المنتديات الموقع العربي الموقع الانجليزي الهلال تيوب بلوتوث صوتيات الهلال اهداف الهلال صور الهلال
العودة   نادي الهلال السعودي - شبكة الزعيم - الموقع الرسمي > المنتديات العامة > منتدى الثقافة الإسلامية
   

منتدى الثقافة الإسلامية لتناول المواضيع والقضايا الإسلامية الهامة والجوانب الدينية

إضافة رد
   
 
LinkBack أدوات الموضوع طريقة عرض الموضوع
  #1  
قديم 27/08/2004, 06:37 AM
مشرف سابق بمنتدى الثقافة الإسلامية
تاريخ التسجيل: 15/12/2000
المكان: القصيم
مشاركات: 2,953
التفجيرات والاغتيالات ( الأسباب ، والآثار ، والعلاج )

[ALIGN=CENTER][/ALIGN]


[ALIGN=CENTER]التفجيرات والاغتيالات
( الأسباب ، والآثار ، والعلاج )


تأليف
أبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني[/ALIGN]



[ALIGN=CENTER]======================================================[/ALIGN]

بسم الله الرحمن الرحيم
—إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا،وسيئات أعمالنا،من يهده الله ؛فلا مضل له،ومن يضلل؛فلا هادي له ،وأشهد أن لا إله إلا الله ،وحده لا شريك له ،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته،ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ،وخلق منها زوجها ،وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ،واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ،إن الله كان عليكم رقيباً ) ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ،يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ،ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما ) أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدْي هدىُ محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتُها،وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة .
— فلا شك أن العلماء كانوا - ولازالوا - يَئِنُّون ويَشْكُون من إعراض كثير من الناس عن طاعة الله عزوجل، وانغماسهم في المعاصي واللهو والبدع، بل انغماس طوائف منهم في الشرك الأكبر، عياذاً بالله من فتنة المحيا والممات .
وذلك لأن العلماء يدركون أن هذا الحال جالب للفساد في الأرض ، والعذاب الشديد في الآخرة، والله عزوجل يقول : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) ولعلمهم أن الكفر والفسوق والعصيان سبب في محق الخير،وحلول النقمة،وتَحوّل العافية والنعمة ،كما قال تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد )،وقوله تعالى : ( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) والنعم إذا شُكِرتْ قَرَّتْ، وإذا كُفِرَتْ فَرَّتْ ، وشُكْر النعم إنما يكون بطاعة الله عزوجل فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر.
— ولقد فرح المؤمنون بعامة،والدعاة المخلصون بخاصة،بعودة كثير من المسلمين – لا سيما الشباب منهم - إلى الاستقامة،وطلب العلوم الشرعية،والدعوة إلى الله تعالى، وإحياء ما اندرس أو انطمس من السنن والفضائل: فلقد عَمَرَتْ بهم المساجد، وازدحمت بهم مجالس العلم، وزخرت المكتبات الإسلامية بنتاجهم العلمي المبارك: هذا في العقيدة، وذاك في الحديث وعلومه، وذلك في الفقه وأصوله، ونحو ذلك من العلوم النافعة، والخيرات الواسعة: من بناء المساجد، وإحياء المراكز العلمية، ودعوة الكفار للإسلام، وطباعة كتب السنة ونشرها في جميع أنحاء العالم، وانتشار الأعمال الخيرية هنا وهناك وهنالك ...... إلى أمور أخرى من الخير لايعلمها إلا الله تعالى.
— إنك –والله- لتشعر بالخير العميم ، والأمل العظيم للأمة؛ عندما ترى أكثر عُمَّار المساجد من الشباب ، بعد أن كانوا في ضياع وخراب !!!
فمنهم الإمام والخطيب، ومنهم المؤذن والمقيم، وقد امتلأت الجامعات الإسلامية والمراكز العلمية الدعوية بشباب الأمة، وحُقِّقَتْ رسائل جامعية،تدل على مهارات علمية، وعقول ذكية، وظهر الحجاب في الشوارع والمساجد،وراجت سوق الكتاب والشريط اللذَيْن يحملان العلم الشرعي، أو الموعظة البليغة،ونحو ذلك،وكثر رهبان الليل،وانتشرت الفضيلة ،وتقهقرت الرذيلة،والله غالب على أمره ،ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
— لكن هذه الفرحة – وللأسف -لم تدم طويلاً،فسُرْعان ما تقلَّص هذا المدُّ المبارك،عندما ذرّ قرن التحزب الممقوت بين الجماعات ، والتناحر المذموم بين الطوائف ، وَرَفَعَ الغلو في صفوف أهل الحق عقيرته ،وادَّعى أصحاب هذه الأفكار أنهم – وحدهم - أهل السنة،ومن سواهم فإنما هو دَعِيٌّ لا يُفْرحُ به!!
وهذا الغلو – الواقع في صفوف أهل الحق - قد أخذ صورتين متنافرتين،مع وجود تشابه بينهما في عدة أمور،كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - .
— فالصورة الأولى للغلو: غلو من أقام الأحزاب السرية،والتكتلات البدعية،وهيج العامة والدهماء ، على الحكام والأمراء ،واشتغل بذكر عيوبهم ومثالبهم،وإشاعة ذلك من فوق المنابر وغيرها من وسائل الإعلام الأخرى – فضلاً عن المجالس الخاصة،وهم في ذلك على مراتب بين مُقِلٍّ ومستكثر،ومُظهِر ومُتسَتِّر- فأوغر صدور العوام على الحكام،وحرَّضهم على الخروج والمواجهة،وأسقط هيبة الملوك والرؤساء أمام العامة والدهماء،وأظهرهم جميعاً - بلا استثناء - في صورة الذئاب التي تنهش في جسد الإسلام - كذا،ولم يُفَصِّل - وزعزع مبدأ السمع والطاعة للحكام في المعروف،وأثار الفتن،وقلقل الأمن والاستقرار – على ما في المجتمعات الإسلامية من عوج وجور عن الجادة ،وعلى ما عند كثير من الحكام من إعراض أو غفلة – وكفَّر الحكام وأعوانهم،بل تسلسل به الأمر،حتى كفَّر بعضُهُمْ الموظَّفين والجنود والطلاب في المدارس،بحجة أنهم في نظام الطاغوت،أو دين الملوك والرؤساء !! ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد؛ بل طعن في كبار العلماء المخالفين له،ورماهم - على أحسن الأحوال - بالسطحية، والجهل بالواقع، و إلا فبعضهم أو كثير منهم يصرح بأنهم علماء سلطة، باعوا دينهم بِعَرَض من الدنيا، وبعضهم يقول: هم عبيد العبيد، وبعضهم يقول: هم أصحاب ذيل بغلة السلطان،بل بعضهم قد كفَّرهم،وغير ذلك مما لا يجوز التفوّه به في حق علمائنا أهل العلم والحلم، أهل السنة والجماعة ،فـ ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم )!!!
واعلم أن هذا خلاف منهج أهل السنة والجماعة ، واتباع لمنهج أهل البدعة والفُرقة ،وسيأتي تفصيل هذا كله – إن شاء الله تعالى - .
— وأما الصورة الثانية للغلو في صف أهل الحق :فهم قوم شغلوا أنفسهم بتعقب وتتبع أخطاء أهل السنة ،ونشرها في الناس ،مع التشنيع و التجديع ،وربما سموا ما ليس بخطأ أصلاً: بدعة،ومروقاً من السلفية!!وأمروا بهجْر مخالفهم - وإن كان أقوم منهم قيلاً،وأهدى سبيلاً - وأمروا بهجْر من لم يهجْره ،وهَجْرِ من لم يهجر من لم يهجره ........... وهكذا !! حتى جعلوا المهجور الأول - سواء كان هجْره بحق أو بباطل - كالتيار الكهربائي ،من لمسه ؛صُعِق ، ومن لمس المصعوق ؛ يُصْعَق ، وهكذا !!!
وإذا تكلموا على المخالفين من أهل البدع والأهواء؛لم يتكلموا باعتدال أهل السنة وإنصافهم وعلمهم،بل أسرفوا وتجاوزوا الحد،مما لا يجعل لكثير من كلامهم قبولاً عند العقلاء المنصفين،وقد قال الله عزوجل :(ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) وقال سبحانه :(وإذا قلتم فاعدلوا) وقال عزوجل :(إن الله يأمر بالعدل والإحسان).
ولقد استفاد أهل المنهج الأول من تهور هؤلاء ،وظهروا بصورة المظلوم البريء أمام من يثق بهم،فيالله،كم من إنسان ارتمى في أحضانهم ،ظاناً أنه ينصر الحق وأهله،ويدفع عنهم ظُلْمَ الظلمة،بسبب غلو هذه الطائفة !!!
ولعلَّ تهاون الطائفة الأولى في التعامل مع أهل البدع الكبرى،وتهوينهم من شأن بِدَعهم،وتلميعهم دعاتهم،وفي مقابل ذلك:تراهم قد أسرفوا في الكلام على الحكام - الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كثير أو قليل - بدون تفصيل أو ضوابط شرعية ؛فلعل كل ذلك كان سبباً من جملة أسباب ظهور هذا الغلو عند الطائفة الثانية،حتى أدى بهم الأمر إلى هَجْر كثير من أهل الحق ، بدعوى أنهم مبتدعة،وإلى رمْي من حذَّر من المنكرات الشائعة بدون تصريح أو تلميح بالطعن في الأمراء - مع كونه سليم الصدر في باب السمع والطاعة لولاة الأمور - فيرمونه بأنه خارجي خبيث ،يُهَيِّج على أهل الحل والعقد!!وليس الأمر كذلك ،فالعقلاء الصادقون من المسئولين ؛لا يقبلون من مجامل مداهن أن يجعل الباطل حقاً،والمنكر معروفاً،وأن يتـزلَّف إليهم بما يُغضب الله ويُسخطه،فلا إفراط ولا تفريط !!!
وقد قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله – بعد ذكره ذم من يذكر عيوب الحكام على المنابر،فقال:" ..... وإنكار المنكر : يكون مِنْ دون ذِكْر الفاعل،فيُنْكر الزنا،ويُنْكر الخمر،ويُنْكر الربا،مِنْ دون ذِكْر مَنْ فَعَلَهُ،ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها،من غير أن يُذْكر أن فلاناً يفعلها ،لا حاكم ولا غير حاكم ...." اهـ .
أقول هذا هو الأصل في إنكار المنكر ، والله أعلم .
إذاً فقد وقع إفراط وتفريط في هذا الأمر : فهناك مَنْ يُشَهِّر بعيوب الحكام ، ويثير عليهم الخواص والعوام ، وهناك من إذا سمع رجلاً يقول : الربا حرام ، والبنوك الربوية لا يجوز التعامل معها بالربا ، أو نحن نخاف أن تحل بنا عقوبة – من الله - بسبب ظهور المنكرات ، فاتقوا الله أيها المسلمون ، وطهَّروا بيوتكم ، ومجالسكم، وغير ذلك من المنكرات ....الخ ، فإذا سمع من يعظ الناس بهذا ؛ قال : هذا يُهيِّج على ولاة الأمور !! فتأمل ما قاله سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – فإنه العدل والوسط ، والله تعالى يقول :(وكذلك جعلناكم أمة وسطا) .
— وهاتان الفرقتان – على التنافر الشديد بينهما، وعلى صِدْق وإخلاص في كثير من أتباعهما –؛قد تشابهت أحوالهم في أمور كثيرة - شعروا أو لم يشعروا - منها:
1- وقوعهم في الغلو والتنطع ، وقد ذم الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك ذماً شديداً، كما سيأتي – إن شاء الله تعالى - .
2- الجهل – عند كثير منهم - بمقاصد الشريعة وقواعدها الكلية،أو عدم التوفيق في مراعاة ذلك؛مما يجعلهم لا يبالون بعواقب أقوالهم وأفعالهم !!! كما أن كثيراً منهم – يجهل معاني كلام أهل العلم في التكفير والتفسيق والتبديع والهجر وغير ذلك،أو يسيء إنزاله على المعيَّن،فينسب إلى العلماء ما ليس من مذاهبهم !!
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في رده على من أطلق الهجْر وعدمه :" وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة،خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله،أو خرج خطاباً لمعيَّن قد عُلم حاله،فيكون بمنـزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم،إنما يثبت حُكْمُها في نظيرها،فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً .... " اهـ من " مجموع الفتاوى " (28/213) .
3- قلة مراعاة منهج أهل السنة - القائم على العلم والعدل - في التعامل مع المخالف ، مما أدى إلى تضليل المخالف وتبديعه ، ورمْيه بالركون إلى الدنيا ، أو اللهث وراءها ، وإن كان الخلاف قد يقع في المسائل الاجتهادية ، التي يسوغ فيها الخلاف،والمخالف فيها بين أجر وأجرين ،ومغفور له خطؤه !!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- كما في "مجموع الفتاوى" (19/73-74) مبينا بعض أصول أهل البدع :".....وهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإجماع السلف أنها بدعة :هو جَعْل العفو سيئة ، وجعل السيئة كفْراً ، فينبغي للمسلم أن يحْذَر من هذين الأصليْن الخبيثين ، وما يتولَّد عنهما من بُغْض المسلمين ، وذمِّهم ، ولعْنهم ، واستحلال دمائهم وأموالهم ...." إهـ .
فيا لله ، كم رأينا مِنْ هؤلاء الشباب مَنْ جَعَلَ مسائل الاجتهاد من جملة مسائل العقوبات والأصول ، يُعْقد عليها الولاء والبراء ، وكم رأينا من كفَّر بمعصية دون حياء أو خجل، وكذا من كفَّر بها لكن بقيود مُحْدثة ، وأوصاف مخترعة ، لا تبْعُد كثيراً عن مذهب أهل الأهواء الأوائل – كما سيأتي إن شاء الله تعالى - .
وكم رأينا ما ترتب على هذا الانحراف مِنْ لَعْن وتضليل وتبديع وتكفير ، وهجْرٍ وشرٍّ ،واستحلال للدماء والأموال والأعراض،وتفريق بين المرء وزوجته – بدون حق – كما هو فعل شياطين الإنس والجن !! فالله المستعان!!!
4- بَذْلُ الجهد والمال والجاه في التشنيع على المخالف ، ومحاولة إسقاطه بأي وسيلة ،حتى خرج النـزاع ـ في كثير من الأحوال - عن كونه ابتغاء مرضاة الله ،والانتصار لحرمات الله ؛ إلى الانتصار للأهواء والأشخاص ، وهذه فتنة في الدين،ولا يجوز التشبه بأعداء الله في إنفاق المال والجهد في الانتصار للأهواء،وقد حكم الله بهزيمة من كان كذلك،فقال : ( فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغَلبون ) والله المستعان .
5- لقد أَحْدَثَتْ كل من الطائفتين مسألة أو مسائل،وجعلتها مناط الولاء والبراء بينها وبين الآخرين، فمن خالفهم فيها ؛ فلا يُقْبل منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ ، ولا تنفعه شفاعة الشافعين عندهم!!! ومن وافقهم عليها ؛ فقد أدى ما عليه،وليس عليه – عندهم - بعدها شيء،ولو خالف فيما هو أعظم!!هذا لسان الحال ، وهل الحزبية المذمومة إلا كذلك ؟! وصدق الله عزوجل القائل : ( أفمن زُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) والقائل : ( أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ) والقائل سبحانه :( أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ) .
فمما أحْدَثَتْ إحداهما: ما يسمونه بمسألة :" الحاكمية " وأطلق دعاة هذه الطائفة القول بتكفير من حكم بغير ما أنزل الله دون تفصيل – وإن كان بعضهم قد يفصِّل، إلا أنه لا يُنكر على الآخرين الذين لم يفصِّلوا - ، وجعلوا مخالفهم في ذلك –وإن كان من أهل العلم - فاسد المعتقد والقصد ، لاهثاً وراء شهوته ، مُعْرضاً بدنياه عن آخرته !!
ومما أحْدَثَتِ الطائفة الأخرى ما يسمونه بمسألة :" المنهج " وبَدَّع دعاتها كثيراً من أهل السنة – وإن كانوا من أهل العلم والتقى - بزعم فساد منهجهم ، واستباحوا الوقوع في الأعراض ، بدعوى : "إحياء علم الجرح والتعديل "!! فنعوذ بالله أن نكون ممن زُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً !!
وعلى كل حال : فقد وقع كل من الطائفتين فيما لا يُحمد من الحزبية ، والله المستعان .
وقد رد كثير من طلبة العلم على من غلا فيما يسمونه بـ" المنهج " ردوداً كثيرة ، فكشف الله بها الحق – والحمد لله تعالى - وظهر لكثير من طلاب الحق مبلغ هؤلاء من العلم بطريقة السلف !! وصرف الله بها الكثير من طلاب العلم عن هذا الغلو ، والفضل في ذلك وغيره لله وحده القائل :(وما بكم من نعمة فمن الله ) فأسأل الله أن يجعل كتاباتي وأقوالي وأعمالي خالصة لوجهه الكريم ،جالبة لي ولأهلي وذريتي جميعاً وإخواني الحياة الطيبة في الدارين.
كما رددت على من غلا في مسألة " الحاكمية " وعلى مثيري الفزع والتفجيرات ردوداً متفرقة قبل ذلك ، وهذا الكتاب خاص بمناقشة هذه الأفكار – إن شاء الله تعالى - فأسأل الله أن يرزقني فيه التوفيق والسداد ، وأن لا يجعل عَجْزي وتقصيري وضَعْفي حائلاً بيني وبين الهدى والرشاد ، وأن ينفع به في الدنيا والآخرة .
6 – أن في كلتا الطائفتين من لا يألو جهداً في استصدار فتاوى من كبار العلماء تؤيد ماهم عليه – ولو في الظاهر ، أو لمدة مؤقتة - ويتخذون لذلك وسائل مُرِيبة،وطرقاً عجيبة،وذلك في كيفية إلقاء السؤال على العلماء،وكذا يُنْـزلون عمومات فتاوى العلماء على من يريدون، انتصاراً لرأيهم، وخَسْفاً بمخالفهم، ويطيرون بذلك كل مطار،ومع ذلك: فإذا خالفهم العلماء؛غمزوا فيهم بأساليب ظاهرة وملتوية،والله تعالى يقول : (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) ويقول سبحانه : (ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله ) والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول :" إنما الأعمال بالنيات ،وإنما لكل امرئ ما نوى ...".
7- أن كُلاً من الطائفتين يمتحن الناس بمقالاتهم المحْدَثة ، واجتهاداتهم الخاطئة ، ومشايخهم وقادتهم الذين يصيبون ويخطئون،فمن قال بقولهم ، أو مدح مَنْ يمدحون ؛ رفعوه فوق قدره، ومن خالفهم ، أو ذم بحق مَنْ يمدحونه بباطل؛نزل مِنْ أعينهم ،وَوُجِّهت إليه سهامهم ، وحطوا مِنْ شأنه ، فمرة يكون عميلاً جاسوساً،أو مغفلاً لايدري مايدور حوله !! وأخرى يكون دسيسة على الدين ، حزبياً متستراً ،أَخْبَث من على وجه الأرض!! ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) .
ومعلوم أن امتحان الناس بهذه الأمور؛ من عمل أهل البدع، لا من عمل أهل السنة :
فقد قال شيخ الإسلام – كما في " مجموع الفتاوى " (3/413-414) – في رده على من يمتحن الناس بيزيد بن معاوية :" فالواجب الاقتصار في ذلك،والإعراض عن ذكْر يزيد بن معاوية،وامتحان المسلمين به،فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة ...." اهـ .
وفي ( 3 / 415 ) قال : " وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " اهـ .
وفي (3/416) ذكر الأسماء التي يسوغ التسمي بها،مثل انتساب الناس إلى إمام : كالحنفي والشافعي والحنبلي .... أو مثل الانتساب إلى القبائل : كالقيسي واليماني،وإلى الأمصار: كالشامي والعراقي والمصري ،ثم قال:" فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها،ولا يوالي بهذه الأسماء،ولا يعادي عليها،بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم،من أي طائفة كان " اهـ .
وفي (20/164) قال :" وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً،يدعو إلى طريقته،ويوالي ويعادي عليها،غير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،ولا ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويعادي،غير كلام الله ورسوله،وما أجمعت عليه الأمة،بل هذه مِنْ فعْل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً،يُفرِّقون به بين الأمة،ويوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون ..... فمن ابتدع أقوالاً ليس لها أصل في القرآن،وجعل مَنْ خالفها كافراً،كان قوله شراً مِنْ قول الخوارج "اهـ .
