المنتديات الموقع العربي الموقع الانجليزي الهلال تيوب بلوتوث صوتيات الهلال اهداف الهلال صور الهلال
العودة   نادي الهلال السعودي - شبكة الزعيم - الموقع الرسمي > المنتديات العامة > منتدى الثقافة الإسلامية
   

منتدى الثقافة الإسلامية لتناول المواضيع والقضايا الإسلامية الهامة والجوانب الدينية

إضافة رد
   
 
LinkBack أدوات الموضوع طريقة عرض الموضوع
  #1  
قديم 11/12/2007, 09:57 PM
زعيــم متواصــل
تاريخ التسجيل: 25/03/2007
مشاركات: 55
Icon17 فقه الحج والعمرة بالتفصيل

فضائل الحج:عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حج لله فلم يرفثن ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه".
وعن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال:" لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جهاد الكبير والصغير، والضعيف، والمرأة: الحج والعمرة".
وقال صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
- فهذه الأحاديث صريحة في فضل الحج والعمرة، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. والحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم مأخوذ من البر، وهو الطاعة وقيل: هو المقبول، ومن علامة القبول أن يرجع الحاج خيرًا مما كان عليه قبل الحج، وأن لا يعاود المعاصي، وقيل: الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه. والواقع أن كل هذه المعاني والأوصاف مطلوبة في الحج المبرور.
دلائل فرضية الحج:
الحج من فراض الإسلام ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين).
وأما السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا .. الخ" رواه مسلم.
وقد أجمع الفقهاء على وجوب الحج على المستطيع. وأما المعقول فهو أن العبادات وجبت لحق العبودية أو لحق شكر النعمة، وفي الحج يوجد المعنيان : أما إظهار العبودية فلأن العبودية هي إظهار التذلل والخضوع للمعبود وهو الله - جل جلاله- ، وفي الحج يظهر هذا المعنى بصورة جلية في اللباس وسائر الأفعال والأقوال التي يقوم بها، وفيما يمتنع عنه الحاج، وأما شكر النعمة فلأن العبادات بعضها بدنية وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال، فكان الحج شكر هاتين النعمتين، لأن شكر النعمة ليس غلا استعمالها في طاعة المنعم، وكر النعمة واجب عقلاً.
حكمة الحج:
من خصائص الإسلام أنه لا يكتفي في تزكية النفوس وتربيتها بالقول والموعظة فقط، وإنما يقرن بهما أسلوب التربية العملية، ونجد هذا واضحًا جليًا فيما شرعه من عبادات مثل الصلاة والصوم. ويظهر مسلكه في التربية العملية في فريضة الحج، فأفعال الحج كلها تربية عملية على الطاعة التامة لله رب العالمين، والإخلاص في العبودية له، والامتثال لأمره، فأفعال الحج كما يقول الإمام الغزالي- رحمه الله- لا حظ لنفوس، ولا أنس للطبع فيها، ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد، وقصد الامتثال للأمر - أمر الشرع- من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط.
وحيث إن أفعال الحج كما وصف الغزالي فإن النفس تعيش رياضة عملية وتربية فعلية على الإخلاص في العبادة لله رب العالمين. كما أن ترك الطيب في فترة الحج ولبس لباس الإحرام، كل هذا وغيره يُذكره بكفنه الذي يخرج به من الدنيا، فيعرف أنها لا تستحق منه كل هذا الحرص عليها، والتعب من أجلها، والركض وراءها، والحزن على ما قد يفوته من متاعها، فليس له مما يحرص عليه منها سوى هذا الكفن الذي يضع على جسمه مثله في إحرامه إن قدر له كفن عند موته. ثم في وقوفه في عرفات وقد ضج الواقفون بالدعاء إلى الله تعالى بمختلف اللغات واللهجات يذكره ذلك بموقف يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين.. وهكذا سائر أفعال الحج وأقواله تربية روحية عملية، وتعريف للإنسان بقدر نفسه، وحقيقة مركزه في الحياة، والغاية التي من أجلها خلق، وبالتالي تموت فيه عوامل دوافع الغرور والكبرياء، وأخيرًا فإن في أفعال الحج تعويدًا للمسلم على امتثال أمر الله تعالى لأنه أمر الله تعالى، سواء عقل معناه وحكمته أم لا.
