مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #5  
قديم 28/08/2004, 12:16 AM
شيروكي شيروكي غير متواجد حالياً
مشرف سابق بمنتدى الثقافة الإسلامية
تاريخ التسجيل: 15/12/2000
المكان: القصيم
مشاركات: 2,953
{الفصل الثاني }
(في أطوار ومراحل الفكر الذي أفضى إلى التفجيرات والاغتيالات)

لا شك أن أي مشكلة تمر بعدة مراحل ،حتى تصل إلى العُقْدَة التي يصعب حلها ، والهوّة التي يعسر تجاوزها،ومشكلة التفجيرات والاغتيالات؛ ثمرة فِكْر مَرَّ بعدة مراحل ،ولا يمكن علاج هذه المشكلة علاجاً نافعاً؛إلا بمعرفة هذا الفكر في جميع مراحله،حتى تُعَالَج كلُّ مرحلة بما يناسبها شرعاً .
والحامل على كتابة هذا الفصل:أن بعض الذين لهم أفكار مخالفة لمنهج السلف في هذا الباب،والتي أَسْهَمَتْ بقوة في إيجاد هذه المشكلة التي تعاني الأمة اليوم من ويلاتها؛أصبحوا الآن – بين عشية وضحاها !!! - من جملة المنكرين على الشباب الذين قاموا بالتفجيرات والاغتيالات!!! دون أن يدركوا القَدْر الذي شاركوا به في إيجاد هذه المشكلة،ومن ثَمَّ لم يعلنوا تراجعهم عن أفكارهم السابقة،التي أنجبت هذا المولود المشئوم !!وعلى ذلك فلا نَأْمَن أن تعود المشكلة من جديد- وإن انتهت هذه المشكلة الآن - لأن أصل الداء لا زال موجوداً ولأن الشجرة التي أثمرت هذه الثمرة الحنظلية ؛ لازال هناك من يتفقدها ، ويمدها بما يقوى من شأنها !!
أقول هذا ، وأعلم أن هناك من يغضب من هذه الحقيقة الواضحة، ويحب الغمغمة والغموض في الأمر !! إلا أني أقول هذا لله عزوجل ، وبراءة للذمة، ونصحاً للمسلمين ، وأُثبت ذلك بياناً للتاريخ ، أما رضا الناس فغاية لاتُدْرَك ، ومن أرضى الناس بسخط الله ؛ سخط الله عليه ، وأسخط عليه الناس ، ومَنْ عمل لله ؛ فلايضل ولايشقى ، والله المستعان .
وإنني إذْ أذكر هذه المراحل ؛ فلايهمني – في هذا المقام – إيقاع اللوم على من خالف ، أو تعنيفه على ذلك ، بقدر ما يهمني تبصيره بمقدار مشاركته في هذا الأمر ، لمخالفته منهج السلف في التربية – وإن كان لا يقر العنف الحاصل ، وإثارة الفتن الدموية الموجودة اليوم – والعاقل يستفيد من التجارب ، ويتعظ بما وقع لغيره، فكيف بما جرى على يديه ؟!
كما أن العاقل إذا رأى لازم قوله ، أو ما يؤول إليه كلامه ، ورأى عِظم البلية على الإسلام وأهله بذلك ؛ فإنه يسارع إلى التوبة ، وإصلاح ما بقي ، واستدراك ما فاته ، والله عزوجل يحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، ونعوذ بالله من أن نسن سنة سيئة ؛ فيكون علينا وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة .

والمراحل التي مر بها هذا الفكر كالآتي :

—المرحلة الأولى :هناك أناس وضعوا البذرة الأولى لشجرة الغلو،فأثمرت ثمرة مُرة حنظلية،وهي التفجيرات والاغتيالات.
فالبذرة الأولى تتمثل في أمرين:
الأول : التهييج على الحكام ،وذِكْر مثالبهم وعيوبهم،وإيغار صدور الناس عليهم،وتصويرهم أمام العوام وأشباههم من طلاب العلم بأنهم جميعاً –دون تفصيل-يكرهون الإسلام،وأنهم منافقون زنادقة،يبطنون الكفر،وإنما يُظهرون بعض المواقف الموافقة للإسلام لِذرِّ الرماد في العيون فقط !! ـ هذا، وإن كان بعض الحكام قد قال بـبعض المذاهب والعقائد والمقالات الكفرية المصادمة للمعلوم من الدين بالضرورة - لكن إطلاق ذلك على جميع الحكام من الملوك والرؤساء والشيوخ والأمراء؛ ظلم وجور،ولا يجوز الجور على رجلٍ من عَرْضِ المسلمين ،فكيف إذا كان رأساً من رؤوسهم ؟!!
