مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #4  
قديم 17/07/2004, 02:07 PM
شيروكي شيروكي غير متواجد حالياً
مشرف سابق بمنتدى الثقافة الإسلامية
تاريخ التسجيل: 15/12/2000
المكان: القصيم
مشاركات: 2,953
الفصل الثاني: سد الذرائع المؤدية إلى الشرك الأصغر0

الشرك الأصغر: هو النوع الثاني من أنواع الشرك بعد الأكبر، وهو لا يخرج من الملة، ولكنه قد يحبط العمل الذي يصاحبه أو ينقص ثوابه ،

وقد خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته منه، كما جاء في حديث محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء 0 يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤن في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟" ،

والمراد بالرياء في هذا الحديث هو يسيره، لا النفاق الاعتقادي الأكبر المخرج من الملة، وذلك أن الرياء قد يطلق ويراد به النفاق الأكبر كما جاء في قوله تعالى:{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 0

قال ابن كثير في تفسيره:"أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدحة الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس، أو يقال: إنه كريم، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ولهذا قال:{ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 0

وطريقة التفريق بين الرياء الذي هو النفاق الأكبر، وبين الرياء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم شركاً أصغر حديث:"إنما الأعمال بالنيات….." ، فالنية هي التي تفرق بينهما،

وقد وضح ذلك وفصله الشيخ حافظ الحكمي فقال:"……فإن كان الباعث على العمل هو إرادة غير الله عز وجل والدار الآخرة فذلك النفاق الأكبر …، وإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله عز وجل والدار الآخرة، ولكن دخل عليها الرياء في تزيينه وتحسينه فذلك هو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر وفسره بالرياء العملى ……" 0

ولخطورة هذا النوع من الشرك أيضاً، ولخفائه أحياناً، وصيانة لجانب التوحيد، فقد سدَّ الشارع كل الوسائل المفضية إلى الوقوع فيه، وسأبين ذلك من خلال المبحثين التاليين:

المبحث الأول: سد الذرائع في الألفاظ

لقد تهاون كثير من الناس في هذه المسألة، وأصبحوا يطلقون كلمات توقعهم في هذا اللون من الشرك، ولكثرة وقوعه وانتشاره بدأت الحديث عنه في هذا الفصل،

ومن أمثلة سد الذرائع في هذا الباب ما يلي:

أ- النهى عن الحلف بغير الله: لما كان الحلف بال شيئ يقتضى تعظيمه، والعظمة في الحقيقة لله وحده، نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله كما في حديث عمر – رضي الله عنه – قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" 0

وعن ابن عمر – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" 0 قال الترمذي بعد سياقه:"هذا حديث حسن ، وتفسير هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله:"فقد كفر أو أشرك"، على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر يقول: وأبى وأبى، فقال:"ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، وحديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قال في حلفه:و اللات والعزى فليقل:لا إله إلا الله0
وهذا مثل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الرياء شرك"، وقد فسر بعض أهل العلم هذه الآية:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا} الآية 0 قال: لا يرائي" 0

قال ابن حجر:"والتعبير بقوله:"فقد كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك،وقد تمسك به من قال بتحريم ذلك" 0

قال أبو جعفر الطحاوي:"لم يرد به الشرك الذي يخرج من الإسلام حتى يكون به صاحبه خارجاً عن الإسلام، ولكنه أراد أنه لا ينبغي أن يحلف بغير الله تعالى، لأن من حلف بغير الله تعالى فقد جعل ما حلف به محلوفا به، كما جعل الله تعالى محلوفا به، وبذلك جعل من حلف به أو ما حلف به شريكا فيما يحلف به، وذلك أعظم، فجعله شركا بذلك شركا غير الشرك الذي يكون به كافرا بالله تعالى خارجا عن الإسلام"0

قال الشيخ الألباني بعد نقله لهذا الكلام:"يعنى – والله أعلم – أنه شرك لفظي وليس شركا اعتقاديا، والأول تحريمه من باب سد الذرائع، والآخر محرم لذاته، وهو كلام وجيه متين" 0