ومن حكمة الحج أنه ييسر للمسلمين فرصة طيبة معلومة المكان والزمان للاجتماع والتشاور فيما بينهم وفيما يهمهم. وهذا التشاور في الأمور العامة للمسلمين يغلب عليه النفع العام للمسلمين، والوصول إلى الصواب فيما يتشاورون فيه ومن أجله، لأنهم يفعلون ذلك وهم في عبادة وفي مكان طاهر، ونفوسهم متفتحة بمعاني الإيمان وقد غُسلت من أدرانها بأفعال الحج والعمرة، ولا شك أن هناك من حكمة الحج الشيء الكثير غير ما ذكرناه
أ- الشروط التي تعم الرجال والنساء
أولا: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية:

فلا يجب الحج على كافر لأنه غير مخاطب بفروع الدين، ولهذا قال الفقهاء -على سبيل الفرض- لو أن الكافر حج قبل الإسلام ثم أسلم.. وجب عليه حجة الإسلام ولا يعتد بحجه قبل إسلامه.
والبلوغ شرط لوجوب الحج لا لأدائه، ولهذا لو حج الصبي قبل بلوغه صح حجه، ولكن لم يسقط فرض الحج من ذمته، فإذا بلغ وجب عليه حجة الإسلام، لأن حجه قبل البلوغ لا يعتد به بالنسبة لحجة الإسلام الواجبة عليه.
وكذلك يشترط العقل، فلا يجب الحج على مجنون؛ لأنه غير مكلف لعدم عقله.
والحرية شرط لوجوب الحج، فلا يجب على الرقيق، لأن منافعه مملوكة لسيده؛ ولأن الاستطاعة من شروط وجوب الحج، والاستطاعة تكون بملك الزاد والراحلة، وملك منافع البدن, والرقيق لا يملك ذلك فلا يجب عليه الحج.
ثانيًا: الاستطاعة:
وهذا الشرط -شرط الاستطاعة- مستفاد من قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)، وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الاستطاعة التي هي شرط للحج وموجبة له بالزاد والراحلة، فقد روى الإمام الترمذي عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول، ما يُوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة".
قال الترمذي بعد أن ذكر هذا الحديث: هذا حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم أن الرجل إذا ملك زادًا وراحلة وجب عليه الحج. وبهذا قال الحنابلة والشافعية والحنفية.
وعند المالكية: إذا كان الرجل قادرًا على المشي إلى بيت الله الحرام فهذا يغنيه عن الراحلة. أما بالنسبة للزاد فقد قال المالكية إذا كانت عادته تكفُّف الناس وسؤالهم، وغلب على ظنه أنهم يعطونه ما يوفر له الزاد، فهذا يكفي لتوفر الزاد، وبالتالي لتحقيق شرط الاستطاعة، فوجب الحج عليه. إلا أن الفقيه ابن حبيب المالكي قال: الاستطاعة الموجبة للحج هي ملك الزاد والراحلة كما هو قول الجمهور، فلا يكفي القدرة على المشي، ولا ملك الزاد عن طريق سؤال الناس.
الراجح في المقصود بالاستطاعة، وما تتحقق به:
والراجح هو قول الجمهور ومعهم ابن حبيب المالكي، فلا يكفي القدرة على المشي إلى مكة لوجوب الحج عليه؛ لأن تكليف الناس بالحج مشيًا على الأقدام فيه حرج شديد، والحرج مرفوع بحكم الإسلام. وكذلك إيجاب الحج على من عادته التسول وسؤال الناس، إذا غلب على ظنه أنهم يعطونه، هذا الشخص يستحق الزجر والمنع من هذه العادة القبيحة، عادة التسول وسؤال الناس؛ لأن سؤال الناس في الأصل لا يجوز في الشريعة الإسلامية، ولا يجوز إلا للضرورة، فكيف يمكن جعل المعتاد على التسول مالكًا للزاد، وبالتالي مستطيعًا للحج، وبالتالي يجب عليه الحج؟ إن الشرع أمر بالحج بشرط الاستطاعة، ولا تتأتى الاستطاعة بسؤال الناس الممنوع شرعًا إلا للضرورة، وليس من معاني الضرورة الذهاب إلى الحج عن طريق سؤال الناس.