كما أن إطلاق ذلك على من وقع منه الكفر الأكبر ، وإشغال الناس بمقاومته ومنابذته - مع ضعفهم - وبدون الرجوع إلى كبار أهل العلم ؛ كل ذلك يؤدي إلى الفتنة والفساد العريض ، والله المستعان .
المهم: أن هذه الطائفة لهجت بسب الحكام جميعاً ،ورميهم بالنفاق، والزندقة، والعمالة لأعداء الإسلام ... إلى غير ذلك من عبارات أوغرت الصدور على ولاة الأمور، وزادت الوحشة بين الراعي والرعية ، وأسقطت هيبة ولي الأمر أمام رعيته وغيرهم ، وهذه البداية السيئة ، التي أورثت هذه النهاية المرة .
وهذه الطائفة –وما كان على شاكلتها – يظنون أنك إذا لم تقف هذا الموقف حذو القذة بالقذة من الحكام ؛ فيلزم من ذلك أنك راضٍ بعيوبهم ، مدافع عن أخطائهم ، مُتزلِّف إليهم ، خائن لله ، ولرسوله ، وللمؤمنين !!! أو – على أحسن الأحوال – فأنت جاهل لا تدري ما يدور حولك!! مع أنه هذا ليس بلازم ، فإنا نُشهد الله وملائكته ومن اطلع على هذا من الإنس والجن : أننا نبغض هذه المنكرات ، ولا نُقرّهُم على منكر -لم يُعذروا فيه شرعاً – علماً بأن الكثير منا لا قيمة له عند الكثير من الحكام ،ونعوذ بالله من أن نجادل عن رجل لا يرجو لله وقاراً، أو نجادل عمن يختانون أنفسهم، أو عن خطأ من أخطأ !!
واعلموا أننا نرى ما ترون ، ونعاني مما تعانون منه، لكننا نلزم غرز السلف في التقويم بالتي هي أحسن، والصبر على الأذى –ونسأل الله العافية-هذا مع ما في قلوبنا مِنْ بُغْضٍ لهذه الأفاعيل المخالفة للبرهان والدليل ، فإن الأمردين، والمسلم – حاكماً كان أو محكوماً - يُحَبُّ ويُبْغَض على حسب ما فيه من خير وشر، كما اتفق عليه أهل السنة ، فليس هناك حُبٌّ خالص لشخص إلا للأنبياء، والصديقين، والأولياء الصالحين، وليس هناك بُغْضٌ خالص إلا للكفار والمنافقين ، وأما من خلط هذا وذاك؛ كان له من الحب والبغض بقدْر ما عنده من خير وشر.
وقد كان السلف بخلاف ما عليه الكثير من الناس اليوم أمام الملوك والأمراء الذين قالوا بمقالات مصادمة للدين ، فقد كانوا يرون أن السكوت وعدم إثارة الفتن ؛ أسلم لدينهم ودنياهم ، وأبْقي لبقايا الخير – وذلك بعد النصح إن أمكن - وحنانَيْك بعض الشر أهون من بعض ، وقد أثبتت التجارب والحوادث صحة هذا الفهم ، والله أعلم .
وكذلك ظنت هذه الطائفة المبالِغة في المجالس أنه لا تقوم للدين قائمة قط إلا بإسقاط الحاكم !!! فمن ثَمَّ لهجوا بذلك ، وربُّوا أتباعهم على ذلك !! مع أن هذا مخالف للأدلة والواقع ، فمن ذلك : أن الله عزوجل يقولإن الله لا يُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم)ولم يحصر الأمر في الحاكم فقط، فلم يقل: حتى يُغيروا ما بحكّامهم!!!وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:" لتُنْقضَنَّ عُرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة ؛ تشبث الناس بالتي تليها ، فأولهن نقضاً الحكم ، وآخرهن الصلاة "(65) .
فدلَّ هذا الحديث على أن كثيراً من شعائر الدين تبقي بعد ذهاب الحكم، لأنه أول العرى نقضاً ، والشيء لا يذهب كله بذهاب أوله !! فظهر بذلك أنه ليس الأمر كما يقولون : ذهاب الحكم؛ذهاب الدين كله ، وعلى ذلك فلا يهتم كثير منهم بكثير من واجبات الدين ، لاشتغالهم بما يسمونه بـ " الحاكمية "،بل ربما جعل بعضهم الدعوة إلى سائر أبواب التوحيد ؛ مما يثير البلبلة الفكرية ، والفتن المذهبية ،وعدَّ ذلك اشتغالاً بما لا ينفع ، أو إضاعة للوقت !! وأن الأمر المهم الذي تُحْشد له الجهود والطاقات : هو الإطاحة بالحاكم الفلاني ، أو تولية الحاكم الفلاني!!!
