بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا تعذليه فإن العذل يولعه *** قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه
مطلع قصيدة جميلة للشاعر ابن زريق البغدادي والذي لم يعرف له سوى هذه القصيدة لذلك سميت يتيمة البغدادي وسماها آخرون عينية البغدادي بسبب قافيتها بينما أسميها أنا رائعة البغدادي.
هو الشاعر أبوالحسن علي بن زريق البغدادي عاش في العصر العباسي في مدينة بغداد ومنها جائت تسميته بالبغدادي. انتقل إلى الأندلس بحثاً عن الرزق ولكنه لم يحصل إلا على رزق قليل فندم على السفر وتذكر ابنة عمه التي يحبها فقال هذه القصيدة. علماً بأن هذه القصيدة هي الوحيدة المعروفة لابن زريق البغدادي وهذا ربما ما زاد من شهرتها وبالإضافة إلى جمال معانيها وغرابة قافيتها فإن قصة شاعرها زادها جمالاً.
يبدأ الشاعر القصيدة بمخاطبة نفسه ويطلب منها أن تكف عن لومه فقد جاوزت الحد في اللوم كما أنه يعترف بأن نفسه اللائمة هي المحقة. كما يطلب من نفسه أن ترفق به في اللوم ففراق الأحبة أعطاه من الألم والحسرات ما يكفيه.
ثم يتحدث الشاعر عن الأرزاق وشدة طمع الإنسان وهو (أي الشاعر) إذ يصف الطمع فإنما يتحدث عن نفسه فطمعه هو من غير حالته من النعيم إلى الفقر وهذا ما تؤكده كلمة (يصرعه) في البيت الثالث عشر. ثم ينتقل الشاعر إلى الغزل والتكلم عن عشيقته التي ويصفها بالقمر والتي ودعها في الكرخ ببغداد ثم يصف لحظة الفراق ويقول في البيت الثامن عشر بأن (الضرورات) هي من أجبرته على الرحيل ونلاحظ أنه قال البيت الذي بعده مباشرة (أعطيت ملكا).
كيف يقول الشاعر بأن (الضرورات) هي من أجرته على الرحيل وفي البيت الذي بعده مباشرة يقول (أعطيت ملكاً) ؟
بإعتقادي فالشاعر يقصد بأن حالته قبل السافر حتى لو كانت قاسية إلا أنها مقارنة مع حالته في السفر فإنها تعتبر نعيماً وكأنه لديه ملك.
ثم يستمر الشاعر في وصف محبوبته حتى يقول في البيت الأخير: (وإن تغل أحداً منا منيته *** فما الذي بقضاء الله يصنعه) وهذا ما حدث فعلاً فمن الذي يستطيع أن يرد قضاء الله فشاعرنا ابن زريق البغدادي توفي في غربته ولم يعد إلى داره بغداد.
أترككم مع رائعة ابن زريق البغدادي
مقطع صوتي للقصيدة لا تعذليه فإن العذل يولعه *** قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه
جاوزت في لومه حداً أضر به *** من حيث قدرت أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً *** من عذله فهو مضنى القلب موجعه
قد كان مضطلعاً بالخطب يحمله *** فضيقت بخطوب الدهر أضلعه
يكفيه من لوعة التشتيت أن له *** من النوى(1) كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه *** رأي إلى سفر بالعزم يزمعه
كأنما هو في حل ومرتحل *** موكل بفضاء الله يذرعه
إن الزمان أراه في الرحيل غنىً *** ولو إلى السد أضحى وهو يزمعه
تأبى المطامع إلا أن تجشمه *** للرزق كداً وكم ممن يودعه
وما مجاهدة الإنسان توصله *** رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه
قد قسم الله بين الناس رزقهم ** لم يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم ملئوا حرصاً فلست ترى *** مسترزقاً وسوى الغايات تقنعه
والحرص في الرزق والأرزاق قد قسمت *** بغي ألا إن بغي المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه *** إرثاً ويمنعه من حيث يطعمه
استودع الله في بغداد لي قمراً *** بالكرخ(2) من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني *** طيب الحياة وأني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحىً *** وأدمعي مستهلات وأدمعه
وكم تشفع بي ألا أفارقه *** وللضرورات حال لا تشفعه
أعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته *** وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا *** شكر عليه فإن الله ينزعه
اعتضت من وجه خلي بعد فرقته *** كأساً أجرع منه ما أجرعه
كم قائل لي ذقت البين(3) قلت له *** الذنب والله ذنبي لست أدفعه
ألا أقمت فكان الرشد أجمعه *** لو أنني يوم بان الرشد اتبعه
إني لأقطع أيامي وأنفقها *** بحسرة منه في قلبي تقطعه
بمن إذا هجع النوام بت له *** بلوعة منه ليلي لست أهجعه
لا يطمئن لجنبي مضجع وكذا *** لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني *** به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى البين فيما بيننا بيد *** عسراء تمنعني حظي وتمنعه
قد كنت من ريب دهري جازعاً فرقاً *** فلم أوق الذي قد كنت أجزعه
بالله يا منزل العيش الذي درست *** أثاره وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا *** أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله *** وجاد غيث على مغناك مربعه
من عنده لي عهد لا يضيعه *** كما له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا *** جرى على قلبه ذكري يصدعه
لأصبرن على دهر لا يمتعني *** به ولا بي في حال يمتعه
علماً بأن اصطباري معقب فرجاً *** فأضيق الأمر إن فكرت أوسعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا *** جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه
وإن تغل أحداً منا منيته *** فما الذي بقضاء الله يصنعه
(1) النوى: أي البعد والفراق
(2) الكرخ: أحد قسمي مدينة بغداد على الجانب الغربي لنهر دجلة.
(3) البين: أي الفراق