هذا ويلاحظ هنا أن شرط الراحلة لوجوب الحج هو بحق من بعد مسكنه عن مكة، أما أهل مكة ومن حولهم فإن الحج يجب على القوي منهم القادر على المشي؛ لأنه حرج يلحقه في المشي وأداء أفعال الحج، كما لا يلحقه الحرج في المشي إلى صلاة الجمعة.
هل تثبت الاستطاعة ببذل الزاد والراحلة؟
إذا بذل شخص لآخر الزاد والراحلة أو ما يقوم مقامهما من مال ليحج، فهل تثبت الاستطاعة للحج بهذا البذل
قال الحنابلة والحنفية: لا تثبت استطاعة الحج ببذل الزاد والراحلة سواء كان الباذل قريبًا أو أجنبيًا، وسواء بذل له الركوب والزاد، أو بذل له مالا.
وعن الإمام الشافعي: إذا بذل له ولده ما يتمكن به من الحج لزمه قبوله، لأنه أمكنه الحج بهذا البذل من غير منة تلزمه، وهذا مذهب الزيدية أيضًا.
وعند الجعفرية: إذا لم يملك الأب استطاعة الحج، وكان له ولد ذو مال: وجب على الأب أن يأخذ من مال ولده قدر ما يحج به على الاقتصاد ويحج، وإذا لم يكن له ولد وبذل له بعض إخوانه ما يحج به: وجب عليه الحج.
والحجة للحنابلة والحنفية أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عما يوجب الحج، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الزاد والراحلة" وهذا الجواب يعني ملك الزاد والراحلة، أو ملك ما يحصل به الزاد والراحلة. والبذل لا يتحقق به ذلك، لأن الباذل يملك حق الرجوع فيما بذله، ويمنع المبذول له من التصرف في المبذول، وهذا يعني أن المبذول له لا يملك الاستطاعة المطلقة على الحج، وبالتالي لا يكون مستطيعًا فلا يجب عليه الحج لعدم تحقق شرط الاستطاعة فيه. ثم إن البذل من أية جهة جاء حتى من الولد لا يخلو من المنة، والمسلم لا يلزمه قبول ما فيه المنة ولو في فعل القربات.
المقصود بالزاد والرحلة:
والمقصود بالزاد ما يحتاجه من مأكول ومشروب في ذهابه إلى الحج ورجوعه إلى أهله أو عنده من المال ما يشترى به ذلك. وأما الراحلة فتعني واسطة النقل التي يحتاجها في ذهابه ورجوعه، وفي سائر تنقلاته لأداء متطلبات الحج؛ سواء كانت واسطة النقل التي يحتاجها ملكًا له، أو يحصل عليها بأجره، ويمكن القول: إن المقصود بالزاد والراحلة كل ما يحتاج لغرض أداء أفعال الحج من مأكول ومشروب ولباس وواسطة نقل تليق به، ومن يقوم بخدمته، إذا كان ممن لا يخدم نفسه بنفسه. ولا يشترط أن تكون عنده هذه الأشياء بأعيانها، بل يكفي أن يكون عنده من المال ما يكفيه لتحصيل ذلك وغيره مما يلزمه من نفقات الحج على وجه لا إسراف فيه ولا تقتير.
ما يشترط في المال الذي يكفيه للحج:
ويشترط في المال الذي يكفيه لحجه على النحو الذي ذكرناه أن يكون هذا المال فاضلاً عن مسكنه، وخادمه، وفرسه، وسلاحه، وثيابه، وأثاثه، ونفقة عياله، وخدمه، وكسوتهم مدة ذهابه وإيابه، وقضاء ديونه؛ لأن هذه الأشياء من الحوائج الأصلية للإنسان التي لا بدَّ منها فكان المستحق بها من المال ملحقًا بالعدم.