8- أن مِنَ الطائفتين مَنْ قد طعن في كثير من كبار العلماء المخالفين له !! وتقاسموا مقالة السوء في العلماء الذين لهم قدم صِدْق في الأمة ،فطائفة قالت: هم عملاء،جبناء ، ضعفاء ، فُتنوا بالقصور والسيارات الفاخرة ، وهم تَبَعٌ للحكام،وعبيد العبيد،وعلى أحسن الأحوال : فهم – عند بعضهم - سطحيون ، لا يفقهون الواقع ، وإن كانوا مخلصين صادقين !!
وطائفة قالت في بعض هؤلاء الكبار -إذا خالفوهم-: هم لا يعرفون مسائل " المنهج " والجرح والتعديل،ونحن المتخصصون في معرفة منهج أهل السنة من مناهج أهل البدع،ونحن أعلم الناس بالحزبية ومناهجها،وإن هؤلاء العلماء مُلَبَّس عليهم ، وسلفيتنا أقوى من سلفيتهم !! وعلى أحسن الأحوال : فهم – عند بعضهم - حولهم حزبيون،والعلماء يحسنون الظن بالحزبيين ،فيخدعونهم،بل وبعض هؤلاء الكبار من أهل البدع والضلال،وهو قطبي،أو إخواني بنّائي،أو إخواني على الخط العام،ونحو ذلك من العبارات الشائعة بينهم وبين طلابهم!!
وعلى كل حال : فقد عمل هذان السهمان عملهما في جسد توقير العلماء وإجلالهم!! وقد أثخنت هاتان الطائفتان في الصف – شعرا أم لم يشعرا - فسقطت مرجعية كثير من كبار العلماء في نظر الشباب هؤلاء وأولئك،وإن تمسك كل منهما بنتفة من كلام العلماء ؛ فلمقاصد أخرى – عند البعض - والله تعالى يقول:( يوم تبلى السرائر) ويقول :( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) ويقول سبحانه :( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ).
9- أن كُلاًّ من الطائفتين يَدَّعي أنه قد أحيا فرائض ميتة !! ويا ليته كان كذلك - فهم وإن نفعوا في أبواب أخرى - فقد هدموا كثيراً مما يَدَّعون إحياءه !!
فطائفة تَدَّعي أنها أحيت علم العقيدة ، وقررت "لا إله إلا الله " في القلوب والأذهان،بعد تحريرهم مسألة " الحاكمية " –حسب نظرتهم - وأنهم أحيوا عَلَمَ الجهاد بهذه التفجيرات والاغتيالات !!!فهدموا بذلك كثيراً من الخير – كما سيأتي إن شاء الله تعالى -.
هذا ، وإن كان الكلام في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله ؛ من مسائل العلم الشرعي، إلا أنه لايجوز الخوض فيها إلا للمتأهلين ، وبالضوابط الشرعية ، والنظر في مآلات ذلك، ودون إفراط أو جفاء ،شأنها في ذلك شأن جميع المسائل العلمية ، والله أعلم .
وأخرى تَدَّعي أنها أحيت ما يسمونه بـ " عِلْم المنهج " وعِلْم الجرح والتعديل ، والواقع أنهم قد فتحوا باب العصبية المقيتة لآرائهم وشيوخهم،وطاشت سهامهم في أعراض وعقائد أهل الحق ، وإن رمَوْا أهل الباطل بسهم – مع إسرافهم وتجاوزهم في كثير من الأحيان- فقد رمَوْا أهل الحق بالمجانيق!!! فلا الإسلام نَصَروا،ولا العدو كَسَروا ، والله المستعان .
وعلى كل حال : فصدق الله عز وجل القائل :(فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) ويقول سبحانه : ( إن يتبعون إلا الظّن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) .
10- أن كثيراً من الطائفتين قد وقع في فتنة الاعتقاد الباطل ثم الاستدلال،وهذا مخالف لما عليه أهل الحق،فترى البعض يرفعون عقيرتهم بأمرٍ ما ،فإذا حُوققوا،وطُلِبتْ أدلتهم على قولهم؛استدلوا بكُسَيْر وعُوَيِر وثالثٍ ما فيه خير ،وهذا من شؤم الاعتقاد قبل الاستدلال !!
— وبعد الكلام على هاتين الصورتين من صور الغلو في هذا العصر،وذِكْر كثير من وجوه الشبه بينهما - دون رغبة في التشابه منهما،ولا قصد مني للاستيعاب - وبعد الإشارة إلى أنه لا يلزم من ذلك نفي إخلاص الكثير من الطائفتين،إلا أن الإخلاص وحده لا يكفي،فلابد من صحة الاتباع ، وسلامة الطريق ، كما لا يلزم من ذلك أنهم ليس لهم جهود أخرى نافعة،إلا أن هذا لا يُسَوِّغُ السكوت عن أخطائهم .
وليس تحذيري من أخطائهم ؛ مُسَوِّغاً لادِّعاء ما ليس فيهم ، أو قلْب حقهم باطلاً، وحسنتهم سيئة ؛ فإن هذا كله ينافي العدل الذي أُمِرْنا به ، كما أن ماعندهم من جوانب صحيحة ؛ لايُسوِّغ التقليل من خطورة مناهجهم التي يسيرون عليها ، فالإنصاف عزيز ، وأهله قلة (وقليل ماهم ) .
واعلم أنه لا يلزم من ذلك أن المخالفين جميعاً على درجة واحدة في كل ما سأذكره عنهم أو غيره،ولاشك أن لكل حال حكماً ،فبعض الأحوال تجعل صاحبها من أهل الأهواء ، وبعضها يكون المرء مخطئاً فيما ذهب إليه ، ويُخشى عليه إن تمادى به هذا الحال السئ ؛أن يلحق بركب أهل الأهواء .
ولما كان المقام مقام دفع فِكر مخالف للسنة – وإن تفاوتت درجاته - ؛ ذَكَرْتُ الكثير من مقالاتهم،دون عزو هذا القول أوذاك لفلان أوغيره ، فالمقام ليس مقام إثبات قول بعينه أو نفيه عن فلان أو غيره،إنما المراد بيان أقوال مخالفة ،وآثار هذه الأقوال في الصفوف،فاحتجت إلى حشد الكثير من هذه الأقوال،وإن تعدد أو تنافر القائلون ببعضها،وقد يُنكر بعضهم أن هذا القول أو ذاك من أقوالهم ، وهذا نفي بمجرد علمه فقط، ومن علم حجة على من لايعلم ( وفوق كل ذي علمٍ عليم )والله تعالى أعلم وأحكم .
وبعد هذا كله؛فهناك عدة أمور أقدمها بين يدي موضوع هذا الكتاب - إن شاء الله تعالى -ومنها :
— الأول : أن الغلو بجميع صوره – وهو مجاوزة الحد الشرعي – مَنْهِيٌّ عنه ،لأنه تَقَدُّمٌ بين يدي الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،وقد نهى الله عزوجل عن ذلك،فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ) وما ذُمَّ الغلو إلا لأنه يؤدي إلى ظُلْمِ العبدِ نَفْسَهُ وغَيْره،وتضييع العبد بعضَ ما أوجبه الله عليه،وقد يكون ما ضيَّعه أوجب مما غلا فيه،والغلو سبب في الانقطاع عن العمل،وصَدٌّ عن سبيل الله،وتنفير للناس عن الدين ،وتشويه لسماحة الإسلام وجماله،وطَىٌّ لفراش شمولية هذا الدين !!!
وقد وردت أدلة متنوعة في ذم الغلو ،فمن ذلك :
أ – ما جاء في النهي عن الغلو صراحة،كما في قوله تعالى :( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قومٍ قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ) وقال تعالى : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ) وقال سبحانه : ( فاستقم كما أُمرتَ ومن تاب معك ولا تطغوا ) .
ب – وقوله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والغلو في الدين " (1) .
وقال أيضاً :" هلك المتنطعون ، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون " (2) فهذه نصوص صريحة في ذم الغلو .
جـ - ومنها ما جاء في الحضِّ على التيسير، ورَفْعِ الحرج والعَنَتِ ،والحثِّ على الرفق ،وذم العنف - وفي هذا ذم للغلو والتنطع أيضاً - ومن ذلك قوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) وقوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وقوله تعالى :( يريد الله أن يخفف عنكم ) فكل صور الغلو لا يريدها الله عزوجل،لأنها عُسر،وليست بيُسر ولا تخفيف .
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " بُعِثْتُ بالحنيفية السمحة " (3).
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " إن هذا الدين يُسْر،ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه ،فسددوا ،وقاربوا ....."الحديث (4)، وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " إن الله رفيق يحب الرفق ،ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف " (5) وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " إن الرفق لا يكون في شيء؛إلا زانه،ولا يُنْـزَع من شيء ؛إلا شانه " (6) وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" من حُرم الرفق؛حُرم الخير "(7) وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" إذا أراد الله بأهل بيت خيراً،أدخل عليهم الرفق "(8) .
د – ومنها الأمر بالتوسط وعدم الإفراط أو التفريط :فأهل الإسلام وسط بين الملل، وأهل السنة وسط بين الفرق والنِّحل،قال تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) فلا تُعْتَمد إلا شهادة العدل الوسط ، وهذه صفة للأمة المسلمة ، فمن غلا ؛ شابه اليهود ، ومن جفا ؛ شابه النصارى ،فنعوذ بالله من المغضوب عليهم ومن الضالين .
وقد نهى الله عز وجل عن الانحراف عن الجادة في كل شيء،حتى في الأكل والشرب،فقال سبحانه : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) وقال تعالى في شأن النفقة : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) وقال سبحانه : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً ).
ولم يرخص رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في رمي الجمرات بالكبير من الحجارة ، وعدَّه غُلوّا ، ولم يُرخِّص لعبد الله بن عَمرو في اشتغاله عن أهله بالعبادة، وحَثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزم على الصيام أبداً ،وكذا من عزم على تَرْك النوم،وتَرْك النكاح،على التوسط في الأمر،ثم قال لهم : " من رغب عن سنتي؛فليس مني " (9) فلم يرخص في مجاوزة الحد حتى في العبادة والزهد،فكيف بمن يتجاوز الحد؛ فيستحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم،أو يجر على الدعوة شراً ؟!! وقد قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) وقال سبحانه : ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) .
— الأمر الثاني : أن الغلو أو البغي في هذا الزمان : قد وقع من بعض المنتسبين للأديان كلها، كما وقع من اللادينيين أيضاً، فمحاولة ربط الغلو والبغي بالمنتسبين للإسلام فقط ؛ محاولة ماكرة ، ويدفعها الواقع العملي العالمي : فما يقع للمسلمين في فلسطين من تدمير وتخريب ، وحرقٍ وتشريد ، وإبادة وتهويد ؛ أليس من العدوان والبغي في الأرض بغير الحق ؟!!
وما جرى من الصِّرْب ، ونصارى الفلبين ، والوثنيين في الهند وغير ذلك ضد المسلمين ؛ أليس من الجور والظلم،والتسلط على عباد الله ؟!!
وضَرْب المدن والشعوب – قديماً وحديثاً - بالأسلحة الفتاكة والمدمرة الشاملة ؛ أليس من الظلم المبين،والبغي الأليم ؟!!
ومع أن ما يجري من بعض أفراد المسلمين،من تفجير وفساد – على نكارته وفُحْشِه ، ونُشْهِد الله على إنكاره - إلا أن هذا الفساد ما جرى إلا من آحاد وطوائف قليلة في الأمة،شذَّت – بتأويلات خاطئة،وتعبئة فاسدة - عن سواء السبيل،وأما كبار العلماء ومن تبعهم من الدعاة وطلاب العلم - وهم المرجع الموثوق به عند الكثير من الأمة - وكذا جمهور المسلمين وعامتهم ؛ فلا يرضون بهذا : إما لأنه اعتداء على حق مسلم معصوم الدم والمال والعرض،أو لأنه اعتداء على غير مسلم له عهد وأمان ، أولأنه اعتداء على غير مسلم ليس له أمان؛إلا أنه لا يؤاخذ بجريرة غيره،أو لأن هذا الفساد لا ينكأ عدواً،ولا يقتل صيداً- وإن كان ضد محارب بعينه- إنما يجرّ على المسلمين الويلات والشرور التي لاطاقة لهم بها ، فيشرع عندئذ الصبر واتخاذ الوسائل الشرعية،التي سيأتي ذكرها بمشيئة الله،والله تعالى أعلم .
ومع أن ما يجري من هذه الطوائف المسلمة الضعيفة في العدد والعتاد ؛يُقابَلُ ببغي وغطرسة من دول منظمة،تملك الطاقات الهائلة من الأسلحة والموارد،وتملك إعلاماً قادراً على تشويه الأمور،وقلب الحقائق !! ومع أن بغيها ليس على أفراد قلائل - وإن كان البغي لا يجوز أصلاً - بل تظلم شعوباً كاملة ،وتغير دولاً وأنظمة – حقاً كانت أو باطلة -؛إلا أن هذا كله لا يُتَعرض له إلا مِنْ طَرْف خَفي ، أو مع استحياء وخجل شديديْن،بل ربما عُدَّ ذلك منقبة وفخراً !!
وكأن الأمر كما قيل : قَتْلُ امرئ في غابة جريمة لا تُغْتَفر وقتلُ شعبٍ كاملٍ قضيةٌ فيها نظر
ويجب أن يُعلم أن هذه الأحوال الجائرة،سبب من أسباب فتنة التفجيرات والاغتيالات،فقوبل الباطل بالخطأ،ولو قوبل بالحق،لكان خيراً وأقوم .
— إن كلامي هذا لا يُسوِّغ الغلو من بعض المسلمين ،فالغلو محرم شرعاً وعرفاً وعقلاً، وقد سبق ذِكْر أدلة ذلك ، ولكن المراد بيان أن العلاج للغلو والفساد يجب أن يكون جذرياً وشاملاً بالطريقة الشرعية ، فلا يُدْفع الباطل إلا بالحق،كما قال تعالى :( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) ويقول الله سبحانه :(ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته)ولا نعالج الفساد بغلو آخر ؛ فتكون هناك رَدَّةُ فعل أخرى؛ فيتسع الخرق على الراقع من المخلصين الصادقين،والدعاة المؤْثِرين لمنهج أهل السنة والجماعة،أهل الاعتدال ،والعلم بالحق،والرحمة بالخلق،وإلا فنحن – معشر أهل السنة- وإن ظُلِمْنا ؛فلا نرد الظلم إلا بطريقة السلف الصالح،والنظر في قدرة المسلمين وضعفهم،وما تؤول إليه أمورهم – على تفاصيل في ذلك - وعلى كل حال: فحسبنا الله ونعم الوكيل على كل من ظلمنا،ونعوذ بالله من شره،وندفع به في نحره،والله عزوجل لا يَذِلُّ وليُّه،ولا يَعِزُّ عدوُّه، والله المستعان ، وعليه التكلان .
— الأمر الثالث : أرى أن يُعالَجَ هذا الفكر المخالف للسنة باعتدال وإنصاف – وإن كانت آثاره سيئة جداً على الأمة - فنحن مأمورون بالعدل ، كما في قوله تعالى : ( وإذا قلتم فاعدلوا ) وقوله عزوجل : ( ولايجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ولأن الاعتدال سهل الوصول إلى القلوب عند العقلاء – وإن كان من عدو - وإذا أنصفْتَ الخصم ؛ فقد فتحتَ له باب استقامة ،فتبرأ بذلك ذمتك ،وتسلم الأمة من شر هذا الفكر ،ويشرح الله صدر مخالفك إلى التراجع إلى الحق ، ومعلوم أن مقارعة الحجة بالحجة - مع الرفق في ذلك - ؛ خير من العكس – لاسيما والردود على هذا الفكر وحملته قد كثرت جداً ، وقد استفاضت في كشف عواره في عدة جوانب - .
وحرصاً على إيصال الحق بدلائله وبراهينه إلى كثير من الذين اغتروا بهذا الفكر وشبهاته ،ورغبة في إعانة كل من خُدِع ببعض الشبهات، وخشيةَ الإعراض من المخالفين عن سماع نصائح مشايخنا وكبار العلماء في هذه الأمة ؛ آثرت اختيار هذا الأسلوب - ما أمكن – في مناقشة هذا الفكر ومن تأثر به ، وبالله التوفيق .
ولايلزم من ذلك تركُ الأحكام الشرعية على كل من يستحق العقوبة شرعاً ، فهذا أمر آخر .
ولو تصورنا أن مِنْ هؤلاء الذين قد وقعوا في هذا الفكر المخالف للسنة بعضَ أبنائنا، أو إخواننا ، أو قرابتنا ؛ فكيف كنا سنعالج ما وقعوا فيه ؟!
إن العلماء يعاملون أبناء الأمة برحمة وعلم ، وأهل السنة هم أهل العلم بالحق والرحمة بالخلق ، والله عزوحل يقول : ( ربنا وسعت كل شئ رحمةً وعلما ) فلابد من العلم الشرعي الذي يحرر بدقة وأمانة ووضوح مقدار الانحراف عن الحق ، بدون إفراط أو تفريط ، ولابد من الحلم الذي تبرأ به الذمة ، وتنتفع به الأمة .
إن من الخطأ أن يُظَن أن الدعوة إلى فتح باب المناقشة العلمية ؛ تعني غض الطرف عن أحكام وآثار التفجيرات والاغتيالات، أو تمييع حُكْم من قام بشئ من ذلك !! إننا مأمورون بالقيام بأمر الله عزوجل من جميع جوانبه .
ولقد رأيت بعض من تظاهر بعلاج المشكلة ، فجانب الإنصاف في كيفية علاجه ، بل قد وقع في الكيد للدعاة إلى الله جميعاً ، واتخذ أعمال هؤلاء الشباب ذريعة لنفث سمومه ، وتشويه الدين وحملته جميعاً !!! كما يظهر ذلك من بعض المقالات في الصحف وغيرها !!
كما أن البعض الآخر قد سلك مسلكاً مقابلاً، ولم يعالج المشكلة من جميع جوانبها ، مما أدى إلى إعراض الكثير – حتى من الموافقين – عن الاستفادة من جهده في هذا الباب – وإن كان جهداً مشكوراً - !!
وبين هذين المسلكين مسالك أخرى ، ذات مراتب متفاوتة، والحق وسط بين طرفين ، ومقبول من كل أحد ،والباطل مردود على كل أحد – مع شكري لكل من سعى في بيان الحق ، والدفاع عن السنة والأئمة ، ودعائي بأن يهدي الله الجميع سواء السبيل - .
والمسلمون في كل مكان يعانون من آثار هذا الفكر – وسيأتي ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى - وعلاج هذا الفكر لا يكون بسلوك مسلك الإفراط أو التفريط ، فإن هذا أو ذاك يزيدان المخالف إصراراً على قوله ، ومن ثَم تزيد التضحيات والمصائب في الأمة !! وإنما يكون العلاج بإنصاف وتجرد - مع الوضوح والحزم – ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) والمرء لايبرئ نفسه من التقصير ، لكني أسأل الله الذي بيده قلوب العباد ، أن يمسك قلبي ويحفظه بسلامة الإيمان ، وصحة القصد ، واستقامة الحجج والبراهين ، وأن يدفع عني حظوظ نفسي الأمارة بالسوء ، وأن يجنبني سخطه وعقابه ، وشر عباده ، إنه على كل شيء قدير .
—الأمر الرابع : إن كتابي يعالج فتنة التفجيرات التي وقعت في عدة أقطار من العالم الإسلامي وغيره ،في هذه الأيام وغيرها – مع إدراكي التفاوت بين كثير من المجتمعات ،ودورها في أسباب وآثار وعلاج هذه الفتنة – .
وعلى ذلك : فليس كتابي خاصاً ببلد معين ،مقتصراً على أحوال أهله فقط، ولذلك فسأذكر ما حضرني من أسباب هذه الفتنة ، ومقالات الشباب وأدلتهم هنا وهناك وهنالك ، - وإن لم يوجد بعضها في بعض البلدان – حتى يكون العلاج عاماً نافعاً بمشيئة الله عزوجل ، وحتى لاتبقى قيمة الكتاب العلمية مرتبطة بأحداث بلد معين ،سائلاً المولى عزوجل أن يُذهب جميع الفتن عن المسلمين في كل مكان.
— الأمر الخامس :كنت قد قاربت على الانتهاء من هذا الكتاب ،وقبل المراجعة الأولى؛أُتي لي بكتاب:" مشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر:الأسباب - الآثار - العلاج " للدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق - حفظه الله تعالى – وهو عبارة عن رسالة "دكتوراة " في ثلاث مجلدات،فعندما تصفحت الكتاب؛ رأيت فيه ما يجعله رحلة الطالبين ،وروضة الناظرين في التحذير من الغلو الذي وقع فيه الشباب،وهو حقاً موسوعة علمية زاخرة بالنقولات الشرعية والتاريخية في هذا الشأن،والله أعلم .
وقد استفدت من هذا الكتاب-وغيره- ومما قُدِّم له به، علماً بأنني لم أعرف المؤلف إلا من خلال كتابه، فجزى الله المؤلف وغيره خيراً ،وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" لا يشكر الله،من لا يشكر الناس "(10) .

