مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #1  
قديم 08/07/2009, 11:09 PM
سامي صعب يتكرر سامي صعب يتكرر غير متواجد حالياً
زعيــم نشيــط
تاريخ التسجيل: 28/03/2008
مشاركات: 809
Lightbulb تفسير سورة القصص (2)

ومن لطف اللّه بموسى وأمه، أن منعه من قبول ثدي امرأة، فأخرجوه إلى السوق رحمة به، ولعل أحدا يطلبه، فجاءت أخته، وهو بتلك الحال ‏{‏فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ‏}‏
وهذا جُلُّ غرضهم، فإنهم أحبوه حبا شديدا، وقد منعه اللّه من المراضع فخافوا أن يموت، فلما قالت لهم أخته تلك المقالة، المشتملة على الترغيب، في أهل هذا البيت، بتمام حفظه وكفالته والنصح له، بادروا إلى إجابتها، فأعلمتهم ودلتهم على أهل هذا البيت‏.‏
‏{‏فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ‏}‏ كما وعدناها بذلك ‏{‏كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ‏}‏ بحيث إنه تربى عندها على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة، تفرح به، وتأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك، ‏{‏وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ‏}‏ فأريناها بعض ما وعدناها به عيانا، ليطمئن بذلك قلبها، ويزداد إيمانها، ولتعلم أنه سيحصل وعد اللّه في حفظه ورسالته، ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ فإذا رأوا السبب متشوشا، شوش ذلك إيمانهم، لعدم علمهم الكامل، أن اللّه تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة، بين يدي الأمور العالية والمطالب الفاضلة، فاستمر موسى عليه الصلاة والسلام عند آل فرعون، يتربى في سلطانهم، ويركب مراكبهم، ويلبس ملابسهم، وأمه بذلك مطمئنة، قد استقر أنها أمه من الرضاع، ولم يستنكر ملازمته إياها وحنوها عليها‏.‏
وتأمل هذا اللطف، وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه، وتيسير الأمر، الذي صار به التعلق بينه وبينها، الذي بان للناس أنه هو الرضاع، الذي بسببه يسميها أُمَّا، فكان الكلام الكثير منه ومن غيره في ذلك كله، صدقا وحقا‏.‏
‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ من القوة والعقل واللب، وذلك نحو أربعين سنة في الغالب، ‏{‏وَاسْتَوَى‏}‏ كملت فيه تلك الأمور ‏{‏آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا‏}‏ أي‏:‏ حكما يعرف به الأحكام الشرعية، ويحكم به بين الناس، وعلما كثيرًا‏.‏
‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏ في عبادة اللّه المحسنين لخلق اللّه، نعطيهم علما وحكما بحسب إحسانهم، ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السلام‏.‏
‏{‏وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا‏}‏ إما وقت القائلة، أو غير ذلك من الأوقات التي بها يغفلون عن الانتشار‏.‏ ‏{‏فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ‏}‏ أي‏:‏ يتخاصمان ويتضاربان ‏{‏هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ من بني إسرائيل ‏{‏وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ‏}‏ القبط‏.‏
‏{‏فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ‏}‏ لأنه قد اشتهر، وعلم الناس أنه من بني إسرائيل، واستغاثته لموسى، دليل على أنه بلغ موسى عليه السلام مبلغا يخاف منه، ويرجى من بيت المملكة والسلطان‏.‏
‏{‏فَوَكَزَهُ مُوسَى‏}‏ أي‏:‏ وكز الذي من عدوه، استجابة لاستغاثة الإسرائيلي، ‏{‏فَقَضَى عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ أماته من تلك الوكزة، لشدتها وقوة موسى‏.‏
فندم موسى عليه السلام على ما جرى منه، و ‏{‏قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ‏}‏ أي‏:‏ من تزيينه ووسوسته، ‏{‏إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ‏}‏ فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة، وحرصه على الإضلال‏.‏
ثم استغفر ربه ‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ خصوصا للمخبتين، المبادرين للإنابة والتوبة، كما جرى من موسى عليه السلام‏.‏
فـ ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى ‏{‏رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ‏}‏ بالتوبة والمغفرة، والنعم الكثيرة، ‏{‏فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا‏}‏ أي‏:‏ معينا ومساعدا ‏{‏لِلْمُجْرِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا أعين أحدا على معصية، وهذا وعد من موسى عليه السلام، بسبب منة اللّه عليه، أن لا يعين مجرما، كما فعل في قتل القبطي‏.‏ وهذا يفيد أن النعم تقتضي من العبد فعل الخير، وترك الشر‏.‏
‏{‏فـ‏}‏ لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه ‏{‏أَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ‏}‏ هل يشعر به آل فرعون، أم لا‏؟‏ وإنما خاف، لأنه قد علم، أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه الحال سوى موسى من بني إسرائيل‏.‏
