مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #5  
قديم 17/07/2004, 02:09 PM
شيروكي شيروكي غير متواجد حالياً
مشرف سابق بمنتدى الثقافة الإسلامية
تاريخ التسجيل: 15/12/2000
المكان: القصيم
مشاركات: 2,953
الفصل الثالث: سد الذرائع في توحيد المعرفة والإثبات

توحيد المعرفة والإثبات أحد نوعي التوحيد، وهو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي المتضمن إثبات صفات الجلال والكمال لله عز وجل، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، فلا رب سوى خالق الأرض والسماء، كما أنه لا يشبهه أحد من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته وأفعاله، تعالى سبحانه وتقدس عن الشبيه والنظير0

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا لما كان وجوب الوجود من خصائص رب العالمين، والغني عن الغير من خصائص رب العالمين، كان الاستقلال بالفعل من خصائص رب العالمين، وكان التنزه عن شريك في الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين، ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقا، ولا ربا مطلقا ونحو ذلك، لأن ذلك يقتضي الاستقلال والانفراد بالمفعول المصنوع، وليس ذلك إلا لله وحده" 0

وقد سدَّ الشارع الذرائع التي يمكن أن تؤدي إلى وقوع محظور في هذا النوع من التوحيد، وبيان ذلك في مبحثين كما يلي:

المبحث الأول: سد الذرائع في مضاهاة أفعال الله تعالى:

أفعال الله كثيرة، وهي مبينة أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه ورازقه، وهو الذي يحييه ويميته ويدبر أمره، وهو أمر تشهد له الفطرة، ويذعن له العقل، وقد ذكر ربنا ذلك في آيات كثيرة من كتابه، كما نفى أن يكون لأحد معه شريك في الخلق والتكوين فقال سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 0

ويظهر احتياط الشرع لهذا النوع من التوحيد بذكر الأمثلة الآتية:

1- النهي عن تصوير ذوات الأرواح:

نهي الإسلام عن تصوير ذوات الأرواح سدَّا لذريعة المضاهاة في أفعال الله تعالى، وهي هنا الخلق، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" 0

قال النووي بعد ذكره لبعض الأحاديث الناهية عن التصوير:"وهذه الأحاديث صريحة في تحريم تصوير الحيوان وأنه غليظ التحريم، وأما الشجر ونحوه مما لا روح فيه، فلا تحرم صنعته ولا التكسب به وسواء الشجر المثمر وغيره، وهذا مذهب العلماء كافة إلا مجاهدا فإنه جعل الشجر المثمر من المكروه، وقال القاضي:لم يقله أحد غير مجاهد، واحتج مجاهد بقوله تعالى:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي، واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم:"ويقال لهم أحيوا ما خلقتم"، أي اجعلوه حيوانا ذا روح كما ضاهيتم.." 0

وقال الشيخ/ عبد الرحمن بن حسن بعد ذكره للحديث السابق:"وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة وهي المضاهاة بخلق الله، لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة" 0

وقال الشيخ/ صديق حسن خان:"قال بعض أهل العلم في معنى هذا الحديث: يعني أن المصورين يدعون الإلهية في هذه السترة، لكونهم يريدون أن يصنعوا أشياء مثل ما صنعه الخالق القدير، فهم مسيئوا الأدب بالله عز وجل، ودعواهم هذه كذب صريح وحجة داحضة" 0

2- النهي عن قول: "مطرنا بنوء كذا"

عن زيد بن خالد الجهني أنه قال:"صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس فقال:"هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب، وأما من قال:بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب" 0
قال الشافعي:"من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه أمطره نوء كذا، فذلك كفر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن النوء وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا، ولا يمطر ولا يصنع شيئا، وأما من قال مطرنا بنوء كذا، على معنى: مطرنا بوقت كذا، فإنما ذلك كقوله: مطرنا في شهر كذا، ولا يكون هذا كفرا، وغيره من الكلام أحب إلى منه" 0

قال ابن حجر عقب نقله لكلام الشافعي السابق:"يعني حسما للمادة وعلى ذلك يحمل إطلاق الحديث" 0

