المنتديات الموقع العربي الموقع الانجليزي الهلال تيوب بلوتوث صوتيات الهلال اهداف الهلال صور الهلال
العودة   نادي الهلال السعودي - شبكة الزعيم - الموقع الرسمي > المنتديات العامة > منتدى الثقافة الإسلامية
   

منتدى الثقافة الإسلامية لتناول المواضيع والقضايا الإسلامية الهامة والجوانب الدينية

إضافة رد
   
 
LinkBack أدوات الموضوع طريقة عرض الموضوع
  #1  
قديم 25/08/2008, 10:55 AM
زعيــم جديــد
تاريخ التسجيل: 18/08/2008
المكان: جدة
مشاركات: 44
السمكـــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , الرحمن الرحيم , مالك يوم الدين
اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

السمكـــة

حدَّث أحمد بن مسكين الفقيه البغدادي قال : حَصَلَت في مدينة ( بَلْخ ) سنة ثلاثين ومائتين ، وعالِمُها يومئذ شيخُ خُراسان أبو عبد الرحمن (حاتم بن يوسف شيخ خراسان وواعظها - توفي عام 237 هـ) الزاهد، صاحب الواعظ والحكم ..
وهو رجل قلبه من وراء لسانه، ونفسه من وراء قلبه، والفلك الأعلى من وراء نفسه، كـأنَّه يُلـَقـَّى عليه فيما زعموا.. وكان يُقال له عندهم : ( لقمان هذه الأمة ) لِما يُعجِبُهُم من حِكَمه في الزهد والموعظة ..

قال أحمد بن مسكين : وكنتُ ذات نهار في مسجد (بلخ) والناس متوافرون ينتظرون(لقمان الأمة) ليسمعوه، وشغله بعض الأمر.. فراثَ عليهم..
فقالوا: مَن يعظُنا إلى أن يجيء الشيخ ؟
فالتفتَ إليَّ أبو تراب وقال: أنتَ رأيتَ الإمام أحمد بن حنبل، ورأيتَ بِشرا الحافي وفلانا وفلانا, فقم فحدث الناس عنهم، فإنما هؤلاء وأمثالهم هم بقايا النبوة.. ثم أخذ بيدي إلى الأسطوانة التي يجلس عليها إمام خراسان فأجلسني ثمـَّة وقعد بين يدي..
وتطاولت الأعناق، ورماني الناس بأبصارهم، وقالوا: البغدادي! البغدادي!
وكأنما ضوعِفتُ عندهم بمجلسي مرة، وبنسبي مرة أخرى..
فقلتُ في نفسي: والله مافي الموت الأبيض ولا الأسود ولا الأحمر موعظة، ولو لبس عزرائيل قوس قزح لأفسد شعر هذه الألوان معناه، وإنما يجبُ أن يكون كما يجب أن يكون، ولا موعظة في كلام لم يمتلئ من نفس قائله، ليكونَ عملاً.. فيتحول في النفوس الأخرى عملا ولا يبقى كلاما.
وإنه ليس الوعظ تأليفَ القول للسامعِ يسمعُه.. لكنه تأليفُ النفسِ لنفس أخرى تراها في كلامها.. فيكون هذا الكلام قَرَابةٌ بين النفسين.. حتى لكأن الدم المُتجاذِبَ يجري فيه، ويدور في ألفاظ ..
{ يُقال : الجوع يُميتُ النفس عن شهواتها ويتركها بيضاء نقية ، فذلك الموت الأبيض ..
واحتمال الأذى ، هو احتمال سواد الوجه عند الناس .. وهو الموت الأسود ..
ومخالفة النفس .. هي كإضرام النار فيها .. وهو الموت الأحمر }


