشوقي ، هو تماما كالفرقً مابين الفقر والغنى ..
ولعل تلك الفروقات الشاسعة فيما بينهما ، كانت سبباً رئيساً لتنافسهم الشريف ، الذي لايخرج عن نطاق الأدب والإبداع وخدمة قضايا محيطه ، كل على حسب مكانته الإجتماعية ..
*****
من روائع شوقي :
يقول في المعلم ..
قـم للمعــلم وفِّـه التبجيــلا ** كـاد المعلم أن يكون رسـولا
أعلمـت أشرف أو أجل من الذي ** يبـني وينشئ أنفساً وعقـولا
وفي نفس القصيدة أيضاً :
إن الشجاعة في القلوب كثيرة ** ووجدت شجعان العقول قليلا
إن الذي خلق الحقيقة علقماً ** لم يُخلِ من أهل الحقيقة جيلا
وفيها أيضاً :
وإذا أتى الإرشاد من سبب الهوى ** ومن الغرور فسمه التضليـلا
وإذا أصيـب القـوم في أخلاقهم ** فأقـم عليهم مأتمـاً وعويـلا
وفيها أيضاً :
وإذا النسـاء نشـأن في أميةٍ ** رضـعَ الرجالُ جهالةً وخمولا
ليس اليتيم من إنتهى أبواه من ** هم الحيـاة وخلّــفاه ذليـلا
فأصاب بالدنيا الحكيمـة منهما ** وبحسـن تربيـة الزمان بديلا
إن اليتـيم هو الذي تلقـى له ** أُمّـاً تخلــت أو أبـاً مشغولا
وفي رثائه للمجاهد عمر المختار رحمه الله :
ركـزوا رفاتك في الرمـال لواء ** يستنهـض الوادي صباح مساء
ياويحهـم نصبوا منـاراً من دم ** توحي إلى جـيل الغد البغضـاء
ماضر لو جعلـوا العلاقة في غد ** بيـن الشعـوب مـودة وإخـاء
جرح يصيح على المدى وضحية ** تتلمـس الحريــة الحمــراء
يا أيها السيف المجـرد بالفـلا ** يكسو السيوف على الزمان مضاء
تلك الصحاري غمـد كل مهـند ** أبلـى فأحسـن في العـدو بلاء
وله أيضاً مما درج على الألسن :
وإنما الأمم الأخلاق مابقيت ** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وله أيضاً :
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ** فقوم النفس بالأخلاق تستقم
هذا وغير ذلك الكثير من الدرر لأمير الشعراء ،،
*****
وأما شاعر الشعب حافظ إبراهيم فله من الروائع مامكنه من منافسة أمير الشعراء ، ولعل من أهمها :
رائعته المعنونة بـ (( اللغة العربية تنعى حظها )) ومنها :
رموني بعقـم في الشبـاب وليتني ** عقمت فلم أجزع لقول عداتـي
وَلَـدت ولمـا لم أجـد لعرائسـي ** رجـالاً وأكفـاءً وأدت بنـاتـي
وسعـت كتـاب الله لفظاً وغايـةً ** وماضـقت عن آي به وعظـات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةً ** وتنسـيق أسمـاءٍ لمخترعـات
أنا البحر في أحشائـه الدر كامـن ** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
وينقد هنا إقبال الناس على اللهجات العامية بلسان اللغة العربية :
أيهجرني قومـي عفا الله عنهـم ** إلى لغـة لم تتصـل بـرواة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى ** لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجائت كثـوب ضم سبعين رقعـة ** مشكّـلة الألـوان مختلفـات
ولعل القصيدة التالية أراها من أجمل قصائده التي تجلت بها سهولة اللفظ مع عمق المعنى وسلامة المعتقد :
إني لتطربني الخـلال كريمـة ** طرب الغريـب بأوبـةٍ وتلاقي
وتهزني ذكرى المروءة والندى ** بين الشمائـل هزة المشتـاق
ويقول :
مـا البابليـة في صفـاء مزاجـها ** والشرب بين تنافس وسبـاق
والشمس تبدو في الكؤوس وتختفي ** والبدر يشرق من جبين الساقي
بألـذ من خلــق كريـم طاهـر ** قـد مازجتـه سلامـة الأذواق
فـإذا رزقـت خليقــة محمـودة ** فقـد اصطفاك مقسـم الأرزاق
ويقول :
والمال إن لم تدخره محصناً ** بالعلم كان نهايـة الإملاق
والعلم إن لم تكتنفه شمائل ** تعليه كان مطيـة الإخفاق
ويقول فيمن يستخدم علمه لينفع نفسه ويضر غيره :