ب-النهى عن قول:"ما شاء الله وشئت"0

قال البخاري في صحيحة:"باب لا يقول ما شاء الله وشئت" 0

وعن حذيفة بن اليمان أن رجلا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلا من أهل الكتاب فقال: نعم القوم أنتم، لولا أنكم تشركون0 تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أما والله، إن كنت لأعرفها لكم، قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد" 0

قال الربيع بن سليمان: قال الشافعي:"المشيئة إرادة الله قال الله سبحانه وتعالى:"وما تشاؤون إلا أن يشاء الله" ، فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه، وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء، فيقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما شاء الله ثم شئت"، ولا يقال:"ما شاء الله وشئت"

وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم:"ما شاء الله وشئت"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أجعلتني والله عدلا، بل ما شاء الله وحده" 0

قال ابن القيم:" إنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، وذم الخطيب الذي قال:"من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى"، سدا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحسما لمادة الشرك حتى في اللفظ، ولهذا قال للذي قال له:"ما شاء الله وشئت" أجعلتني لله ندا؟ فحسم مادة الشرك، وسد الذريعة إليه في اللفظ، كما سدها في الفعل والقصد، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها وأعمها" 0

وقال الشيخ الألباني بعد ذكره لبعض الأحاديث في هذا الموضوع:"قلت: وفى هذه الأحاديث أن قول الرجل لغيره:ما شاء الله وشئت يعتبر شركا في نظر الشارع، وهو من شرك الألفاظ، لأنه يوهم أن مشيئة العبد في درجة مشيئة الرب سبحانه وتعالى، وسببه القرن بين المشيئتين، ومثل ذلك قول بعض العامة وأشباههم ممن يدعى العلم مالي غير الله وأنت، وتوكلنا على الله وعليك، ومثله قول بعض المحاضرين: باسم الله والوطن، أو باسم الله والشعب، ونحو ذلك من الألفاظ الشركية التي يجب الانتهاء عنها والتوبة منها، أدبا مع الله تبارك وتعالى" 0

جـ- النهي عن قول: عبدي وأمتي0

عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة – رضي الله عنه – يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يقل أحدكم:أطعم ربك وضئ ربك، وليقل:سيدي، مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل:فتاي، وفتاتي وغلامي" 0قال البغوي:"قيل:إنما منع من أن يقول:ربى أو اسق ربك، لأن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد، فكره له المضاهاة بالاسم، لئلا يدخل في معنى الشرك، والعبد والحُر،فيه بمنزلة واحدة، فأما ما لا تعبُّد عليه من سائر الحيوان والجماد فلا يمنع منه، كقولك: رب الدار، ورب الدابة والثوب، ولم يمنع العبد أن يقول:سيدي ومولاي، لأن مرجع السيادة إلى معنى الرياسة على من تحت يده، والسياسة له وحسن التدبير لأمره، ولذلك سمى الزوج سيدا0 قال الله سبحانه وتعالى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} …..، ومنع السيد من أن يقول: عبدي، لأن هذا الاسم من باب المضاف ومقتضاه العبودية له، وصاحبه عَبْدُ لله، مُتَّعَبَّدُ بأمره ونهيه، فإدخاله مملوكه تحت هذا الاسم يوهم التشريك…" 0

وقال النووي في شرحه للحديث:"يكره للسيد أن يقول لمملوكه عبدي وأمتي، بل يقول "غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي، لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى، ولأن فيها تعظيما بما لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك فقال:"كلكم عبيد الله، فنهى عن التطاول في اللفظ" 0

وقال ابن القيم:"إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن يقول لغلامه وجاريته:عبدي وأمتي، ولكن يقول:فتاي وفتاتي، ونهى أن يقول لغلامه:وضئ ربك، أطعم ربك سدا لذريعة الشرك في اللفظ والمعنى، وإن كان الرب ههنا هو المالك كرب الدار، ورب الإبل، فعدل عن لفظ العبد والأمة إلى لفظ الفتى والفتاة، ومنع من إطلاق لفظ الرب على السيد حماية لجانب التوحيد وسدا لذريعة الشرك" 0

