مشاهدة مشاركة بصفحة مستقلة
  #44  
قديم 07/02/2009, 01:52 AM
ميّادة ميّادة غير متواجد حالياً
زعيــم فعــال
تاريخ التسجيل: 31/01/2008
مشاركات: 401
.

الفصل الخامس








صعدتُ إلى غرفتي محمّلة بالخيبة و كأن الساعات القليلة التي قضيتها مع أهلي قد تجاوزت مئات السنوات الضوئية .. خرجتُ من هنا و أنا أرقبُ أجنحةَ الحلم تتكوّن في قلبي الصغير .. و عدتُ و أنا أستندُ على حزني مثلَ كهلٍ قد انحنى ظهره من لكماتِ القدر
هذا الخبر أثقلَ كاهلي .. لم يترك لي وميضَ أملٍ يجعلني أتماسك

لمَ عدتَ الآن ؟ لمَ تكتبُ مصيري بكل هذهِ الأنانية المُفرطة ؟ لم أكن مستعدةً أبداً لأي اقتحامٍ لحياتي الآن


أمضيتُ سنيناً و أنا أحمل لابن العم امتناناً عظيماً لهذهِ الهدنة الطويلة التي منحني إياها سفره كي أعيشَ و أرتب حياتي كما أريد .. و أسدّ ثغرات قلبي و وحدتي في وجهِ كل من يتقدّم لخطبتي
اتّخذت سفره ذريعةً أحقق من خلالها رغباتي , فأنا أنثى لا تستمدُّ قوتها من رجل
السنين الطويلة التي غادرنا فيها كنتُ قد كوّنتُ في ذهني صورةً مغايرةً له .. كنتُ أظن كل هذا الاغتراب كفيلٌ بأن يؤمّن له بيتاً و زوجة .. و أبناءً صغار أيضاً
ادّعيتُ تصالحي مع العاداتِ البالية بأن مصائرُ الفتيات مرهونةٌ أولاً بأبناءِ عمومتهن . و تظاهرتُ بولائي الشديد لابن عمّي الغائب .. لأمنح نفسي فرصة الاستقرار الذاتيّ و أن أختارَ حياتي بنفسي ثم أواجهُ بها أهلي .. أتى فهد و قلبَ كل موازين حياتي .. حضورهُ لم يكن إلا بشائرٌ تأتي بأنباءِ حبٍ ينمو بشكلهِ الطبيعيّ دونَ أن يظهر مشوّها بفعلِ عادةٍ بالية


لمَ لم تنتظر أن يشتدُّ عود حلمي أولاً ثم تأتي .. لمَ تُجهضهُ بكل هذهِ السادية ؟
بعدَ أن كنتُ في الأيامِ القليلة الماضية أرتب لحياتي جيّداً أصبحتُ أرتّب لموتي الآن
لم يرحل جدّي قبل أن يختارَ موتي بالطريقة التي يحبها حتى قبل أن آتي إلى الدنيا .. " عيالكم لبعض " التي كانت تكررها أمي على لسانِ جدّي كانت كتميمة مُعلّقة على نحرِ التزاماتهم .. ماذا لو عاشَ جدّي زمناً قليلاً لحين زواج أبي .. هل كان سيرضى أن زوجة ابنه لم تنجب له حفيداً ؟
لو علمَ جدّي لشدّد وصيته لأبي قبل أن يمتدّ في تشكيلِ مصيرِ أحفاده .. و لأن حياتنا ليست ملكنا بالشكل المُطلق فإن الجزء الذي يمنحنا أحقيّة تشكيلها ليسَ كافياً بأن يحمينا من التدخّلات الشنيعة للآخرين
لمَ نبدو أكثر التزاماً لوعودنا تجاه الأموات .. حتى لو كانت على حسابِ الأحياء , أ ليست تلكَ جريمة يُعاقب عليها أيُّ ضميرٍ حيّ ؟


أمضيتُ ليلتي بحزنِ المغلوبينَ على أمرهم .. أتكوّر بصمتٍ على فجيعتي , كيفَ يقولُ ديكارت أنا أفكر إذن أنا موجود , تُرى كم استغرقَ في التفكير حتى تُعلن مقولته تلك عن وجودها و بشدّة ؟ ألم يعلم بأن لكلِ قاعدة شواذ , و لم أكن أنا سوى شذوذ بينَ الموجودات التي تشكل نفسها بالتفكير
فها أنا أحرقُ ساعات ليلي تفكيراً , و ما إن تنطفئ واحدة حتّى أشعل في رمادها احتراقَ أخرى
أفكّر حدّ التلاشي و لم يتكوّن وجودي الصغير
سحقاً لتاريخي الذي يكتبهُ الأموات
و سحقاً لكلِ الفلاسفةِ أشقياء الأرض , الذين يدّعونَ فهمَ الحياةِ أكثر و هم الذينَ لم يجرّبوها و لم يخوضوا في حزنها كما أغرقُ أنا الآن .

مسحتُ الحزنَ عن قلبي بإيمانِ من لا حيلةَ له و سلّمتُ نفسي لموتٍ قصير .