وكنتُ رأيتُ رؤيا (ببلخ) تتصلُ بقصة قديمة في بغداد.. فقصصتها عليهم..
فكانت القصة كما حكيتُها:
أني امتُحِنتُ بالفقر في سنة تسع عشر ومائتين، وانحَسَمَت مادتي.. وقَحِطَ منزلي قحطا شديدا جمعَ عليَّ الحاجة والضـُّر والمسكنة.. فلو انكمشَت الصحراءُ المُجدِبَةُ فصَغُرَت ثم صَغُرت حتى ترجع أذرعا في أذرع، لكانت هي داري يومئذ في محلة باب البصرة في بغداد.. وجاء يوم صحراوي.. كأنما طلعت شمسه من بين الرمل، لا من بين السحب، ومرَّت الشمس على داري في بغداد، مرورها على الورقة الجافة المعلقة في الشجرة الخضراء، فلم يكن عندنا شيء يُسيغُه حلق آدمي، إذ لم يكن في الدار إلا ترابُها وحجارتُها وأجذاعُها.. ولي امرأة .. ولي منها طفل صغير.. وقد طوينا على جوع يخسِفُ بالجوع خسفا كما تهبط الأرض.. فَلَتَمنـَّيتُ حينئذ لو كنا جرذانا فنقرضَ الخشب!!
وكان جوع الصبي.. يزيد المرأة ألما إلى جوعها.. وكنتُ بِهِما.. كالجائع بثلاثة بطون خاوية..
فقلتُ في نفسي : إذا لم نأكل الخشب والحجارة.. فالنأكل بثمنها.. وجمعتُ نيتي على بيع الدار والتحول عنها.. وإن كان خروجي منها كالخروج من جلدي.. لا يُسمـَّى إلا سلخا وموتا.. وبت ليلتي وأنا كالمُثخَنِ حُمِلَ من معركة.. فما يتَقَلبُ إلا على جراحٍ تَعملُ فيه عمل السيوف والأسنة التي عملت فيها.. ثم خَرَجتُ بِغَلَسٍ لصلاة الصبح.. والمسجد يكون في الأرض.. ولكن السماء تكون فيه.. فرأيتُني عند نفسي.. كأني خرجتُ من الأرض ساعة.. ولما قُضِيَت الصلاة.. رفعَ الناسُ أكفهم يدعون الله تعالى.. وجرى لِساني بهذا الدعاء:
اللهم بك أعوذ أن يكون فقري في ديني..
أسألك النفع الذي يُصلِحُني بطاعتك..
وأسألك بركة الرضى بِقضائك..
وأسألك القوة على الطاعة والرضا.. يا أرحم الراحمين..

ثم جلستُ أتأمل شأني ، وأطلتُ الجلوس في المسجد كأني لم أعد من أهل الزمن، فلا تجري عليَّ أحكامه، حتى إذا ارتفع الضحى، وابيضـَّت الشمس، جاءت حقيقة الحياة.. فخرجتُ أتسببُ لبيعِ الدار.. وانبعثتُ وما أدري أينَ أذهب!!
فما سرتُ غير بعيد.. حتى لقِيَني (أبو نصر الصياد) وكنتُ أعرفُه قديما، فقلت:
يا أبا نصر! أنا على بيع الدار.. فقد ساءت الحال.. وأحوَجَت الخَصاصة.. فأقرِضني شيئا يُمسِكُني على يومي هذا بالقوام من العيش حتى أبيع الدار وأوفيك.
فقال: يا سيدي! خذ هذا المنديل إلى عيالك، وأنا على أثَرِك لاحق بك إلى المنزل.
ثم ناولني منديلا فيه رُقاقتان بينهما حلوى، وقال: إنهما والله بركة الشيخ..
قلتُ: وما قصة الشيخ ؟
قال: وقفتُ أمس على باب هذا المسجد وقد انصرف الناسُ من صلاةِ الجمعة، فمر بي أبو نصر، بِشرٌ الحافي (وهو الزاهد العظيم بشر بن الحارث المعروف بالحافي.. توفي سنة 327 هـ وكان واحد الدنيا في ورعه وتقواه، وقيل له: (الحافي) لأنه كان في حداثته يمشي إلى طلب العلم حافيا، إجلالا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم).
فقال (بشر الحافي لأبي نصر الصياد): مالي أراكَ في هذا الوقت؟
قلتُ: مافي البيت دقيق ولا خبز ولا درهم ولا شيء يُباع..
فقال: الله المستعان، احمل شبكتك وتعال إلى الخندق..
فحملتها وذهبتُ معه.. فلما انتهينا إلى الخندق قال لي: توضأ وصل ركعتين.. ففعلتُ..
فقال: سم الله تعالى وألق الشبكة.. فسميتُ وألقيتُها.. فوقع فيها شيء ثقيل، فجعلتُ أجره فشقَّ علي..
فقلتُ له: ساعدني، فإني أخافُ أن تنقطع الشبكة.. فجاء وجرها معي.. فخرجت سمكة عظيمة لم أر مثلَها سِمنا وعظما وفراهة..
فقال: خذها وبعها واشتر بثمنها ما يُصلِحُ عيالك.. فحملتُها.. فاستقبني رجل اشتراها، فابتعتُ لأهلي ما يحتاجون إليه.. فلما أكلتُ وأكلوا.. ذكرتُ الشيخ.. فقلتُ.. أهدي له شيئا.. فأخذتُ الرقاقتين وجعلتُ بينهما هذه الحلوى وأتيتُ إليه فطرقتُ الباب..
فقال : مَن ؟
قلتُ : أبو نصر !
قال : افتح وضع ما معكَ في الدهليز وادخل ..
فدخلتُ وحدثتُه بما صنعتُ .. فقال : الحمد لله على ذلك ..
فقلتُ : إني هيأتُ للبيتِ شيئا .. وقد أكلوا وأكلتُ ومعي رُقاقتان فيهما حلوى ..
قال : يا أبا نصر ! لو أطعَمنا أنفُسَنا هذا .. ما خرَجَتِ السمكة !
إذهب كُلهُ أنتَ وعيالك ..