وقال عبد الرحمن بن حسن:"هذه الألفاظ المنهي عنها، وإن كانت تطلق لغة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها تحقيقا للتوحيد، وسدا لذرائع الشرك لما فيها من التشريك في اللفظ، لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم، فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم فينهى عنه لذلك، وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى…، فالنهى عنه حسما لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق، وتحقيقا للتوحيد، وبعدا عن الشرك حتى في اللفظ، وهذا من أحسن مقاصد الشريعة لما فيه من تعظيم الرب تعالى، وبعده عن مشابهة المخلوقين، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ، وهو قوله:"سيدي ومولاي" وكذا قوله:"ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي"، لأن العبيد عبيد الله والإماء إماء الله0 قال الله تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} ،

ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيما لله تعالى وأدبا وبعدا عن الشرك وتحقيقا للتوحيد، وأرشدهم إلى أن يقولوا:"فتاي وفتاتي وغلامي"، وهنا من باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، فقد بلغ صلى الله عليه وسلم أمته كل ما فيه نفع لهم، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين، فلا خير إلا دلهم عليه،خصوصا في تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرهم منه خصوصا ما يقرب من الشرك لفظا وإن لم يقصد0 وبالله التوفيق" 0

المبحث الثاني: سد الذرائع في الأعمال

كما نهى الشارع عن الشرك في الألفاظ وسَدَّ كل الوسائل المؤدية إليه، نهى أيضا وحذر من الوسائل المفضية إلى الشرك في الأعمال، ويظهر ذلك في الصور التالية:

ا - النهى عن التمائم:

التمائم: جمع تميمة، وهى خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم فأبطلها الإسلام

وعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الرقى والتمائم والتولة شرك" 0

وقد اختلف العلماء في التمائم إذا كانت من القرآن الكريم، فأباحها البعض كالرقى الشرعية، ومنعها آخرون سدا لذريعة الوقوع في الشرك، ومن هؤلاء ابن مسعود وابن عباس وغيرهم0

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد:"التمائم شيئ يعلق على الأولاد عن العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه
منهم ابن مسعود رضي الله عنه –"0

قال شارحه:"هذا هو الصحيح- أي النهى عن تعليق التمائم من القرآن –لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل:
الأول: عموم النهى ولا مخصص للعموم0
الثاني: سد الذريعة فإنه يفضى إلى تعليق ما ليس كذلك0
الثالث:"أنه إذا علق فلابد أن يمتهنه المعَلِّق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك" 0

وقال الشيخ حافظ الحكمي:
وفـى التمائـم المعلقـات *** إن تـك آيـات بينات
فالاختلاف واقع بين السلف*** فبعضهم أجازها والبعض كف

ثم ذكر بعض أسماء المانعين والمبيحين وعقب بقوله:"ولا شك أن منع ذلك سد لذريعة الاعتقاد والمحظور، لاسيما في زماننا هذا، فإنه إذا كرهه أكثر الصحابة والتابعين في تلك العصور الشريفة المقدسة، والإيمان في قلوبهم أكبر من الجبال، فلأن يكره في وقتنا هذا – وقت الفتن والمحن- أولى وأجدر بذلك " 0

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز:"واختلف العلماء في التمائم إذا كانت من القرآن أومن الدعوات المباحة0 هل هي محرمة أم لا؟ والصواب تحريمها لوجهين:

أحدهما: عموم الأحاديث المذكورة، فإنها تعم التمائم من القرآن وغير القرآن0
والوجه الثاني: سد ذريعة الشرك، فإنها إذا أبيحت التمائم من القرآن اختلطت بالتمائم الأخرى واشتبه الأمر، وانفتح باب الشرك بتعليق التمائم كلها، ومعلوم أن سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي من أعظم القواعد الشرعية0 والله ولى التوفيق" 0

