مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #1  
قديم 15/08/2004, 05:02 PM
جبل التوباد جبل التوباد غير متواجد حالياً
زعيــم متواصــل
تاريخ التسجيل: 14/06/2001
مشاركات: 196
تفسير جزء عم للشيخ محمدبن صالح العثيمين - رحمه الله - ( سورة الإنشقاق )

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }


{إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الاَْرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يأَيُّهَا الإِنسَـنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَـقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً}.

البسملة تقدم الكلام عليها.

{إذا السماء انشقت} انشقت: انفتحت وانفرجت كقوله تعالى: {وإذا السماء فُرجت} [المرسلات: 9]. وكقوله تعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان. فبأي ألاء ربكما تكذبان. فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن: 39]. إذاً فانشقاقها يوم القيامة.
{وأذنت لربها} أذنت: بمعنى استمعت وأطاعت أمر ربها عز وجل أن تنشق فانشقت بينما هي كانت كما وصفها الله تعالى {سبعاً شداداً} [النبأ: 12]. قوية كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات: 47]. أي بقوة فهذه السماء القوية العظيمة تنشق يوم القيامة تتشقق تتفرج بإذن الله سبحانه وتعالى
{وحقت} أي حق لها أن تأذن، أي تسمع وتطيع؛ لأن الذي أمرها الله ربها خالقها عز وجل، فتسمع وتطيع، كما أنها سمعت وأطاعت في ابتداء خلقها، ففي ابتداء خلقها قال الله تبارك وتعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11]. فتأمل أيها الادمي البشر الضعيف كيف كانت هذه المخلوقات العظيمة تسمع وتطيع لله عز وجل، هذه الطاعة العظيمة في ابتداء الخلق وفي انتهاء الخلق. في ابتداء الخلق قال: {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} في انتهاء الخلق {إذا السماء انشقت. وأذنت لربها وحقت} حُق لها أن تأذن تسمع وتطيع.
ثم أعاد قال: {وأذنت لربها وحقت} تأكيداً لاستماعها لربها وطاعتها لربها.
{وإذا الأرض مدت} هذه الأرض التي نحن عليها الان هي غير ممدودة، أولاً: أنها كرة مدورة، وإن كانت جوانبها الشمالية والجنوبية منفتحة قليلاً ـ أي ممتدة قليلاً ـ فهي مدورة الان، ثانياً: ثم هي أيضاً معرجة فيها المرتفع جداً، وفيها المنخفض، فيها الأودية، فيها السهول، فيها الرمال، فهي غير مستوية لكن يوم القيامة
{وإذا الأرض مدت} أي تمد مدًّا واحداً كمد الأديم يعني كمد الجلد، كأنما تفرش جلداً أو سماطاً، تُمد حتى إن الذين عليها ـ وهم الخلائق ـ يُسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، لكن الان لا ينفذهم البصر، لو امتد الناس على الأرض لوجدت البعيدين منخفضين لا تراهم لكن يوم القيامة إذا مُدت صار أقصاهم مثل أدناهم كما جاء في الحديث: «يجمع الله تعالى يوم القيامة الأولين والاخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفُذُهُم البصر».
{وألقت ما فيها وتخلت} أي جثث بني آدم تلقيها يوم القيامة، تلقي هذه الجثث فيخرجون من قبورهم لله عز وجل، كما بدأهم أول خلق، أي كما خرجوا من بطون أمهاتهم يخرجون من بطون الأرض، وأنت خرجت من بطن أمك حافياً، عارياً، أغرل إلا أن بعض الناس قد يخلق مختوناً لكن عامة الناس يخرجون من بطون أمهاتهم غرلاً كذلك تخرج من بطن الأرض يوم القيامة حافياً ليس عليك نعال، عارياً ليس عليك كساء، أغرل لست مختوناً، ولما حدّث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قالت عائشة: يا رسول الله: الرجال والنساء جميعاً، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض»، الأمر شديد، كل إنسان لاهٍ عن نفسه {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37]. والإنسان إذا تصور الناس في ذلك الوقت مجرد تصور فإنه يرتعب ويخاف، وإذا كان عاقلاً مؤمناً عمل لهذا اليوم،