وقد سميت كتابي هذا:" التفجيرات والاغتيالات : الأسباب ، والآثار ، والعلاج "،
سائلاً المولى عزوجل أن يكون كذلك وخيراً من ذلك،إنه على كل شيء قدير،وبالإجابة جدير،وهو حسبي ونعم الوكيل .
اضافة رد مع اقتباس
  #2  
قديم 27/08/2004, 06:49 AM
مشرف سابق بمنتدى الثقافة الإسلامية
تاريخ التسجيل: 15/12/2000
المكان: القصيم
مشاركات: 2,953
وقد جعلت هذا الكتاب – بعد المقدمة - من عدة فصول :
الفصل الأول : في نعمة الأمن وأهميتها وسبيل تحققها والحفاظ عليها .
الفصل الثاني : في أطوار ومراحل الفكر الذي أفضى إلى التفجيرات والاغتيالات .
الفصل الثالث:. في الآثار السيئة المترتبة على التفجيرات والاغتيالات .
الفصل الرابع : في أسباب فتنة التفجيرات والاغتيالات .
الفصل الخامس : في كيفية علاج فتنة التفجيرات والاغتيالات .
الفصل السادس : في شبهات المخالفين في ذلك والرد عليهم .
الفصل السابع: في ذِكْر جملة من فتاوى كبار علماء العصر في التحذير من الاغتيالات والتفجيرات.
ثم جَعَلْتُ له خاتمة،وفُهْرِسَتْ فهرسة تُقَرِّب ما بَعُد من فوائده ، وتَجْمَع ما تناثر من فرائده وشوارده .
والله المسئول أن يجعله مفتاح خير ، مغلاق شر ، ونوراً في الدنيا وفي ظلمة القبر ، وأماناً يوم العرض والحشر .
كما أسأل الله عزوجل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وسُلَّماً إلى الفوز بجنات النعيم ، وأن يجعله وقاية لي من شر الشيطان الرجيم ، وحزبه الأثيم ، وأن يدفع به عني وعن أهلي وذريتي ووالديَّ وإخواني ودعوتي موجبات سخطه ، وتحول عافيته ، وفجاءة نقمته ، إنه جواد كريم ، بر رحيم .


[ALIGN=CENTER]وكتبه
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
دار الحديث بمأرب 3/شوال/1424هـ.[/ALIGN]
اضافة رد مع اقتباس
  #3  
قديم 27/08/2004, 06:51 AM
مشرف سابق بمنتدى الثقافة الإسلامية
تاريخ التسجيل: 15/12/2000
المكان: القصيم
مشاركات: 2,953
[ALIGN=CENTER]{الفصل الأول}
( في نعمة الأمن وأهميتها وسبيل تحققها والحفاظ عليها )[/ALIGN]


