البرمجة السلبية للإنسان...



اهتم الإعلام قبل فترة بخبر المعمرة الصينية مازالت تتمتع بصحة جيدة وأن مما

ساهم في وصولها لهذا العمر هو برنامجها الغذائي..وأن وصولها لهذه السن

التي حطمت فيها الرقم القياسي العالمي للمعمرين الذين لازالوا على قيد الحياة

وظن البعض أن التغذية التي كانت تتغذى بها المعمرة الصينية هي السبب بعد

الله في وصولها لهذا العمر، ولكن هناك أمور في ظني وردت في ثنايا

خبرالمعمرة الصينية تمثل السبب الأقوى في وصولها لهذا العمر مع تمتعها

بالصحة والحيوية والروح المرحة التي عُرفت بها، وأجزم أن للأخيرة منها

(روحها المرحة) أثراً مهماً فيما وصلت إليه مع ما ذكرته من أنها لم تكن تحمل

في قلبها كرهاً أو حقداً أو حسداً لأحد وأرى أن هذه المزية مما جعلها تبلغ هذا

العمر مع حيوية روحها المعروفة عنها.

وقصة المعمرة الصينية ذكرتني بقصة العجوزين اللذين كان بلوغهما سن الستين

علامة فارقة ومختلفة في حياتيهما، فأحدهما وبعد أن وصل لهذا العمر ظن أنه

قريب من الموت وأنه سيطرق بابه بين آونة وأخرى، فأخذ يهول من الأمراض

التي تصيبه ويزعم أنه سيقضي نحبه فيها حتى لو كان مرضه زكاماً أو رشحاً

خفيفاً، بينما جعل العجوز الآخر من هذه السن عاملاً لبدء حياة جديدة متميزة

وبدأ في المساهمة في مجال الأعمال الخيرية تطوعاً باذلاً الخبرة التي اكتسبها

في حياته للآخرين ومقاوماً للأمراض والعلل مضفياً على حياته رونقاً خاصاً

ومتميزاً جعله مرجعاً أساسياً لأبنائه وأحفاده في الاستشارة وقضاء الحوائج،

والأول لم يكمل عشرة أعوام إلا وقد ووري جثمانه بعد أن أنهكه المرض أو

(التمارض) في سنوات الأخيرة وأعجز نفسه عن الحركة. أما الآخر فما زال يتمتع

بصحة جيدة وروح مرحة وعمل غير منقطع وهو يتخطى الثمانين من عمره الآن،

والمؤلم أن أمثال العجوز الأول هم الغالبية المسيطرة على آبائنا، حيث

يستسلمون بسهولة للكبر ويسلمونه مفاتيح قوتهم ونشاطهم متخذين من تعاطف

أبنائهم وأحفادهم معهم وسيلة للتمادي والاستزادة في التمارض، والرسول

صلى الله عليه وسلم يقول (لا تمارضوا فتمرضوا) والدراسات الحديثة أثبتت أن

أكثر من 75% من الأمراض سببها وَهْم المرض والاستسلام له، كما أن للرسائل

السلبية التي يتلقاها العقل الباطن في الإنسان المحبط دوراً في ترسيخ ما

يزعمه الشخص من إصابته بالمرض أو التمارض.بل إن مشكلة كثير ممن أحيلوا

على التقاعد من موظفينا أن جعلوا هذه المرحلة نهاية حياة حافلة بالجد

والمثابرة، بل إن أحدهم لم يجد صعوبة وهو يفسر الكلمة بأنها تعني (الموت)

(قاعداً) وربما أن نوعية الحياة التي نحياها يكون لها أثر كبير في محدودية

الاختيارات للشخص فيجد نفسه أنه امام خيار وحيد في ظل عدم وجود الأندية

الاجتماعية وعدم ترحيب القطاع الخاص بهم أو حرية الحركة والنشاط، ولكن

الشخص القادر هو من يستطيع أن يصنع لنفسه حياة متميزة وفريدة فيما تبقى

له من حياة قد تعادل نصف ما مضى من حياته، فالفراغ إن لم يشغل بالنافع

المفيد فقد يكون وسيلة هدم لصاحبه، والفطن المتميز هو من يستطيع تكييف

نفسه وحياته في وضع مفضل من خلال أنشطة حياتية مختلفة، وأذكر أني

سمعت قصة عن أحد المديرين في شركة أجنبية حينما أقيم له حفل تكريم

بمناسبة إحالته على التقاعد بعد بلوغه سن الستين وحينما سئل أثناء الحفل عن

خططه القادمة قال إنه وضع للعشر سنوات القادمة خطة محددة بأنه سيواصل

العمل وسيحاول من خلاله تحقيق كذا وكذا وفصل في الأمر مما حدا بمسؤولي

الشركة إلى مخاطبته للتجديد له لعشر سنوات قادمة، وبعد عشر سنوات تكرر

ذات المشهد وجدد له لعشر سنوات أخرى، وبعد بلوغه الثمانين وأثناء حفل

التكريم للمرة الثالثة قال انه بحاجة إلى أن يغير مجال عمله وفق خطة محددة

للعشر سنوات القادمة، وبالطبع فقد رأى أن مرحلته السنيّة الحالية تمنعه من

مواصلة ذات العمل رغم أنهم طالبوه بذلك، حيث إن جهده الحالي يحتاج لنوعية

معينة من الأعمال، وهنا أعلم أن طبيعة الحياة هناك وانفتاحها وتعدد مجالات

العمل تتيح للمتقاعد (البدء) من خلال مسارات جديدة، ولكن هنا من يبحث سيجد

ولن يكون أقلها بالتأكيد ما قاله لي أحد المتقاعدين من أنه سيتوجه للقراءة

والكتابة في هذا العمر، فهو عمل جميل لكن عيبه أنه بلا حركة والركون للجلوس

والخمول قد يكون طريقا لمداهمة المرض وربما سيطرة التمارض على الإنسان