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله معلقا على كلام الشافعي:"إن كلام الشافعي لا يدل على جواز ذلك، وإنما يدل على أنه لا يكون كفر شرك، وغيره من الكلام أحسن منه، أما كونه يجوز إطلاق ذلك أولا يجوز، فالصحيح أنه لا يجوز، وإن كان القائل لذلك يعتقد أن الله هو المنزل للمطر، فهذا من باب الشرك الخفي في الألفاظ، كقوله: لولا فلان لم يكن كذا…" 0

وقال النووي:"وأما معنى الحديث، فاختلف العلماء في كفر من قال:مطرنا بنوء كذا على قولين:

أحدهما: هو كفر بالله سبحانه وتعالى سالب لأصل الإيمان مخرج عن ملة الإسلام، قالوا: وهذا فيمن قال ذلك معتقدا أن الكواكب فاعل مدبر منشيء للمطر، كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم، ومن اعتقد هذا فلاشك في كفره، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء والشافعي منهم، وهو ظاهر الحديث، قال: وعلى هذا لو قال: مطرنا بنوء كذا معتقدا أنه من الله تعالى وبرحمته، وأن النوء ميقات له وعلامة اعتبارا بالعبادة، فكأنه قال: مطرنا في وقت كذا، فهذا لا يكفر، والأظهر كراهيته، لكنها كراهة تنزيه لا إثم فيها، وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظن بصاحبها" 0
قلت: الأولى النهي مطلقا عن قول هذه الكلمة سدا للذريعة، وقد بين ذلك ووضحه الشيخ سليمان فقال: "الاستسقاء بالنجوم نوعان: أحدهما أن يعتقد أن المنزل للمطر هو النجم، فهذا كفر ظاهر، إذ لا خالق إلا الله، وما كان المشركون هكذا، بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وليس هذا معنى الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا لا يزال في أمته، ومن اعتقد أن النجم ينزل المطر فهو كافر0

الثاني: أن ينسب إنزال المطر إلى النجم، مع اعتقاده أن الله تعالى هو الفاعل لذلك المنزل له، لكن معني أن الله تعالى أجرى العادة بوجود المطر عند ظهور ذلك النجم، فحكى ابن مفلح خلافا في مذهب أحمد في تحريمه وكراهته، وصرح أصحاب الشافعي بجوازه والصحيح أنه محرم، لأنه من الشرك الخفي، وهو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه من أمر الجاهلية، ونفاه وأبطله، وهو الذي كان يزعم المشركون، ولم يزل موجودا في هذه الأمة إلى اليوم، وأيضاً فإن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم حماية لجناب التوحيد، وسدًّا لذريعة الشرك ولو بالعبارات الموهمة التي لا يقصدها صاحبها" 0

المبحث الثاني: سد الذرائع في توحيد الأسماء والصفات0

من المعلوم المقرر عند أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى له وحده الأسماء الحسنى والصفات العلي التي لا يشاركه فيها غيره، وهم يثبتون كل ما جاء في كتاب الله، وما صح به الخبر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تشبيه وتمثيل، أو تعطيل وتأويل0
ولأهمية السلامة في جانب الاعتقاد –ومنه الأسماء الحسنى- وبما أن أسماء الله وصفاته تحمل معنى العظمة والجلال التي لا يشارك فيها الخالق المخلوق، فقد احتاط الشارع لهذا الجانب، وسد كل طريق يؤدى إلى الخلط فيه، وهذه بعض الأمثلة:

1- إثبات علم الغيب لله وحده ونفيه عن الأنبياء والمرسلين فضلا عن غيرهم0
من الصفات الثابتة الدالة على كمال العلم وسعة القدرة والعظمة انفراد الله عز وجل بعلم الغيب، فلا يشاركه فيه نبي مرسل ولا ملك مقرب0 قال تعالى:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 0

