الجزء الثاني
جوهانسبرج - اليوم الأول
( منظر عام لمدينة جوهانسبرج - الصورة من جوجل )
كانت الاطلالة المبدئية على مدينة جوهانسبرج حينما شارفت الطائرة على الهبوط توحي بالطمأنينة ! .. فقد ظهرت تحتنا المساحات الخضراء ورسمت بين جنباتها المباني والطرقات الحديثة التي توحي اننا بصدد الوصول الى مدينة منظمة وليس كما الاعتقاد السائد بعشوائية المدن الافريقية ! .. شعرت بارتياح مبدئي بأن قرار اختيار جنوب افريقيا بدى لي من الوهلة الأولى موفقا ! .. ثم منحت نفسي مساحة لتصور ما هي المخاطر الأمنية المتوقعة ونحن على مشارف الهبوط لأخطر مدينة بالعالم ! .. وبينما انا ارتب في مخيلتي بعض الممارسات الشخصية التي تقلل نسبة المخاطرة وجدت نفسي اتساءل : وهل هنالك من هم أخطر منا نحن بني يعرب ؟! .. ثم وجدت نفسي اسهب في تفسير وجهة نظري لكون بني يعرب هم الأمة الوحيدة في التاريخ الحديث الذين يصنعون القتل ويبررونه بنصوص شرعية ! .. في المجتمعات الأخرى تكون مهنة القتل حكرا فقط على المنظمات والعصابات الاجرامية التي تعلم يقينا ان سلوكها خاطئ لذلك هم مجرمون ! .. بينما في عالمنا العربي فالوضع مختلف حيث يقتل الناس ويظهر القتلة بصورة الابطال مع فتوى شرعية بأنهم من أهل الجنة لا محالة ! .. لذلك بدت لي عصابات جنوب افريقيا كالحملان الوديعة بجانبنا نحن الضباع العربية .. ثم تداركت العدوانية التي بدأت تنساب بين شراييني واستعنت على بني جوهانسبرج بالقول : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق !

( منظر عام لبهو المطار في جوهانسبرج - الصورة من جوجل )
ترجلنا من الطائرة وسرنا في ممر طويل جدا حتى ظننت اننا سوف نعود الى صنعاء سيرا على الأقدام ! .. كان المطار ضخما جدا ومنظم بشكل كبير وكان اقرب الى تصاميم المطارات الأوروبية التي لا تتكلف كثيرا في الديكورات والأشكال الهندسية على عكس نظيرتها في بعض عواصم شرق اسيا او بعض المدن العربية مؤخرا كأبو ظبي ودبي والدوحة قريبا ،،،
هكذا وجدت نفسي في طابور طويل جدا من ملامح شتى حول العالم امام منافذ الجوازات .. منحت ناظري مساحة لقراءة خطواتي الأولى في هذه المدينة كمن يتناول كتابا شيقا بين يديه ! .. ووجدت عيناي تقع على احد موظفي الجوازات الذي كان يقف في نهاية الطابور لتوجيه المسافرين الى المنافذ المتاحة لإنهاء اجراءات دخولهم البلاد .. لفت نظري انه كان يرتدي النظارة السوداء اثناء تأدية مهام عمله في منظر بدى لي متكلف جدا وتناسب الطريقة الافريقية المتكلفة دوما في الوان ملابسهم الفاقعة وانفعالات احاديثهم وموسيقاهم الصاخبة ! .. ويبدو ان هذا العسكري قد قرأ افكاري حينما وجدت نفسي ماثلا امامه وهو يتفحصني بتمعن حتى ظننت للحظات انه سوف يحمل مدفعه الرشاش ويقفز في الهواء عاليا وهو يرشق الرصاص ميمنة وميسرة ويهتف بصوت مجلجل أن الموت للأعداء ! .. الا انه خالف توقعاتي واكتفى ان طلب مني طلبا غريبا بانتزاع نظارتي الطبية ! .. حاولت ان اوضح له طبيعة هذه النظارة ! .. الا انه حسم محاولتي اليائسة عندما اطلق لي طرف مشفره العملاق ( المشفر تعني الشفة ) اشارة الى ان الحديث قد انتهى ! .. لملمت بضع كلماتي التي توقفت في حنجرتي خشية ان أثير استياءه فيلتهمني بكامل مشفريه دون رحمة أو شفقة في منظر لن يكون لائقا امام زوجتي والرأي العالمي ! .. غادرته الى حيث طلب مني التوجه وانا اتذكر بيت من الشعر للصعلوك الكبير المتنبي حين قال يهجو كافور الاخشيدي :
وعبد مشفرته نصفه .. يقال له أنت بدر الدجى !
