الموضوع: الفقه الرباعي !
مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #1  
قديم 14/10/2009, 12:42 AM
أديب أهله أديب أهله غير متواجد حالياً
زعيــم نشيــط
تاريخ التسجيل: 25/02/2003
مشاركات: 958
الفقه الرباعي !

الفقه الرباعي !



ذات لقاء ؛ قال لي قامة من قمم الفكر المعاصر : يا عبدَالله ؛ أنت عاطفي ومتشائم ، وعندما تكبر ستفهم وتتغير نظرتك للحياة ! . وحيث أني أعرفه وأعرف عقله وفكره ؛ علمتُ أنّ وصفه لي لم يكن وليد موقفٍ عابر ، أو نتيجة لحديثٍ خاطر ، فبدأت أفتش في زوايا نفس، وأقلب في خبايا عقلي ، هل أنا فعلاً كذلك ؟! ، وإن كنت كذلك : فلِمَ ؟! وكيف ؟! ومنذ متى ؟! وإن لم أكُ كذلك ، فلماذا قال ذلك ؟! أسئلة ثارت في وسط عقلٍ بسيطٍ متجددٍ ! ، ومذ ذاك ؛ وأنا أميل للتأمل أكثر من القراءة فقط ، إذ كنت سابقاً أقرأ أي شيء ، في كل شيء ، دون هدف أو وعي أو هدى ، فتكونت عندي ثقافة جيدة ، لكنها لاتقوم على أساس متين ؛ من فقه للواقع والنفس والحياة والدين !



وها أنا ذا أحبر ما تفضلت به عليّ جلساتُ التأمل ، وهي وإن كانت وليدة عقل ليس كبيراً ، ونتاج تجربة لإنسانٍ قد يكون صغيراً ، ولكن قد يجد أحد ما بين ركام هذه الكلمات بقعة ضوء ! ، تقوده إلى الخروج من نفق قد يكون مظلماً ، فبسم الله أبدأ ، وبسم الله أحيا ، وبسم الله أقول : لكي يعيش المرء عيشة هنية سليمة مفعمة بكل فلاح ونماء ، وكل إيجابية وعطاء ؛ فلا بد له من فقه وفهم لأمور أربع : منها ثلاث لها خطوط عريضة يشترك فيها كل أحد ، وهي الحياة ، والنفس ، والدين ، وأما الرابعة : فهي الواقع وهو وليد بيئة تختصها ظروف العصر والمصر !



أول هذه الأربع هو فقه الحياة : ولفقهها لا بد أن تعرف أن أس الحياة وأساسها الألم ، ويحيط بها من جميع جوانبها التعب والكبد ، وتبث في نفوس ساكنيها - من أجل لعاعة فيها- الغل والحسد! ، فهي دار ابتلاء لا بقاء ، ودور الابتلاء عادة مطبوعة على الأكدار ، والكدر يتفاوت بتفاوت أهله وظرفه وما قدره الله لصاحبه ! ، والحياة : مرحلة سفر وممر ، لا مكان إقامة ومقر ، فعلى المسافر أن يتحمل وعثاء السفر ، ومكابد الطريق ، ليبلغ وجهته ، ويحقق البغية من رحلته ! ، والحياة : فيها من كل شيء أشياء ، بها ستعرف نعيم ولذة الجنة – أسكنك الله الفردوس الأعلى منها- إذ لولا ما تذوقه هنا من عناء ، لما عرفت هنالك لذة الهناء ! فبضدها تتبين الأشياء ! ، والحياة : مجبولة على الصراع ؛ صراع مع نفسك ، وصراع مع من حولك ، وصراع مع ظروفك وبيئتك ، وصراع مع أعداءك ، وصراع حقك مع باطلك ، فافقه طرفي الصراع وطبيعته ، وأعد لكل ميدان عدته !



أما ثاني هذه الأربع فهو فقه النفس : فاعلم أن النفس البشرية بمنزلة الحيوان المفترس بل أشد ، فالأسود الضارية كلما روضتها تروضت وانقادت لك مع مرور الوقت ؛ بينما النفس كلما روضتها تروضت ساعة وتفلتت ساعات ، فالتعامل معها يحتاج إلى مزيد عناية وجهد وحزم ! ، والنفس : كالطفل ولكنها خبيثة ، تأتي إلى الشيء النقي الصافي فتتعمد تلويثه ، فهي كطفلة طبعت على الخديعة والمراوغة والمكر ، تحتاج إلى من يسوسها بكل عزيمة وقوة وصبر ! ، واعلم أن النفس : أشد تقلباً من الطقس ، وتتخبط أحياناً كمن يتخبطه الشيطان من المس ، فحقيقتها ضرب من التناقض والتضاد والعبث والجنون ، ولإحكام قبضتك عليها لا بد لك من علوم وفنون ! ، واعلم أن النفس : كقفل محكم ليس له إلا مفتاح واحد ، مفتاح لا يقبل النسخ ، فمن ضيعه فقد ضيع نفسه ونفيسه ، ومن ملكه فقد آنس قلبه وجليسه ، وكل ما على الإنسان هو أن يبحث عن مفتاحه الثمين ، ثم يضعه في مكان قصي أمين ! ، كي لا يعبث به تصرف الأيام ، أوتقلب من حوله من الأنام !



