
28/11/2009, 09:19 PM
|
زعيــم نشيــط | | تاريخ التسجيل: 28/03/2008
مشاركات: 809
| |

تفسير سورة الانبياء (6) ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} أي أكسرها على وجه الكيد {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} عنها إلى عيد من أعيادهم، فلما تولوا مدبرين، ذهب إليها بخفية {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} أي كسرا وقطعا، وكانت مجموعة في بيت واحد، فكسرها كلها، {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} أي إلا صنمهم الكبير، فإنه تركه لمقصد سيبينه، وتأمل هذا الاحتراز العجيب، فإن كل ممقوت عند الله، لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم، إلا على وجه إضافته لأصحابه، كما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول: " إلى عظيم الفرس " " إلى عظيم الروم " ونحو ذلك، ولم يقل " إلى العظيم " وهنا قال تعالى: {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} ولم يقل " كبيرا من أصنامهم " فهذا ينبغي التنبيه له، والاحتراز من تعظيم ما حقره الله، إلا إذا أضيف إلى من عظمه.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا لأجل أن يرجعوا إليه، ويستملوا حجته، ويلتفتوا إليها، ولا يعرضوا عنها ولهذا قال في آخرها: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ}
فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الإهانة والخزي {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه ومن عدله وتوحيده، وإنما الظالم من اتخذها آلهة، وقد رأى ما يفعل بها {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} أي: يعيبهم ويذمهم، ومن هذا شأنه لا بد أن يكون هو الذي كسرها أو أن بعضهم سمعه يذكر أنه سيكيدها {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} فلما تحققوا أنه إبراهيم {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ} أي: بإبراهيم {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} أي بمرأى منهم ومسمع {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أي: يحضرون ما يصنع بمن كسر آلهتهم، وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس ليشاهدوا الحق وتقوم عليهم الحجة، كما قال موسى حين واعد فرعون: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}
فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا} أي: التكسير {بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} ؟ وهذا استفهام تقرير، أي: فما الذي جرأك، وما الذي أوجب لك الإقدام على هذا الأمر؟.
فقال إبراهيم والناس شاهدون: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} أي: كسرها غضبا عليها، لما عبدت معه، وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده، وهذا الكلام من إبراهيم، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه، ولهذا قال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} وأراد الأصنام المكسرة اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر، اسألوه لأي شيء كسرها، إن كان عندهم نطق، فسيجيبونكم إلى ذلك، وأنا وأنتم، وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم، ولا تنفع ولا تضر، بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى.
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: ثايت عليهم عقولهم، ورجعت إليهم أحلامهم، وعلموا أنهم ضالون في عبادتها، وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك، {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} فحصل بذلك المقصود، ولزمتهم الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم، ولكن لم يستمروا على هذه الحالة، ولكن {نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أي: انقلب الأمر عليهم، وانتكست عقولهم وضلت أحلامهم، فقالوا لإبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} فكيف تهكم بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها لا تنطق؟ .
فقال إبراهيم ـ موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رءوس الأشهاد، ومبينا عدم استحقاق آلهتهم للعبادة ـ: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} فلا نفع ولا دفع.
{أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: ما أضلكم وأخسر صفقتكم، وما أخسكم، أنتم وما عبدتم من دون الله، إن كنتم تعقلون عرفتم هذه الحال، فلما عدمتم العقل، وارتكبتم الجهل والضلال على بصيرة، صارت البهائم، أحسن حالا منكم.
فحينئذ لما أفحمهم، ولم يبينوا حجة، استعملوا قوتهم في معاقبته، فـ {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي: اقتلوه أشنع القتلات، بالإحراق، غضبا لآلهتكم، ونصرة لها. فتعسا لهم تعسا، حيث عبدوا من أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم، واتخذوه إلها، فانتصر الله لخليله لما ألقوه في النار وقال لها: {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فكانت عليه بردا وسلاما، لم ينله فيها أذى، ولا أحس بمكروه.
{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} حيث عزموا على إحراقه، {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} أي: في الدنيا والآخرة، كما جعل الله خليله وأتباعه، هم الرابحين المفلحين.
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا} وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إلا لوط عليه السلام قيل: إنه ابن أخيه، فنجاه الله، وهاجر {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} أي: الشام، فغادر قومه في " بابل " من أرض العراق، {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ومن بركة الشام، أن كثيرا من الأنبياء كانوا فيها، وأن الله اختارها، مهاجرا لخليله، وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة، وهو بيت المقدس.
{وَوَهَبْنَا لَهُ} حين اعتزل قومه {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ابن إسحاق {نَافِلَةً} بعدما كبر، وكانت زوجته عاقرا، فبشرته الملائكة بإسحاق، {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ويعقوب، هو إسرائيل، الذي كانت منه الأمة العظيمة، وإسماعيل بن إبراهيم، الذي كانت منه الأمة الفاضلة العربية، ومن ذريته، سيد الأولين والآخرين. {وَكُلَا} من إبراهيم وإسحاق ويعقوب {جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أي: قائمين بحقوقه، وحقوق عباده، ومن صلاحهم، أنه جعلهم أئمة يهدون بأمره، وهذا من أكبر نعم الله على عبده أن يكون إماما يهتدي به المهتدون، ويمشي خلفه السالكون، وذلك لما صبروا، وكانوا بآيات الله يوقنون.
وقوله: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي: يهدون الناس بديننا، لا يأمرون بأهواء أنفسهم، بل بأمر الله ودينه، واتباع مرضاته، ولا يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر الله.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} يفعلونها ويدعون الناس إليها، وهذا شامل لجميع الخيرات كلها، من حقوق الله، وحقوق العباد.
{وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} هذا من باب عطف الخاص على العام، لشرف هاتين العبادتين وفضلهما، ولأن من كملهما كما أمر، كان قائما بدينه، ومن ضيعهما، كان لما سواهما أضيع، ولأن الصلاة أفضل الأعمال، التي فيها حقه، والزكاة أفضل الأعمال، التي فيها الإحسان لخلقه.
{وَكَانُوا لَنَا} أي: لا لغيرنا {عَابِدِينَ} أي: مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم، فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم، فاتصفوا بما أمر الله به الخلق، وخلقهم لأجله.
تفسير السعدي (تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن)
استغفر الله وأتوب اليه |