للعلم : كافور الاخشيدي هو أحد سلاطين الدولة الاخشيدية التي قامت في دولة مصر في أواخر عصر الدولة العباسية ! .. تناول زمام الحكم بعد وفاة السلطان ولم يكن هنالك في حينها وليا للعهد يستطيع ان يحكم البلاد وذلك لأن ابناء السلطان المتوفي كانوا في مرحلة الطفولة ! .. تعرض لمؤامرات عدة من اقرباء السلطان ولكنه استطاع القضاء عليها حتى اذا ما بلغ الاطفال مرحلة النضوج قام بالتنازل عن السلطة لهم وتسليمهم مقاليد الحكم ! .. يقال ان عصره كان اشبه العصور بعهد الخليفة الأموي ( عمر بن عبدالعزيز ) في الورع والتقوى والعدل .. هذا والله أعلم ،،،
توجهت الى منفذ الجوازات فاستقبلني عسكري اخر بابتسامة عريضة ومرحبة وقام بإنهاء الاجراءات وسلمنا جوازاتنا وهو يقول لنا : السلام عليكم ! .. استرقت النظر مباشرة نحو بطاقته التعريفية فوجدت إن اسمه مسيحيا من عينة جون وطوني ومنقرع اذا كان الأخير قد سمع بالمسيحية أصلا ! .. سألته : من اين عرفت هذا ؟ .. فأجابني : أن لديه اصدقاء مسلمين ! .. فقدرت له جهوده وودعني وهو يتمنى لي اقامة طيبة في جنوب افريقيا ! .. غادرته وانا أحاول ان اتذكر من القائل : أنما الأمم الأخلاق ! .. في عصرنا العربي الذي اصبحت به الاخلاق الذميمة مصدرا للفخر والوطنية !
توجهت بحثا عن محطة القطارات بالمطار .. فتجربة القطارات تعد متعة اضافية خاصة وان القطارات ليست متاحة بعد في بلادنا ! .. ناهيك ان تكاليف المواصلات في جنوب افريقيا باهضه جدا جدا وايضا جدا أخرى فوق البيعة ! .. وجدت نفسي اشتري التذاكر واتوجه الى القطار الذي فاجئني بتصميمه العصري ونظافته حتى تظن ان المحطة والقطار قد تم افتتاحهم للتو !
( منظر عام للمحطة والقطار )
( منظر عام من داخل القطار )
استقلت القطار متوجها الى محطة ( Sandton ) وهي منطقة توصلت اثناء بحثي عن جوهانسبرج انها بالقرب من مراكز الاعمال والتسوق لذلك اخترت مقر سكني بها .. وللعلم فأن جوهانسبرج تعد بمثابة العاصمة الاقتصادية للبلاد ومركز المال والاعمال في جنوب افريقيا وبالتالي لم تكن كما كنت أظن إنها العاصمة السياسية ! .. بل ان العاصمة السياسية هي مدينة بريتوريا بينما تعد مدينة كيب تاون العاصمة التشريعية .. لذى اذا قرر احدكم زيارة جنوب افريقيا لعقد مباحثات دولية مع الرئيس الجنوب افريقي فليتذكر ان يبلغ مرافقيه وكابتن الطائرة التوجه الى بريتوريا !
( منظر عام لمحطة ساندتون - الصورة من جوجل )
وصلنا الى المحطة وكان يفترض ان نستقل سيارة الأجرة الى الفندق حيث كان وفق تصوري بناء على معلومات ( جوجل إرث ) يبعد مسافة نصف ساعة سيرا على الأقدام ! .. وانا من الاشخاص الذين يستمتعون بالسير على الاقدام في السفر ،،،
في أحيان عديدة ننسى أنفسنا في خضم الحماس ! .. وقد ننسى ايضا ان هنالك مرافقون قد أستنزفهم طول مدة الرحلة قرابة 8 ساعات ناهيك عن الساعات الاخرى في اجراءات الدخول وركوب القطار حتى وصلنا هذه المحطة اضافة الى شنطة السفر التي يحملها كل منا ! .. قالت لي أم عبدالرحمن بضرورة ان نستقل سيارة اجرة الى المطار .. الا انني سأعترف اننا تحايلت عليها بأن المسافة قصيرة جدا لا تتجاوز 5 دقائق ! .. حقيقة لقد كان الجو ربيعيا وخلابا ودرجة الحرارة تقارب اذا لم تخني الذاكرة الـ 16 درجة في منتصف الظهيرة ! .. وللعلم فأن الفصول الاربعة في جنوب افريقيا تقع عكس الفصول الاربعة لدينا .. فحينما نكون في فصل الصيف فأن الفصل لديهم يكون شتاء ... وهكذا ! .. لذلك نالني الحماس الذي جعلني اتحايل عليها حتى وجدنا انفسنا في منتصف طريق لا يبدو له من نهاية ونحن لا ندري اين نتجه ؟!