واعلم أنه ليس فيما سبق تسويغ للحكم بغير ما أنزل الله – فمعاذ الله من الكفر والضلالة بعد الهدى – كما أنه ليس فيه تهوين من شأن هذا الأمر العظيم ، وهو التحاكم للدين في كل كبيرة وصغيرة ، ولكن المراد بذلك الرد على هذا الفهم الفاسد ، الذي عطّل كثيراً من الطاقات ، وبعثر كثيراً من الجهود ، وضيَّع كثيراً من الأعمار وراء ذاك السراب ، وشغل الكثير من الشباب عما كانوا يستطيعون القيام به من علم ، وتعليم ، ودعوة !!! فلا العلم حَصّلوه، ولا الحاكم بدّلوه ، ولا الداعية على منهج السلف تركوه،فالله المستعان ، وإليه المشتكى !!!
وأيضاً فالواقع يشهد بأن كثيراً من الشعوب- مع أنهم لا يُحْكَمون بما أنزل الله ، ومع مافي ذلك من فساد وشر – إلا أن كثيراً منهم يحافظ على مباني الإسلام من صلاة وصوم وزكاة وحج ، ويحافظ على توحيده ، وإنكاره المنكرات ، ومن ذلك إنكاره الحكم بغير ما أنزل الله ، وكذلك ترى كثيراً من الناس محافظاً على صلة الأرحام، والصدق، والعفاف، والفضيلة، والمكارم، وفعل الخيرات ، ونحو ذلك .
فالحق أن المخالفين في هذا الباب قد هوّلوا ، وأعطوا مسألة الحكم والحكام أكبر من حقها في سُلَّم الأولويات في الدعوة إلى الله تعالى ، وخالفوا بذلك منهج السلف في هذا الباب ، وقابلهم من يهوِّنون من شأن الحكم بغير ما أنزل الله ، وكِلا طرفيْ قصد الأمور ذميم!!
علماً بأن تلك الطائفة تنطلق من عاطفة جيَّاشة ،وحماس متدفق فقط!!فليس عندهم قواعد علمية،تجعلهم يدافعون عن مذهبهم هذا،وذلك لأنهم لا يهتمون بالعلم-إلا من رحم ربي – .
إنما لهم توجه ثوري حماسي،ولذا فمنابرهم لا تزال ساخنة بذِكْرِ خيانات الحكام،وتَتَبُّعِ خطواتهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة ، والله أعلم بصدق كل ما يُقال-وإن كان الظاهر البيّن من كثير من الحكام لا تقرّ به عين،ولا ينشرح له صدر!! -لكن ليس معنا إلا الصبر واللجوء إلى الله عزوجل ، هكذا أمرتنا السنة ، وعلى هذا نصَّ سلفنا في مصنفات معتقدهم ، وهم القوم الذين لا يشقى من لزم غرزهم في الحق – إن شاء الله تعالى - .
وإذا جالست أحداً من كبار هذه الطائفة أوصغارهم؛فما عند كل منهما إلا هذه العبارات : الحاكم الفلاني منافق ، أو كافر ، أو زنديق ، أو فاجر ، أو عدو الله ، أو كلهم كفار، أو عملاء اليهود والنصارى . . . الخ ، وليس وراء هذه الأحكام كثير علم ولا تأصيل،بل هناك عاطفة وحماس،فإذا ناقشتهم،وذكرت لهم خطأهم، وبُعْدَهم في ذلك عن منهج السلف في هذه الاطلاقات ، أو في هذا التشهير والتهييج ؛لم يقتنعوا بما تقول – إلا من رحم الله - مع عجزهم عن الرد عليك،وإثبات صحة ما هم عليه،إلا من خلال الجرايد والصحف والمجلات والكتب الثقافية،التي كتبها من كان على شاكلتهم !!
الأمر الثاني الذي بذرته الطائفة السابقة:وهو ذم كبار أهل العلم المخالفين لهم،وتنقصهم ،وبيان أنهم علماء سلطة فقط،أو على الأقل : أنهم سطحيون،جهلة بالواقع،وأنهم لُعْبَة في أيدي الحكام من حيث لا يشعرون !!!