{وأذنت لربها وحقت} أذنت يعني استمعت وأطاعت لربها وحقت فبعد أن كانت مدورة فيها المرتفع والنازل صارت كأنها جلد ممتدة امتداداً واحداً. ثم قال عز وجل:
{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً} الكادح: هو الساعي بجد ونوع مشقة وقوله: {إلى ربك} يعني أنك تكدح كدحاً يوصلك إلى ربك، كدحاً يوصل إلى الله، يعني أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى الله، لأننا سنموت وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل، فمهما عملت فإن المنتهى هو الله عز وجل {وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42]. ولهذا قال: {كادح إلى ربك كدحاً} حتى العاصي كادح كادحًا غايته الله عز وجل {إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 25، 26]. لكن الفرق بين المطيع والعاصي: أن المطيع يعمل عملاً يرضاه الله، يصل به إلى مرضاة الله يوم القيامة، والعاصي يعمل عملاً يغضب الله، لكن مع ذلك ينتهي إلى الله عز وجل إذاً قوله: {يا أيها الإنسان} يعم كل إنسان مؤمن وكافر {إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} الفاء يقول النحويون: إنها تدل على الترتيب والتعقيب، يعني، فأنت ملاقيه عن قرب {إن ما توعدون لات} [الأنعام: 134]. وكل آت قريب {وما يدريك لعل الساعة قريب} [الشورى: 17]. وإذا شئت أن يتبين لك أن ملاقاة الرب عز وجل قريبة فانظر ما مضى من عمرك الان، لو مضى لك مئة سنة كأنما هذه السنوات ساعة واحدة. كل الذي مضى من أعمارنا كأنه ساعة واحدة. إذاً هو قريب، ثم إذا مات الإنسان، فالبرزخ الذي بين الحياة الدنيا والاخرة قريب قريب كاللحظة، والإنسان إذا نام نوماً هادئاً ولنقل نام أربعاً وعشرين ساعة، وقام فإنه يقدر النوم بدقيقة واحدة مع أنه نام أربعاً وعشرين ساعة، فإذا كان هذا في مفارقة الروح في الحياة يمضي الوقت بهذه السرعـة، فما بالك إذا كانت الروح بعد خروجها من البدن مشغولـة إما بنعيم أو جحيم، ستمر السنوات على الإنسان كأنها لا شيء، لأن امتداد الزمن في حال يقظتنا ليس كامتداد الزمن في حال نومنا، فالإنسان المستيقظ من طلوع الشمس إلى زوال الشمس مسافة يحس بأن الوقت طويل، لكن لو كان نائماً ما كأنها شيء، والذي أماته الله مئة عام ثم بعثه {قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم}. وأصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وتسع سنين، فلما بُعثوا قال بعضهم لبعض: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وهذا يدل على أن الإنسان يتعجب كيف تذهب السنوات على هؤلاء الأموات؟ نقول نعم، السنوات ما كأنها إلا دقيقة واحدة، لأن حال الإنسان بعد أن تفارق الروح بدنه سواء كانت مفارقة كلية أو جزئية غير حاله إذا كانت الروح في البدن، فإذا كانت الروح في البدن يعاني من المشقة والمشاكل والهواجيس والوساوس أشياء تطيل عليه الزمن، لكن في النوم يتقلص الزمن كثيراً، في الموت يتقلص أكثر وأكثر، فهؤلاء الذين ماتوا منذ سنين طويلة كأنهم لم يموتوا إلا اليوم لو بعثوا لقيل لهم كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وهذه مسألة قد يرد على الإنسان فيها إشكال، ولكن لا إشكال في الموضوع مهما طالت المدة بأهل القبور فإنها قصيرة، ولهذا قال: {فملاقيه} أي (بالفاء) الدالة على الترتيب