وعليه فتعليق التمائم ينهى عنه بإطلاق سدا للذريعة في ذلك التي منها تعليق ما ليس من القرآن، وتعظيما لكلمات الله وآياته من امتهانها أثناء قضاء الحاجة وغير ذلك، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه البدع وانتشر أهل الخرافة والدجل والمشعوذين وغلب الجهل على كثيرين0

قال الشيخ الألباني بعد ذكره لتعريف التميمة:"ولا تزال هذه الضلالة فاشية بين البدو والفلاحين وبعض المدنيين، ومثلها الخرزات التي يضعها بعض السائقين أمامهم في السيارة- يعلقونها على المرآة وبعضهم يعلق نعلا في مقدمة السيارة أو في مؤخرتها، وغيرهم يعلقون نعل فرس في واجهة الدار أو الدكان فكل ذلك لدفع العين زعموا، وغير ذلك مما عم وطم بسبب الجهل بالتوحيد وما ينافيه من الشركيات والوثنيات التي ما بعثت الرسل وأنزلت الكتب إلا من أجل إبطالها والقضاء عليها" 0

ب - النهى عن انحناء الرجل للرجل أو القيام له0

عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال:"قال رجل يا رسول الله: الرجل منا يلقى أخاه، أو صديقه، أينحني له؟ قال:لا، قال:فيلتزمه ويقبله 0 قال: لا، قال: فيأخذ بيده ويصافحه، قال:نعم"

قال ابن القيم:"إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن ينحني للرجل إذا لقيه كما يفعل كثير من المنتسبين إلى العلم ممن لا علم له بالسنة بل يبالغون إلى أقصى حد الانحناء مبالغة في خلاف السنة جهلا، حتى يصير أحدهم بصورة الراكع لأخيه، ثم يرفع رأسه من الركوع كما يفعل إخوانهم من السجود بين يدي شيوخهم الأحياء والأموات، فهؤلاء أخذوا من الصلاة سجودها، وأولئك ركوعها، وطائفة ثالثة قيامها، يقوم عليهم الناس وهم قعود كما يقومون في الصلاة، فتقاسمت الفرق الثلاث أجزاء الصلاة، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن انحناء الرجل لأخيه سداً لذريعة الشرك، كما نهى عن السجود لغير الله 0

تنبيه: جاء في حديث أنس السابق نهى عن الالتزام وهو المعانقة، وقد وردت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لقول أنس – رضي الله عنه -:"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا" 0

وعانق عبد الله بن أنيس جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – لما رحل إليه من المدينة إلى الشام ليسأله عن حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم 0

وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث، ودفعوا التعارض الظاهر بينها، ومنهم الإمام البغوي، وفى ذلك يقول:"قال حميد بن زنجوية: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المعانقة والتقبيل، وجاء أنه عانق جعفر بن أبى طالب وقبله عند قدومه من أرض الحبشة، ولكل وجه عندنا، فأما المكروه من المعانقة والتقبيل، فما كان على وجه الملق والتعظيم وفى الحضر، فأما المأذون فيه، فعند التوديع وعند القدوم من السفر وطول العهد بالصاحب، وشدة الحب في الله ومن قبَّل فلا يقبل الفم،ولكن اليد والرأس والجبهة" 0

وقال الشيخ الألباني عقب ذكره لبعض أحاديث النهى وأحاديث الإباحة: "فيمكن أن يقال: إن المعانقة في السفر مستثنى من النهى لفعل الصحابة ذلك" 0

وكما نهى صلى الله عليه وسلم عن الانحناء سدَّا للذريعة، كره أن يقوم الناس له، كما ذكر وعيداً شديدا لمن يحب أن يتمثل الناس له قياما0

فعن أنس – رضي الله عنه- قال :"ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه، لما يعلمون من كراهيته لذلك" 0

وعن أبى مجلز قال :"خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه، فقال :اجلسا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار"0 قال الترمذي :" وفى الباب عن أبى أمامه، وهذا حديث حسن" 0

