
30/01/2010, 01:56 AM
|
كاتب مفكر بالمجلس العام | | تاريخ التسجيل: 22/11/2005 المكان: في زمنٍ حياديّ
مشاركات: 1,847
| |
صنعاء "هذه المقالة الثالثة عن صنعاء"
تسافر من صنعاء إلى الرياض، فكأنك تعبر الجسر من أم درمان إلى الخرطوم بحري، أو من الأعظمية إلى الكاظمية أو من الرباط إلى سلا. تركت صنعاء البلقاء قاصدًا الرياض العصماء، وحين تسافر بالطائرة هكذا، تبدو لك هذه العواصم العربية كأنها أحياء في مدينة واحدة. تلمّ بها ليلاً أو نهارًا. الأضواء أوضح هنا، والمطار أكبر هنا، البيوت أسوأ حالاً في مكان، والمآذن أكثر ارتفاعًا في مكان. هنا يبنون بالحجر الأبيض، وهنا يبنون بالطوب الأحمر، وهنا يبنون بالطين الأخضر، وهنا يبنون بالاسمنت والزجاج والحديد. هنا روابٍ مخضرّة، وهنا صحارى مصفرّة، وهنا نهر جار، وهنا بحر أجاج. وحين تسمع نداءات المؤذنين في الفجر، لا تكاد تميّز أين أنت. الله أكبر في القاهرة كما الله أكبر في بغداد.
جموع تتزاحم في الشوارع والأسواق، أمواج من محيط واحد وحقيقة واحدة. ثوب من نسيج واحد ولكنه متعدد الألوان. ويا لها من ألوان مدهشة إذا نظرت إليها بعين الرضى. إنما لا تتعجل شروق الشمس، ولا تمزق الثوب لأنك تضيق بتعدد الألوان.
في صنعاء ذات القوام الرشيق والسَّمت المميز، لقيت فيمن لقيت، صديقي أحمد الحردلو، الشاعر الموهوب، الذي كان سفيرًا ناجحًا للسودان في اليمن. وجدت أنهم خلعوه من عمله. كل عهد تجود به علينا الأيام، لا تقر عينه، حتى يعزل أفواجًا من السفراء والضباط والوكلاء والمدراء ومن هم أدنى من ذلك. كأنهم يقلعون أشجارًا بدأت تثمر ليزرعوا مكانها أشجارًا أخر. وينتظرون الحصاد، ويقولون إن ذلك لأجل مصلحة الوطن. إنه يعلم أنك لا تذبح الناقة الحلوب، ولا تعقر الجمل الطروب.
((رُفاعة الرُّبُة قافاها البليب طربان))*
ذاك جمل الشاعر الشكري، الذي لو عقره لما قضى وطرًا.
وقد قال أبو العلاء رحمه الله: أأرجو لها شرًا ولم أر مثلها ....................... سفائر ليل أم سفائن آل
وهنُ مُنيفاتٌ إذا جُزْنَ واديًا ....................... تخيلتُنا منهنَّ فوق جبال
ذاك وقد قضيتُ أيامًا عامرة مع الأميين بصبحة محمد المضواحي. في اليمن أيضًا قاموا بحملة وطنية لمحو الأمية بدأت عام ١٩٨٢، شاركت فيها الهيئات الحكومية والشعبية والشرطة والجيش، وكادوا يبلغون الهدف. وقد طبقوا النظرية التي بلورها الدكتور محيي الدين صابر، المدير العام السابق للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. وأحسنوا الاستفادة من الجهاز العربي لمكافحة الأمية وتعليم الكبار. إلا أنهم لسوء الحظ ضعفت حماستهم بعد ذلك كما فعلت دول عربية أخرى، فأخذت الأمية تزحف من جديد.
أثناء ذلك جددت العهد بصديقي الدكتور عبد العزيز المقالح، الشاعر العالم الأديب، مدير جامعة صنعاء، وهو أحد الرجال الذين يعتد بهم في العالم العربي. وقد زاد من سعادتي أنه هيأ لي لقاءات مع الطلبة والأساتذة في الجامعة، استفدت منها أكثر مما استفادوا مني. كذلك سعدت بلقاء الأخ حسن اللوزي، الوزير الشاعر. وقد وجدت عندهم أخي سليمان العيسى، الشاعر الكبير ذا الخيال الجموح والقلب الخفّاق، وقد أهدى إليّ أبياتا من شعره، جادت بها قريحته عفو الخاطر، ما وددت أن لي بها حمر النعم، يقول فيها:دعنا إذًا في قاعِ قاعِ النيل
نخرج من ((مغطسنا)) الطويل
نخرج يومًا يا أخا ((القيل))
ليس على الله بمستحيل ثم سافرنا إلى ((حجة)) على بعد قرابة أربع ساعات بالسيارة، في طريق متعجرة تصعد جبال جرد تحتها أودية خضر. ولما بلغنا ((حجة)) إذا بلدة عامرة تشرف على مناظر تخلب اللّب. أصبنا الغداء في نزل ربوة جميلة ثمّة، كانت تتوافد عليه قوافل من السياح الألمان والطليان والأمريكان وغيرهم. يا سبحان الله. جمال بلاد العرب يتمتع به الناس من الشرق والغرب، وأهله عنه في شغل.
طفنا بعد ذلك بصفوف مكافحة الأمية، رجالاً ونساء أذكر منها على وجه الخصوص، صفًا للنساء، تراوحت أعمار النساء فيه بين العشرين وأقل، وما فوق الخمسين، ووجدنا صبية في الحادية عشرة، فضّلت صف محو الأمية على المدرسة النظامية، لأنها أنست أكثر إلى مدرسة محو الأمية، ولأن أختها التي تكبرها سنًا كانت في فصل محو الأمية. وقد وجدت في ذلك دليلاً على أن التعليم يمكن أن يتم حيثما اختار الطالب، وليس حتمًا أن يقدم بين جدران المدارس النظامية.
وإن أنس لا أنس تلك العيون النجل المشعة بالذكاء، تطلُّ من ثنايا البراقع كأنما إلى أفق قريب المنال.
سوف نصل إن شاء الله. إنما لا تتعجل مولد الفجر. لا تتعجل مولد الفجر يا عمرك الله، فالأمر ليس بيدك، وكل شيء له أوان، النخلة لا تثمر قبل الموسم، والله غالب على أمره.
هذا وقد ابتعدت الطائرة من صنعاء واقتربت من الرياض. إنما هما في خيالي أجزاء من مدينة واحدة، سلام على تلك المدينة. وأنت أيها ((الشاعر)) لذْت بعالم الأطفال فرارًا من عالم الكبار، كما ألوذ بعالم الأميين. أنت في معقلك في ((تعز)) آليت ألا تكتب إلا للأطفال. تكتب وتنتظر. أرجو ألاّ يطول انتظارك، والسلام عليك إذ تقول: إني ممن يبحثون عن رئة ....................... جديدة ((اللدورة)) المهترئة
أعني بها دماءنا الكريمة ....................... في الأمة المنكوبة العظيمة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * رفاعة مدينة على النيل الأزرق جنوب شرقي الخرطوم على أطراف البطانة. ديار قبيلة الشكرية العتيدة.
الربة، أي أن سكانها خليط.
قافاها، أي تركها وراءه.
البليب، اسم جمل الشاعر، ود عوض الكريم، ربما لجمال لونه الأبيض، مثل الفضة.
|