قال أحمد بن مسكين: وكنتُ من الجوع بحيثُ لو أصبتُ رغيفا لحسِبتُه مائدة أُنزِلَت من السماء.. ولكنَّ كلمة الشيخ عن السمكة، أشبَعَتني بمعانيها شِبَعا ليسَ من هذه الدنيا.. كأنما طَعِمتُ منها ثمرة من ثمار الجنة.. وطَفِقتُ أرددها لنفسي.. وأتأمل ما تفتُقُ الشهواتُ على الناس، فأيقنتُ أن البلاء إنما يُصيبنا من أن نفسر الدنيا على طولها وعرضها بكلمات معدودة، فإذا استقر في أنفسنا لفظٌ من ألفاظِ هذه الشهوات، استقرَّت به في أنفس كل معانيه من المعاصي والذنوب، وأخذت شياطينُ هذه المعاني تَحومُ على قلوبنا، فنُصبِحُ مهيئين لهذه الشياطين، عاملين عليها، ثم عاملين معها، فتُدخِلُنا مداخل السوء في هذه الحياة، وتُقحِمُنا في الورطة بعد الورطة، وفي الهلكة بعد الهلكة، وما هذه الشياطين إلا كالذباب والبعوض والهوام، لا تحوم إلا على رائحة تجذبها، فإن لم تجد في النفس ما تجتمع عليه، تفرقت ولم تجتمع، وإذا ألمـَّت الواحدة منها بعد الواحدة، لم تثبت، فلو أننا طردنا من أنفسنا الكلمات التي أفسدَت علينا رؤية الدنيا كما خُلِقَت.. لكان للدنيا في أنفسنا شكلٌ آخر أحسنُ وأجمل من شكلها.. ولكانت لنا أعمال أخرى أحسن وأطهر من أعمالنا..

فالشيخ ( بشر الحافي ) لم يكن في نفسه معنى لكلمة " التلذذ "..
وبطرده من نفسه هذا اللفظ الواحد، طرد معاني الشر كلها، وصلح له دينه، وخلَصَت نفسُه للخير ومعاني الخير، ولو أن رجلا وضع في نفسه امرأة يعشقُها، لصارتِ الدنيا كلها في نفسه كالمخدع، مافيه إلا المرأة وحدها بأسبابها إليه وأسبابه إليها.

