.. المطار .. عندما اجد نفسي في بهو صالة المغادرة بالمطار فانني لا احرم عيني من مشاهدة الناس من حولي وكل منهم يسابق الوقت للوصول الى غايته .. كان الناس في الماضي القريب يمتطون الدواب لرحلات تستغرق شهورا عدة وربما يمتد بها الزمن الى ما يتجاوز ( 360 ) يوما للوصول الى مدينة اصبحت في وقتنا الحالي تستغرق بضع ساعات منعمين بالراحة والرفاهية والأمان بينما الناس فيما سبق كانت تصيغ ( الوصية ) عندما تعتزم الرحيل فهنالك احتمال كبير ان لا تعود !! بالرغم من ذلك فلا زلنا نطمح بالسفر في زمن نستطيع حسابه بالدقيقة ونمني انفسنا بتخفيض تعرفة الدرجة الأولى حتى نتمكن ان نمد اقدامنا الى مسافة أبعد لا تتوفر في الدرجة السياحية ،،، .. قلة أدب ..
البشر يبقون بشرا من دم ولحم وكبد وبنكرياس وذراعين وورئتين بل الغريب في الأمر ان الجميع يحملون أنف واحدا !! ويبقى البشر بشرا في سلوكياتهم ومشاعرهم فلا تجد احدهم معلقا بقدميه في سقف المطار كنوع من الترفيه قبل المغادرة ولا تجد الآخر يذرف الدموع بعويل وألم لأنه استمع الى دعابة نالت رضاه !!
تشاهد وجوه الناس الذين تناثرا في بهو المطار كأحجار البولينج التي بعثرت برمية ( بولنجي ) محترف .. لا ادري حقيقة عن الجذر اللغوي ( للبولنجي ) !! ولكنني اعتقد انها مفردة ولدت من رحم ام بولندية لأب عربي قليل الأدب .. نعود الى وجوه القاعدين وآخرين يجيبون المكان جيئة وذهابا لا تدري هل الفضول يكتنفهم أم القلق يعتصرهم ام ان المثانة اوشكت الاعلان عن ذاتها ولكن لا يوجد مكان شاغرا لها في دورة المياه !!
.. عبسي صديق حبيب لينا .. تتفحص وجوه الناس كضابط تحقيقات جنائية يرتدي النظارة السوداء في غرفة مظلمة فيتنبه انه لا يرى شيئا فيشعل كشاف الأنارة وقد احمرت وجنتيه خجلا مما يدفعه الى توجيه صفعتين خاطفتين للمتهم الماثل أمامه لكي يشاركه احمرار الخدين !! المشكلة في الأمر ان الضابط شعر بالسعادة من توجيه هاتين الصفعتين وتملكته النشوة فأطبق على الرجل أمامه يكيل له اللكمات والركلات وهو يطامر من هنا وهناك بذات الطريقة التي تعلمها من مشاهدة مسلسل الكرتون ( عدنان وعبسي ) !! ويقال ان سبب هذه النشوة المجنونة ان زوجته في مساء البارحة لم تعد له العشاء فقرر ان يؤدي دور الرجل في توبيخها بعد مضي خمس سنوات عجاف من عمر الزوجية لم يتمكن خلالها ان يحرك ساكنا تجاهها الا ان زوجته تكفلت بالمهمة !! وذهبت بعيدا وهي تلقي به خارج غرفة النوم ولم يشفع له نحيبه وتوسلاته وهو يطرق الباب بذراعيه .. فهو يخاف ان ينام وحيدا بالظلام خشية من حضور أمنا صياد !! ( صياد .. في الأساطير اليمنية : هي أمرأة أختطفها الجن وأصبحت منهم .. هكذا يكون الوفاء والولاء ) .. قصة خنجر ..
نعود الى وجوه الناس واذا خرجت عن النص فقيموني ولو بحد الجنبية ( خنجر ) ولكن شريطة ان تكون جنبية أطفال !! حيث كانوا يلحمونها لنا ونحن صغار حتى لا يأتي خبر عاجل بالجزيرة مفاده : مجزرة في العاصمة صنعاء بين الأطفال بانصال الجنابي !! ولكن مع ذلك كنا ننتظر المساء ونحجز اماكننا في زاوية الشرفة تداعبنا نسائم ليل لطيفة مع انغام اوراق الشجر في أمسية يكتمل فيها السماء بدرا من اجل ان نعمل على فك اللحام وتحرير النصل
ليعلن عن ميلاد طفل يمني سيقضي حياته مهاجرا حيث لا حدود تقف حاجزا امام كرة ارضية مستديرة خلقت لكي نركلها !!