ولما كان الأنبياء والمرسلون يخبرون عن الله أمره، ويعلمون الناس شرعه بإعلام الله لهم، ومن ذلك أمور تتصل بعالم الغيب كما قال تعالى:"عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا0 إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا0 ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا" ، فقد نفى الله عنهم علم الغيب ونص على بشريتهم وبين منزلتهم، وقرر ذلك في كتابه أكثر من موطن سدا لذريعة نسبة علم الغيب إليهم، ويظهر ذلك واضحا في سياق الآية السابقة، ويظهر أيضا في قوله تعالى:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 0

قال ابن كثير:"أمره الله تعالى أن يفوض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل، ولا اطلاع به على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه، كما قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} الآية، وقوله:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}، قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد: لو كنت أعلم متي أموت لعملت صالحا، وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد،

وقال مثله ابن جريج وفيه نظر، لأن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ديمة، وفي رواية كان إذا عمل عملا أثبته، فجميع عمله كان على منوال واحد، كأنه ينظر إلى الله عز وجل في جميع أحواله، اللهم إلا أن يكون المراد أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك والله أعلم، والأحسن في هذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} أي من المال،

وقال عبد الرحمن بن زين بن أسلم:{وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُْ} قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيه، ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير أي نذير من العذاب وبشير للمؤمنين بالجنات، كما قال تعالى:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} 0

وللشيخ محمد رشيد رضا كلام جميل في هذه الآية بين فيه أن الناس قد افتتنوا بمن اصطفاهم الله من الأنبياء والمرسلين وغلوا فيهم، فكان هذا السياق الكريم بهذه الصورة ردا عليهم، كما بينت حقيقة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بشر لا يرفع إلى مرتبة الألوهية كما تجب طاعته، لأنه رسول رب العالمين، وفى ذلك يقول:"أي قل أيها الرسول للناس فيما تبلغه من أمر دينهم إنني لا أملك لنفسي -أي ولا لغيري بالأولى – جلب نفع مّا في وقت مَّا، ولا دفع ضرر مَّا في وقت مَّا… كما أنه لا يملك شيئا من علم الغيب الذي هو شأن الخالق دون المخلوق كما يأتي بيانه في تفسير الجملة التالية، والاستثناء على هذا منفصل عما قبله مؤكد لعمومه، أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كان، فهو كقوله تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ}، وهذا الوجه المختار عندنا، لأن الناس قد فتنوا منذ قوم نوح بمن اصطفاهم الله ووفقهم لطاعته وولايته من الأنبياء ومن دون الأنبياء من الصالحين، {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}، والجملة استدلال على نفى علم النبي صلى الله عليه وسلم الغيب كأنه يقول: لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ولا أعلم الغيب، ولو كنت أعلم الغيب- وأقربه ما يقع في مستقبل أيامي في الدنيا – لاستكثرت من الخير كالمال وأعمال البر…،

وفيه وجه آخر:أنه مستأنف غير معطوف على ما قبله، ومعناه:وما مسني الجنون كما زعم الجاهلون، فيكون حاصل معنى الآية: نفى رفعه إلى رتبة الألوهية الذي افتتن بمثله الغلاة، أو نفى وضعه في أدنى مرتبة البشرية الذي زعمته الغواة العتاة وبيان حقيقة أمره…" 0

وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في الآية:"هذا ارتقاء في التبرؤ من معرفة الغيب ومن التصرف في العالم، وزيادة من التعليم للأمة بشيء من حقيقة الرسالة والنبوة، وتمييز ما هو من خصائصها عما ليس منها، والجملة مستأنفة ابتدائية قصد من استيفائها الاهتمام بمضمونها، كي تتوجه الأسماع إليها، ولذلك أعيد الأمر بالقول مع تقدمه مرتين في قوله:{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ}، للاهتمام باستقلال المقول، وأن لا يندرج في جملة المقول المحكي قبله، وخص هذا المقول بالإخبار عن حال الرسول صلى الله عليه وسلم نحو معرفة الغيب ليقلع من عقول المشركين توهم ملازمة معرفة الغيب لصفة النبوة، إعلانا للمشركين بالتزام أنه لا يعلم الغيب، وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته حتى يستيئسوا من تحديه بذلك …" 0