إن هذه الطائفة التي لهجت بهذين الأمريين ؛ هي التي وضعت أول لبنة – شعرتْ أو لم تشعرْ - في بناء هذا المنهج المخالف لمنهج السلف،والذي انتهى به الأمر إلى التفجيرات والاغتيالات،فهذه الطائفة اعتقدت،ولم تُحْسِن الاستدلال على اعتقادها هذا !!
— المرحلة الثانية : ثم جاءت طائفة أخرى: وضعت لذاك التهييج والحماس الثوري قواعد وأصولاً،عندما رأوا إنكار العلماء وطلاب العلم على الطائفة الأولى،ورأوا عَجْز تِلْكُم الطائفة عن الرد على مخالفيهم ؛ فاعتقد بعض هؤلاء التكفير لجميع الحكام-متأثرين في ذلك بالطائفة الأولى، وبغير ذلك-ثم راحوا يبحثون عما يقوي صحة اعتقادهم،فاعتقدوا ثم استدلوا،وهذا معيب عند أهل العلم.
المهم أن هذه الطائفة استدلت على تكفير جميع الحكام بقواعد مستمدة - في نظرهم - من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، كأحمد بن حنبل وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي ، وغيرهم .
ومن تأمل تِلْكُمُ القواعد: علم أنه لا يسْلَم من التكفير بسببها حاكم على وجه الأرض ، بل كثير من المحكومين لا يسْلَمون من التكفير بهذه القواعد أيضاً !!
فمن ذلك قولهم: "من نظَّم المعصية؛ فهو مستحل لها، ويكون كافراً بالاستحلال" !!
ويمثِّلُون لذلك بمن يسمح في بلده بوجود بنك يُتَعامل فيه بالربا،قالوا: فهذه معصية، وهي أكل الربا، والربا في نفسه معصية فقط، لكن البنك له لوائح وإرشادات وتعليمات، وهيكل وظيفي، وأساليب في الإيداع والسحب والتعامل ... الخ، فكل هذا يدل على أنهم مستحلون للربا، وإن قالوا بألسنتهم: الربا حرام؛ فهم كفار مع ذلك للاستحلال !!
فمن ذا الذي سيسلم من الكفر إذاً بسبب هذه القاعدة الجائرة؟!لأنه يلزمهم على ذلك أن يكفروا أكثر أمراء بني أمية والعباس وغيرهم ،فإن جورهم – ومن ذلك أخذ المال ،وقتل النفوس - كان بتخطيط وتنظيم ومجاهرة - ليبقى لهم ملكهم- بل قتلوا المئات أو الألوف في سبيل ذلك،ومع ذلك لم يكفِّرْهم السلف،ولم يخلعوا يداً من طاعة،فأين البنك الربوي من حال هؤلاء – الأمراء،ومنهم الحجاج ، وما أدراك ما الحجاج - ؟!! فهل كانت معصية الحجاج ارتجالية عشوائية غير مدبَّرة بليل أو نهار ؟ هل كان الحجاج وأمراء الجور يقيمون ملكهم وأمرهم على أمور جاءت اتفاقاً لا قصداً وتنظيماً وإعداداً وتحدياً للمخالف؟!
وكذلك يلزمهم أن يُكَفِّروا قُطَّاع الطريق إذا نظموا أنفسهم في عصابة ، لنهْب الأموال ، وقطْع السُّبُل ، وجعلوا لكل مجموعة منهم مهمة معينة ، ووضعوا نظاماً في قسمة ما حصلوه نهباً من أموال المسلمين!! وكذا يلزمهم تكفير المتبرجة التي تحرص على أن تكون بهيئة معينة – مع مخالفتها للشرع ، ومع إقرارها بحرمة ما خالف الشرع – ومع ذلك فإنها تبذل وقتاً ومالاً وجهداً حتى تظهر بهذه الصورة القبيحة!!،وكذا المشتغلون بالغناء ونحوه،وأصحاب المحلات التي يبيعون فيها بعض ما نهى عنه الشرع،ولهم طرق في استيراد وتحصيل ورقابة هذه الأمور، وكذا ما يجري في الجيوش والمدارس والجامعات من بعض الأنظمة المخالفة للشرع !! وقِسْ على هذا عدداً من الذنوب التي لا يكفِّر أهلُ السنة أصحابها ، إلا أن هذه القاعدة المحْدَثة تُكَفِّرهم !!