وقد كنتُ سمعتُ في درسِ شيخنا أحمد بن حنبل هذا الحديث: (( لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات ))، فما فهمتُ والله معناه إلا من كلمة الشيخ في السمكة..
وقد علمنيها هذا الصياد العامي ..
فالشياطين تنجذب إلى المعاني، والمعاني يوجِدُها اللفظ المستقر في القلب استقرار غَرضٍ أو شهوة أو طمع، فإذا خلا القلبُ من هذه المعاني، فقد أمِنَ منازعتها له وشغلَها إياه.. فيُصبِحُ فوقها لا بينها.. ومتى صار القلبُ فوق الشهوات.. ولم يجد من ألفاظها ما يُعميه ويعترضُ نظره إلى الحقائق.. انكشَفَت له هذه الحقائق.. فانكشفَ له الملكوت.. فإذا وقع بعدُ في واحدةٍ من اللذات ولو "كالرقاقتين والحلوى" استَعلَت الأشياء عليه فحجبته.. وعاد بينها.. أو تحتها.. وعميَ عمَى اللذة.. والحجابُ على البصر كأنه تعليقُ العَمَى على البصر..

وكنتُ لا أزالُ أعجبُ من صبر شيخنا أحمد بن حنبل وقد ضُرِبَ بين يدي المعتصم بالسياط حتى غُشِيَ عليه فلم يتحول عن رأيه..
{كان هذا في سنة 219 هـ وقد أرادوا الإمام العظيم على القول بخلق القرآن فلم يقل به ...}

فعلِمتُ الآن من كلمة السمكة.. أنه لم يجعل في نفسه للضرب معنى الضرب.. ولا عرف للصبر معنى الصبر الآدمي.. ولو هو صَبَرَ على هذا صبر الإنسان لَجَزِعَ وتحوَّل.. ولو ضُرِبَ ضرب الإنسان لتألـَّم وتغير.. ولكنه وضع في نفسه معنى ثبات السنة وبقاء الدين.. وأنه هو الأمة كلها.. لا أحمد بن حنبل.. فلو تحوَّل لتحوَّلَ الناس.. ولو ابتَدَعَ لابتدعوا.. فكان صبره صبر أمة كاملة، لا صبر رجل واحد..
وكان يُضرَبُ بالسياط ونفسُه فوق معنى الضرب.. فلو قرضوه بالمقاريض.. ونشروه بالمناشير.. لَمَا نالوا منه شيئا.. إذ لك يكن جسمُه إلا ثوبا عليه.. وكان الرجل هو الفكر ليس غير..
هؤلاء قوم لا يرون فضائلهم فضائل.. ولكنهم يرونها أمانات قد ائتُمِنُوا عليها من الله لتبقى بهم معانيها في هذه الدنيا.. فهُم يُزرَعون في الأمم زرعا بيد الله.. ولا يملِكُ الزرعُ غير طبيعته.. وما كان المعتصِمُ وهو يريد شيخنا على غير رأيه وعقيدته.. إلا كالأحمق يقول لشجرة التفاح: أثمري غير التفاح!!
قال أحمد بن مسكين: وأخذتُ الرقاقتين وأنا أقول في نفسي: لعن الله هذه الدنيا! إن من هوانها على الله، أن الإنسان فيها يَلبَسُ وجهه كما يلبَسُ نعله.. فلو أن إنسانا كانت له نظرة ملائكية ثم اعترضَ الخلقَ ينظُرُ في وجوههم، لرأى عليها وُحولا وأقذارا كالتي في نعالهم أو أقذرَ أو أقبح، ولعلـَّه كان لا يرى أجملَ الوجوه التي تستهيمُ الناسَ وتَتَصَبـَّاها من الرجال والنساء، إلا كالأحذية العتيقة ..

ولكني أحسستُ أن في هاتين الرقاقتين.. سرَّ الشيخ.. ورأيتُهما في يدي كالوثيقتين بخير كثير.. فقلت: على بركة الله.. ومضيتُ إلى داري.. فلما كنتُ في الطريق.. لقيتني امرأة معها صبي، فنَظَرَت إلى المنديل وقالت: يا سيدي.. هذا طفل يتيم جائع ولا صبرَ له على الجوع.. فأطعِمهُ شيئا يرحمُك الله..

