مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #1  
قديم 27/07/2010, 10:07 AM
الصورة الرمزية الخاصة بـ دوق فليد
دوق فليد دوق فليد غير متواجد حالياً
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 06/04/2006
المكان: بلجرشي الوطن والروح
مشاركات: 2,746
Exclamation أكاذيب حقيقية..!!

في القرن السادس الميلادي خرج الأعشى من دياره ليمارس هوايته كشاعر في الشحاذة والتكسب.. فأناخ راحلته في ديار إحدى القبائل.
كان فيها رجل يُدعى عبد العزى بن خنتم.. فقير لا يملك من حطام الدنيا شيئاً سوى سبع بنات عوانس لم يتزوجن.. فأشارت إليه امرأة حكيمة بأن الحظ قد ساق إليك "محطة إعلامية" فقدم له أي شيء كي يمدحك ويمدح بناتك.. ولمّا كان الرجل شديد الفقر فأنه لم يجد إلا أن يستدين ناقة ولحق بالأعشى وأهداها إليه..!!

ولأنه كان جائعاً طلب أن ينحروا الناقة وبعد أن امتلأت معدته بما لذ وطاب سأل عن الرجل الذي أهداه هذه الناقة فقالوا له أنه رجل مُعدم وله سبع بنات فدخل خيمته ولم يخرج منها إلا بعد أن قال قصيدة تناقلتها العرب في عكاظ:

لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرةٌ
إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها
وبات على النار الندى والمحلق

مضى عام بعد هذه القصيدة.. تزوجن بنات "المحلق عبد العزى" السبع من علية العرب.. ولم يعد الرجل الفقير فقيراً..!!


×××


التاريخ يكتبه المنتصرون..
وعندما تنتصر فإن الكل سيدور في فلكك من شعوب وعبيد وخدم وحشم وشعراء ومؤرخين وشيوخ ومفتين.. وستجد ألف من يبرر أخطاءك وستجد كل تفاهة تنطقها حكمة وقرآن مبين.
ولسوء حظ الأُمويين لم يبدأ تدوين التاريخ وكتب الدين إلا بعد انتهاء دولتهم القصيرة العمر نسبياً بينما كان العباسيين أهل التدوين والإعلام؛ فجُل ما وصل إلينا من تاريخ كُتب في العهد العباسي ولم يكن ليسلم من تملق الملوك سوى القليل جداً من المؤرخين.
إضافة إلى الوسيلة الإعلامية الأُخرى "الشعر" فقد كان سُخرة بيد الملوك، والناتج هو عملية غسيل مخ لعقول المتلقين على مدى قرون طويلة كان يتم تصوير عصور العباسيين بعصور العظمة والقوة بينما يتم تجاهل مظاهر القمع والفساد السياسي والاقتصادي والديني الذي عاشته تلك العصور..

×××


ماذا لو تم الاتفاق على تلفيق كذبة على مجموعة من البشر بغرض إخضاعهم والسيطرة على فكرهم وأحاسيسهم وتمرير مشاريع سياسية أو اقتصادية أو النيل من حرياتهم..!!
وهو في الأزمنة الغابرة من السهولة بمكان طالما هو من الممكنات في العصر الحاضر والذي رأيناه عياناً في تبرير الحروب بل وفي تلفيق الانتصارات والبطولات الوهمية في دول "العالم الأخير"..
وإن جاز ذلك على شعوب تؤمن بالنقد والتفكير الفردي، فهو أسهل على شعوب يُسيرها التفكير الجمعي كالقطعان.

×××


تنمية ملكة النقد والتفكير الوسيلة الأهم لاستنباط الحقيقة واكتشافها والتربية التي تلغي العقل تجعل الأجيال الجديدة كالصلصال يتشكل كيفما يريد أي شخص يملك القدرة على التوجيه والتحكم في الآخرين.
وتنمية ملكة التفكير على أهميتها إلا أنها لا تكفي؛ فأُحادية المصادر تجعل العقل شبه أعمى ولا يستطيع إصدار أحكام صحيحة، أما لو تنوعت المصادر فإنه بالفكر يستطيع المرء أن يجد الحقيقة حتى لو كانت وسط كومة أكاذيب.

×××


ففي أزمنة الجاهلية الغابرة كان الإعلام "الشعر" يُكرس لخدمة القبيلة وأحياناً لخدمة نزوات الشاعر فكانت قصائد وأبيات سخيفة تستطيع أن ترفع من شأن قبيلة وتخفض، كل ذلك لأن المُتلقين كان يُسلمون عقولهم كي يشكلها الإعلامي "الشاعر"؛ وهو ذات ما كان يحدث في عهد العباسيين وغيرهم مع تعدد الوسائل الإعلامية فهي لم تعد تقتصر على الشعراء الذين يخدمون البلاط الملكي بل امتد إلى العلماء والمؤرخين وغيرهم كثير..

الآن وفي عصرنا الحاضر.
من يتلقى المعلومات من الإعلام بل وحتى من المصادر التاريخية على علاتها فإنه يسلم نفسه للمؤرخين المؤدلجين كي يُشكلوا فكره كما يرغبون هم ووفقاً لمخططاتهم التي يخدمونها.
فما يمارسه الإعلام على مختلف أشكاله في مختلف العصور هو خدمة فئة وتسيير الجماهير وفق مصالحها حتى لو كان بنشر الأكاذيب أو تطويع الدين والشعر والتاريخ ليتوافق مع أفكارهم.
بل أن الإعلام وتلفيق الأخبار غدا علم يُدرس ووسائل استخباراتية تحقق أهداف متنوعة.
وعندما أدعو إلى عدم الثقة في المصادر الأحادية فلا يعني ذلك الإعلام وحده بل حتى ما قد يوجد من كتب وأشخاص قد يتلقى المرء ما لديهم على أنه من المُسلمات.

ولا تسألوا عن مقدار الكذب والدجل الذي قد تحويه كتب وقصص وقصائد الفخر والمديح..!!

فافترض جدلاً بأن ما وُجد في كتب الجغرافيا من معلومات كله صحيح على الإطلاق..
ولكن ولوجود خطأ مطبعي تم توزيع نسخ في قرية نائية على أن قارات العالم هي قارتان وتم حذف الأمريكيتين وأستراليا من المنهج بسبب هذا الخطأ المطبعي..
عندها ستجد أن جيلاً في تلك القرية يعتقدون بوجود قارتين فقط ولو تناقشوا مع مثقف أخبرهم عن وجود ست قارات لاتهموه بالجنون والتجديف وهذا ليس خيال بل أنه حقيقة حدثت في القرون الوسطى وفي عصر التنوير "في أوربا" وذهب ضحيته الكثير عندما كان العلماء يقدحون زناد فكرهم فينشرون الاكتشافات العظيمة التي غالباً ما تتعارض مع أفكار العامة أو تكون ضد توجهات سياسية فيتم وأد أفكارهم.

إلا أنه أحياناً لا مناص من التعامل مع مصادر مشكوك فيها اضطراراً كما حدث على سبيل المثال مع كُتاب التاريخ الذين يُعانون من شح المعلومات عن عصور ما قبل الميلاد فكانوا لا يجدون سوى مصدر واحد هو أحد المؤرخين اليونانيين ومع أن النقاد كانوا يسخرون من الخزعبلات التي كانت تحويها مؤلفاته إلا أنهم كانوا يقبلون ببعض ما ينقله بسبب شح المصادر البديلة..

أما في حاضرنا غدت الوسائل أكثر من أي عصر مضى وإتقان الحبكات أكثر دقة حتى تصبح الأكاذيب حقيقية..
اضافة رد مع اقتباس