— إن الأمن والاستقرار نعمةٌ عظيمٌ نفعها ،كريمٌ مآلها،وهي مظلة يستظل بها الجميع مِنْ حَرِّ الفتن والتهارج،وهذه النعمة يتمتع بها الحاكم والمحكوم ،والغني والفقير ،والرجال والنساء ،بل البهائم تطمئن مع الأمن،وتُذْعَر وتُعطَّل مع الخوف واضطراب الأوضاع،وتهارج الهمج الرعاع،فنعوذ بالله من الفتن التي تُعْمِي الأبصار، وتُصِمُّ الأسماع .
وبالله ثم بالأمن يُحَجُّ البيتُ العتيق ، وتُعْمر المساجد ، ويُرفع الأذان من فوق المنارات ، و يَأْمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ،وتأمن السبُل،وتُرَدُّ المظالم لأهلها،فيُنتصر للمظلوم،ويُردع الظالم،وتقام الشعائر،ويرتفع شأن التوحيد من فوق المنابر ،ويجلس العلماء للإفادة،ويرحل الطلاب للاستفادة،وتُحرَّرُ المسائل،وتُعْرف الدلائل،ويزار المرضى ،ويُحترم الموتى،ويُرْحم الصغير ويُدَلَّل ،ويُحْترم الكبير ويُبَجَّل ،وتُوصَل الأرحام،وتُعْرف الأحكام،ويُؤمر بالمعروف،ويُنهى عن المنكر،ويُكرَّم الكريم،ويُعاقب اللئيم ،وعلى كل حال : فبالأمن استقامة أمر الدنيا والآخرة،وصلاح المعاش والمعاد،والحال والمآل،وصدق الله عز وجل القائل : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) فنسأل الله عز وجل ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ،ونعوذ به من حلول نقمته ،وتحوُّل عافيته،وجميع سخطه،إنه جواد كريم،بررحيم .
— ولما كان الأمن بهذه المثابة العظيمة؛امتن الله سبحانه وتعالى به على قريش ،التي قابلت النعم الكبار بالإباء والإستكبار !!
وما كان الله عز وجل ليمتن ـ وهو الجواد الكريم ـ بما ليس بمنة ولا نعمة،فقد قال سبحانه : ( لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف ) وقال سبحانه : ( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويُتخطّف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ) .
وقد جاء عند الترمذي (11) من حديث عبدالله بن محصن الخَطْمى– رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال :" من أصبح آمناً في سِرْبه،معافىً في جسده،عنده قوت يومه؛فكأنما حيزتْ له الدنيا بحذافيرها " (12) .
وقد قال صاحب فضيلة الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - : " . . . . فلا شك أن توفر الأمن مطلب ضروري، الإنسانية أحوج إليه من حاجتها إلى الطعام والشراب، ولذا قدمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعائه على الرزق، فقال: ] وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ [البقرة: 126] لأن الناس لا يهنأون بالطعام والشراب مع وجود الخوف، ولأن الخوف تنقطع معه السبل التي بواسطتها تُنقل الأرزاق من بلد لآخر، ولذلك رتب الله على قطاع الطرق أشد العقوبات . . . . وجاء الإسلام بحفظ الضروريات الخمس ، وهي : الدين ، والنفس ، والعقل ، والعرض ، والمال ، ورتب حدوداً صارمة في حق من يعتدي على هذه الضروريات ،سواءً كانت هذه الضروريات لمسلمين أو لمعاهدين ، فالكافر المعاهَد له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم، قال النبي e ٍ: " من قتل معاهَداً؛ لم يرح رائحة الجنة " . . . . والذين يعتدون على الأمن : إما أن يكونوا خوراج ، أو قطاع طرق ، أو بغاة ، وكل من هذه الأصناف الثلاثة يُتَّخَذ معه الإجراء الصارم ، الذي يوقفه عند حده ويكف شره عن المسلمين والمستأمنين وأهل الذمة . . . . " اهـ نقلاً من "الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية " ط / الثانية ( ص 125 – 127 ) ، جمع محمد بن فهد الحصيّن .
— فيجب على كل عاقل ،أن يحافظ على سلامة أمن البلاد،وذلك بالحفاظ على العقيدة الصحيحة أولاً ، لقوله سبحانه وتعالى (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) وأن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحكمة وموعظة حسنة،وأن يحرص على طاعة ربه ،فإن ذلك جالب لعز الدنيا والآخرة،فالله عزوجل يقول :(ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا وإذاً لآتيناهم من لدنّا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً).
وليعلم المرء أن الإعراض عن أمر الله ؛ سبب في زوال نعمة الأمن ، وحلول الخوف والفزع، قال تعالى :(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) الآية.
وقال سبحانه :(ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) ويقول سبحانه :(ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور).
ويجب أن يشعر كل منا-كل بحسبه- أنه مسئول بين يدي الله عز وجل عن أي إخلال بالأمن من جهته ،أو إثارة للفتنة بقول أو عمل ، وأن يُنكر على كل من أخل بأمن المسلمين – على أن يكون إنكاره عليه مقيداً بالضوابط الشرعية - فإن من أخل بأمنهم ؛ فقد أخل بدينهم ودنياهم ، والناس في هذه الدنيا كقوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فأراد الذين هم في أسفلها أن يخرقوا خرقاً في سهمهم ، ليستريحوا ويريحوا !! فلو تركهم من هم في أعلاها ؛ غرقوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم ؛ نجوا جميعاً، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم .
فالواجب علينا :أن لا نجامل ولا نبالغ في حُسن الظن بمن يفسد أمن البلاد،ومن يفتح على المسلمين أبواب الفتن ، ولو كان قصده حسناً ،فالمقصد الحسن وحده لا يكفي ، بل لا بد من الاتباع الصحيح ، والحفاظ على مقاصد الشريعة وبقايا الخير،فالعبرة بما تؤول إليه الأمور ، والله أعلم .
واعلم أنه يجب على كل عاقل ـ عالماً كان أم عامياً ـ أن يصبر على الظلم والجور من ولاة الأمور،وأن يلزم منهج السلف في هذا الباب؛ حتى لا يكون من الذين خَلَفوا نبينا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أمته بسفك الدماء ، وإزهاق الأنفس ، وهتك الأعراض ،ونهب الأموال ،كما يجب علينا أن نعتبر بما جرى لعدة دول ، وليكن في ما جرى في الصومال – مثلاً – عظة وعبْرة لنا ، فإنهم قاموا على حاكمهم الذي قد شاع وذاع شره ، فما الذي جرى بعد ذلك حتى الآن ؟!! فنسأل الله أن يجعلنا مفاتيح الخير،مغاليق الشر ،وأن يصرف عنا وعن المسلمين الموبقات والمرديات .
— ومعلوم أن هذا الأمن لا يتحقق إلا بدولة قوية،تحكم الناس وتسوسهم إلى ما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد،ومعلوم - أيضاً - أن الدولة لا تنهض بهذه المهمة العظيمة؛ إلا بأمور، منها : السمع والطاعة من الرعية لولاة الأمور في المعروف ،والصبر على الجور والظلم – عند وجود المنكرات - والنصح بالتي هي أحسن ،وتقدير المصالح والمفاسد المترتبة على أي تصرف ،مع مراعاة طريقة وحكمة السلف،لا حماسة وطيش بعض الخلف !!!
ولذلك فقد جاءت الأدلة على هذا الأمر ، فمن ذلك :
قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ) .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لولاة الأمور ـ وإن جاروا ـ : فقد جاء عند مسلم (13) أن سلمة بن يزيد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ،فقال : يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء،يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا ،فما تأمرنا ؟ فأَعْرض عنه،ثم سأله ،فأَعْرض عنه،ثم سأله في الثانية أو الثالثة ،فجذبه الأشعث بن قيس،فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا ،وعليكم ما حُمِّلْتم "،وفي البخاري(14) ومسلم(15) من حديث ابن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" إنكم سترون أثَرة،وأموراً تُنكرونها " قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال :" أدّوا إليهم حقهم،وسلوا الله حقكم ". وعند مسلم (16) من حديث حذيفة في ذكر فتنة آخر الزمان،قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" .... يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي،ولا يستنون بسنتي،وسيقوم فيهم رجال،قلوبهم قلوب الشياطين،في جثمان إنس " قال : قلتُ: كيف أصنع يا رسول الله ؛ إن أدركت ذلك؟ قال : " تسمع وتطيع للأمير،وإن ضرب ظهرك،وأخذ مالك،فاسمع وأطع ".
فتأمل هذه الأدلة الصريحة في طاعة ولاة الأمور في المعروف ، والصبر على أذاهم ، وإن كانت قلوبهم قلوب الشياطين ، وإن وُجِدت منهم الأَثَرة والأمورُ المنكرة ، وإن ضربوا الظهر ، وأخذوا المال ، وإن لم يعطوا الرعية حقهم ، وألزموهم بحقهم ، كل هذا للحفاظ على الأمن وبقايا الخير ، لأن الخروج على الحكام يُعمي الأعور، ويهلك الحرث والنسل.
وتأمل إعراض النبي صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين عن الجواب على سؤال سلمة ابن يزيد الجعفي :" أرأيت إن قامت علينا أمراء ، يسألوننا حقهم،ويمنعوننا حقنا ، فما تأمرنا ؟ " ، وتأمل جوابه في حق أمراء قلوبهم قلوب الذئاب ، في جثمان إنس ، وجوابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حق من ضرب الظهر ، وأخذ المال ، ولو أن أحداً من كبار العلماء اليوم ، سُئِلَ هذا السؤال ، فأعرض عن الجواب- إتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولزوماً لهدْي السلف - ؛ لقال فيه كثير من الشباب : جبان ، ولا يستطيع أن يقول كلمة الحق ، وعميل ، ولا يوثق به ، ولا يُرْجَع إليه!! فنعوذ بالله من تصدُّر الحدثاء ، والجرأة على العلماء !!!
ولقد امتثل أبو ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ هذه الأوامر النبوية ، ولم يكن مفتاح فتنة - مع غيرته،وصِدْق لهجته،وصَدْعه بالحق رضي الله عنه - فقد جاء في " السنة " لابن أبي عاصم (17) من طريق معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما - قال : لما خرج أبو ذر إلى " الرَّبَذَة " ؛لقيه رَكْبٌ من أهل العراق،فقالوا: يا أبا ذر،قد بلغنا الذي صُنِع بك،فاعقد لواءً ؛يأتيك رجالٌ ما شئت،قال: مَهْلاً مَهْلاً يا أهل الإسلام،فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول : " سيكون بَعْدي سلطان،فأعِزّوه،من التمس ذُلَّه؛ ثَغَر ثغرة ً في الإسلام ،ولا يُقبلُ منه توبة؛ حتى يعيدها كما كانت "(18).
فهذا أبو ذر الصادع بالحق،الزاهد الورع،الذي لم يقبل أي تغيير لما عهده أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لم يرض أن يُسْتَدْرَج لإذلال السلطان،مع وجود ما يكرهه من المخالفات عند كثير من الناس،ومع توفر الأَتْباع – لو أرادهم - ولكن الأمر أعظم من ذلك عند من يفهم الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة،كل هذا من أجل الحفاظ على بقايا الخير ،واستمرار الأمن والهدوء ،لأن حق الله عز وجل وحق العباد لا يتأتَّيان على الوجه الصحيح؛إلا مع الأمن ،ولا أمن إلا بحكومة قوية ، ولا قوة إلا بسمع وطاعة في المعروف ، مع نصح وصبر عند وجود المنكرات والظلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله - كما في " مجموع الفتاوى "(28/390-391)- : " يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس؛من أعظم واجبات الدين،بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها ،فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع ،لحاجة بعضهم إلى بعض ،ولا بد عند الاجتماع مِنْ رَأْسٍ،حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا خرج ثلاثة في سفر؛ فليؤمِّروا أحدهم " رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة ...... فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر،تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع،ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة،وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجُمَع والأعياد ،ونصر المظلوم،وإقامة الحدود ، لا تتم إلا بقوة وإمارة ،ولهذا رُوِي: أن السلطان ظل الله في الأرض ،ويقال : ستون سنة من إمامٍ جائر؛أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان ،والتجربة تبين ذلك .
قال : ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون : لو كان لنا دعوة مجابة ؛لدعونا بها للسلطان،وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله يرضى لكم ثلاثاً:أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً،وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا ،وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" رواه مسلم .
وقال :" ثلاث لا يُغَل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله،ومناصحة ولاة الأمور ،ولزوم جماعة المسلمين ،فإن دعوتهم تحيط مَنْ وراءهم" رواه أهل السنن،وفي " الصحيح " عنه أنه قال :" الدين النصيحة ،الدين النصيحة ،الدين النصيحة " قالوا : لمن يا رسول الله ؟قال : " لله ،ولكتابه ، ولرسوله،ولأئمة المسلمين وعامتهم " .
قال :فالواجب اتخاذ الإمارة دِيناً وقُربة يُتَقَرّب بها إلى الله؛فإن التقرب إليه بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات،وإنما يَفْسُد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة والمال بها ..." اهـ .
وفي ( 28/64-65) قال : " ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة الأمور عليهم ،وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها،وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل ،وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى ..." ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة- رضي الله عنهما- كما سبق،ثم قال : " فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يُوَلَّى أحدهم ؛ كان تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك ، ولهذا كانت الولاية لمن يتحذها ديناًُ يتقرب به إلى الله ،ويفعل فيها الواجب ـ بحسب الامكان ـ من أفضل الأعمال الصالحة ..." اهـ .
فظهر من مجموع ذلك : أن الأمن نعمة للجميع،وأن ذلك لا يكون إلا بولاية وقوة،ولا يكون ذلك إلا بسمع وطاعة .
وقد رأينا بعض الشعوب الذين سقط حكامهم ،وضاعت دُوَلُهم ـ على عوجها وانحرافها -؛لم يعد لهم كرامة –كما كانت لهم من قبل- في كثير من البلدان،وتفرقوا شذر مدر في البلاد،وأُهين الكريم، وتنكّر لهم اللئيم، واحْتُقِر العزيز المنيع في بلده،وتقطعت الأرحام،وحيل بين الرجل ووالديه وذويه،ولذا يقال : شعب بلا حكومة ؛ شعب بلا كرامة،وسلطان غشوم؛خير من فتنة تدوم!!فهل يريد الشباب اليوم أن يكون المسلمون كذلك في كل بلد : بإثارة الفتن ، وزعزعة الأمن ، مما يُفضي إلى سقوط الحكام – وإن كانوا جائرين - ؟!! فنكون كمن أراد أن يُطبَّ زكاماً ؛ فأحدث جذاماً ؟!! أو كمن أراد أن يُطبَّ جذاماً ؛ فأهلك الأصحاء شيباً وشُبَّاناً؟!! فنعوذ بالله من كيد الكائدين ،وعبث العابثين !!!
ألا يعتبر الشباب بما جرى في عدد من الدول ، عندما أسقطوا حكامهم – وهم شر مستطير – فقد انتشرت الفتنة في كل بيت ، وزاد البلاء واستفحل ، وأنهم يتمنون رجوع الأيام السابقة – على ما فيها – بعد أن جرَّبوا الفوضى ، ولكن هيهات هيهات ، وقد قُتل وجُرح الملايين من الناس ، وهُدِّمت البيوت والمساجد ، وانتُهِكت الحرمات ، وسُلبت الأموال ، وقُطعت الطرق ، والله المستعان . !!
إن أهل السنة لا يدافعون بذلك عن الدول الظالمة حُبّاً في ظلمهم ، أو ركوناً لدنياهم !! فهم من أبعد الناس عن ذلك ، وهم أقل الناس حظاً مما في يد الحكام ، ولكن ينكرون الفتنة وما يُفضي إليها: اتباعاً لمنهج السلف، وحفاظاً على ما بقي من خير ، وصيانة للدماء من السفك ، وللحرمات من الانتهاك ، وإن كانوا يتألمون لوجود المنكرات،ولا ينكرون وجودها ، ولا يبالغون في الاعتذار لأهلها ، وينصحون ما أمكن بالحذر من مَغبة الذنوب ، ويدعون الله عزوجل باختيار الأصلح للإسلام والمسلمين .
ثم لو سلمنا أنكم – أيها الشباب - قد أسقطتم الدولة الفلانية ،ونجحتم في ذلك - مع أن هذا لا يكون إلا بإهلاك الحرث والنسل - والمسلمون على هذا الحال من الضعف ، فهل سيترككم أعداء الإسلام وشأنكم ؟!! أم سيجعلونها حرباً أهلية بينكم وبين طوائف الشعب الذين يصدق على كثير منهم قوله تعالى:( تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى )،ثم يتدخل الأعداء – بعد الخراب ، والدمار كما تدخلوا في كثير من البلدان -،فتكون الجماجم والأشلاء من المسلمين- منكم وممن حاربكم- ثم تكون الثمرة لغيرنا، والأمر كما قيل : نحن نمسك برأس البقرة وقرنيها ، وأعداء الإسلام يحلبونها !!! فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وقد قيل : على كتفيْه يبلغ المجدَ غيرُه فهل هو إلا للتسلق سُلَّم