وقد قال شيخ الإسلام في " بيان الدليل " (ص 104) عند كلامه على حديث :" أول دينكم النبوة .....ثم ملك عضوض،يُسْتحل فيه الحر والحرير ..." قال :" لم يُرِدْ بالاستحلال مجرد الفعل؛فإن هذا لم يزل موجوداً في الناس،ثم لفظ الاستحلال :إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالاً " اهـ ، ولشيخ الإسلام كلام واضح في أن الاستحلال المكَفِّر لا يثبت بفعل المعصية، مع قول الشخص : أنا أعتقد أن هذا حرام ، وعدَّ التكفير بذلك تكفيراً بغير موجب ، وتكفيراً بأمر محتمل (66)
فلا يزال العصاة يُنَظِّمون أمرهم في المعصية،ويسيرون في سبيل تحقيق رغباتهم على مراحل معينة، ومع ذلك لم يكفِّرهم السلف بذلك، ولم يعدُّوهم مستحلين لذلك ، بخلاف هذه القاعدة المبتكرة ، والله أعلم .
.. و من ذلك قولهم :"من جاهر بمعصية؛ فهو مستحل لها، يكفر،كالذي عَرَّس بامرأة أبيه،كما في حديث البراء!! وقد رددت على ذلك الاستدلال في كتابي: "كشف الغطاء بتحقيق أحاديث وآثار الداء والدواء " يسّر الله النفع به في الدارين،وذكرت أن من أهل العلم من صرح بأن الرجل خُمِّس ماله ؛لأنه كان مستحلاً،لا بمجرد المعصية،وعلى كل حال: فهل سيسلم من هذه القاعدة حاكم،بل وهل سيسلم منها أكثر المحكومين ؟!!
فإن المجاهرة بالمعاصي في هذا الزمان؛ أمر لا يخفى على العميان ، فهل سنكَفِّر هؤلاء جميعاً ، حكاماً ومحكومين؟!!
فإذا قالوا : نكفِّر الحاكم دون المحكوم ؛ تناقضوا ، فإن القواعد تشمل كل من انطبقت عليه ، والتفرقة – بلا دليل – تَحَكُّمٌ ، والله أعلم .
ومَنْ سَلِمَ مِنَ التكفير بهذه القاعدة ؛ فلن يَسْلَم من التكفير بقاعدة أو قواعد أخرى !! إذاً ، فما الفرق بين هذه القواعد ، وبين تكفير الخوارج لأصحاب الكبائر ؟!!
إن حقيقة هذا المذهب تؤول إلى مذهب الخوارج ، إلا أنهم وضعوا فروقاً –نظرية – فظن الناس أنهم ليسوا على طريقة الخوارج يسيرون – وإن جهل كثير من القائلين بهذه الحقيقة - ومن عرف الحقيقة؛فإنه لا يغتر بهذه القيود النظرية !!
فأحذرك – أخي الكريم – أن تغتر بقول هذا حاله ومآله ، وأنصحك أن تكون حذراً يقظاً في قضايا التكفير والتبديع والتفسيق والتضليل ، فقد ضل بسبب ذلك طوائف في الزمان الأول ، زمن انتشار العلم وفيوض العدالة ، فما ظنك بهذا الزمان ؟!!
.. وأيضاً فمن ذلك قولهم :"من اعترف بمجلس الأمن ،والأمم المتحدة، والأنظمة العالمية؛كفر" !!
هكذا دون إدراكهم لمعنى الاعتراف،ودون مراعاتهم قوة المسلمين ووهنهم،وقوة شوكة غير المسلمين أوضعفها،ودون النظر في المصالح والمفاسد،وهذا كله لا تسلم من التكفير به دولة من الدول !! لأن الدول المسلمة – صالحها وطالحها – مشاركة في هذه الأنظمة ، ومنهم من له اعتبارات شرعية في كثير من ذلك ،ومنهم من لا يلتفت إلى موافقة الشرع أو مخالفته ، ومثل هذا وذاك لا يخفى على كثير من العقلاء !!
.. ومن ذلك قولهم :" مَن أَمَرَ غيره بمعصية ،وعاقبه على ترْكها؛ فهو مستحل لها كافر"!! ومع ذلك فلهم نَظْرَتُهُم- الخاصة بهم - في الحكم على الشئ بكونه معصية ، دون مراعاة للحامل على هذه المعصية : هل هو العجز أو الخوف ، أو مراعاة مصالح عامة ، أو درء مفاسد أكبر من فعل المعصية – وإن وقع خطأ في تقدير ذلك – وكذا هل الحامل على المعصية الشبهة ، أم الشهوة والجرأة على حدود الله،أم لا ؟ أو الجهل أو العناد ، ونحو ذلك ؟ على أنه لا يلزم من ذلك أن جميع الحكام ينطلق في تصرفاته من هذه النظرة الشرعية ، بل بعضهم يفعل ذلك عن هوى وشهوة ،ودون مراعاة للقيود الشرعية !!! ومع ذلك لا يلزم من ذلك التكفير لمعيَّن إلا بشروط معروفة عند أهل العلم ، وإن سلمنا بكفر المعيَّن ؛ فلا يلزم من ذلك منابذته بالسيف ، وإثارة الخاصة والعامة عليه ، فإن في ذلك من الشر – الذي شهدت بها التجارب - ما الله به عليم .