بدى الطريق لنا خاليا من المارة وقد توجست بعض القلق حينما لم أجد الطريق الذي نسير به مكتظا بالناس وزاد الطين بله وجوه بعض الاشخاص الذين يظهرون من وقت الى آخر بملابسهم البالية ! .. كانت ملامحنا تظهر اننا غرباء بحقائب السفر التي تزحف معنا ورداء زوجتي بالعباءة والطرحة ناهيك عن ملامحي الغليظة العابسة التي توحي مباشرة اننا من العرب الأقحاح ! .. شعرت بالقلق وفداحة الخطأ الذي ارتكبته في حق زوجتي .. وتعلمت انني يجب ان اراعي في المرات القادمة ان معي امرأة وليس كما اعتدت ان اسير وحيدا او برفقة اصدقاء .. ولكن ما الحل الآن ؟! .. حاولت ان اجد سيارة اجرة بالطريق ولكن يبدو ان هذه البلاد لا تعترف بالركاب الذين يظهرون فجأة بالطرقات كما النظام تقريبا في اوروبا وشمال امريكا حيث وللضرورات الأمنية يتم نقل الركاب من خلال الاتصال الهاتفي او من خلال المواقف المخصصة في الاماكن العامة كمحطات القطارات او المراكز التجارية ! .. فكرت ان أعود الى المحطة الا ان هذا القرار سيكون محبطا وربما اثار المخاوف لدى زوجتي ! .. كان موقف لطيف وممتع هذا الذي وجدت نفسي به حتى عندما قررت ان استوقف احد المارة للسؤال عن الفندق فقد تتطلب مني ان اتابعه عدة خطوات حتى شعر بالاطمئنان نحوي ! .. سألته عن عنوان الفندق فخضنا لأجل هذا السؤال حوارا مطولا كانت نهايته انه لا يعرف هذا الفندق ! .. فكرت حينها ان اختطفه واضعه في احدى الحقائب رهينة الى حين ميسرة !

( صورة من الشارع اللطيف الظريف ! )
سرنا وقد بدى لي اننا لفتنا انظار بعض المهتمين الذي أخذ اثنان منهم في متابعتنا ! .. لفت الموقف نظر زوجتي التي سألتني قلقة ان هؤلاء يسيرون خلفنا منذ وقت ؟! .. فأجبتها ان الشارع للجميع ! .. قالت لي : اعتقد اننا سرنا فوق النصف ساعة وقد قلت انها 5 دقائق ! .. قلت لها : دعي القيادة وتمتعي بالرحلة !
قررت فجأة ان اتوقف فقد أقلقني بالفعل الحاح هذان الشابان في متابعتي ! .. ومنحت نفسي مساحة لقراءة الموقف .. فوجدت احدهم يستكمل مسيره امامنا بينما توقف الاخر ينظر في الجهة الأخرى ! .. وهكذا وجدت نفسي بين شخصين لطيفين لا يبدو مطلقا انهما يريدان مساعدتنا ! .. حدثت نفسي ان البداية لم تعد طريفة .. ولكن طالما اصبحنا امام الأمر الواقع فيجب ان نتعامل معه كما هو .. أكملنا المسير وانا احاول قراءة الاحتمالات والتصرف الأمثل حتى وجدت زوجتي تشير الى الطرف الآخر وهي تقول : الفندق !
( صورة للفندق )
كدت من فرط الحماس ان احملها والحقائب فوق ظهري وأطلق ساقي للريح الى بهو الفندق ! .. هكذا وجدنا انفسنا بفضل الله في داخل الفندق فرحين مستبشرين وقد عاد الأمان مرة أخرى على استحياء الى نفوسنا !
انتهى الجزء الثاني وسوف يتجدد اللقاء معكم مرة أخرى يوم الخميس المقبل
إن شاء الله
ودمتـم في خيـر