ولا يتعارض النهى عن القيام هنا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم لماَّ قدم سعد بن معاذ إلى بنى قريظة ليحكم فيهم : " قوموا إلى سيدكم" للفرق بين الحالين، وقد وضح ذلك ابن يتمية –رحمه الله- وفصله تفصيلا دقيقا فقال :"لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه صلى الله عليه وسلم كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهيته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له، كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ :قوموا إلى سيدكم، وكان قد قدم ليحكم في بنى قريظة…..،

وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه، أو قصد خفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام له، لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له، وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم : "من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار"، فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، ليس هو أن يقوموا لمجيئة إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال :قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد" 0

كما جمع بين الأحاديث ابن القيم جمعا حسنا، وذكر أن الأحاديث التي ورد فيها القيام كان لعارض، وأنه كان قياما إلى الرجل للقائه، لا قياما له، ثم قال :"فالمذموم : القيام للرجل، وأما القيام إليه للتلقي إذا قدم :فلا بأس به، وبهذا تجتمع الأحاديث" قلت : هذا جمع جيد وحسن بين النصوص الثابتة، وعليه فينهى القيام للشخص للتعظيم مهما كانت منزلته سدَّا لذريعة الوقوع في الشرك، بعد الغلو فيه، أو مجاوزة الحد في حبه وتعظيمه وما إلى ذلك كما هو واقع من بعض أتباع الطرق لمشايخهم، وأما القيام لعارض كالقيام للقادم من سفر، أو لغائب على سبيل البر والإكرام فلا بأس به0

وقد نقل أبو عبد الله بن الحاج عن أبى الوليد بن رشد أن القيام يقع على أربعة أوجه:

الأول: محظور، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام إليه تكبرا وتعاظما على القائمين إليه0

الثاني: مكروه، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة0

الثالث: جائز، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك، ويؤمن معه التشبه بالجبابرة0

الرابع: مندوب، وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنئه بحصولها أو مصيبة فيعزيه بسببها .

وقال التوريشتى في شرح المصابيح :معنى "قوموا إلى سيدكم"، أى إلى إعانته وإنزاله من دابته، ولو كان المراد التعظيم لقال: قوموا لسيدكم" 0

وقال الألباني في حديث أبى مِجلَز :"دلنا هذا الحديث على أمرين:
الأول: تحريم حب الداخل على الناس القيام منهم له، وهو صريح الدلالة، بحيث أنه لا يحتاج إلى بيان0

والآخر: كراهة القيام من الجالسين للداخل، ولو كان لا يحب القيام، وذلك من باب التعاون على الخير، وعدم فتح باب الشر، وهذا معنى دقيق دلنا عليه راوى الحديث معاوية – رضي الله عنه -، وذلك بإنكاره على عبد الله بن عامر قيامه له،واحتج عليه بالحديث، وذلك من فقهه في الدين، وعلمه بقواعد الشريعة التي منها سد الذرائع" 0

ومن هذا الباب ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت :"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالسا، وصلى وراءه قوم قياما، فأشار أن اجلسوا، فلما انصرف قال :إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا" 0

قال ابن القيم :"إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المأمومين أن يصلوا قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا، وقد تواتر عنه ذلك، ولم يجئ عنه ما ينسخه، وما ذاك إلا سدا لذريعة مشابهة الكفار، حيث يقومون على ملوكهم وهو قعود"

قلت: تأمل أيها المسلم حرص الإسلام ورسول رب العالمين وسلف الأمة الصالحين على مخالفة الكفار والمشركين، ونهى الشريعة الغراء على المباح خوفا من الوقوع في الحرام، كل ذلك صيانة وحماية للعقيدة، وتحقيقا للتوحيد0

فما بالنا اليوم نجد جرأة كبيرة، حتى من بعض المنتسبين إلى العلم في التساهل في هذا الباب، ويا ليت الأمر – مع خطورته- اقتصر على الجائز المؤدى إلى الحرام، بل وقعوا صراحة فيما نهى عنه الشارع الحكيم، وسقطوا في أعمال الجاهلين0 فإنا لله وإنا إليه راجعون0

اخر تعديل كان بواسطة » شيروكي في يوم » 17/07/2004 عند الساعة » 02:38 PM
اضافة رد مع اقتباس