وعلى كل حال : فلا يسلم – بناء على ما سبق من قواعد محدثة – حاكم، بل لا يكاد يسلم من ذلك كثير من أفراد الشعوب،ومديري المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية وغيرها !!
وهل كفَّر السلف أكثر أمراء الأمويين والعباسيين، وقد كانوا يقتلون من خالف أَمْرَهم – ولو كان أَمْرَهم في معصية - ؟!! وأي عقوبة أشد من القتل ؟!!
.. ومن ذلك قولهم :" من حيَّا العلَم ؛ كفر،وإذا حيَّا الجنديُّ قائده ؛كفر،وكأنه سجد لغير الله،أو هذه السجدة الصغرى ".... إلى غير ذلك من قواعد وفتاوى أَصَّلَت تكفير الحكام ومعاونيهم في جميع المجالات عند كثير من الشباب،بل تكفير كثير من المسلمين ـ من حيث يشعر أهل هذه القواعد أولا يشعرون ـ !!!
ولهم على ذلك أدلة يستدلون بها ،وكثير منها وضعوه في غير موضعه،وكثير منها حمَّلوه مالا يحتمل،ولهم بعض مقالات أصابوا فيها الحق من الناحية العلمية- ويجب الاعتراف لهم بذلك - لكنهم رتَّبوا عليها أموراً مفسِدة، وأطلقوا لظنونهم العنان، وأغرقوا في الأخذ بلوازم الأمور ،مع أن لازم القول ليس بقول في كثير من الحالات !!
وقد حدثني بعض الدعاة إلى الله تعالى: أن مِنْ هؤلاء الشباب مَنْ يُكَفِّر الإمام من أئمة الحرم ، لأنه يقول في دعائه : " اللهم اصلح ولاة أمور المسلمين " مستدلاً هذا المُكَفِّر على ذلك بقوله : " إن هذا يدل على أنه يُقرُّ بأنهم ولاة أمور المسلمين ، وهذا يدل على عدم كفره بالطواغيت ، ومن لم يكفر بالطاغوت ؛ فلم يؤمن بالله عزوجل !!بل يتعدى به الحال إلى أن يكفِّر كلَّ من أمَّن وراءه على هذا الدعاء من المصلين للشبهة السابقة ، ولقاعدة من لم يكفِّر الكافر ؛ فهو كافر!!
ولا شك أن تكفيرهم من لم يكفِّر من كفَّروه – وإن سلمنا بخطأ مخالفيهم في عدم التكفير- ؛ تكفير بمجرد الخلاف في المسائل الاجتهادية ، وهذا أشد من التكفير بالكبيرة ، كما لا يخفى على من له معرفة بالعلم والعلماء !!!
وأما قاعدة : "من لم يكفِّر الكافر . . . " فهي مقيدة بمن لم يكفِّر الكافر الذي كفَّره بعينه القرآن أو السنة ، كفرعون ، وأبي لهب ، ونحوهما ، أما من اختلف العلماء في تكفيره ، كتارك الصلاة – مثلاً (1)- ؛ فلا يُكفَّر من لم يكفِّره ، ومن كفَّره لذلك ؛ فهو مخالف للأدلة وطريق الأئمة ، وقائل بما هو أشد من قول الخوارج في التكفير بالكبيرة !!
المهم أن هذا الحال يدل على أمر خطير ، فاحذر منه يا طالب النجاة والهداية ،ولا تغتر بكون الدعاة إلى هذا الفكر ما أرادوا إلا خيراً؛ فإن هذا وحده لا يكفي ، والقصد الحسن –وحده-لم يبرئ ساحة الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ومن والاه، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما في " مجموع الفتاوى " ( 13 / 30 – 31 ) : " وكانت البدع الأولى مثل " بدعة الخوارج " إنما هي من سوء فهمهم للقرآن ، ولم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه مالم بدل عليه ، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب ؛ إذْ كان المؤمن هو البر التقي ، قالوا : فمن لم يكن براً تقياً؛ فهو كافر، وهو مخلد في النار ، ثم قالوا : وعثمان وعلي ومن والاهما ليسوا بمؤمنين ، لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله ، فكانت بدعتهم لها مقدمتان :
الواحدة: أن من خالف القرآن بعمل أو برأي –أخطأ فيه- فهو كافر .!!