والتعقيب، وما أسرع أن تلاقي الله عز وجل. ثم قسم الله عز وجل الناس عند ملاقاته تعالى إلى قسمين: منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ومنهم من يأخذ كتابه من وراء ظهره، {فأما من أوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسب حساباً يسيراً} لما ذكر أن الإنسان كادح إلى ربه {كادحاً} أي عامل بجد ونشاط وأن عمله هذا ينتهي إلى الله عز وجل كما قال الله تعالى: {ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 123]. لما ذكر هذا قال
: {فأما من أوتي كتابه بيمينه}، إشارة إلى أن هؤلاء العاملين منهم من يؤتى كتابه بيمينه، ومنهم من يؤتى كتابه من وراء ظهره {فأما من أوتي كتابه بيمينه} و{أوتي} هنا فعل مبني لما لم يسم فاعله، فمن الذي يؤتيه؟ يحتمل أنه الملائكة، أو غير ذلك لا ندري، المهم أنه يعطى كتابه بيمينه أي يستلمه باليمنى.
{فسوف يحاسب حساباً يسيراً} أي يحاسبه الله تعالى بإحصاء عمله عليه، لكنه حساب يسير، ليس فيه أي عسر كما جاءت بذلك السنة: أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه، فيقول: عملت كذا، عملت كذا، عملت كذا، ويقر بذلك ولا ينكر فيقول الله تعالى: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، ولا شك أن هذا حساب يسير يظهر فيه منّة الله على العبد، وفرحه بذلك واستبشاره. والمحاسب له هو الله عز وجل كما قال تعالى: {إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 25، 26].
{وينقلب إلى أهله مسروراً} ينقلب من الحساب إلى أهله في الجنة مسروراً، أي مسرور القلب، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم هم بعد ذلك درجات، وهذا يدل على سرور القلب؛ لأن القلب إذا سُر استنار الوجه
{وأما من أوتي كتابه وراء ظهره. فسوف يدعو ثبورًا. ويصلى سعيًرا} هؤلاء هم الأشقياء والعياذ بالله، يؤتى كتابه وراء ظهره وليس عن يمينه، وفي الاية الأخرى في سورة الحاقة {وأما من أوتي كتابه بشماله} [الحاقة: 25]. فقيل: إن من لا يؤتى كتابه بيمينه ينقسم إلى قسمين: منهم من يؤتى كتابه بالشمال، ومنهم من يؤتى كتابه وراء ظهره، والأقرب والله أعلم أنه يؤتى كتابه بالشمال، ولكن تلوى يده حتى تكون من وراء ظهره، إشارة إلى أنه نبذ كتاب الله وراء ظهره، فيكون الأخذ بالشمال ثم تلوى يده إلى الخلف إشارة إلى أنه قد ولى ظهره كتاب الله عز وجل ولم يبال به، ولم يرفع به رأساً، ولم ير بمخالفته بأساً.
{فسوف يدعو ثبوراً} أي يدعو على نفسه بالثبور، يقول: واثبوراه يا ويلاه، وما أشبه ذلك من كلمات الندم والحسرة، ولكن هذا لا ينفع في ذلك اليوم؛ لأنه انتهى وقت العمل فوقت العمل، هو في الدنيا، أما في الاخرة فلا عمل وإنما هو الجزاء
{ويصلى سعيًرا} أي يصلى النار التي تسعر به ويكون مخلداً فيها أبداً، لأنه كافر
{إنه كان في أهله مسروراً} إنه كان في الدينا في أهله مسروراً، ولكن هذا السرور أعقبه الندم والحزن الدائم المستمر، واربط بين قوله تعالى فيمن أوتي كتابه بيمينه {وينقلب إلى أهله مسروراً}، وهذا {كان في أهله مسروراً} تجد فرقاً بين السرورين، فسرور الأول سرور دائم ـ نسأل الله أن يجعلنا منهم ـ وسرور الثاني سرور زائل، ذهب {كان في أهله مسروراً} أما الان فلا سرور عنده
{إنه ظن أن لن يحور} أي: ألا يرجع بعد الموت، ولهذا كانوا ينكرون البعث ويقولون لا بعث، ويقولون: من يحيي العظام وهي رميم {إنه ظن أن لن يحور} قال تعالى:
{بلى} أي سيحور ويرجع
{إن ربه كان به بصيراً} يعني أنه سيرجع إلى الله عز وجل الذي هو بصير بأعماله، وسوف يحاسبه عليها على ما تقتضيه حكمته وعدله.

يتبع
اضافة رد مع اقتباس