(تنبيه) : إن من العجب : أن ترى بعض الجماعات تستدل بالكلام السابق لشيخ الإسلام، على وجوب بيعة أميرها ، ولزوم الانضواء في حزبها ، وضرورة الانتماء لرايتها وشعاراتها !!! هذا وكثير من أمرائهم مستضعفون مجهولون ، لا يكاد يَعْلَم بهم إلا من يثق به!! ومع ذلك فلا يرون السمع والطاعة في المعروف للملوك والرؤساء الممكَّنين بالاختيار أو بالغلبة أو الشوكة في جميع البلدان !!! - وإن كان بعضهم في الكلام عنه تفصيل – مع أن الطاعة لا تكون إلا لممكَّن معلوم ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - الذي تستدلون بكلامه السابق على صحة بيعاتكم - في" منهاج السنة "(19)، في سياق رده على الروافض في دعوى المهدوية: "الوجه التاسع : وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين ، الذين لهم سلطان ، يقدرون على سياسة الناس ، لا بطاعة معدوم ولا مجهول ، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شي أصلاً ....."أهـ
فتأمل هذا ، واحمد الله على العافية !!!
لكن قد يقول قائل : هذه النصوص السابقة في السمع والطاعة في المعروف ، والصبر على الأذى ؛ كلها حق،ولكنها تُنـزَّل على الأئمة المسلمين،الذين عندهم جور وظلم على أسوأ الاحتمالات،أما جميع حكام زماننا فكفار،ومن هنا فلا سمع لهم ولا حُرمة،وتعيَّن الخروج عليهم لإزالتهم !!
والجواب: أننا لا نسلم بهذا الإطلاق ،ولهذا تفصيل طويل الذيل ، ليس هذا موضعه ،وأسأل الله أن يوفقني لإتمام ما شرعت فيه بهذا الصدد، وأن يدفع عني الشواغل والمشاكل ، والعلائق والعوائق التي تحول بيني وبين الخير كله ، ظاهره وباطنه ، ما علمتُ منه وما لم أعلم .
لكن لو سلمنا - بما قالوه؛ فهل يلزم من ذلك إثارة الفتن ،وفتح أبواب الشغب المفضي إلى محق ما بقي من خيرٍ في المجتمعات ؟!! فكُفْر الحاكم شئ ، وجرّ الفتن على البلاد والعباد شئ آخر!!
فهل إثارة الفتن هي التي تجعل الحاكم الكافر مسلماً،والفاجر منهم تقياً؟وهل اندلاع نار الفتن المفضية إلى إهلاك الحرث والنسل،وزيادة المظلوم ظلماً،والفاجر فجوراً؛هو الذي يقيم شعائر الدين ،ويُذِلُّ العصاة والكافرين ؟ وهل عقوبة الفاسق أو الكافر ـ شرعاً - تكون بهذه الطريقة ؟!! وهل استفدنا خلال عقود من الزمان- أكثر من نصف قرن- من هذه الأفعال في عدد من البلدان ، فَقَلَّ بها الشر أو زال؟!!
إن الناظر بعين العدل والتجرد؛يجد أن هذه الأمور ما جَرَّتْ على المسلمين إلا شراً، فزادت الكادح كدحاً ، والمظلوم ظلماً، والمنكر فُحْشاً، بل نجد بعض المسلمين في بعض البلدان يتمنون دخول اليهود والنصارى ، ليوقفوا الحرب الأهلية بينهم، أو يستعينوا بهم على إخوانهم وأبناء جلدتهم!!
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -(21)، في سياق تمثيله لقاعدة تغيير الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال : " ....... المثال الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله ، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه،وأبغض إلى الله ورسوله ؛ فإنه لا يسوغ إنكاره – وإن كان الله يُبغضه ويمقت أهله – وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم ، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر ، وقد استأذن الصحابةُ رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها ، وقالوا : أفلا نقاتلهم ؟ فقال :" لا ، ما أقاموا الصلاة ، " وقال :" من رأى من أميره ما يكره ؛ فلْيصبر ، ولا ينـزعنَّ يداً من طاعته " .
قال: ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار ؛ رآها من إضاعة هذا الأصل ، وعدم الصبر على المنكر ، فطلب إزالته ، فتولَّد منه ما هو أكبر منه ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ، ولا يستطيع تغييرها ، بل لما فتح الله مكة ، وصارت دار إسلام ؛عَزَم على تغيير البيت ورَدِّه على قواعد إبراهيم ، ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه ، من عدم احتمال قريش لذلك ، لقرب عهدهم بالإسلام ، وكونهم حديثي عهد بكفر ، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد ؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه ، كما وُجِد سواء ......" .
إلى أن قال :" وسمعت شيخ الإسلام – قدّس الله روحه ، ونوَّر ضريحه – يقول :مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر ، فأنكر عليهم مَنْ كان معي ؛ فأنكَرْتُ عليه ، وقلت له : إنما حرم الله الخمر ، لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس،وسَبْي الذرية، وأخْذ الأموال ،فَدَعْهُمْ " أهـ .
قلت : تأمل قول ابن القيم – رحمه الله - :" فقد كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات،ولا يستطيع تغييرها " ولا شك أن المراد بذلك عبادة الأصنام،وهذا كفر بواح لا إشكال فيه،ومع ذلك لم يغيره الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم -آنذاك- لضعف قدرة المسلمين على ذلك،ولما يترتب عليه من شرٍ وفتنة ،وهذا كله يدلك على أن تغيير المنكر مقيد بالقدرة والمصلحة،سواء كان ذلك في زمن حاكم فاسق،أو كافر كفراً لا خلاف فيه.
فالذين يرون الخروج لكفر حكام المسلمين جميعاً – عندهم – لم يراعوا ما اعتنى به السلف من النظر إلى القدرة والمصلحة،بل خالفوا النص الصريح : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) والاستطاعة الشرعية لا تكون كذلك إلا بإزالة المنكر بدون مفسدة مساوية أو راجحة،وذلك كله بتقدير أهل العلم والفهم
وقد قال الجويني في " غياث الأمم " ( ص 96 ) في سياق الكلام على من يقدر المصالح والمفاسد ، فقال : " ولا يكون ذلك لآحاد الرعية ، بل لأهل الحل والعقد " انظر رسالة " الخوارج والفكر المتجدد " ( ص 40 ) للشيخ عبدالمحسن العبيكان .
فلو سلمنا بإطلاق تكفير حكام المسلمين اليوم جميعاً – كما يرى هؤلاء المخالفون – فلا يلزم الخروج عليهم بالسلاح،لأن غاية الأمر أن يكون حال المسلمين اليوم كحال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندما كان يرى أكبر المنكرات وعبادة الأصنام بمكة؛ وهو صابر على ذلك،ومشتغل بأمر الدعوة،لا مجرد تكسير الأصنام فقط ،فلما حطمها من قلوبهم؛حطمها أمام أعينهم،وهم يحمدون الله ويشكرونه على نعمة الإسلام، فأين نحن من الحكمة النبوية ؟!!
فمن نظر في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه – رضي الله عنهم بمكة – وصبرهم على أهل مكة - ؛ ودعوتهم إياهم بالتي هي أحسن ؛ علم الفارق بين هذا وبين حال من خالف العلماء اليوم ، والله المستعان .
وكذلك موقف الإمام أحمد ممن أراد الخروج على الواثق ، مع قوله بخلق القرآن ، ودعوته إلى ذلك ، وامتحان الناس بذلك ، وإيذاء أهل السنة ، واتفاق العلماء على كفر هذه المقالة .
وكذلك موقف شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وغيره من علماء السنة من الحكام الباطنيين ، والحلوليين وغلاة المعطلة ، وغير ذلك ، والله أعلم .
ولذا فقد قال صاحب الفضيلة الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - : " . . . . وإذا فرضنا على التقدير البعيد : أن ولي الأمر كافر؛ فهل يعني ذلك أن نُغِير الناس عليه، حتى يحصل التمرد، والفوضى، والقتال؟! لا شك أنه خطأ، المصلحة التي تحصل غير مرجوة في هذا الطريق، المصلحة التي يريدها هذا؛ لا يمكن أن تحصل بهذا الطريق، بل يحصل في ذلك مفاسد عظيمة، لأنه - مثلاً - إذا قام طائفة من الناس على ولي الأمر في البلاد، وعند ولي الأمر من القوة والسلطة ما ليس عند هذا، ما الذي يكون؟ هل تغلب هذه الفئة القليلة؟ لا تغلب !! بل بالعكس : يحصل الشر والفوضى والفساد، ولا تستقيم الأمور، والإنسان يجب عليه أن ينظر أولاً بعين الشرع، ولا ينظر أيضًا إلى الشرع بعين عوراء، ينظر إلى النصوص من جهة دون الجهة الأخرى، بل يجب أن يجمع بين النصوص .
ثانيًا : ينظر أيضًا بعين العقل والحكمة، ما الذي يترتب على هذا الشيء ؟
لذلك نحن نرى مثل هذا المسلك، مسلكاً خاطئاً جدًا، وخطير، ولا يجوز للإنسان أن يؤيد مَنْ سَلَكه، بل يرفض هذا رفضًا باتًا، ونحن لا نتكلم على حكومة بعينها، ولكن نتكلم على سبيل العموم " اهـ ، نقلاً من " الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية " ( ص 86 – 87 ) .
وبعد تقرير أنه لايلزم من مجرد كُفر الحاكم : دعوة الناس للخروج عليه ، ومنابذته بالسلاح ؛ فاعلم أن الخروج على الحاكم المسلم – وإن ظلم – يجر إلى فساد عظيم ، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في " منهاج السنة " (1/391):" لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان ؛إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته " وقال – رحمه الله - في : (4/527-531) :" وقلَّ مَنْ خرج على إمام ذي سلطان؛إلا كان ما تولَّد على فعله من الشر؛أعظم مما تولد من الخير ،كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة،وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق،وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان،وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضاً،وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة،وأمثال هؤلاء .
قال : وغاية هؤلاء إما أن يَغْلِبُوا ،وإما أن يُغْلَبُوا ،ثم يزول ملكهم ،فلا يكون لهم عاقبة،فإن عبدالله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلْقاً كثيراً،وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور،وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم؛فهُزِموا وهُزِم أصحابهم،فلا أقاموا ديناً،ولا أبقوا دنيا،والله تعالى لا يأمر بأمر لا يصلح به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا،وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين،ومن أهل الجنة،فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم،ومع هذا لم يَحْمدُوا ما فعلوه من القتال ،وهم أعظم قدراً عند الله،وأحسن نية من غيرهم .
قال: وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خَلْق ،وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خَلْق من أهل العلم والدين،والله يغفر لهم كلهم .
قال : وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث : أين كنت يا عامر؟ قال:كنت حيث يقول الشاعر :
عَوَى الذُئب فاستأنسْتُ بالذئب إذْ عَوَى وصَوَّت إنسانٌ فكدت أطير
أصابتنا فتنة ؛لم نكن فيها بررة أتقياء،ولا فجرة أقوياء.
قال: وكان الحسن البصري يقول:إن الحجاج عذاب الله ،فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم،ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع؛فإن الله تعالى يقول: ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) ....... وكان أفاضل المسلمين ينهوْن عن الخروج في الفتنة،كما كان عبدالله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلى بن الحسين وغيرهما ينهوْن عام الحرة عن الخروج على يزيد،وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهوْن عن الخروج في فتنة ابن الأشعث،ولهذا استقر أمْر أهل السنة على تَرْكِ القتال في الفتنة،للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم،ويأمرون بالصبر على جَوْر الأئمة،وترْك قتالهم،وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين ...." إلى أن قال :" وهذا كله مما يبين أن ما أمر به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الصبر على جور الأئمة،وتَرْكِ قتالهم والخروج عليهم؛هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد،وأن من خالف ذلك متعمداً أو مخطئاً؛لم يحصل بفعله صلاح،بل فساد،ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الحسن بقوله :" إن ابني هذا سيد،وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين "،ولم يُثْنِ على أحد لا بقتال في فتنة،ولا بخروج على الأئمة،ولا نَزْع يدٍ من طاعة،ولا مفارقة للجماعة " اهـ .
فتأمل قول شيخ الإسلام :" ولم يُثْنِ على أحد لابقتال في فتنة .... الخ "؛ يظهر لك أن باب الخروج باب فتنة،فلا تكن من المتهورين فيه،حتى وإن كان الإمام الجائر من الأشرار الفجار ،لأن خروجك عليه لا يرجع – في الغالب – إلا بشر أكبر،وقد جاء في الفتح(20) قال ابن بطال:" وفي هذا الحديث – أيضاً – حجة لما تقدم من ترك القيام على السلطان - ولو جار- لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعْلَمَ أبا هريرة بأسماء هؤلاء،وأسماء آبائهم،ولم يأمرهم بالخروج عليهم - مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم - لكون الخروج أشد في الهلاك ، وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم،فاختار أخف المفسدتين،وأيسر الأمرين "اهـ .
وهذا يدلنا على أن هَدْي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ومنهج الصحابة – رضي الله عنهم – ليس فيه إشغال المسلمين بتتبع أخبار وأحوال الحكام ، وإشهار ذلك في الناس ، حتى يكون ذلك حديث الكبير والصغير ، والذكر والأنثى ، والصالح والطالح ، وإلا فلماذا لم يُخبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جميع الصحابة - كما أخبرهم بالصلاة والزكاة ونحوهما - بحال هؤلاء الغلمان الذين يكون هلاك الأمة على أيديهم ؟ وإذا كان إشهار ذلك في الناس هو الهدْي الصحيح ؛ فلماذا لم يبثه أبو هريرة في الناس ؟!! إن هذا كله ليدل على فقه السلف الذي يُغلق الأبواب أمام الفتن المفضية للخراب ، وأمام من لم يهتد بهديهم ؛ فإنه يرى ذلك جبناً وخذلاناً ، فإلى الله المشتكى .
وقال شارح "الطحاوية" ( 2/542 ):" وأما لزوم طاعتهم ـ وإن جاروا ـ فلأنه يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم ،بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور "اهـ.
وقال : المعلمي – رحمه الله - في " التنكيل"(22):"كان أبو حنيفة يستحب أو يوجب الخروج على خلفاء بني العباس ،لِمَا ظهر منهم من الظلم ، ويرى قتالهم خيراً من قتال الكفار ، وأبو إسحاق – يعني الفزاري- يُنكر ذلك ، وكان أهل العلم مختلفين في ذلك ، فمن كان يرى الخروج ؛ يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقيام بالحق ، ومن كان يكرهه،يرى أنه شق لعصا المسلمين ، وتفريق لكلمتهم ، وتشتيت لجماعتهم ، وتمزيق لوحدتهم ، وشُغل لهم بقتل بعضهم بعضاً ، فَتَهِنُ قوتهم ، وتقوى شوكة عدوهم ، وتتعطل ثغورهم ، فيستولي عليها الكفار، ويقتلون مَنْ فيها مِنَ المسلمين ، ويُذلونهم ، ويستحكم التنازع بين المسلمين ، فتكون نتيجته الفشل المخزي لهم جميعاً .
قال :وقد جَرَّبَ المسلمون الخروج؛فلم يروا منه إلا الشر ، خرج الناس على عثمان ، يرون أنهم إنما يريدون الحق،وخرج أهل الجمل ، يرى رؤساءهم ومعظمهم أنهم إنما يطلبون الحق ، فكانت ثمرة ذلك بعد اللُّتَيَّا والتي: أن انقطعت خلافة النبوة ، وتأسست دولة بني أمية ،ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه ، فكانت تلك المأساة ، ثم خرج أهل المدينة ، فكانت وقعة الحرة،ثم خرج القراء مع ابن الأشعث ، فماذا كان ؟!! ثم كانت قضية زيد بن علي، وعَرَضَ عليه الروافض أن ينصروه على أن يتبرأ من أبي بكر وعمر؛فأبَى ، فخذلوه،فكان ما كان ، ثم خرجوا مع بني العباس ، فنشأت دولتهم - التي رأى أبو حنيفة الخروج عليها -، واحتشد الروافض مع إبراهيم - الذي رآى أبو حنيفة الخروج معه - ولو كُتِبَ له نصر ؛ لاستولى الروافض على دولتهم ، فيعود أبو حنيفة يفتي بوجوب الخروج عليهم !!!
قال : هذا ، والنصوص التي يحتج بها المانعون من الخروج والمجيزون له معروفة ، والمحققون يجمعون بين ذلك : بأنه إذا غلب على الظن أن ما ينشأ عن الخروج من المفاسد أخف جداً مما يغلب على الظن أنه يندفع به ؛ جاز الخروج ،وإلا فلا ، وهذا النظر قد يختلف فيه المجتهدان ، وأولاهما بالصواب: من اعتبر بالتاريخ ، وكان كثير المخالطة للناس ، والمباشرة للحروب ، والمعرفة بأحوال الثغور ، وهكذا كان أبو إسحاق "أهـ.
قلت : وقد ذَكَرْتُ كلام المعلمي – رحمه الله تعالى – لأُبيِّن مفاسد الخروج على الولاة الظلمة،وأما الخلاف بين العلماء في أمر الخروج؛فهو خلاف قديم ،وقد استقر الأمر بعد ذلك على المنع منه، وصار عدم الخروج شعاراً لأهل السنة ، فذكروه في كتبهم المصنفة في ذكر عقيدتهم ، وعدُّوا المخالف لهم مبتدعاً من أهل الأهواء،فقد قال الإمام البخاري – رحمه الله تعالى – في عقيدته التي رواها عنه اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة "(23):" لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم:أهل الحجاز،ومكة،والمدينة،والكوفة،والبصرة،وواسط،وبغداد،والشام،ومصر،لقيتهم كرّاتٍ قرناً بعد قرْن،ثم قرناً بعد قرْن ،أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة: أهل الشام،ومصر،والجزيرة مرتين،والبصرة أربع مرات،في سنين ذوي عدد،بالحجاز ستة أعوام ، ولا أُحصي كم دخلت الكوفة،وبغداد،مع محدثي أهل خراسان …. " ثم ذكر أسماء بعضهم في عدد من البلدان،ثم قال :" واكتفينا بتسمية هؤلاء؛ كي يكون مختصراً،وأن لا يطول ذلك ،فما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء …." فذكر أموراً في العقيدة،ومن ذلك قوله:" وأن لا ننازع الأمر أهله …. وأن لا يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم،وقال الفضيل : لو كانت لي دعوة مستجابة ؛لم أجعلها إلا في إمام،لأنه إذا صلح الإمام؛أمِنَ البلاد والعباد،قال ابن المبارك : يا معلم الخير،من يجترئ على هذا غيرك ؟ " اهـ .