فبينما هو على تلك الحال ‏{‏فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ‏}‏ على عدوه ‏{‏يَسْتَصْرِخُهُ‏}‏ على قبطي آخر‏.‏ ‏{‏قَالَ لَهُ مُوسَى‏}‏ موبخا له على حاله ‏{‏إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ بين الغواية، ظاهر الجراءة‏.‏
‏{‏فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ‏}‏ موسى ‏{‏بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا‏}‏ أي‏:‏ له وللمخاصم المستصرخ، أي‏:‏ لم يزل اللجاج بين القبطي والإسرائيلي، وهو يستغيث بموسى، فأخذته الحمية، حتى هم أن يبطش بالقبطي، ‏{‏قَالَ‏}‏ له القبطي زاجرا له عن قتله‏:‏ ‏{‏أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ‏}‏ لأن من أعظم آثار الجبار في الأرض، قتل النفس بغير حق‏.‏
‏{‏وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ‏}‏ وإلا، فلو أردت الإصلاح لحلت بيني وبينه من غير قتل أحد، فانكف موسى عن قتله، وارعوى لوعظه وزجره، وشاع الخبر بما جرى من موسى في هاتين القضيتين، حتى تراود ملأ فرعون، وفرعون على قتله، وتشاوروا على ذلك‏.‏
وقيض اللّه ذلك الرجل الناصح، وبادرهم إلى الإخبار لموسى بما اجتمع عليه رَأْيُ ملئهم‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى‏}‏ أي‏:‏ ركضا على قدميه من نصحه لموسى، وخوفه أن يوقعوا به، قبل أن يشعر، فـ ‏{‏قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُون‏}‏ أي‏:‏ يتشاورون فيك ‏{‏لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ‏}‏ عن المدينة ‏{‏إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ‏}‏ فامتثل نصحه‏.‏
‏{‏فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ‏}‏ أن يوقع به القتل، ودعا اللّه، و ‏{‏قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ فإنه قد تاب من ذنبه وفعله غضبا من غير قصد منه للقتل، فَتَوعُّدُهُمْ له ظلم منهم وجراءة‏.‏
‏{‏وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ‏}‏ أي‏:‏ قاصدا بوجهه مدين، وهو جنوبي فلسطين، حيث لا ملك لفرعون، ‏{‏قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏ أي‏:‏ وسط الطريق المختصر، الموصل إليها بسهولة ورفق، فهداه اللّه سواء السبيل، فوصل إلى مدين‏.‏
‏{‏وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ‏}‏ مواشيهم، وكانوا أهل ماشية كثيرة ‏{‏وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ‏}‏ أي‏:‏ دون تلك الأمة ‏{‏امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ‏}‏ غنمهما عن حياض الناس، لعجزهما عن مزاحمة الرجال وبخلهم، وعدم مروءتهم عن السقي لهما‏.‏
‏{‏قَالَ‏}‏ لهما موسى ‏{‏مَا خَطْبُكُمَا‏}‏ أي‏:‏ ما شأنكما بهذه الحالة، ‏{‏قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ‏}‏ أي‏:‏ قد جرت العادة أنه لا يحصل لنا سقي حتى يصدر الرعاء مواشيهم، فإذا خلا لنا الجو سقينا، ‏{‏وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ لا قوة له على السقي، فليس فينا قوة، نقتدر بها، ولا لنا رجال يزاحمون الرعاء‏.‏
فرق لهما موسى عليه السلام ورحمهما ‏{‏فَسَقَى لَهُمَا‏}‏ غير طالب منهما الأجرة، ولا له قصد غير وجه اللّه تعالى، فلما سقى لهما، وكان ذلك وقت شدة حر، وسط النهار، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ‏}‏ مستريحا لذلك الظلال بعد التعب‏.‏
‏{‏فَقَالَ‏}‏ في تلك الحالة، مسترزقا ربه ‏{‏رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي‏.‏ وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال، فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا‏.‏ وأما المرأتان، فذهبتا إلى أبيهما، وأخبرتاه بما جرى‏.‏
فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى، فجاءته ‏{‏تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ‏}‏ وهذا يدل على كرم عنصرها، وخلقها الحسن، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة، وخصوصا في النساء‏.‏

ويدل على أن موسى عليه السلام، لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة الأجير والخادم الذي لا يستحى منه عادة، وإنما هو عزيز النفس، رأت من حسن خلقه ومكارم أخلاقه، ما أوجب لها الحياء منه، فـ ‏{‏قَالَتِ‏}‏ له‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا‏}‏ أي‏:‏ لا لِيمُنَّ عليك، بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان، وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك، فأجابها موسى‏.‏


تفسير السعدي (تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن)


استغفر الله واتوب اليه
اضافة رد مع اقتباس