والثانية: أن عثمان وعلياً ومن والاهما كانوا كذلك ؛ ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا ، فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام ، فكفَّر أهلها المسلمين ، واستحلوا دماءهم وأموالهم . . . . وهم مع هذا الذم إنما قصدوا اتباع القرآن ، فكيف بمن تكون بدعته معارضة للقرآن والإعراض عنه ، وهو مع ذلك يكفر المسلمين.... " اهـ .
وعلى كل حال : فعندما أَدْلَتْ هذه الطائفة بدلْوها،وقعَّدت قواعد كثيرة لذلك،وأفرزت عدداً لا يكاد يُحصر من الكتب والمجلات والنشرات والمطويات والرسائل والمقالات والأبحاث، سواء منها المطبوعة أو المسموعة، أو التي في " الإنترنيت " أو في الفضائيات أو غير ذلك، فعندما أفرزوا هذه الكتب والأشرطة وغيرها، ووُزِّعت مجاناً - في بعض الأحيان-؛ عَمَّق هذا الصنيع تكفير جميع الحكام في نفوس الشباب والعوام،وكلما كان أحد الحكام مظهراً لأمرٍ مُكَفِّر ؛ قَلَّ كلامهم فيه، بحجة ظهور أمره عند الناس!! وكلما كان أحدهم أكثر خيراً ؛ زاد الكلام فيه ، بحجة أن أمر تكفيره مُلْتَبَسٌ على الناس ، وأنهم يحسنون به الظن، ولا يعرفون حقيقته؛ فلا بد من تقرير كُفْره بجلاء ، نصحاً للأمة !!! واشتعلت المجالس بذلك، وذُمَّ كبار العلماء الذين لا يرون رأيهم، ورُمُوا بما رمتهم به الطائفة الأولى وزيادة !!
ولاشك أن هذه القواعد إذا خيَّمت على أذهان الشباب،وسيطرت على أفهامهم،مع ما انضم إلى ذلك من إسقاط هيبة كبار أهل العلم المخالفين لهم ،والتعبئة الخاطئة في أمر الجهاد والشهادة ؛فإن هذه الأمور ستفضي إلى شرٍ عظيم،ومفاسد لا خطام لها ولا زمام !!
المرحلة الثالثة:فلما اقتنع كثير من الشباب المحبين للدين - مع قلة البصيرة - بتلكم القواعد والأصول؛ضحَّوْا بأنفسهم خدمة للدين ـ في ظنهم ـ فلبسوا الأحزمة الناسفة،وقادوا السيارات التي تحمل أطنان المتفجرات،ولسان حال أحدهم يقول – وهو قادم على قتل نفسه وغيره من المسلمين وغيرهم - : الله أكبر، الله أكبر،فُزْتُ وربِّ الكعبة ، فُزْتُ وربِّ الكعبة ،غداً نلقى الأحبة ، محمداً وصحبه !!!!
فيا سبحان الله ، كم تعمل التأويلات الفاسدة في أهلها وغيرهم !!!
هذا،وقد يكون غير هؤلاء الشباب هو الذي يقوم في بعض البلدان ببعض هذه التفجيرات – تحريشاً للحكام عليهم ، وزجّاً بالشباب في أُتونٍ مستعر مع حكامهم ، وقلقلة لأمن البلاد- ثم تُنسب هذه الرزايا إلى الشباب!! لكن الشباب هم الذين وضعوا أنفسهم موضع الشبهة،فقد اشتهر عنهم أنهم قاموا ببعض هذه الأمور ، وقرّرها بعضهم في كتبه ومقالاته، ودافع عنها ، واتهم مخالفه في ذلك – وإن كان من العلم والفضل بمكان - ومدحها آخرون ، وفرحوا بها ، بل ويُنقل عنهم أنهم يعلنون مسئوليتهم عن تلكم الأوابد والفواقر،وينشرون على الملأ خطوات تنفيذ هذه العمليات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون!!
فإذا أنكرنا على الطائفة الثالثة فقط ، دون علاج الأمر من الأساس؛ فذلك كالحرث في الماء، وكخبط عشواء في أرض بيداء !!!
فإن حال الطوائف الثلاث يُمثِّل طائر الغلو، الذي له جناحان وجسد،فالطائفة الأولى بطن هذا الطائر وأصله ، والطائفة الثانية : الجناح العلمي له، ورأسه المفكرة المنظِّرة ، وعيناه الناظرتان ، والطائفة الثالثة : الجناح العسكري له، ومنقاره ، ومخالبه!!!