فتأمل هذا الإجماع المستقر الثابت الرافع للخلاف في هذه المسألة ،وتأمل قول ابن المبارك للفضيل،فلعله – والله أعلم - يشير إلى أن أهل الأهواء من عادتهم رمي أهل السنة بالجبن والضعف أمام الحكام ،ولذاك – والله أعلم - ربما سكت بعض أهل السنة عن التصريح أمامهم بالدعاء للإمام ،ولما سمع ابن المبارك هذا القول من الفضيل؛قال له : " …. من يجترئ على هذا غيرك " ؟!! مما يدل على قوة الفضيل في الصدع بما يعتقد ، وكم من عالم أو إمام يُنتقد عليه أنه يدعو لولي الأمر ، ويقال فيه - بدون وجه حق - :هو عميل ، أو متزلِّف ، أو جبان …إلخ فما على صاحب الحق إلا المضيّ فيه ، وإلى الله المشتكى ، وعليه التكلان !!
وقد ذكر اللالكائي أيضاً الإجماع عن غير واحد،فارجع إليه في المصدر السابق .
وقال الأشعري في " رسالة أهل الثغر "(24):" وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين،وعلى أن كل مَنْ ولي شيئاً من أمورهم عن رضىً أو غلبة ،وامتدت طاعته – من برٍ وفاجر – لا يلزم الخروج عليه بالسيف جارَ أو عَدَل ،وعلى أن يغزوا معه العدو ،ويحج معهم البيت،وتُدْفع إليهم الصدقات إذا طلبوها،ويُصلى خلفهم الجمع و الأعياد " اهـ
وهذا الإجماع موافق لما سبق،ولا حجة للمخالفين في ذكر الأشعري غزو الإمام العدوَّ،لأنه لا يلزم من ترك الغزو – وفيه تفاصيل - خلع اليد من الطاعة مطلقاً، والله أعلم .
وبنحو ذلك قال الصابوني في " عقيدة السلف أصحاب الحديث "(25):" ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم برّاً كان أو فاجراً،ويرون جهاد الكفار معهم،وإن كانوا جَوَرة فَجَرة،ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح،وبسط العدل في الرعية،ولا يرون الخروج عليهم بالسيف،وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف" اهـ
وقال الإسماعيلي في " اعتقاد أهل السنة "(26):" ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والعطف إلى العدل ،ولا يرون الخروج بالسيف عليهم "اهـ .
قال شيخ الإشلام ابن تيمية – رحمه الله – كما في " مجموع الفتاوى " (35/12) :" وأما أهل العلم والدين والفضل؛فلا يرخّصون لأحدٍ فيما نهى الله عنه:من معصية ولاة الأمور،وغشهم،والخروج عليهم بوجه من الوجوه،كما قد عُرِف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً،ومن سيرة غيرهم " اهـ .
ونقل الإمام ابن القيم في " حادي الأرواح " (27)،عن حرب صاحب أحمد في " مسائله " المشهورة،أنه قال :" هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الآثار ،وأهل السنة المتمسكين بها ،المقتدَى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى يومنا هذا،وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها،فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب،أو طعن فيها،أو عاب قائلها؛فهو مخالف مبتدع،خارج عن الجماعة،زائل عن منهج السنة وسبيل الحق .
قال: وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم وعبدالله بن مخلد وعبدالله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم،وكان من قولهم .... " فذكر أموراً،وفيها :" .....والانقياد لمن ولاه الله عزوجل أمركم ،ولا تنـزع يداً من طاعة،ولا تخرج عليه بسيف حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً ،ولا تخرج على السلطان ،وتسمع وتطيع،ولا تنكث بيعته،فمن فعل ذلك؛فهو مبتدع مخالف،ومفارق للجماعة ....." اهـ .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في"تهذيب التهذيب" (2/263) ترجمة الحسن بن صالح ابن حي ،أنه كان يرى السيف ، ثم قال : " وقولهم : كان يرى السيف، يعني : كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور ، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك ؛ لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه،ففي وقعة الحرة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عِظة لمن تدبر ....."إهـ .
وقد قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ –رحمه الله – كما في "الدرر السنية" ( 7/177-178) : " ....ولم يدر هؤلاء المفتونون أن أكثر ولاة أهل الإسلام ، من عهد يزيد بن معاوية – حاشا عمر بن عبد العزيز ومن شاء الله من بني أمية – قد وقع منهم من الجراءة والحوادث العظام والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام ، ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام ، والسادة العظام معهم ؛ معروفة مشهورة : لا ينـزعون يداً من طاعة فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام وواجبات الدين ......"اهـ انظر " معاملة الحكام " (ص 12) وغيرها للشيخ عبد السلام العبدالكريم –حفظه الله – .
فلو سلمنا ـ جدلاً ـ بأن جميع حكام المسلمين اليوم كفار ؛فإن ذلك لا يسوِّغ الخروج عليهم بالقتل والقتال - والمسلمون بهذا الحال - لما يؤول بهم الأمر إلى المفاسد التي تهلك الحرث والنسل،فكيف وهذا الإطلاق في الحكم جائر عن سواء الصراط ، وعن فتاوى الراسخين في العلم ، بل لابد من التفصيل ،والحكم بعدل وقسط ؟!!
وليس هذا إقراراً مني للمنكرات الموجودة في المجتمعات – فمعاذ الله من الضلالة بعد الهدى - ؛ إنما المراد : الحفاظ على ما أمكن من الخير ، ودرأ ما أمكن من المفاسد ، وقد قال صاحب الفضيلة الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله – في سياق ذم الخروج على الحكام الظلمة : " لأن في الخروج عليهم أشد مما هم واقعون فيه من الخطأ والخلل – يحصل مضرة أكبر من الصبر على أذاهم - الصبر على أذاهم مضرة بلا شك، ولكن ما يترتب على الخروج عليهم أشد من نقض عصا الطاعة، وتفريق كلمة المسلمين، وتسلط الكفار على المسلمين، هذا أشد من الصبر على ظلم الوالي الظالم أو الفاسق، الذي لم يصل إلى حد الكفر " انظر " الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية " ( ص 93 ) .
وقد سبق عن شيخ الإسلام – قريباً - :" وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يُرخِّصون لأحد فيما نهى الله عنه،من معصية ولاة الأمور،وغشهم،والخروج عليهم بوجه من الوجوه " اهـ .
فتأمل قوله :" والخروج عليهم بوجه من الوجوه " وذلك لما يؤول إليه الحال من الشر المستطير،وقد سبق – أيضاً –أنه ذكر ثناء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الحسن بسبب ما جرى من صلح على يديه،ثم قال شيخ الإسلام :" ولم يُثْنِ على أحد:لا بقتال في فتنة،ولا بخروج على الأئمة،ولا نزْع يدٍ من طاعة،ولا مفارقة للجماعة " اهـ .
واعلم بأن باب تكفير الحكام - ومن ثمَّ الخروج عليهم - لا يشتغل به طلاب العلم،بل لا بد من الرجوع فيه إلى أهل الاجتهاد والاستنباط ، ولأَنْ نترك قولنا لقولهم في مثل هذه المسائل ؛ خير لديننا ودنيانا ، ولأن نخطئ في العفو ؛ خير من أن نخطئ في العقوبة - لاسيما في أمر الحكام- ،وكم للدعوة والدعاة من سنوات – زادت عن المدة التي تاه فيها بنو إسرائيل- من الخبط والخلط والاضطراب والهرج ،بسبب ترك نصائح كبار أهل العلم ، والخوض في مسألة من أعظم المسائل، بدون هُدَىً ولا كتاب منير ، ولا اتعاظ بما جرى للأمة-سلفاً وخلفاً - من فساد عريض!!!
واعلم أننا لو سلمنا بكفر الحكام ؛ لكانت النظرة إلى القدرة على الخروج عليهم ، والنظرة في المصالح والمفاسد؛ أمراً متعيناً، فهاهي بلاد اليهود والنصارى،لا نُسوِّغ للمسلمين المقيمين بها أن يقوموا فيها بهذا الشغب،بل نُطالبهم بأن يكونوا دعاة إلى الله عز وجل ،متمسكين بدينهم الحنيف ـ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ـ وأن يتخلقوا بالأخلاق الحسنة،التي يأمر بها هذا الدين – فإن ذلك سبيل من سُبل الدعوة إلى الله - وألا يشوِّهوا صورة الإسلام بهذه الأفكار، وتلك المفاسد التي يحرمها ديننا،وتخالف نهج سلفنا،وحذَّر منها أئمتنا،فلم نُرخص بهذا الأمر في بلاد اليهود والنصارى وغيرهم –لما سبق، ولأنه ليس كل كافر يجب أن يحارَب في بلده ، فكيف في بلاد الإسلام ؟!!
وقد جاء في " سؤالات أبي داود لأحمد "( (64 / 1) : " سمعت أحمد سئل عن الأسير إذا أمكنه في بلاد العدو أن يقتل منهم ؟ قال : إذا عَلِم أنهم أمِنُوه على أنفسهم وأموالهم ؛ فلا يقتل منهم ، قيل : إنه مُطْلَق ؟ قال : قد يطلق لأمر ولا يأمنونه ، إذا علم أنهم أمنوه ؛ فلا يقتل " اهـ .
ولقد لقيت بعض هؤلاء الشباب في مدينة " لندن " سنة 1420هـ ، بعد أن دخل المسجد في أثناء محاضرة لي، وأصرّ على مناظرتي ، وقد حاولت الإعراض عنه وصَرْفه عن ذلك، فأبى وشغَّب ،فناقشته في بعض هذه الأفكار التي يدعو إليها ،ومما ذكره لي إجابة على سؤال مني: أنهم لا يقومون بعمليات اغتيالات أو تفجيرات في بلاد أوربا – والواقع حتى الآن يشهد بذلك في الغالب - لأن ذلك يجر عليهم المفاسد، ويجعلهم خائفين في آخر معقل لهم وجدوا فيه الأمان!!ويُشكر ذاك الرجل على تعقله في هذا الموضع ،لكن لماذا يقومون بهذه الفتن في بلاد الإسلام،وهي تجر مفاسد لا تُحمد عقباها أيضاً؟!! فهل درء المفاسد معتبر في بلاد أوربا وغيرها، وغير معتبر في المملكة العربية السعودية واليمن ومصر والشام والجزائر والمغرب والكويت والصومال وغير ذلك من بلاد الإسلام؟!!
وصدق من قال : قُلْنا ولم نفعل أمام عدونا وعلى أحبتنا نقول ونفعل
هذا ، والتفجيرات منكرة حيث كانت هنا أو هناك أو هنالك لما سبق ،والله أعلم .
ثم إن كثيراً من هؤلاء : ما الذي جعلهم يهاجرون من بلاد الإسلام ، ويأمنون في بلاد اليهود والنصارى وأهل الأوثان ؟!!
إن أفكارهم المخالفة لمنهج أهل السنة ، كانت سبباً من جملة الأسباب التي ضَيَّقت عليهم ، فلما غَلَوْا في تكفير الحكام ، ولم يلزموا منهج السلف وطريقة كبار أهل العلم من الخلف في ذلك ، واستباحوا الدم الحرام ؛ تعرضوا لفتن عظام ، بل عوملوا – في كثير من البلدان – بما يخالف عدل الشريعة الإسلامية ، وهذا شأن الفتن ، لا تُعَالَجُ – في كثير من الأحيان - إلا بفتن أشد منها ، ونُشْهد الله على كراهية ما يخالف الدين الحنيف منهم ومن غيرهم، لكن المقام مقام تفسير للواقع،وليس إقراراً لما هو واقع ، فتأمل.
أقول هذا،ومع ذلك فنحن لم نسلم – في حالات كثيرة – من ظلم بعض ذوي السلطان،ومن محاولة البعض إيذاء إخواننا الدعاة إلى الله تعالى وطلاب العلم،لكننا نسلك المسلك الشرعي في التعامل مع هذه المحن، طاعةً لله عزوجل ، ولزوماً لغرز الأئمة الأعلام ، وما أمْر طلاب دار الحديث بمأرب،وما جرى عليهم في شوال 1422هـ مِنْ ظُلم وعدوان وافتراء عن كثير من الناس ببعيد،فحسبنا الله ونعم الوكيل،ونسأل الله أن يجمع لنا بين الأجر والسلامة – فإن العافية أوسع لنا، وأستر لضعفنا - إنه على كل شيء قدير .
(تنبيه) : سيأتي –إن شاء الله تعالى- في الفصل السادس في رد الشبهات الجواب موسعاً على شبهة من ذهب للخروج على الحكام ، بعد تكفيره إياهم !!
( خاتمة هذا الفصل ) : يتلخص مما مضى : أن الأمن والاستقرار نعمة عظيمة ، يتمتع بها الجميع ، والحفاظ عليها – مع وجود مخالفات كثيرة في المجتمعات – مع النصح بالتي هي أحسن ؛ هَدْىُ السلف ، ومن سلك سبيلهم من أئمة الخلف ، وعلماء هذا العصر.
وأن هذه النعمة لا تتحقق إلا بدولة قوية - وإن كانت ظالمة - ولا تكون الدولة قوية ؛ إلا بطاعتها ربَّها ، وطاعة الأمة لها في طاعة الله عزوجل،وعند اختلال هذا الميزان من جهة الدولة المسلمة ، بأن تفرِّط في حق الله أو حق الرعية ؛ فلا بد من الصبر من الرعية مع النصح ، والاستمرار في الدعوة ، وإطفاء الفتن ، ونُصْح الذين يُهَيِّجون الدهماء على الملوك والرؤساء ، بأن يتركوا هذا المسلك الثوري الخارجي – وإن صلحت نياتهم - وأن يلزموا النهج العلمي السلفي الدعوي الإصلاحي ، فإن أعظم جهاد -الآن – جهاد الدعوة والبيان ، وقد قال الله تعالى في سورة الفرقان – وهي مكية قبل فرض القتال بالسيف- : (وجاهدهم به جهاداً كبيراً)،أي بالقرآن والدعوة إليه،لا بالقتال ،فتأمل .
وقد قال شيخ الإسلام – كما في " مجموع الفتاوى " ( 15 / 166 ) : " . . . وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمرٌ بالمعروف ، ونهي عن المنكر " اهـ .
وأيضاً : فالصبر عند الجور ، وتَرْك الفتن ؛ مما أجمع عليه السلف ، بعد خلاف قديم ، والعبرة بما استقر عليه الأمر مؤخراً ، حتى صار شعاراً لأهل السنة في كل عصر ومصر ، ولم يخالفهم فيه- بعد الإجماع- إلا أهل الأهواء .
وأيضاً : فإننا – معشر طلاب العلم - لا نرى الحكم على حاكم معين بالكفر ؛ إلا إذا ظهرت الأدلة على ذلك ، وسبقنا إلى هذا الحكم العلماء الراسخون ، ورُوعيتْ قواعد أهل السنة في تكفير المعيَّن ، ومن ذلك : استيفاء الشروط ، وانتفاء الموانع ؛ لأن هذه مسألة خطيرة ، وعواقبها – في الغالب – وخيمة، ولا يلزم كلَّ واحد منا أن يُدلي فيها بدلوه ، وأن يُحدِّد موقفه منها ، فإن تكفير فلان بعينه أو عدمه ؛ ليس من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة،وليس مما يلزم كل مكلف أن يحدد بجلاء : هل الحاكم مسلم أو كافر – إذا ارتكب أمراً مكفِّراْ ، كما يلزمه الإقرار بوجوب الصلاة وحرمة الزنا ، فإن هذا الأمر يلزم جميع المكلفين ، بخلاف الأول فإنه يخص العلماء المتأهلين .
واعلم أن الحكم على المعيَّن،والنظر في الشروط والموانع ضَرْبٌ من الاجتهاد،لا من مسائل الأصول والاعتقاد،وأن الخلاف في ذلك بين أهل العلم ؛ خلاف لا يوجب تضليلاً أو تفسيقاً أو تكفيراً ،والمختلفان في ذلك من أهل العلم مأجوران ، فالمصيب له أجران ، والمخطئ له أجر، ومغفور له خطؤه ، فلا تغتر بالتهويل !!
ونعوذ بالله أن نكون مفتاح شر على هذه الأمة،وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من تكفير أي مسلم – وإن صغر شأنه،وضعفت قوته – فكيف بتكفير من بيده الشوكة والقوة – دون إتيان لباب التكفير من بابه الشرعي ؟!!
كما لا يلزم من ذلك أن نَشْغَل أنفسنا أو غيرنا بالدفاع – بالباطل – عن أخطاء الحكام،وأن نتكلف ونتعسف في الاعتذار عن الأمر البيِّن الذي لامَدْفع له ، وكأننا نتأول الصدِّيق ، أو رجل من العلماء الأبدال !! بل ندعوا لهم بالهداية والصلاح ، ونحذِّرَهم – إن أمكن - من مغبة الذنوب، ومبارزة الله عزوجل بالمعاصي ، كما نحذِّر من المناهج التي يؤول أمرها إلى إثارة الفتن والفوضى، والله عزوجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ).
وعلى كل حال : فالحق وسط بين طرفين ، ونحن منهيُّون عن تحريف الكلم عن مواضعه ، ومنهيُّون عن الاشتغال بأخطاء الحكام ، وتهييج الناس عليهم ، وترك الصبر على ظلمهم ، ويشرع لنا الدعاء لهم بالهداية ، والصلاح ، وأن يُجري الله الخير على أيديهم للناس .
وقد يقول قائل : ماذا نفعل إذا اختلف العلماء الكبار في الحكم على حاكم فأكثر ؟ فالجواب : أن السكوت أسلم ، والإعراض عن الاشتغال بذلك أحكم ، ومن ترك الكلام في ذلك درءاً للمفاسد المترتبة عليه ؛ فهو محسن غير مسيء - وإن أخطأ - ومن خاض في ذلك ، وأشعل الفتن ، فهو مسيء - وإن ظن أنه يحسن صنعاً -!!!
وقد يبلغ الحاكم بمعتقداته وأعماله وأقواله درجة الكفر الأكبر ، لكن إظهار الطلابِ ذلك ،ونشره ،ودعوة الناس إلى العلم به ؛ لايأتي – في الغالب- إلا بما هو أكثر فساداً من شر هذا الحاكم ، فالسكوت عن ذلك ، وصَرْفُ الناس عن الاشتغال به في مجالسهم، ومساجدهم، ومنابرهم إلى ما هو أنفع وأصلح ؛ خير لهم في دينهم ودنياهم، ولزوم لمنهج سلفهم، مع حثهم على صِدْق اللجوء إلى الله تعالى ، والدعاء والتضرع إليه سبحانه ، بـأن يختار لهم الخير ، ويصرف عنهم الشر،وأن يصلح حاكمهم ويهديه إلى الحق ، ويرزقه البطانة الصالحة ، فإن في صلاحه صلاح البلاد والعباد، والله تعالى أعلم وأحكم .
اضافة رد مع اقتباس
  #4  
قديم 27/08/2004, 04:22 PM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 20/03/2004
المكان: ::: الــريــاض:::
مشاركات: 2,936
[ALIGN=CENTER]جزاك الله خير اخي الكريم على هالموضوع المهم جدا..الله يحفظ امن بلادنا من كل شر..ويهدي الضالين..والله ولي التوفيق...[/ALIGN]
اضافة رد مع اقتباس
  #5  
قديم 28/08/2004, 12:16 AM
مشرف سابق بمنتدى الثقافة الإسلامية
تاريخ التسجيل: 15/12/2000
المكان: القصيم
مشاركات: 2,953
{الفصل الثاني }
(في أطوار ومراحل الفكر الذي أفضى إلى التفجيرات والاغتيالات)