وأديب قـوم تستحـق يمينـه ** قطع الأنامل أو لظى الإحراق
يلهو ويلعـب بالعقـول بيـانه ** فكأنه في السحر رقية راقي
فـي كفـه قـلم يمـج لعابـه ** سمـاً وينفـثه على الأوراق
يرد الحقائق وهي بيض نصع ** قدسيـة علويـة الإشـراق
فيردها سـوداً على جنباتـها ** من ظلمـة التمويه ألف نطاق
عريت عن الحق المطهر نفسه ** فحياتـه ثقـل على الأعناق
لو كـان ذا خـلق لأسعد قومه ** ببيـانه ويراعـه السبـاق
ويقول عن الأنثى وما أجمل قوله عنها :
من لي بتربية النسـاء فإنهـا ** في الشـرق علـة ذلـك الإخفاق
الأم مدرســة إذا أعددتــها ** أعددت شعبـاً طيـب الأعـراق
الأم روض إن تعَّهـده الحيـا ** بـالــري أورق أيمـا إيـراق
الأم أستـاذ الأساتـذة الألـى ** شغـلت مآثـرهم مدى الأفـاق
أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً ** بين الرجـال يجلن في الأسواق
يدرجن حيث أردن لا من وازع ** يحـذرن رقبتـه ولا من واقـي
يفعلن أفعـال الرجـال لواهيـاً ** عن واجبات نواعـس الأحـداق
في دورهـن شؤونهـن كثيرة ** كشؤون رب السيـف والمزراق
كلا ولا أدعـوكم أن تسرفـوا ** في الحجب والتضييق والإرهـاق
ليست نساؤكم حلـى وجواهـر ** خوف الضياع تصان في الأحقاق
ليست نسائكـم أثاثـاً يقتنـى ** في الدور بين مخـادع وطبـاق
تتشكل الأزمـان في أدوارهـا ** دولاً وهن على الجمـود بواقـي
فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا ** فالشـر في التقييـد و الإطـلاق
ربوا البنات على الفضيلة إنها ** في الموقفيـن لهـن خير وثـاق
وعليكـم أن تستبيـن بناتـكم ** نور الهدى وعلى الحيـاء الباقـي
*****
ولعلي أذكر لكم موقفاً مميزاً بين شاعرينا ، يوضح مدى الأخوة والمحبة فيما بينهما ، والتي تجلت في هذا الموقف الطريف ، حتى مع شدة تنافسهم على التربع على عرش الشعراء ، وفيه أيضاً دليل واضح على القدر الهائل الذي يحمله كل منهم من النبوغ والدهاء والفطنه .
*****
كما هو معروف عن شاعر النيل حافظ إبراهيم بأنه من أهل البساطة والطرفة ، فقد أرسل يوماً لصديقه أمير الشعراء أحمد شوقي رسالةً ظاهرها السلامة وباطنها الدهاء ، كتب فيها هذا البيت :
يقولون أن الشوق نار ولوعة ** فما بال شوقي أصبح اليوم باردا
فرد عليه شوقي ببيت مثله ، ظاهره السلامة وباطنه الدهاء ، قائلاً :
حملت إنساناً وكلباً وديـعةً ** فضيعها الإنسان والكلب حافظ
*****
هذا بعض مما جرى في تلك الحقبة المميزة والتي انتهت بتتويج الشاعر الكبير أحمد شوقي بلقب أمير الشعراء ، والغريب في ذلك أن تتويجه كان على يد منافسه وطريده الأول شاعر النيل والشعب حافظ إبراهيم ، كان ذلك بعد عودة أحمد شوقي من منفاه في إسبانيا في عام 1920 م وانقطاعه عن بلاط السلاطين حيث اصبح شعر شوقي من الشعب العربي وإليه ، من دون قيود البلاط ومجاملاته ، فكان أن أقيمت له حفلة تكريمية في دار الأوبرا في مصر في عام 1927 م ، حضرها أغلب أدباء العالم العربي وعلى رأسهم منافسه حافظ إبراهيم الذي ارتجل خطاب مبايعة شوقي بإمارة الشعر ، وصدح بالأبيات التالية :
بلابل وادي النيل بالشرق أسجعي ** بشعـر أمير الدولتيـن ورجعـي
أعيدي على الأسماع ماغرّدت به ** براعة شوقي في إبتداءٍ ومقطـعِ
أميـر القوافي قـد أتيتُ مبايـعاً ** وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
فكانت تلك الأبيات بمثابة صافرة النهاية لصراع تنافسي شريف كانت الغلبة فيه بكل تأكيد ، للشعر العربي الفصيح ، ومتذوقيه
*****
وأخيراً ما أحوجنا لمثلهم في هذا الزمان ..
*****
.
.
.
.
.
.
.
كتبه لشبكة الزعيم الموقع الرسمي لنادي الهلال
أخوكم / أبو سواج