وإن كان الشخص محتاجًا إلى النكاح وراغبًا في الحج ينظر، فإن خاف على نفسه العنت قدَّم الزواج على الحج؛ لأن الزواج في هذه الحالة واجب عليه لإعفاف نفسه فلا غنى له عنه فهو كنفقته، فإن كان ما عنده من مال لا يكفيه للزواج والحج لم يكن ما عنده من مال فاضلاً عن حاجاته، فلا يجب عليه الحج لفوات شرط الاستطاعة. وإن لم يخف العنف إذا قدم الحج على الزواج قدم الحج، لأن الزواج في هذه الحالة في حقه من قبيل الاستحباب، فلا يُقدم على الحج الواجب.
هل يلزم الشخص بيع أمواله للحج؟
قال الحنابلة ومن وافقهم: من له عقار يحتاج إليه لسكنه أو سكنى عياله أو يحتاج إلى أجرته لنفقة نفسه أو نفقة عياله أو كان يملك بضاعة متى نقصت اختلَّ ربحها فلم يكفهم، أو كانت عنده مواشٍ سائمة من الغنم والبقر والإبل يحتاج إليها لنفقته ونفقة عياله: لم يلزمه بيع شيء مما ذكرناه لأجل أن يحج به، إلا إذا كان له شيء مما ذكرناه يفضل عن حاجاته فيلزمه بيعه والحج بثمنه. وهذا إذا قلنا عن الحج يجب على الفور.
وذكر الفقيه الكرخي -وهو من أئمة الحنفية- أن أبا يوسف قال: إذا لم يكن له مسكن ولا خادم ولا قوت لعياله يزيد على حاجتهم مدة ذهابه إلى الحج ورجوعه، وكان عنده دراهم تبلغه إلى الحج فهذا لا ينبغي أن يجعل ما عنده من النقود في غير الحج، فإن فعل أثم، لأنه يستطيع بما عنده من نقود أن يحج، فلا يُعذر في ترك الحج ولا يتضرر بترك شراء المسكن والخادم، بخلاف بيع المسكن والخادم فإنه يتضرر ببيعهما. ومن الواضح أن هذا القول مبني على أن الحج واجب على الفور لا على التراخي.
ثالثاً: شرط أمن الطريق:
وأمن الطريق بمنزله الزاد والراحلة، فهو من شرائط وجوب الحج، والمقصود به خلو الطريق من عوائق السير فيه، كوجود عدو أو قطاع طرق، أو غلبه الهلاك فيه لأي سبب كان، فإذا انعدم الأمن لم يجب الحج. وهذا مذهب الحنابلة، والشافعية، وأبي حنيفة، وروي عن بعضهم، وهو رواية في مذهب الحنابلة، أنه من شرائط الأدلة -أداء الحج-، والراجح أنه من شروط وجوب الحج ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن الاستطاعة بالزاد والراحلة لكونهما من الأسباب الموصلة إلى الحج، وليس لكون الاستطاعة مقصورة عليهما. وعلى هذا فكل ما كان من أسباب إمكان الوصول إلى الحج دخل في مضمون الاستطاعة، وهكذا يستدل بالمنصوص عليه على غيره لاستوائهما بالمعنى وهو إمكان الوصول إلى أداء الحج وأداء مناسكه.
بذل المال لسلامة الطريق:
قال ابن قدامة الحنبلي: "ولو كان في الطريق عدو يطلب خفارة: فقال القاضي:
لا يلزمه السعي إلى الحج، وإن كانت يسيرة، لأنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكبيرة.
وقال ابن حامد: عن كان ذلك مما لا يجحف بماله لزمه الحج لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها، فلم تمنع وجوب الحج مع إمكان بذلها كثمن الماء، وعلف الدواء.
رابعًا: صحة البدن وحرية السفر:
ومن شروط وجوب الحج: صحة البدن، وحرية السفر، فلا يجب الحج على مريض لا يقوى على الحج، ولا على شيخ كبير لا يثبت على الراحلة بنفسه، ولا يتحمل متاعب السفر، ولا على محبوس، ولا على ممنوع من السفر من قبل سلطان جائر. فهؤلاء لا يجب عليهم الحج، وهم في هذه الأحوال من اعتلال البدن وضعفه، وفقدان حرية السفر؛ لأن الله تعالى شرط الاستطاعة لوجوب الحج، ولا استطاعة عند هؤلاء وفيهم ما ذكرناه.