استيقظتُ ظهيرةَ اليومِ التالي على ضجيج الحركة المستمرة في البيت .. غسلتُ وجهيّ مراراً لأخفي تورّم عينيّ من البكاءِ الطويل في الليلةِ الماضية ثم خرجت لأعدّ قهوتي دونَ أن أتحدث إلى أحد وعدتُ للماسنجر لأرى إن كان فهد موجوداً أم لا ..
تحدّثنا لساعاتٍ طويلة كنتُ أرسمُ لنهايةٍ بأقلِ الخيبات بينما كانَ هو يبني من قشّ حديثي عشاً آمناً و لا أعلم إن كان عشاً أم نعشاً
لمسَ حزناً في حديثي و كنت أبررهُ بنومٍ غير مريح ليلةَ البارحة .. فيعود ليسدي عليّ نصائحاً تفضحُ قلقه عليّ و أقابلها أنا بابتسامةٍ تُخفي وراءها شجن


أغلقتُ الماسنجر و توجّهتُ للنافذة .. أراقبُ البهجة العارمة في بيتنا .. جدّتي تفترشُ الأرض المُعشبة بجوار قهوتها , و أبناء منى يطاردون الأرانب الصغيرة التي يعتني بها العم صالح .. كل ما هوَ في الأسفل يضجّ بالفرح , بينما أنا وحدي أتسامى بحزني نحوَ الأعلى .
أخرجتُ من خزانة ملابسي فستاناً أسود يليقُ بمأتمِ أحلامي الصغيرة , و وضعتُ القليلَ مما قد يخفي تورّم عينيّ ثم ذهبتُ لأساعد أمي و منى في إكمال الترتيبات


**

كنت أهم بإغلاق باب غرفتي ذاهباً إلى العزيمة التي يعدها عمّي بمناسبة عودتي , قابلني أبي في طريقهِ للذهاب أيضاً , تحدّث و هو ينزل السلم بلهجةٍ أبعد ما تكون عن التفاوض
- هاليومين إن شاء الله بكلم عمك عن زواجكم , جهّز نفسك .. بيتك من زمان جاهز و فيصل و وزوجته ما قصروا
كنت أعلم أن معارضة لهجة خطاب كهذهِ لن تنتهي بأقلِ من صدمة , فلم أجد سوى الصمت حيلةً في محاولة إدراك هذهِ الأحداث السريعة


تمت العزيمة بكلِ احتفاء , كل الانطباعات كانت كما هي فرحة عرسٍ منتظر و ليسَ احتفاءُ عودة , كيفَ لا و هم يعيشونَ فرحة إتمام الوصايا المُعلّقة
بعدَ أن غادر الجميع دعانا عمّي إلى جلسة مُعدّة في حديقةِ المنزل .. لم يكن هناك سوى جدّتي و أمي و منى زوجة فيصل و فتاة أخرى أظنّها الحظ المُرتقب .
كانَ تسامراً مفعماً بالأجواء الحميمية التي افتقدتها منذ سنواتٍ طويلة .. كنت أحاول أن أسترق النظر إليها لكنها بدت هادئة جداً و أبعد ما تكون عن أحاديثنا و صخبِ ضحكاتنا
شاهدتها وهي تذهب باتجاه العم صالح الذي يفرشُ فراشه تحت السدرة العتيقة .. تحدّثا قليلاً ثم عادت نحونا و أنا على أمل أن أرصد مؤشراً واحداً أعلق عليه أملاً بحياة مستقرة


**

في تلكَ الساعات القليلة استحالَ بيتنا إلى ثقبٍ صغير , بكلِ رحابتهِ لم يستطع أن يحتوي ضيقتي . حتّى هواء مدينتنا أصبحَ خانقاً و لا تكفي ذراته لإشباعٍ رئتي .. أصرت جدتي على الذهاب إلى قريتها الليلة , و لم تستطع محاولات أبي و عمّي إثنائها عن رغبتها في العودة أو المكوث حتى الصباح .. انتهزتُ فرصةَ ذهابها لأرافقها بعيداً عن الكآبة التي أثقلت كاهلَ صمتي .. أخبرتُ أمي و منى و صعدتُ إلى غرفتي لتجهيزٍ سريع للذهابِ معها .
أخرجتُ حقيبة يدوية كبيرة وضعتُ بها ما يلزمني بالإضافة إلى كتاب يختصرُ عليّ وحشة الطريق .
ذهبتُ نحوهم و أنا أرى فيصل يساعد جدتي في إيصالها إلى السيارة .. توجهتُ نحو سيارة فيصل و وضعت حقيبتي بجواري , من خلال النافذة لاحظت منى تركض باتجاه فيصل و تهمس في أذنه و يبتسم ..
ما إن رجعت منى حتى توجه فيصل إلى والدي .. حدّثه قليلاً ثم توجّه بالحديث لأخيه
- ودهم أنت .. ما عندك شي
شهقت من الصدمة العنيفة التي سددتها منى باتجاهي , لا أعلم كيفَ أنقذ نفسي من ورطة كهذهِ اجتهدتُ بالهروب منها لأجدها تطاردني
لحظتُ اضطرابه الشديد من حديث فيصل لكنه سلّم للأمر و أخذ المفتاح من يد أخيه بانزعاج واضح و أتى باتجاهِ السيارة

اضافة رد مع اقتباس