مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #1  
قديم 27/04/2009, 01:56 AM
A.K.N 505 A.K.N 505 غير متواجد حالياً
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 29/07/2004
المكان: أرض الله الواسعة !
مشاركات: 2,160




قيل أن الأصمعي سمع أعرابياً يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما قضى من زمانه.

يقول أمرؤ القيس و هو من فحول الشعراء في العصر الجاهلي في قصيدته التي عُدّت من المعلّقات و هو يتذكر ماضيات أيامه و يبكي على الأطلال :

قفا نبك من ذكرى حبيـب ومنـزلِ *** بسقط اللوى بين الدخـول وحومـلِ

و كان السفر إلى الماضي و التنزُّه في أرجائه عادة لأغلب الشعراء منذ ذلك الوقت إلى وقتنا الحاضر . و شذَّ عن تلك القاعدة أبو نواس فكان يستغرب من أولئك الرجال
الذين يبكون على أطلالهم و يتحسّرون على ما فات منها و كان مما قال :


قل لمن يبكي على رسم درس ** واقفا ما ضر لـو كان جلس
اترك الربع وسلمى جانبـا ** واصطبح كرخية مثل القبس



و لست أتفق مع أبي نواس فيما قال , فالنفس البشرية من طبيعتها أن تحن و تشتاق إلى ما كانت تحبه من الأنفُس و الجمادات !!

و هذا رسولنا الكريم و قدوتنا محمد "صلى الله عليه و سلم " عندما قدم عليه أصيل الغفاري من مكة سألته عائشة رضي الله عنها عن أحوال مكة فقال: اخضرت جنباتها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق أذخرها، وانتشر سلمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبك يا أصيل لا تحزني" ، وفيه: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ويها يا أصيل دع القلوب تقرقرارها"






خرجت اليوم من البيت , و استقليت سيارتي لقضاء حاجة لي , وقد اضطررت لسلك طريق غير الذي اعتدت أن أمشي فيه . لم تكن معالم هذا الطريق غريبةً عليّ فلطالما كنت أسلكه يومياً في صغري و أنا ذاهبٌ إلى المدرسة .

و اشتعل َ الحنين في قلبي , فكنت أمشي الهوينا كلمّا اقتربت منها لا أدري ما سبب ذلك , ربما كان رهبة ً أو شوقاً أو كلاهما .
هاهي ماثلة أمامي الآن !
لم أكن أشعر بأي شيئ قبل أن أراها و لكن لا أدري كيف أصف لكم شعوري بعد رؤيتها . و لم تمضِ ثواني حتّى توقفت سيارتي عند سورها فكانت كالناقة التي وقفت بأحد الشعراء إذ يقول :

وقفت على ربع لمية ناقتي * * * * فما زلت أبكي عنده و أخاطبه
و أسقيه حتّى كاد مما أبثه * * * * تكـلمني أحجــاره و مـلاعبه



سُبحان الخالق !
كنت طفلاً عمره لا يجاوز عمره سبع سنوات أول يومٍ أراها فيه و إذا الآن آتيها كرة أخرى لكن شاب ٌ في أوائل العشرينيات من عمره !
و قد اعتراها شيئ من التغيير لاحظته , و ما في الدنيا شيئ يبقى على حاله !

و إني والله لا زلت أذكر أول يومٍ فيها و كأني أرى بعض المشاهد رأي العين . كان وكيل المدرسة (و كان غير محبوب لشدته ) يوّزع الطلاب على فصولهم و كان لكل فصل أستاذ واحد ,فيقرأ في ساحة المدرسة من ورقة معدة مسبقاً فيها كل أسماء الطلاب , و كنت ممن وقع اسمه يومئذٍ في الصف (الأول _أ).
و كان أستاذنا (الذي لا أزال أذكر اسمه ) شديداً في بعض الأحيان و ليناً في أحياناً أخرى . و كان مما يهددنا به إذا أهملنا دروسنا غير الضرب (تنورة) يرتديها المهمل لكي يصبح مثل البنات !!
و لا أخفيكم سرأً أنّا كنا نخشاها أكثر من العصا التي يمسكها بيده .
وفي أحد الأيام دخل علينا و طلب مني أن أسمّع سورة الكافرون و كنت لمّا أتقنها بعد
و لكني وقفت و قرأتها كاملة بلا أخطاء فالتفت الأستاذ للتلاميذ و قال : أرأيتم كم هي سهلة ؟! ثم أمرهم أن يصفقوا لي و كان إحساس جميل جداً أجد حلاوته كلمّا جال في خاطري هذا الموقف . و عندي من المواقف و الذكريات الجميلة و القبيحة الشيئ الكثير و لكن ما هذا مقام للحديث عنها .

سقى الله تلك الأيام !
كانت أياماً صافية نقيّة كالماء العذب الزُلال لا كدر فيها . كان أكبر همنا أن نلعب و نلعب و نلعب . لا هم فيها و لا غم فلمّا تقدّم بنا العمر , كبرت مع أجسادنا أحلامنا الصغيرة و ازدادت مدارك عقولنا فعُقدت الآمال .


و لله أشكو حال تلك الشجرة النائيةِ في طرفِ الفناء ما بال أغصانها انعقدت بعد الإمتداد
و اسّاقطت أوراقها بعد الإخضرار ؟!
كنت آتيها مع صحبة لي (لا أزال على اتصالٍ معهم) لنستظلّ بوافر ظلها و نُسمِعها طرفاً من أحاديثنا و نكاتنا و ربما بعض سخافتنا !
و نأتيها لكي نُذاكر و نراجع دروسنا بين فترتي الإختبار فلم تتبرّم يوما ًمن مجيئنا . فلمَ آلت حالها كالذي أراها الآن ؟
أأُهملت و قطعوا عنها شريان حياتها فما عادوا يسقونها ، أم أنها كالأم ِ الحنون التي أخذوا منها أبنائها و فرقوهم في بلدانٍ متناثرة لا تسطِع أن تصل إليهم أو تكلمهم ؟
فكنا نحن الأبناء و هي أمنا و من فرقنا هي مشارب الحياة بعد أقدار الله . و لم أتمالك نفسي ...

ففاضت دموع العين منـي صبابـة *** على النحر حتى بل دمعي محملـي

و طفقت أشكو إلى مدرستي عناء الحياة و شدتها, و لؤم بعض ساكنيها و غِلظتهم .
لكن لم تكلمني أحجارها و لا أجابتني ملاعبها و أنّى يكون لها ذلك ! و وقفت وحدي لا أحد معي كصاحبي امرؤ القيس .







أمّا الآن و قد حان موعد الفِراق , فلَكِ مني يا غاليتي عهداً على أن لا أنسى فضلك عليّ و أن أذكرك بخير ما دام بي بقية من حياة . و هل ينسى الفضل و أهله أحد إلا اللئيم !
سأظلُ أذكر يوماً غادرتكِ فيه بعد ست سنوات هي مدة مكثي فيكِ و أنا الأول بين أقراني و لا فخر ! و ما كان ذاك مني لولا توفيق الله .

عذراً أحبتي فما جئت لأشغلكم بكلامٍ لا معنى له , ولكن لمّا خلد الناس إلى منازلهم في هدأة الليل و اختليت بنفسي تواترت علي الذكريات من كل جانب ,
و انكشفت لي مرحلة مضت من سِنِي حياتي ففاض قلمي بهذه الكلمات .

اخر تعديل كان بواسطة » A.K.N 505 في يوم » 27/04/2009 عند الساعة » 02:34 AM
اضافة رد مع اقتباس