يحدث في كثير من الأحيان أن نقوم بفعلٍ ما و لكثرة قيامنا به يُصبح هذا الفعل أو العمل شيئاً روتينياً
نقوم بتكراره دونما تـفكُّرٍ فيه أو محاولة استخراج خوافيه !
و من هذه الأفعال التي نفعلها على الدوام , بل قلّ منا من لم يفعله هو السفر و السياحة في البلدان و الأقطار , و أحسبُ أن السبب في هذا راجعٌ لسهولةِ
السفر في الوقت الحالي عكس ما كان عليه السفر خلال المئتي سنة الماضية مثلاً !
حتّى أنّ المشقة التي يتَكبّدها المسافرُ الآن لا يُمكَن مقارَنتها إطلاقاً بمَا كان يُعَانيه المسافر قديماً من انعدامٍ للأمن على حياتِه و مالِه أو طولِ الوقت الزمني
الذي يحتاجه لقطع مسافة السفر , فالمسافة التي كانت تُقطع في شهريَن , تُقطع اليوم خِلال ساعتيَن فقط !
و أحسن تعبيرٍ لهذا هو ما قاله الشيخ علي الطنطاوي _ رحمه الله _ في وصفه لرحلة الحجاز عندما قال : (
لقد ربحنا الوقت و وفّرنا الجهد , لكن خسرنا المشاعر و الذكريات ! )
وصلت المطار في الوقت المطلوب و أخذت دوري في الطابور لإنهاء أمور السفر و قطع بطاقة صعود الطائرة كما جرت العادة , و كأننا من شدة الزحام نصطّف لمقابلة أميرٍ أو وزيرٍ أو شخص ذو مالٍ وفير !!
و بعد قيل و قال و كثرةِ السؤال أُذن لنا بالانصراف لأرض المحشر ( أعني صالة الانتظار ! ) و لكن ليسَ قبل أن نعبر جهاز التفتيش الذي لن يدّخر جهداً في إصدار صوت إنذار إن كنت تحمل معك معدناً أو أي شيء ممنوع فقلت في نفسي ليت أن لكل واحدٍ من البشر جهاز مثله يكشف عيوبه و أخطاءه ليُحاول اجتنابها وإصلاحها قبل فوات الأوان .
فلا يخلو أيُّ إنسان من الخطأ و الذنب مهما بلغ من الكمال و الفضل و رغم ذلك نسمح لأنفسنا في انتقاد تصرفات الآخرين و نُعطيها الحق بالتكلم في أعراضهم و كأننا نسينا قول الشاعر :
لسانك لا تذكر به عورة امرئ * * * * * فكلّـك عوراتٌ وللناسِ ألسـنُ
وعينُك إن أبدَت إليكَ معَايباً * * * * * فدعْها وقل : يا عَيْن للنّاس أعينُ
و لكني تراجعت عن التمني لأدرك أنه يوجد في الحقيقة مثل هذا الجهاز لكنه معطّلٌ عند البعض و ضعيف
الاستجابة عند البعض ! نعم , إن لكل إنسانٍ (
ضمير) يُؤنبه و يُنذره عند الخطأ إن كان حياً ...
بعدما دخلت لصالةِ الانتظار , ذهبت فوراً لأشتري قارورة ماء أروي بها عطشي و أُرطّبَ بها كبدي و لم استغربْ أبداً من المبلغِ الزهيد جداً لثمن تلك القارورة , حيث أنها كلّفتني خمسة ريالاتٍ فقط !
لكن سرعان ما زال استغرابي عندما قرأت عليها أنها أُحضرَت خصيصاً من جبالِ فرنسا الشاهقة !!
فقلت في نفسي و لم أُبدها للبائع : ( و الله لو أنها مياه حلوة الجوف !

)
تجوّلت في أنحاء الصالة لأمضي بعض الوقت و حقيقةً أنّي من كثرة ما دخلتها حفظتُ كل ركن فيها حتّى المسافرين لا تتغيّر طباعهم و أوصافهم فستجد فيها من كلِ صنف ٍ و لون .
تجد فيها المرأة المتحجبة و المرأة المتبرجة و تجد فيها من يقرأ كتاباً و من يعبث بجوّاله و من ينظر في شاشة اللاب توب و تجد فيها من تحسبُه ملك من هيئته و هندامِه الأنيق و مَن يلبس رثّ الثياب .
لكن الشيء الأكثر طرافة و غرابة و الذي شدّني هو أن تجد مدخناً يُدخن سيجارته تحت لوحةٍ مكتوب عليها
"
ممنوع التدخين " باللون الأحمر و بالخط العريض !! و لا تحسبوا تلك طرفة ... لا, فلقد رأيتها بأمّ عينيّ كما يُقال !