لا شك أن أي مشكلة تمر بعدة مراحل ،حتى تصل إلى العُقْدَة التي يصعب حلها ، والهوّة التي يعسر تجاوزها،ومشكلة التفجيرات والاغتيالات؛ ثمرة فِكْر مَرَّ بعدة مراحل ،ولا يمكن علاج هذه المشكلة علاجاً نافعاً؛إلا بمعرفة هذا الفكر في جميع مراحله،حتى تُعَالَج كلُّ مرحلة بما يناسبها شرعاً .
والحامل على كتابة هذا الفصل:أن بعض الذين لهم أفكار مخالفة لمنهج السلف في هذا الباب،والتي أَسْهَمَتْ بقوة في إيجاد هذه المشكلة التي تعاني الأمة اليوم من ويلاتها؛أصبحوا الآن – بين عشية وضحاها !!! - من جملة المنكرين على الشباب الذين قاموا بالتفجيرات والاغتيالات!!! دون أن يدركوا القَدْر الذي شاركوا به في إيجاد هذه المشكلة،ومن ثَمَّ لم يعلنوا تراجعهم عن أفكارهم السابقة،التي أنجبت هذا المولود المشئوم !!وعلى ذلك فلا نَأْمَن أن تعود المشكلة من جديد- وإن انتهت هذه المشكلة الآن - لأن أصل الداء لا زال موجوداً ولأن الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة الحنظلية ؛ لازال هناك من يتفقدها ، ويمدها بما يقوى من شأنها !!
أقول هذا ، وأعلم أن هناك من يغضب من هذه الحقيقة الواضحة، ويحب الغمغمة والغموض في الأمر !! إلا أني أقول هذا لله عزوجل ، وبراءة للذمة، ونصحاً للمسلمين ، وأُثبت ذلك بياناً للتاريخ ، أما رضا الناس فغاية لاتُدْرَك ، ومن أرضى الناس بسخط الله ؛ سخط الله عليه ، وأسخط عليه الناس ، ومَنْ عمل لله ؛ فلايضل ولايشقى ، والله المستعان .
وإنني إذْ أذكر هذه المراحل ؛ فلايهمني – في هذا المقام – إيقاع اللوم على من خالف ، أو تعنيفه على ذلك ، بقدر ما يهمني تبصيره بمقدار مشاركته في هذا الأمر ، لمخالفته منهج السلف في التربية – وإن كان لا يقر العنف الحاصل ، وإثارة الفتن الدموية الموجودة اليوم – والعاقل يستفيد من التجارب ، ويتعظ بما وقع لغيره، فكيف بما جرى على يديه ؟!
كما أن العاقل إذا رأى لازم قوله ، أو ما يؤول إليه كلامه ، ورأى عِظم البلية على الإسلام وأهله بذلك ؛ فإنه يسارع إلى التوبة ، وإصلاح ما بقي ، واستدراك ما فاته ، والله عزوجل يحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، ونعوذ بالله من أن نسن سنة سيئة ؛ فيكون علينا وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة .

والمراحل التي مر بها هذا الفكر كالآتي :

—المرحلة الأولى :هناك أناس وضعوا البذرة الأولى لشجرة الغلو،فأثمرت ثمرة مُرة حنظلية،وهي التفجيرات والاغتيالات.
فالبذرة الأولى تتمثل في أمرين:
الأول : التهييج على الحكام ،وذِكْر مثالبهم وعيوبهم،وإيغار صدور الناس عليهم،وتصويرهم أمام العوام وأشباههم من طلاب العلم بأنهم جميعاً –دون تفصيل-يكرهون الإسلام،وأنهم منافقون زنادقة،يبطنون الكفر،وإنما يُظهرون بعض المواقف الموافقة للإسلام لِذرِّ الرماد في العيون فقط !! ـ هذا، وإن كان بعض الحكام قد قال بـبعض المذاهب والعقائد والمقالات الكفرية المصادمة للمعلوم من الدين بالضرورة - لكن إطلاق ذلك على جميع الحكام من الملوك والرؤساء والشيوخ والأمراء؛ ظلم وجور،ولا يجوز الجور على رجلٍ من عَرْضِ المسلمين ،فكيف إذا كان رأساً من رؤوسهم ؟!!
كما أن إطلاق ذلك على من وقع منه الكفر الأكبر ، وإشغال الناس بمقاومته ومنابذته - مع ضعفهم - وبدون الرجوع إلى كبار أهل العلم ؛ كل ذلك يؤدي إلى الفتنة والفساد العريض ، والله المستعان .
المهم: أن هذه الطائفة لهجت بسب الحكام جميعاً ،ورميهم بالنفاق، والزندقة، والعمالة لأعداء الإسلام ... إلى غير ذلك من عبارات أوغرت الصدور على ولاة الأمور، وزادت الوحشة بين الراعي والرعية ، وأسقطت هيبة ولي الأمر أمام رعيته وغيرهم ، وهذه البداية السيئة ، التي أورثت هذه النهاية المرة .
وهذه الطائفة –وما كان على شاكلتها – يظنون أنك إذا لم تقف هذا الموقف حذو القذة بالقذة من الحكام ؛ فيلزم من ذلك أنك راضٍ بعيوبهم ، مدافع عن أخطائهم ، مُتزلِّف إليهم ، خائن لله ، ولرسوله ، وللمؤمنين !!! أو – على أحسن الأحوال – فأنت جاهل لا تدري ما يدور حولك!! مع أنه هذا ليس بلازم ، فإنا نُشهد الله وملائكته ومن اطلع على هذا من الإنس والجن : أننا نبغض هذه المنكرات ، ولا نُقرّهُم على منكر -لم يُعذروا فيه شرعاً – علماً بأن الكثير منا لا قيمة له عند الكثير من الحكام ،ونعوذ بالله من أن نجادل عن رجل لا يرجو لله وقاراً، أو نجادل عمن يختانون أنفسهم، أو عن خطأ من أخطأ !!
واعلموا أننا نرى ما ترون ، ونعاني مما تعانون منه، لكننا نلزم غرز السلف في التقويم بالتي هي أحسن، والصبر على الأذى –ونسأل الله العافية-هذا مع ما في قلوبنا مِنْ بُغْضٍ لهذه الأفاعيل المخالفة للبرهان والدليل ، فإن الأمردين، والمسلم – حاكماً كان أو محكوماً - يُحَبُّ ويُبْغَض على حسب ما فيه من خير وشر، كما اتفق عليه أهل السنة ، فليس هناك حُبٌّ خالص لشخص إلا للأنبياء، والصديقين، والأولياء الصالحين، وليس هناك بُغْضٌ خالص إلا للكفار والمنافقين ، وأما من خلط هذا وذاك؛ كان له من الحب والبغض بقدْر ما عنده من خير وشر.
وقد كان السلف بخلاف ما عليه الكثير من الناس اليوم أمام الملوك والأمراء الذين قالوا بمقالات مصادمة للدين ، فقد كانوا يرون أن السكوت وعدم إثارة الفتن ؛ أسلم لدينهم ودنياهم ، وأبْقي لبقايا الخير – وذلك بعد النصح إن أمكن - وحنانَيْك بعض الشر أهون من بعض ، وقد أثبتت التجارب والحوادث صحة هذا الفهم ، والله أعلم .
وكذلك ظنت هذه الطائفة المبالِغة في المجالس أنه لا تقوم للدين قائمة قط إلا بإسقاط الحاكم !!! فمن ثَمَّ لهجوا بذلك ، وربُّوا أتباعهم على ذلك !! مع أن هذا مخالف للأدلة والواقع ، فمن ذلك : أن الله عزوجل يقولإن الله لا يُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم)ولم يحصر الأمر في الحاكم فقط، فلم يقل: حتى يُغيروا ما بحكّامهم!!!وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" لتُنْقضَنَّ عُرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة ؛ تشبث الناس بالتي تليها ، فأولهن نقضاً الحكم ، وآخرهن الصلاة "(65) .
فدلَّ هذا الحديث على أن كثيراً من شعائر الدين تبقي بعد ذهاب الحكم، لأنه أول العرى نقضاً ، والشيء لا يذهب كله بذهاب أوله !! فظهر بذلك أنه ليس الأمر كما يقولون : ذهاب الحكم؛ذهاب الدين كله ، وعلى ذلك فلا يهتم كثير منهم بكثير من واجبات الدين ، لاشتغالهم بما يسمونه بـ " الحاكمية "،بل ربما جعل بعضهم الدعوة إلى سائر أبواب التوحيد ؛ مما يثير البلبلة الفكرية ، والفتن المذهبية ،وعدَّ ذلك اشتغالاً بما لا ينفع ، أو إضاعة للوقت !! وأن الأمر المهم الذي تُحْشد له الجهود والطاقات : هو الإطاحة بالحاكم الفلاني ، أو تولية الحاكم الفلاني!!!
واعلم أنه ليس فيما سبق تسويغ للحكم بغير ما أنزل الله – فمعاذ الله من الكفر والضلالة بعد الهدى – كما أنه ليس فيه تهوين من شأن هذا الأمر العظيم ، وهو التحاكم للدين في كل كبيرة وصغيرة ، ولكن المراد بذلك الرد على هذا الفهم الفاسد ، الذي عطّل كثيراً من الطاقات ، وبعثر كثيراً من الجهود ، وضيَّع كثيراً من الأعمار وراء ذاك السراب ، وشغل الكثير من الشباب عما كانوا يستطيعون القيام به من علم ، وتعليم ، ودعوة !!! فلا العلم حَصّلوه، ولا الحاكم بدّلوه ، ولا الداعية على منهج السلف تركوه،فالله المستعان ، وإليه المشتكى !!!
وأيضاً فالواقع يشهد بأن كثيراً من الشعوب- مع أنهم لا يُحْكَمون بما أنزل الله ، ومع مافي ذلك من فساد وشر – إلا أن كثيراً منهم يحافظ على مباني الإسلام من صلاة وصوم وزكاة وحج ، ويحافظ على توحيده ، وإنكاره المنكرات ، ومن ذلك إنكاره الحكم بغير ما أنزل الله ، وكذلك ترى كثيراً من الناس محافظاً على صلة الأرحام، والصدق، والعفاف، والفضيلة، والمكارم، وفعل الخيرات ، ونحو ذلك .
فالحق أن المخالفين في هذا الباب قد هوّلوا ، وأعطوا مسألة الحكم والحكام أكبر من حقها في سُلَّم الأولويات في الدعوة إلى الله تعالى ، وخالفوا بذلك منهج السلف في هذا الباب ، وقابلهم من يهوِّنون من شأن الحكم بغير ما أنزل الله ، وكِلا طرفيْ قصد الأمور ذميم!!
علماً بأن تلك الطائفة تنطلق من عاطفة جيَّاشة ،وحماس متدفق فقط!!فليس عندهم قواعد علمية،تجعلهم يدافعون عن مذهبهم هذا،وذلك لأنهم لا يهتمون بالعلم-إلا من رحم ربي – .
إنما لهم توجه ثوري حماسي،ولذا فمنابرهم لا تزال ساخنة بذِكْرِ خيانات الحكام،وتَتَبُّعِ خطواتهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة ، والله أعلم بصدق كل ما يُقال-وإن كان الظاهر البيّن من كثير من الحكام لا تقرّ به عين،ولا ينشرح له صدر!! -لكن ليس معنا إلا الصبر واللجوء إلى الله عزوجل ، هكذا أمرتنا السنة ، وعلى هذا نصَّ سلفنا في مصنفات معتقدهم ، وهم القوم الذين لا يشقى من لزم غرزهم في الحق – إن شاء الله تعالى - .
وإذا جالست أحداً من كبار هذه الطائفة أوصغارهم؛فما عند كل منهما إلا هذه العبارات : الحاكم الفلاني منافق ، أو كافر ، أو زنديق ، أو فاجر ، أو عدو الله ، أو كلهم كفار، أو عملاء اليهود والنصارى . . . الخ ، وليس وراء هذه الأحكام كثير علم ولا تأصيل،بل هناك عاطفة وحماس،فإذا ناقشتهم،وذكرت لهم خطأهم، وبُعْدَهم في ذلك عن منهج السلف في هذه الاطلاقات ، أو في هذا التشهير والتهييج ؛لم يقتنعوا بما تقول – إلا من رحم الله - مع عجزهم عن الرد عليك،وإثبات صحة ما هم عليه،إلا من خلال الجرايد والصحف والمجلات والكتب الثقافية،التي كتبها من كان على شاكلتهم !!
الأمر الثاني الذي بذرته الطائفة السابقة:وهو ذم كبار أهل العلم المخالفين لهم،وتنقصهم ،وبيان أنهم علماء سلطة فقط،أو على الأقل : أنهم سطحيون،جهلة بالواقع،وأنهم لُعْبَة في أيدي الحكام من حيث لا يشعرون !!!
إن هذه الطائفة التي لهجت بهذين الأمريين ؛ هي التي وضعت أول لبنة – شعرتْ أو لم تشعرْ - في بناء هذا المنهج المخالف لمنهج السلف،والذي انتهى به الأمر إلى التفجيرات والاغتيالات،فهذه الطائفة اعتقدت،ولم تُحْسِن الاستدلال على اعتقادها هذا !!
— المرحلة الثانية : ثم جاءت طائفة أخرى: وضعت لذاك التهييج والحماس الثوري قواعد وأصولاً،عندما رأوا إنكار العلماء وطلاب العلم على الطائفة الأولى،ورأوا عَجْز تِلْكُم الطائفة عن الرد على مخالفيهم ؛ فاعتقد بعض هؤلاء التكفير لجميع الحكام-متأثرين في ذلك بالطائفة الأولى، وبغير ذلك-ثم راحوا يبحثون عما يقوي صحة اعتقادهم،فاعتقدوا ثم استدلوا،وهذا معيب عند أهل العلم.
المهم أن هذه الطائفة استدلت على تكفير جميع الحكام بقواعد مستمدة - في نظرهم - من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، كأحمد بن حنبل وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي ، وغيرهم .
ومن تأمل تِلْكُمُ القواعد: علم أنه لا يسْلَم من التكفير بسببها حاكم على وجه الأرض ، بل كثير من المحكومين لا يسْلَمون من التكفير بهذه القواعد أيضاً !!
فمن ذلك قولهم: "من نظَّم المعصية؛ فهو مستحل لها، ويكون كافراً بالاستحلال" !!
ويمثِّلُون لذلك بمن يسمح في بلده بوجود بنك يُتَعامل فيه بالربا،قالوا: فهذه معصية، وهي أكل الربا، والربا في نفسه معصية فقط، لكن البنك له لوائح وإرشادات وتعليمات، وهيكل وظيفي، وأساليب في الإيداع والسحب والتعامل ... الخ، فكل هذا يدل على أنهم مستحلون للربا، وإن قالوا بألسنتهم: الربا حرام؛ فهم كفار مع ذلك للاستحلال !!
فمن ذا الذي سيسلم من الكفر إذاً بسبب هذه القاعدة الجائرة؟!لأنه يلزمهم على ذلك أن يكفروا أكثر أمراء بني أمية والعباس وغيرهم ،فإن جورهم – ومن ذلك أخذ المال ،وقتل النفوس - كان بتخطيط وتنظيم ومجاهرة - ليبقى لهم ملكهم- بل قتلوا المئات أو الألوف في سبيل ذلك،ومع ذلك لم يكفِّرْهم السلف،ولم يخلعوا يداً من طاعة،فأين البنك الربوي من حال هؤلاء – الأمراء،ومنهم الحجاج ، وما أدراك ما الحجاج - ؟!! فهل كانت معصية الحجاج ارتجالية عشوائية غير مدبَّرة بليل أو نهار ؟ هل كان الحجاج وأمراء الجور يقيمون ملكهم وأمرهم على أمور جاءت اتفاقاً لا قصداً وتنظيماً وإعداداً وتحدياً للمخالف؟!
وكذلك يلزمهم أن يُكَفِّروا قُطَّاع الطريق إذا نظموا أنفسهم في عصابة ، لنهْب الأموال ، وقطْع السُّبُل ، وجعلوا لكل مجموعة منهم مهمة معينة ، ووضعوا نظاماً في قسمة ما حصلوه نهباً من أموال المسلمين!! وكذا يلزمهم تكفير المتبرجة التي تحرص على أن تكون بهيئة معينة – مع مخالفتها للشرع ، ومع إقرارها بحرمة ما خالف الشرع – ومع ذلك فإنها تبذل وقتاً ومالاً وجهداً حتى تظهر بهذه الصورة القبيحة!!،وكذا المشتغلون بالغناء ونحوه،وأصحاب المحلات التي يبيعون فيها بعض ما نهى عنه الشرع،ولهم طرق في استيراد وتحصيل ورقابة هذه الأمور، وكذا ما يجري في الجيوش والمدارس والجامعات من بعض الأنظمة المخالفة للشرع !! وقِسْ على هذا عدداً من الذنوب التي لا يكفِّر أهلُ السنة أصحابها ، إلا أن هذه القاعدة المحْدَثة تُكَفِّرهم !!
وقد قال شيخ الإسلام في " بيان الدليل " (ص 104) عند كلامه على حديث :" أول دينكم النبوة .....ثم ملك عضوض،يُسْتحل فيه الحر والحرير ..." قال :" لم يُرِدْ بالاستحلال مجرد الفعل؛فإن هذا لم يزل موجوداً في الناس،ثم لفظ الاستحلال :إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالاً " اهـ ، ولشيخ الإسلام كلام واضح في أن الاستحلال المكَفِّر لا يثبت بفعل المعصية، مع قول الشخص : أنا أعتقد أن هذا حرام ، وعدَّ التكفير بذلك تكفيراً بغير موجب ، وتكفيراً بأمر محتمل (66)
فلا يزال العصاة يُنَظِّمون أمرهم في المعصية،ويسيرون في سبيل تحقيق رغباتهم على مراحل معينة، ومع ذلك لم يكفِّرهم السلف بذلك، ولم يعدُّوهم مستحلين لذلك ، بخلاف هذه القاعدة المبتكرة ، والله أعلم .
.. و من ذلك قولهم :"من جاهر بمعصية؛ فهو مستحل لها، يكفر،كالذي عَرَّس بامرأة أبيه،كما في حديث البراء!! وقد رددت على ذلك الاستدلال في كتابي: "كشف الغطاء بتحقيق أحاديث وآثار الداء والدواء " يسّر الله النفع به في الدارين،وذكرت أن من أهل العلم من صرح بأن الرجل خُمِّس ماله ؛لأنه كان مستحلاً،لا بمجرد المعصية،وعلى كل حال: فهل سيسلم من هذه القاعدة حاكم،بل وهل سيسلم منها أكثر المحكومين ؟!!
فإن المجاهرة بالمعاصي في هذا الزمان؛ أمر لا يخفى على العميان ، فهل سنكَفِّر هؤلاء جميعاً ، حكاماً ومحكومين؟!!
فإذا قالوا : نكفِّر الحاكم دون المحكوم ؛ تناقضوا ، فإن القواعد تشمل كل من انطبقت عليه ، والتفرقة – بلا دليل – تَحَكُّمٌ ، والله أعلم .
ومَنْ سَلِمَ مِنَ التكفير بهذه القاعدة ؛ فلن يَسْلَم من التكفير بقاعدة أو قواعد أخرى !! إذاً ، فما الفرق بين هذه القواعد ، وبين تكفير الخوارج لأصحاب الكبائر ؟!!
إن حقيقة هذا المذهب تؤول إلى مذهب الخوارج ، إلا أنهم وضعوا فروقاً –نظرية – فظن الناس أنهم ليسوا على طريقة الخوارج يسيرون – وإن جهل كثير من القائلين بهذه الحقيقة - ومن عرف الحقيقة؛فإنه لا يغتر بهذه القيود النظرية !!
فأحذرك – أخي الكريم – أن تغتر بقول هذا حاله ومآله ، وأنصحك أن تكون حذراً يقظاً في قضايا التكفير والتبديع والتفسيق والتضليل ، فقد ضل بسبب ذلك طوائف في الزمان الأول ، زمن انتشار العلم وفيوض العدالة ، فما ظنك بهذا الزمان ؟!!
.. وأيضاً فمن ذلك قولهم :"من اعترف بمجلس الأمن ،والأمم المتحدة، والأنظمة العالمية؛كفر" !!
هكذا دون إدراكهم لمعنى الاعتراف،ودون مراعاتهم قوة المسلمين ووهنهم،وقوة شوكة غير المسلمين أوضعفها،ودون النظر في المصالح والمفاسد،وهذا كله لا تسلم من التكفير به دولة من الدول !! لأن الدول المسلمة – صالحها وطالحها – مشاركة في هذه الأنظمة ، ومنهم من له اعتبارات شرعية في كثير من ذلك ،ومنهم من لا يلتفت إلى موافقة الشرع أو مخالفته ، ومثل هذا وذاك لا يخفى على كثير من العقلاء !!
.. ومن ذلك قولهم :" مَن أَمَرَ غيره بمعصية ،وعاقبه على ترْكها؛ فهو مستحل لها كافر"!! ومع ذلك فلهم نَظْرَتُهُم- الخاصة بهم - في الحكم على الشئ بكونه معصية ، دون مراعاة للحامل على هذه المعصية : هل هو العجز أو الخوف ، أو مراعاة مصالح عامة ، أو درء مفاسد أكبر من فعل المعصية – وإن وقع خطأ في تقدير ذلك – وكذا هل الحامل على المعصية الشبهة ، أم الشهوة والجرأة على حدود الله،أم لا ؟ أو الجهل أو العناد ، ونحو ذلك ؟ على أنه لا يلزم من ذلك أن جميع الحكام ينطلق في تصرفاته من هذه النظرة الشرعية ، بل بعضهم يفعل ذلك عن هوى وشهوة ،ودون مراعاة للقيود الشرعية !!! ومع ذلك لا يلزم من ذلك التكفير لمعيَّن إلا بشروط معروفة عند أهل العلم ، وإن سلمنا بكفر المعيَّن ؛ فلا يلزم من ذلك منابذته بالسيف ، وإثارة الخاصة والعامة عليه ، فإن في ذلك من الشر – الذي شهدت بها التجارب - ما الله به عليم .
وعلى كل حال : فلا يسلم – بناء على ما سبق من قواعد محدثة – حاكم، بل لا يكاد يسلم من ذلك كثير من أفراد الشعوب،ومديري المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية وغيرها !!
وهل كفَّر السلف أكثر أمراء الأمويين والعباسيين، وقد كانوا يقتلون من خالف أَمْرَهم – ولو كان أَمْرَهم في معصية - ؟!! وأي عقوبة أشد من القتل ؟!!
.. ومن ذلك قولهم :" من حيَّا العلَم ؛ كفر،وإذا حيَّا الجنديُّ قائده ؛كفر،وكأنه سجد لغير الله،أو هذه السجدة الصغرى ".... إلى غير ذلك من قواعد وفتاوى أَصَّلَت تكفير الحكام ومعاونيهم في جميع المجالات عند كثير من الشباب،بل تكفير كثير من المسلمين ـ من حيث يشعر أهل هذه القواعد أولا يشعرون ـ !!!
ولهم على ذلك أدلة يستدلون بها ،وكثير منها وضعوه في غير موضعه،وكثير منها حمَّلوه مالا يحتمل،ولهم بعض مقالات أصابوا فيها الحق من الناحية العلمية- ويجب الاعتراف لهم بذلك - لكنهم رتَّبوا عليها أموراً مفسِدة، وأطلقوا لظنونهم العنان، وأغرقوا في الأخذ بلوازم الأمور ،مع أن لازم القول ليس بقول في كثير من الحالات !!
وقد حدثني بعض الدعاة إلى الله تعالى: أن مِنْ هؤلاء الشباب مَنْ يُكَفِّر الإمام من أئمة الحرم ، لأنه يقول في دعائه : " اللهم اصلح ولاة أمور المسلمين " مستدلاً هذا المُكَفِّر على ذلك بقوله : " إن هذا يدل على أنه يُقرُّ بأنهم ولاة أمور المسلمين ، وهذا يدل على عدم كفره بالطواغيت ، ومن لم يكفر بالطاغوت ؛ فلم يؤمن بالله عزوجل !!بل يتعدى به الحال إلى أن يكفِّر كلَّ من أمَّن وراءه على هذا الدعاء من المصلين للشبهة السابقة ، ولقاعدة من لم يكفِّر الكافر ؛ فهو كافر!!
ولا شك أن تكفيرهم من لم يكفِّر من كفَّروه – وإن سلمنا بخطأ مخالفيهم في عدم التكفير- ؛ تكفير بمجرد الخلاف في المسائل الاجتهادية ، وهذا أشد من التكفير بالكبيرة ، كما لا يخفى على من له معرفة بالعلم والعلماء !!!
وأما قاعدة : "من لم يكفِّر الكافر . . . " فهي مقيدة بمن لم يكفِّر الكافر الذي كفَّره بعينه القرآن أو السنة ، كفرعون ، وأبي لهب ، ونحوهما ، أما من اختلف العلماء في تكفيره ، كتارك الصلاة – مثلاً (1)- ؛ فلا يُكفَّر من لم يكفِّره ، ومن كفَّره لذلك ؛ فهو مخالف للأدلة وطريق الأئمة ، وقائل بما هو أشد من قول الخوارج في التكفير بالكبيرة !!
المهم أن هذا الحال يدل على أمر خطير ، فاحذر منه يا طالب النجاة والهداية ،ولا تغتر بكون الدعاة إلى هذا الفكر ما أرادوا إلا خيراً؛ فإن هذا وحده لا يكفي ، والقصد الحسن –وحده-لم يبرئ ساحة الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ومن والاه، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما في " مجموع الفتاوى " ( 13 / 30 – 31 ) : " وكانت البدع الأولى مثل " بدعة الخوارج " إنما هي من سوء فهمهم للقرآن ، ولم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه مالم بدل عليه ، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب ؛ إذْ كان المؤمن هو البر التقي ، قالوا : فمن لم يكن براً تقياً؛ فهو كافر، وهو مخلد في النار ، ثم قالوا : وعثمان وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين ، لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله ، فكانت بدعتهم لها مقدمتان :
الواحدة: أن من خالف القرآن بعمل أو برأي –أخطأ فيه- فهو كافر .!!
والثانية: أن عثمان وعلياً ومن والاهما كانوا كذلك ؛ ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا ، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام ، فكفَّر أهلها المسلمين ، واستحلوا دماءهم وأموالهم . . . . وهم مع هذا الذم إنما قصدوا اتباع القرآن ، فكيف بمن تكون بدعته معارضة للقرآن والإعراض عنه ، وهو مع ذلك يكفر المسلمين.... " اهـ .
وعلى كل حال : فعندما أَدْلَتْ هذه الطائفة بدلْوها،وقعَّدت قواعد كثيرة لذلك،وأفرزت عدداً لا يكاد يُحصر من الكتب والمجلات والنشرات والمطويات والرسائل والمقالات والأبحاث، سواء منها المطبوعة أو المسموعة، أو التي في " الإنترنيت " أو في الفضائيات أو غير ذلك، فعندما أفرزوا هذه الكتب والأشرطة وغيرها، ووُزِّعت مجاناً - في بعض الأحيان-؛ عَمَّق هذا الصنيع تكفير جميع الحكام في نفوس الشباب والعوام،وكلما كان أحد الحكام مظهراً لأمرٍ مُكَفِّر ؛ قَلَّ كلامهم فيه، بحجة ظهور أمره عند الناس!! وكلما كان أحدهم أكثر خيراً ؛ زاد الكلام فيه ، بحجة أن أمر تكفيره مُلْتَبَسٌ على الناس ، وأنهم يحسنون به الظن، ولا يعرفون حقيقته؛ فلا بد من تقرير كُفْره بجلاء ، نصحاً للأمة !!! واشتعلت المجالس بذلك، وذُمَّ كبار العلماء الذين لا يرون رأيهم، ورُمُوا بما رمتهم به الطائفة الأولى وزيادة !!
ولاشك أن هذه القواعد إذا خيَّمت على أذهان الشباب،وسيطرت على أفهامهم،مع ما انضم إلى ذلك من إسقاط هيبة كبار أهل العلم المخالفين لهم ،والتعبئة الخاطئة في أمر الجهاد والشهادة ؛فإن هذه الأمور ستفضي إلى شرٍ عظيم،ومفاسد لا خطام لها ولا زمام !!
المرحلة الثالثة:فلما اقتنع كثير من الشباب المحبين للدين - مع قلة البصيرة - بتلكم القواعد والأصول؛ضحَّوْا بأنفسهم خدمة للدين ـ في ظنهم ـ فلبسوا الأحزمة الناسفة،وقادوا السيارات التي تحمل أطنان المتفجرات،ولسان حال أحدهم يقول – وهو قادم على قتل نفسه وغيره من المسلمين وغيرهم - : الله أكبر، الله أكبر،فُزْتُ وربِّ الكعبة ، فُزْتُ وربِّ الكعبة ،غداً نلقى الأحبة ، محمداً وصحبه !!!!
فيا سبحان الله ، كم تعمل التأويلات الفاسدة في أهلها وغيرهم !!!
هذا،وقد يكون غير هؤلاء الشباب هو الذي يقوم في بعض البلدان ببعض هذه التفجيرات – تحريشاً للحكام عليهم ، وزجّاً بالشباب في أُتونٍ مستعر مع حكامهم ، وقلقلة لأمن البلاد- ثم تُنسب هذه الرزايا إلى الشباب!! لكن الشباب هم الذين وضعوا أنفسهم موضع الشبهة،فقد اشتهر عنهم أنهم قاموا ببعض هذه الأمور ، وقرّرها بعضهم في كتبه ومقالاته، ودافع عنها ، واتهم مخالفه في ذلك – وإن كان من العلم والفضل بمكان - ومدحها آخرون ، وفرحوا بها ، بل ويُنقل عنهم أنهم يعلنون مسئوليتهم عن تلكم الأوابد والفواقر،وينشرون على الملأ خطوات تنفيذ هذه العمليات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون!!
فإذا أنكرنا على الطائفة الثالثة فقط ، دون علاج الأمر من الأساس؛ فذلك كالحرث في الماء، وكخبط عشواء في أرض بيداء !!!
فإن حال الطوائف الثلاث يُمثِّل طائر الغلو، الذي له جناحان وجسد،فالطائفة الأولى بطن هذا الطائر وأصله ، والطائفة الثانية : الجناح العلمي له، ورأسه المفكرة المنظِّرة ، وعيناه الناظرتان ، والطائفة الثالثة : الجناح العسكري له، ومنقاره ، ومخالبه!!!
إذن فعندنا ثلاث مراحل:
أ ـ مرحلة العاطفة في التهيج على الحكام، والغمز في العلماء المخالفين لهذا الرأي، والطعن فيهم، وإن كان ذلك قد صدر عن عاطفة ارتجالية ، وصرخات عشوائية !!
ب ـ مرحلة التقعيد والتأصيل لهذا الفكر، حتى انتقل من حَيِّز العاطفة التي يسهل تغييرها، إلي حَيِّز العقيدة التي تتسم بالرسوخ والثبات، وقد أُخِذَتْ الاحتياطات اللازمة من بعض دعاتهم لإبقاء هذه العقيدة راسخة؛ عندما صُدَّ الشباب عن الرجوع للعلماء الكبار ، بحجة أنهم ليسوا موثوقاً بهم !!!
ج ـ مرحلة التنفيذ، المتمثلة في الاغتيالات للحكام وأعوانهم ، بل لبعض العلماء المخالفين لهذا الفكر،وكذا التفجيرات التي طارت فيها أشلاء الشيوخ والنساء والصبيان ، وانهدمت بها البيوت على سكانها، وسواء كان ذلك في شهر حرام ، أم لا!! أو كان ذلك في شهر رمضان،الذي تُصَفَّدُ فيه مردة الجن،أم لا!! أو كان ذلك في ليالي العشر،والمسلمون عاكفون في المساجد، أم لا !! أو كان ذلك في الحرمين الشريفين أو غيرهما،أم لا !! وما سلمت بعض المساجد في اليمن - وغيره - من هذه التفجيرات، كما جرى في صنعاء وعدن ،والله المستعان .
والحق يقال: إن هذه المراحل لايلزم أن تجتمع في جميع أفراد هذه الطوائف المشار إليها سابقاً، بل قد يكون هناك أشخاص تنقَّلوا بين هذه الطوائف مع هذه المراحل، وأشخاص بذروا البذور فقط،وآخرون قاموا بسقيها ورعايتها فقط،مع ظنهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه،وآخرون قطفوا ثمارها،وأدخلوها الأسواق ، فَصِيْحَ بهم – فقط – من كل جانب !!
وقد تُحذِّر الطائفتان الأوليان الطائفةَ الأخيرةَ من الإقدام على هذا الفساد- لاعتبارات عندهم ، سواء كانت صحيحة أم فاسدة- وقد تحصل استجابة من البعض،إلا أن الكثير منهم مضَوْا في هذا الطريق ، وهكذا فالفكر يتطور ، ولا حَدَّ له ، ومن بذر بذرة ؛ فلا يستطيع أن يتحكم في نوع شجرتها ونباتها ، ولا في لون أو طعم أو رائحة ثمرتها ، لأن كل ثمرة تنبت من شجرتها ولابد – إلا أن يشاء الله شيئاً - وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ومما ينبغي أن يُنَبَّه عليه هنا : أن دعاة وأفراد هذه الطوائف ليسوا سواء ، فمنهم من أتى بالقواعد السابقة ، ومنهم من سكت ولم يُعقِّب ، ومنهم من لا يرضى بذلك ، لكن لم يظهر إنكاره ، ومنهم غير المستبصر بهذا الفكر ، المحبّ للخير دون معرفة بالطريق إليه ، وغُرِّرَ به بسبب التعبئة الخاطئة ، وهؤلاء يُخشى عليهم في المستقبل – إن لم يلطف الله عزوجل بهم - ، ولا شك أن لكلٍ من هؤلاء حُكْماً ( وقد جعل الله لكل شئ قدرا ) .
والكلام هنا عن فِكْر ابتُليتْ به الدعوة والأمة، لا مجرد إثبات أن فلاناً يقول بهذا القول أم لا ؟! فإن لهذا مقاماً آخر.
كما أن المراد التحذير من هذا الفكر ،والتنفير عن اتِّبَاع دعاته والاغترار بهم ، لا مجرد إصدار الأحكام على المخالف ، دون مناقشته بالحجة والبرهان، والتجارب التاريخية والمعاصرة ، فإن السعي في إصلاح هذا الفكر ؛ من الواجبات الشرعية ، والطبيب يقرر نوع الداء بدقة وأمانة ووضوح لا خفاء فيه،ثم يتلطف ما أمكن في علاجه ، ويأتي البيت من بابه ،فإن نفع الله بذلك ؛ وإلا فما على المحسنين من سبيل ،ويُعامَل كل امرئ بما يستحقه شرعاً، والله أعلم .
اضافة رد مع اقتباس
  #6  
قديم 28/08/2004, 01:44 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 20/03/2004
المكان: ::: الــريــاض:::
مشاركات: 2,936
[ALIGN=CENTER]جزاك الله خير على استكمال الموضوع...[/ALIGN]
اضافة رد مع اقتباس
  #7  
قديم 04/09/2004, 06:01 AM
مشرف سابق بمنتدى الثقافة الإسلامية
تاريخ التسجيل: 15/12/2000
المكان: القصيم
مشاركات: 2,953
امين يارب العالمين

وجزاك الله أخي خيرا
اضافة رد مع اقتباس
   


إضافة رد


قوانين المشاركة
غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
غير مصرّح لك بنشر ردود
غير مصرّح لك برفع مرفقات
غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك

وسوم vB : مسموح
[IMG] كود الـ مسموح
كود الـ HTML غير مسموح
Trackbacks are مسموح
Pingbacks are مسموح
Refbacks are مسموح



الوقت المعتمد في المنتدى بتوقيت جرينتش +3.
الوقت الان » 03:14 AM.

جميع الآراء و المشاركات المنشورة تمثل وجهة نظر كاتبها فقط , و لا تمثل بأي حال من الأحوال وجهة نظر النادي و مسؤوليه ولا إدارة الموقع و مسؤوليه.


Powered by: vBulletin Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd

Google Plus   Facebook  twitter  youtube