ونَظَرَ إليَّ الطفل نظرة لا أنساها.. حسِبتُ فيها خُشوعَ ألف عابد يعبدون الله تعالى منقطعين عن الدنيا.. بل ما أظن ألف عابد يستطيعون أن يُروا الناس نظرة واحدة كالتي تكون في عين صبي يتيم جائع يسأل الرحمة..

إن شدة الهم.. تجعل وجوه الأطفال كوجوه القديسين في عين مَن يراها من الآباء والأمهات.. لِعَجزِ هؤلاء الصِغار عن الشر الآدمي وانقطاعهم إلا من الله والقلب الإنساني.. فيظهرُ وجه أحدهم وكأنه يصرُخُ بِمعانيه.. يقول: يا رباه يا رباه!!

قال أحمد بن مسكين: وخُيـِّلَ إلي حينئذ أن الجنـَّة نزلت إلى الأرض.. تعرِضُ نفسها على مَن يُشبِعُ هذا الطفل وأمه، والناسُ عُميٌ لا يُبصِرونها، وكأنهم يمرون بها في هذا الموطن مرورَ الحمير بقصرِ الملك، لو سُئِلَت فَضـَّلَت عليه الإصطبل الذي هي فيه ..

وذَكرتُ امرأتي وابنها.. وهما جائعان مذ أمس، غير أني لم أجد لهُما في قلبي معنى الزوجة والولد.. بل معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها.. فأسقطتُهما عن قلبي.. ودفعتُ ما في يدي للمرأة وقلتُ لها: خذي وأطعمي ابنك.. ووالله ما أملكُ بيضاء ولا صفراء.. وإن في داري لَمَن هو أحوجُ إلى هذا الطعام، ولولا هذه الخَلـَّةُ بي تقدمتُ بما يُصلحُكِ.. فدمَعَت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ولكن طَمَّ على قلبي ما أنا فيه فلم أجد للدمعة معنى الدمعة.. ولا للبسمة معنى البسمة.. وقلتُ في نفسي: أما أنا فأطوي إن لم أُصِب طعاما، فقد كان أبو بكر الصديق يطوي ستة أيام.. وكان ابن عمر يطوي، وكان فلان وفلان ممن حفظنا أسماءهم وروينا أخبارهم.. ولكن !! مَن للمرأة وابنها بِمِثلِ عقدي ونيـَّتي؟ وكيف لي بِهِما؟

ومشيتُ وأنا منكسر منقبض.. وكأني كنتُ نسيتُ كلمة الشيخ: "لو أطعمنا أنفُسنا هذا ماخرجَتِ السمكة"، فذكرتُها وصرفتُ خاطري إليها، وشغلتُ نفسي بِتَدَبـُّرِها وقلت: لو أني أشبعتُ ثلاثة بجوعِ اثنين لحُرِمتُ خمس فضائل (يريد: جوعه، وجوع امرأته، وجوع ابنه ن ثم شبع هذه المرأة، وشبع ابنها.. فهذه خمس فضائل)
وهذه الدنيا مُحتاجة إلى الفضيلة، وهذه الفضيلةُ مُحتاجَةٌ إلى مثلِ هذا العمل، وهذا العمل مُحتاج إلى أن يكون هكذا، فما يستَقيمُ الأمرُ إلا كما صنعت.

وكانت الشمس قد انبسطت في السماء وذلك وقتُ الضحى الأعلى، فمِلتُ ناحية وجلستُ إلى حائط أفكر في بيع الدار ومَن يبتاعُها..
فأنا كذلك إذ مرَّ أبو نصر الصياد وكأنه مُستطار فرحا ..
فقال : يا أبا محمد .. ما يُجلِسُكَ هاهنا وفي دارِكَ الخيرُ والغنى ؟
قلتُ : سبحان الله !! مِن أينَ خرجَتِ السَمكةُ يا أبا نصر ؟

قال : إني لفي الطريق إلى منزلك، ومعي ضرورة من القوت أخذتُها لِعِيالِكَ، ودراهِمُ استَدَنتُها لك.. إذا رجل يستدِلُّ الناسَ على أبيكَ أو أحدٍ من أهله، ومعه أثقالٌ وأحمال.. فقلتُ له: أنا أدلك..