2- إثبات صفة العلم ومعية الله لخلقه مع استوائه على عرشه0

ذكر ربنا سبحانه وتعالى في كتابه استواءه على عرشه في أكثر من موضع، وهو استواء يليق بجلال الله وكماله، ومعناه عند السلف علو الله خلقه ، وذكر البخاري عن أبى العاليه: استوى إلى السماء: ارتفع، وقال مجاهد: استوى: علا على العرش 0
ودفعا لما يمكن فهمه من علو الله على خلقه أن الله بعيد من عباده، فلا يعلم ما هم عليه نصَّ سبحانه في كثير من آيات الاستواء على علمه بخلقه، وبتدبير أمر مملكته، وإحاطته بما هم عليه، كما ذكر معيته لهم مع استوائه على عرشه، حتى لا يفهم أحد أن الله حال في مخلوقاته0
وأكتفى هنا بذكر آخر آية في القرآن الكريم أثبتت علو الله على خلقه واستوائه على عرشه، مع إثبات صفتي العلم والمعية معا، ثم أتبعها بأقوال بعض أهل العلم في معناها0

قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 0

قال الطبري في معنى الآية:"يقول تعالى ذكره مخبرا عن صفته، وأنه لا يخفى عليه خافية من خلقه0 يعلم ما يلج في الأرض من خلقه، يعنى بقوله يلج: يدخل، وما يخرج منها منهم، وما ينزل من السماء إلى الأرض من شيء قط، وما يعرج فيها فيصعد إليها من الأرض، وهو معكم أينما كنتم، يقول: وهو شاهد لكم أيها الناس0 أينما كنتم يعلمكم ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع، والله بما تعملون بصير…" 0

وقال ابن تيمية عن فهم السلف وتفسيرهم لمعنى المعية والقرب:"…. وأما القسم الرابع، فهم سلف الأمة و أئمتها، أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة كله من غير تحريف للكلم، أثبتوا أن الله تعالى فوق سماواته، وأنه على عرشه بائن من خلقه، وهم منه بائنون، وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه، ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية، وهو أيضا قريب مجيب ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل" 0 فهو سبحانه مع المسافر في سفره ومع أهله في وطنه، ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم.." 0

ومعية الله لخلقه تنقسم إلى قسمين: معية خاصة، وهى الواردة في مثل قول الله تعالى:{قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وفى قوله:{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، وهذه المعية تقتضى النصر والتأييد والحفظ والإعانة، وهى للمؤمنين، ومعية عامة تتعلق بالناس جميعا، وهى الواردة في مثل قول الله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ، وهذه المعية تقتضى علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم 0

وقد ذكر القاسمي عن ابن قدامة المقدسي أنه قال:"إن ابن عباس والضحاك ومالك وسفيان وكثيرا من العلماء قالوا في قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} أي علمه، ثم قد ثبت بكتاب الله والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أن الله تعالى في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة محفوفة بها دلالة على إرادة العلم منها، وهو قوله:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، ثم قال في آخرها:{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، فبدأها بالعلم وختمها به، ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما علموا يوم القيامة ويجازيهم عليه، وهذه قرائن كلها دلالة على إرادة العلم." 0

وقال عبد الرحمن السعدي: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}، كقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}، وهذه المعية، معية العلم والاطلاع، ولهذا توعد ووعد بالمجازاة بالأعمال بقوله:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، أي: هو تعالى بصير بما يصدر منكم من الأعمال، وما صدرت عنه تلك الأعمال" 0

وقال الشيخ محمد بن عثيمين بعد كلام له عن آية سورة الحديد:"فيكون ظاهر الآية أن مقتضى هذه المعية علمه بعباده وبصره بأعمالهم مع علوه عليهم، واستوائه على عرشه، لا أنه سبحانه مختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض، وإلا لكان آخر الآية مناقضا لأولها الدال على علوه واستوائه على عرشه" 0

اخر تعديل كان بواسطة » شيروكي في يوم » 17/07/2004 عند الساعة » 02:38 PM
اضافة رد مع اقتباس