والأعمى لا يجب عليه الحج إلا إذا وجب من يكفيه مؤونة خدمته في سفره وإعانته على أفعال الحج مع توافر شروط الحج الأخرى فيه، وهذا قول الشافعية، والحنابلة، وأبي يوسف، ومحمد. وروي عن أبي حنيفة أنه لا حج على الأعمى بنفسه، وإنما ينيب عنه غيره.
خامسًا: إمكان إدراك الحج في وقته:
وإذا كملت شروط وجوب الحج التي ذكرناها: وجب توافر شرط آخر بعد تكاملها هو وجود زمن يمكن فيه أداء الحج، فإن لم يبق من الوقت ما يكفيه للسفر وأداء متطلبات الحج لم يلزمه الحج.
النيابة في الحج:
ومن لم يجب عليه الحج بنفسه لمرضه أو لعجزه أو لكبر سنه، أو لغير ذلك من الأسباب، وعنده مال يكفي لنفقات الحج: فهل يجب عليه أن ينيب عنه من يحج عنه؟
الجواب: ينظر.. فإن كان المانع من حجه بنفسه يجري زواله كالمريض يرجى برؤه، والمحبوس يؤمل خروجه من السجن، والممنوع من السفر ظلمًا يرجى رفع المنع عنه، فهؤلاء ينظرون زوال المانع، فإذا زال وظلت شروط وجوب الحج قائمة حجوا بأنفسهم، ولا يجوز أن ينيبوا عنهم من يحج عنهم.
على العاجز عن الحج ببدنه حاضرًا ومستقبلاً القادر بماله أن ينيب عنه:
أما إذا كان المانع من حجه بنفسه لا يرجى زواله كالمريض بمرض لا يرجى برؤه منه، ولا يستطيع معه القيام بالحج، ووجد من ينيبه للحج عنه لزمه أن ينيبه، وذلك لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرجه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِي اللَّهُ عَنْهمَا- قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَشْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ".
شروط النيابة في الحج:
يشترط في النيابة في الحج بالنسبة للمنيب: أن يكون عاجزًا عن الحج بنفسه كما ذكرنا، وأن يستنيب من يحج عنه من حيث وجب عليه الحج أي من بلده.
وأن يكون النائب أهلاً للنيابة، بأن يكون قد حج عن نفسه حجة الإسلام لما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:" مَنْ شُبْرُمَةُ؟" قَالَ: قَرِيبٌ لِي. قَالَ: "هَلْ حَجَجْتَ قَطُّ؟" قَالَ: لا. قَالَ: " فَاجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ".
ومن شروط النيابة أيضًا أن يكون حج النائب بإذن المنيب، وألا يخالفه فيما يشترط عليه من إفراد الحج، أو أدائه بالقران أو بالتمتع.
النيابة في الحج عن الميت:
وكما تجوز النيابة في الحج عن الحي على النحو الذي بيناه.. تجوز أيضًا النيابة عن الميت، فمن مات ممن وجب عليه الحج، ولم يحج وجب أن يخرج عنه من جميع تركته ما يحج به ويعتمر عنه، سواء فاته الحج بتفريط منه أو بغير تفريط، وبهذا قال الحنابلة والشافعي وطاووس.
وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط الحج بالموت إلا إذا أوصى الميت قبل موته بالحج عنه، فيحج عنه تنفيذًا لوصيته من ثلث تركته، وبهذا قال الشعبي والنخعي، والحجة لقولهم: إن الحج عبادة بدنية فتسقط بالموت كالصلاة.
والحجة لقول الحنابلة وما وافقهم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرجه النسائي في "سننه" عن ابن عباس، وفيه: أَمَرَتِ امْرَأَةٌ سِنَانَ بْنَ سَلَمَةَ الْجُهَنِيَّ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَيُجْزِئُ عَنْ أُمِّهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهَا دَيْنٌ فَقَضَتْهُ عَنْهَا أَلَمْ يَكُنْ يُجْزِئُ عَنْهَا فَلْتَحُجَّ عَنْ أُمِّهَا". وأخرج النسائي أيضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَبِيهَا: مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ قَالَ: "حُجِّي عَنْ أَبِيكِ".