ومشيتُ معه أسألُه عن خبره وشأنه عند أبيك..
فقال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوكَ أودَعَهُ مالا من ثلاثين سنة.. فأفلَسَ وانكسر المال ثم تركَ البصرة إلى خُراسان.. فصلح أمره على التجارة هناك.. وأيسَرَ بعد المحنة.. واستظهَرَ بعد الخِذلان.. وأقبَل جدُّه بالثـَّراءِ والغِنى.. فعاد إلى البصرة، وأراد أن يتحلل، فجاءكَ بالمالِ وعليهِ ماكان يربحُهُ في هذه الثلاثين سنة.. وإلى ذلكَ طرائِفُ وهدايا.


قال أحمد بن مسكين: وأنقلبُ إلى داري فإذا مالٌ جمٌّ وحالٌ جميلة!!
فقلتُ: صدق الشيخ "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة" !!
فلو أن هذا الرجل لم يلقَ في وجهه أبا نصر..
في هذه الطريق ..
في هذا اليوم ..
في هذه الساعة ..
لَما اهتدى إليّ، فقد كان أبي مغمورا لا يعرفه أحد وهو حي.. فكيفَ به ميتا من وراء عشرين سنة؟

وآليتُ لَيَعلَمَنَّ الله شُكري هذه النعمة.. فلم تكُن لي همة إلا البحث عن المرأة المحتاجة وابنها.. فكفيتُهُما وأجريتُ عليهما رِزقا.. ثم اتجرتُ بالمال.. وجعلتُ أربـُّه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مُقبِلٌ يزداد ولا ينقُص، حتى تموَّلتُ وتأثـَّلتُ.. وكأني قد أعجبتني نفسي.. وسَرَّني أني قد ملأتُ سِجـِلاتِ الملائكة بِحَسَناتي.. ورجوتُ أن أكونَ قد كُتِبتُ عند الله في الصالحين..

فَنِمتُ ليلة فرأيتُني في يوم القيامة.. والخلقُ يموجُ بعضُهم في بعض.. والهول هول الكونِ الأعظم على الإنسانِ الضعيف.. يُسألُ عن كل مامسه من هذا الكون.

وسمعتُ الصائِحَ يقول: يا معشر بني آدم!! سَجَدَت البهائِمُ شُكرا لله أنهُ لم يجعَلها من آدم..

ورأيتُ الناسَ وقد وُسـِّعَت أبدانُهُم فهُم يحمِلون أوزارهُم على ظهورِهِم مخلوقَةً مُجَسـَّمة.. حتى لكأن الفاسِقَ على ظهرِهِ مدينَةٌ كلها مُخزِيات!!!

وقيل: وُضِعَت الموازين.. وجيءَ بي لوزنِ أعمالي.. فجُعِلَت سيئاتي في كِفـَّة واُلقِيَت سِجـِلاتُ حسناتي في الأخرى..
فطاشَتِ السِجِلات.. ورَجَحَت السيئات.. كأنما وزَنوا الجبل الصخري العظيم الضخم.. بلفافة من القطن.. ثم جعلوا يُلقُون الحسنة بعد الحسنة مما كنتُ أصنعه، فإذا تحتَ كل حسنة شهوةٌ خفيةٌ من شهوات النفس: كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس.. وغيرها.. فلم يسلَم لي شيء.. وهلكت عني حُجـَّتي، إذ الحجة ما يُبَينُهُ الميزان.. والميزان لم يدل إلا على أني فارغ..