إذن فعندنا ثلاث مراحل:
أ ـ مرحلة العاطفة في التهيج على الحكام، والغمز في العلماء المخالفين لهذا الرأي، والطعن فيهم، وإن كان ذلك قد صدر عن عاطفة ارتجالية ، وصرخات عشوائية !!
ب ـ مرحلة التقعيد والتأصيل لهذا الفكر، حتى انتقل من حَيِّز العاطفة التي يسهل تغييرها، إلي حَيِّز العقيدة التي تتسم بالرسوخ والثبات، وقد أُخِذَتْ الاحتياطات اللازمة من بعض دعاتهم لإبقاء هذه العقيدة راسخة؛ عندما صُدَّ الشباب عن الرجوع للعلماء الكبار ، بحجة أنهم ليسوا موثوقاً بهم !!!
ج ـ مرحلة التنفيذ، المتمثلة في الاغتيالات للحكام وأعوانهم ، بل لبعض العلماء المخالفين لهذا الفكر،وكذا التفجيرات التي طارت فيها أشلاء الشيوخ والنساء والصبيان ، وانهدمت بها البيوت على سكانها، وسواء كان ذلك في شهر حرام ، أم لا!! أو كان ذلك في شهر رمضان،الذي تُصَفَّدُ فيه مردة الجن،أم لا!! أو كان ذلك في ليالي العشر،والمسلمون عاكفون في المساجد، أم لا !! أو كان ذلك في الحرمين الشريفين أو غيرهما،أم لا !! وما سلمت بعض المساجد في اليمن - وغيره - من هذه التفجيرات، كما جرى في صنعاء وعدن ،والله المستعان .
والحق يقال: إن هذه المراحل لايلزم أن تجتمع في جميع أفراد هذه الطوائف المشار إليها سابقاً، بل قد يكون هناك أشخاص تنقَّلوا بين هذه الطوائف مع هذه المراحل، وأشخاص بذروا البذور فقط،وآخرون قاموا بسقيها ورعايتها فقط،مع ظنهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه،وآخرون قطفوا ثمارها،وأدخلوها الأسواق ، فَصِيْحَ بهم – فقط – من كل جانب !!
وقد تُحذِّر الطائفتان الأوليان الطائفةَ الأخيرةَ من الإقدام على هذا الفساد- لاعتبارات عندهم ، سواء كانت صحيحة أم فاسدة- وقد تحصل استجابة من البعض،إلا أن الكثير منهم مضَوْا في هذا الطريق ، وهكذا فالفكر يتطور ، ولا حَدَّ له ، ومن بذر بذرة ؛ فلا يستطيع أن يتحكم في نوع شجرتها ونباتها ، ولا في لون أو طعم أو رائحة ثمرتها ، لأن كل ثمرة تنبت من شجرتها ولابد – إلا أن يشاء الله شيئاً - وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ومما ينبغي أن يُنَبَّه عليه هنا : أن دعاة وأفراد هذه الطوائف ليسوا سواء ، فمنهم من أتى بالقواعد السابقة ، ومنهم من سكت ولم يُعقِّب ، ومنهم من لا يرضى بذلك ، لكن لم يظهر إنكاره ، ومنهم غير المستبصر بهذا الفكر ، المحبّ للخير دون معرفة بالطريق إليه ، وغُرِّرَ به بسبب التعبئة الخاطئة ، وهؤلاء يُخشى عليهم في المستقبل – إن لم يلطف الله عزوجل بهم - ، ولا شك أن لكلٍ من هؤلاء حُكْماً ( وقد جعل الله لكل شئ قدرا ) .
والكلام هنا عن فِكْر ابتُليتْ به الدعوة والأمة، لا مجرد إثبات أن فلاناً يقول بهذا القول أم لا ؟! فإن لهذا مقاماً آخر.
كما أن المراد التحذير من هذا الفكر ،والتنفير عن اتِّبَاع دعاته والاغترار بهم ، لا مجرد إصدار الأحكام على المخالف ، دون مناقشته بالحجة والبرهان، والتجارب التاريخية والمعاصرة ، فإن السعي في إصلاح هذا الفكر ؛ من الواجبات الشرعية ، والطبيب يقرر نوع الداء بدقة وأمانة ووضوح لا خفاء فيه،ثم يتلطف ما أمكن في علاجه ، ويأتي البيت من بابه ،فإن نفع الله بذلك ؛ وإلا فما على المحسنين من سبيل ،ويُعامَل كل امرئ بما يستحقه شرعاً، والله أعلم .
اضافة رد مع اقتباس