أحدث نفسي التي تسير دون سرج او لجام قائلا لها وانا لا زلت قابعا مكاني في بهو المطار : الى متى يستمر مسلسل الخروج عن النص ؟ اتفقنا ان نتفحص سوية وجوه الناس لعلنا امام وجه عابس نتعلم الأمل .. وامام وجه ماكر نتعلم الصدق .. وامام آخر ضاحك ملئ شدقيه وقد بدت انيابه التي تشبه ( ربح ) بلدي يتثائب امام قطيعه عند الظهيرة حتى نتعلم كيف نستر على افواهنا
..
.. انا احكم العالم .. سبحان الذي شكل هذه الوجوه وقد تباينت ملامحها من فرد الى آخر .. المطارات ساحة مصغرة لشعوب العالم وقبائلها من الزولو في افريقيا الى تنظيم الرايات الحمراء في أزقة طوكيو اذا كانت لا تزال في طوكيو أزقة !! لذلك فكرت وقد عقدت حاجبي وتجمدت حركة ( البؤبؤ ) في عيني وأخذت آخذ نفسا عميقا من سيجارتي وأزفر بها في فضاء لا منتهي في منظر مهيب لا يليق سوى بعصابات ال كابوني الصقلية !!
ضممت كلتا يدي خلف جمجمتي واسترخيت في مقعدي بأن تقدم جذعي قليلا الى الأمام ومنحت قدمي التي تصلبتا كخشب السنديان مساحة لكي يتمددا امامي دون حياء او قليل من ذوق .. حدثت نفسي التي أخذت تلومني على هذا السلوك الغير راق .. فقلت لها : لماذا الحياء ولماذا الخجل وانا احكم العالم من بهو المطار ؟!! .. غيرت رأيي ..
وجدت نفسي وانا اتفحص وجوه المئات باحثا عن اعضاء لتشكيل حكومتي المرتقبة
والتي حملت الألوان جميعها من ابيض واسود وجحي ومشمشي
واخرى كست وجهها بأصباغ مختلف الوانها حتى ظننت ان محاربي الهنود الحمر قد عادوا من جديد !! ثم تفكرت وانا اجوب بناظري بين وجوه تشكلت بجميع الزوايا الهندسية .. ماذا لو خلقنا جميعا نحمل ذات الملامح ؟ كل الرجال يشبه أحدهما الآخر والنساء ايضا جميعهن متشابهات .. وجدت نفسي مثل طفل صغير يقول : يعووووووه
.. في تلك اللحظة تلمست شيئ من اشياء لا تعد ولا تحصى من عظمة الله والذات الألهية التي أمتدت لتشكيل هذا الكون الذي يبدو ان لا نهاية له بالنسبة لنا نحن الذين لم نؤتي من العلم الا قليلا .. العظمة لك وحدك يا عظيم
ووجدت نفسي وقد تملكتني مشاعر الايمان التي لا حلاوة تظاهي حلاتها انني لا اريد ان أحكم العالم ولا اريد ان احمل على عاتقي مسؤولية الآخرين والآمهم والسبل التي تناسيتها فكانت سببا لذنوب الكثير منهم .. عفوا ايها السادة الأكارم انني أترجل من كرسي الزعامة فأنا حتما لست أهل ان الاقي الله وفي ذمتي حق لأحد من هؤلاء الذين يسكنون عالمي .. فكفاني بنفسي وذنوبها التي لا حصر لها ،،،
.. أقدع ناس .. كان هنالك رجل وأمرأته وطفله يرتدي الشميز والبنطال ( الشميز .. وتعني القميص لدى اليمانيون وهي مفردة فرنسية تعني القميص ايضا !! لا زال كاتب هذه السطور يحاول معرفة من اين تسللت هذه المفردة ضمن المفردات المحلية ولكن دون جدوى ويعتقد الكاتب في منهجية بحث اخرى يريد تطبيقها ان المفردة عربيه والفرنسيين سرقوها !! ) .. نظرت اليه نظرة عابرة وانا اعتقد انه احد اليمنيين الذي القى به الوطن بكل حب وتقدير خارجا !! ولكن أذني اللئيمة استطاعت ان تسترق عبارة من الرجل وهو يقول : بص يا مجدي .. ما تعملش كده تاني ؟
تعجبت للحظات وانا لم استطع ان اميز ابناء جلدتي وبررت الحديث لعله يمني قرر ان يتمصر .. ولكن اتاني الجواب على عجالة من مجدي هذه المرة وهو يقول : بابا .. بابا .. انا عيز اروح عند تيته !!