وسَمِعتُ الصوت: ألم يبقَ لهُ شيء؟
فقيل: بَقِيَ هذا.. وأنظر !! لأرى ماهذا الذي بقي !!
فإذا الرقاقتين اللتانِ أحسَنتُ بهما إلى المرأة وابنها !!
فأيقنتُ أني هالك، فلقد كنتُ أحسِنُ بمئة دينار ضَربَة واحدة فما أغنت عني.. ورأيتُها في الميزان مع غيرها شيئا مُعلـَّقا.. كالغمام حينَ يكون ساقطا بين السماء والأرض: لا هو في هذه ولا هو في تلك..
ووُضِعَت الرقاقتان.. وسمعتُ القائل: لقد طار نصفُ ثوابهما في ميزان أبي نصر الصياد.. فانخذلتُ انخذالا شديدا، حتى لو كُسِرتُ نصفين لكان أخفَّ علي وأهون.. بيد أني نظرتُ فرأيتُ كِفة الحسنات قد نزَلَت منزلة.. ورجحَت بعض الرجحان..
وسمعتُ الصوت: ألم يبق شيء ؟ فقيل بقي هذا...
وأنظر ماهذا الذي بقي، فإذا جوع امرأتي وولدي في ذلك اليوم !!
وإذا هو شيءٌ يوضعُ في الميزان.. وإذا هو ينزل بكفة ويرتفع بالأخرى حتى اعتدلتا بالسوية !!
وثبتَ الميزان على ذلك، فكنتُ بين الهلاكِ والنجاة..

وأسمعُ الصوت : ألم يبق شيء ؟
فقيل : بقي هذا ..

ونظرتُ فإذا دُموعُ تلك المرأة المسكينة حينَ بكت من أثَر المعروف في نفسِها.. ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي.. ووُضِعَت غَرغَرةُ عينيها في الميزانِ ففارت.. فطَمـَّت كأنها لُجـَّة.. من تحتِ اللجـَّةِ بحرٌ.. وإذا سمكة هائلة.. قد خرجت من اللجة.. وقعَ في نفسي أنها روح تلك الدموع.. فجعَلَت تعظُمُ ولا تزال تعظُمُ.. والكفة ترجح ولا تزال ترجح.. حتى سمِعتُ الصوتَ يقول: قد نجا..
وصِحتُ صيحةً انتبَهتُ لها .. فإذا أنا أقول:
" لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجَتِ السمكة " !!!


من كتاب وحي القلم
مصطفى صادق الرافعي


المصدر / http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=112413
اضافة رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25/08/2008, 08:02 PM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 06/06/2008
مشاركات: 3,007
جزاك الله خير
جعله الله في ميزان حسناتك
وحرم وجهك عن النار
اضافة رد مع اقتباس
  #3  
قديم 25/08/2008, 11:18 PM
موقوف
تاريخ التسجيل: 06/06/2008
المكان: الـشـرقـيه
مشاركات: 7,139
ســـبــحان الله,,

الف شكر على الافادة,,

ورده
اضافة رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26/08/2008, 01:13 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 05/07/2006
مشاركات: 9,767
فوائد رائعة ياالغالي الله يعطيك العافية وأنتظر جديدك باذن الله
اضافة رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26/08/2008, 05:29 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 18/02/2007
المكان: بكـل مكـان
مشاركات: 2,350
فوائد رائعة ياالغالي الله يعطيك العافية وأنتظر جديدك باذن الله
اضافة رد مع اقتباس
   


إضافة رد


قوانين المشاركة
غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
غير مصرّح لك بنشر ردود
غير مصرّح لك برفع مرفقات
غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك

وسوم vB : مسموح
[IMG] كود الـ مسموح
كود الـ HTML غير مسموح
Trackbacks are مسموح
Pingbacks are مسموح
Refbacks are مسموح



الوقت المعتمد في المنتدى بتوقيت جرينتش +3.
الوقت الان » 07:09 PM.

جميع الآراء و المشاركات المنشورة تمثل وجهة نظر كاتبها فقط , و لا تمثل بأي حال من الأحوال وجهة نظر النادي و مسؤوليه ولا إدارة الموقع و مسؤوليه.


Powered by: vBulletin Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd

Google Plus   Facebook  twitter  youtube