أما ثالث هذه الأمور فهو فقه الواقع : وواقعنا واقع معقد كتعقد طفل يصبح ويمسي على التقريع واللوم ، ومتشابك كتشابك شعر من لتوه قام من النوم ، كلما تعرفتَ عليه اكتشفتَ أنه غريب ، وكلما تفقهتَ فيه علمتَ أنه عجيب ، وكلما فحصتَه تأكدتَ أنه مريب ! ، فالواقع : صعب ومرير ، ومرارته من مرارة معاصريه ، فكلما ازدادوا سوءاً ، ازداد كرماً في توزيع حصص الألم ، فالواقع كثيراً ما تتغير فيه النعم إلى نقم ، وقليلاً ما تتحول فيه النقم إلى نعم ، في تبادل مدهش وتنوع مذهل ! ، والواقع كتاب مفتوح لك لتقرأه ، ولكن لا بد لك من أن تجيد لغة التأمل والإيحاء ، وملكة المتابعة والإصغاء ، ومن قرأه بعمق علم ، ومن قلب صفحاته بدقة فهم ؛ أنه في أي لحظة من لحظاته قد يأتي دوره فيمتحن ! ، والواقع : كوجه امرأة قبيحة ، فحين تعلوه الأصباغ تسكنه النظرات ، وحين تراه بدونها تغلفك الحسرات ، جمال مؤقت لكنه مطلوب ، به وبالأنس والسعادة تتغذى القلوب ، ومع أنه يحل فترة مؤقتة تنتهي بالعبور ، إلا أن البحث يتجدد عن فترة أخرى تبث البهجة والسرور !



وأما رابع الأربعة ، فهو أهم كلامٍ أقوله فاسمعه ، لبه الفقه في الدين ، وخلاصته الهدف من خلق العالمين ، فالإسلام : دين عظيم ، والفقه فيه -بحق- عزيز ، فيه من العلوم المذهلة الحمل الكثير ، وفيه من المعاني السامية الشيء الغزير ، للفقه فيه لذة مختلفة وفريدة ، ولكنها من قبيل اللذة العنيدة ، لا يتيسر مهرها لكل طالب ، ولا يدر ضرعها لكل حالب ! ، فالدين : محيط يحتضن بأمان كل غواص داخل ، ولكن الكثير من أهله قنعوا بأن يكونوا على الساحل ، يظن بعضهم أنه قد عب منه وعلم ، وهو في الحقيقة حقاً ما فهم ؛ غير ظواهر بعض الآي وجوامع الكلم ، فتقول حين تسمع بعض حديثه : ألا ليته سكت فسلم ! ، والدين يحتاجه كلك ، جسمك وعقلك وقلبك وروحك وفكرك ومالك ووقتك وحياتك ، كلك لتأخذ بعضاً من عطره ؛ تزيل به شيئاً من درنك ودرن نفسك ، لتصبح أريجاً ينشر عبقه أينما حل وارتحل ! ، والدين : أعمق من كتاب نقرؤه ، وأثرى من درس نحضره ، وأكبر من كلام بشر في لقاء نسمعه ، وأكثر من مجرد واجب عبادي نفعله ، الدين : حياة لقلبك ، وموجه لعقلك ، وأنيس لروحك ، و ضابط لفكرك ، وانشراح لصدرك ، واطمئنان لفؤادك ، واستقرار لجنانك ، وسمو لنفسك! ، فالدين : تديين نفسك لرب العالمين !



والحديث عن هذه الأمور الأربع : قد يستغرق مني ساعاتٌ لو أردتَ ، ومقالاتٌ كثيراتٌ لو رغبتَ ، ولكن حسبي أن أشير إلى الخطوط المهمة العريضة ، فالحديث عنها في كتب التأمل والتدبر والتفكر مستفيضة ، ومن سار متفقهاً فيها وهو في سيره متوازي ، فقد نال حظه من الغنيمة وإن لم يك من أهل المغازي ، ولكن هذا ما جاد به العقل من الإعداد ، وما سمح به الزمان والمكان من الإيراد ، فلك غنمه وعليّ غرمه ، إن كنت ترى فيه شيئاً قد يعد غنيمة !



مع تمنياتي لك بفقه رباعي متين !
اضافة رد مع اقتباس