هنا وقد تبين لي ان هذه الأسرة الكريمة لا تمت لليمن بصلة وبحركة لم يتمكن منها ( جيمس بوند ) حتى كتابة هذه السطور .. اخذت جولة سريعه اتصيد بها المسافرين العرب وقد نزعت عنهم من مخيلتي ملابسهم واغلقت القافهم ( اللقف .. ويعني الفم ولكن باليمني ايضا ) عن الحديث وظهرت امامي حقيقة دائما ما نطمس عيوننا عنها : العرب أمة واحدة .. تتغير مدننا .. تتغير ملابسنا .. تتغير السنتنا .. ولكننا نبقى عربا والجمل صديقنا الصدوق .. طارق يتحدى طارق .. سؤال يطرح نفسه يا طارق وانت آذيتنا بالحديث عن العرب والعرب وصديقك الجمل
!! هكذا حدثتني نفسي التي لا تكف عن مجادلتي .. وهكذا سطرت القلب عنادا لها امام الكائن الرقيق الحنين ( الجمل ) وقلت لها : ايش عندش ؟
أجابتني : العالم ليس العرب .. هنالك أجناس عديدة واقوام عدة .. ما رأيك بهم يا عنصري يا ....
( حفاظا على مشاعر القراء أحتفظ ببقية النص .. فأخيكم يجيد جلد الذات جيدا ) ..
قلت لها : وانا ايش دخلني ؟ جعل العلوج فدوى مداعس العرب من الطرف للطرف يا علجية
قالت لي : درينا يا سلالة سبأ بن يعرب بن يشجب بن قحطان .. لاحظ ان أحد أجدادك اسمه ( يشجب )
.. ولكن اين مشاعرك الايمانية قبل قليل
؟
قلت لها وقد ذكرتني ( بيشجب ) الله يسامحه ان كان مسلما ولا بارك الله فيه ان كان كافرا : OK ؟
قالت : وكمان OK
.. ظننتها مفردة علجية
قلت لها وقد ضقت ذرعا بها : أيش المطلوب ؟ لا تكثر هذرتك والا القيت بنفسي تحت طائرة وجعلتك ترحلين بعيدا عني وتنتظريني الى يوم يبعثون دون ان تتفوهي حتى ذلك الوقت بكلمة واحدة
قالت لي : مجنون .. ستدخل النار لأنك منتحر يا مؤمن
قلت لها : ما رأيك لو تتجسدين أمامي حتى نتفاهم بطريقة أخرى
قالت لي : حجة الضعيف .. حتى الثور يا طارق قوي البنيان خفيف العقل وبالتالي مرفوع القلم عنه ( والله قوية )
قلت لها :
قالت لي : تذكر قوله تعالى :
( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .. جميل ان يعتز الانسان بأصله ولكن مكانة الانسان وقدره يقاس بالعمل الصالح .. فهمت او لا زلت في حاجة الى ( لوح ) لكي نعيد من جديد ..
أكتفيت بأن التزمت الصمت وأضمرت في مكان خفي من عقلي شرا .. فهذه النفس تتمتع بلسان سليط وفي حاجة ان انتقم منها يوما ما .. لماذا لم تذكر نص الآية الكريمة منذ البداية وتكفيني عناء البهذلة
.. مساكين زعماء العالم .. الخيال .. ذلك الحصان العربي الأصيل الذي يركض في برية ليس لحدودها من نهاية !! قاطع حبل أفكاري صوت شخص ما ينادي عبر سماعات المطار : تعلن الخطوط الجوية للسادة الركاب عن .. الخ ، حدثت نفسي لماذا كل هذه الديباجة ؟ ولماذا لا يأتي شخص بنفس ناترة ( ناترة .. مفردة يمنية تعني ما قاله العرب : لقد بلغ السيل الزبى ) قائلا : على الركاب صعود الطائرة .. أخلصوا علينا !!
شعرت بتمتع بهذا الاسلوب المختصر المفيد وهذا الطرح المباشر وهذه العدوانية الممتعه في الطرح وتلمست حجم المأساة التي يعاني منها قادة وزعماء العالم عندما يتوجهون الى زيارة دولة ما !! هبوط الطائرة .. انتظار المراسيم للمثول امام الطائرة .. الهبوط من الطائرة .. السلام على المضيف ومن يرافقه .. الانتظار قليلا .. السير ببطء .. الصعود الى المنصة .. عزف النشيد الوطني لكلا الدولتين .. استعراض حرس الشرف .. السلام على طابور من الشخصيات التي لا تنتهي .. الخ من بروتوكولات اشعرتني بالدوار !! وتسائلت : هل هؤلاء الزعماء والقادة لا يعرفون الجوال ؟!! وخيل لي ان هؤلاء الزعماء والقادة يحسدوننا على نعمة الحياة البسيطة التي نعيش فيها قاطعني ذات الصوت مرة اخرى وهو يهدد ويتوعد بالقول : النداء الأخير .. تعلن الخطوط ... الخ ، تحدثت بصوت مرتفع أخاطب المجهول : خلاص .. درينا .. ما أكثر هذرتك ؟ وحملت أغراضي وتوجهت راكضا الى بوابة ستنقلي الى مكان آخر في زمن آخر !! ودمتـم فـي خيـر