المرأة كالرجل في النيابة عن الحج:
والمرأة كالرجل في النيابة في الحج، فيجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة، وتنوب المرأة عن الرجل والمرأة في الحج في قول عامة أهل العلم، وقال ابن قدامة في هذا: لا نعلم فيه مخالفًا إلا الحسن بن صالح، فإنه كره حج المرأة عن الرجل. قال ابن المنذر: هذه غفلة عن ظاهر السنة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر المرأة أن تحج عن أبيها

ب- شروط وجوب الحج الخاصة بالنساء تمهيد:
ما ذكرناه من شروط وجوب الحج في المبحث الأول يسري على المرأة أيضًا، فلا يجب عليها الحج بدونه. ولكن لا تكفي تلك الشروط وحدها، بل يضاف إليها بالنسبة للمرأة شرطان: (الأول): أن تخرج للحج مع زوجها أو مع محرم، و(الثاني) ألا تكون معتدة من طلاق أو وفاة.
وعلى هذا نقسم هذا المبحث إلى مطلبين:
المطلب الأول: أن يكون معها زوجها أو ذو رحم محرم منها.
المطلب الثاني: ألا تكون معتدة من طلاق أو وفاة.

المطلب الأول
أن يكون معها زوجها أو ذو رحم محرم منها
أقوال الفقهاء في هذا الشرط:
أولاً: قال الشافعية: لا يجب الحج على المرأة إلا إذا وجدت من يخرج معها للحج من محرم لها أو زوج أو نسوة ثقات، فأي هذه الثلاثة وجد لزمها الحج، وإن لم يكن شيء من الثلاثة لم يلزمها الحج، لأن الشرط عند الشافعية لوجوب الحج على المرأة حصول الأمن لها على نفسها، وهذا الأمن يحصل لها بمصاحبة الزوج أو المحرم أو النسوة الثقات الجامعات لصفات العدالة، وعلى هذا لو وجدت امرأة واحدة ثقة تسافر معها للحج لم يلزمها الحج، ولكن يجوز معها الحج. وقال بعض الشافعية: يلزمها الحج بوجود نسوة ثقات أو امرأة واحد ثقة، وقد يكثر الأمن ولا تحتاج إلى أحد، بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة. ولكن المشهور من نصوص الشافعي وهو المذهب عند الشافعية أو جمهورهم هو القول الأول، أي لا يجب الحج على المرأة إلا بوجود الزوج معها أو المحرم أو النسوة الثقات، ولكن يجوز للمرأة أن تخرج لأداء حجة الإسلام، أي فريضة الحج، مع المرأة الثقة، وكذا يجوز أن تخرج وحدها للحج إذا أمنت وكانت الطريق آمنة مسلوكة، وعليه حمل ما دل من الأخبار على جواز السفر وحدها، وهذا الجواز في فريضة الحج، أما في حج التطوع فلا بد لها من زوج أو محرم، ولا تكفي رفقة النساء على الصحيح في مذهب الشافعية.
ثانيًا: وقال المالكية: يشترط لوجوب الحج على المرأة أن تجد محرمًا من محارمها يسافر معها للحج، أو يخرج معها زوجها إن كانت ذات زوج، ويقوم مقام المحرم الرفقة المأمونة في سفر الفرض فقط. والرفقة المأمونة قد تكون من النساء فقط، أو من الرجال فقط، أو من الرجال والنساء.
وقال الظاهرية: المرأة التي لا زوج لها وليس لها ذو محرم يحج معها فإنها تحج ولا شيء عليها، فإن كان لها زوج ففرض عليه أن يحج معها، فإن لم يفعل فهو عاصٍ لله تعالى، وتحج هي دونه وليس له منعها من حج الفرض، ولكن له منعها من حج التطوع.
وقال الزيدية: وجود المحرم للمرأة هو شرط أداء لحجها وليس هو شرط وجوب، كما أن هذا الشرط هو في حق الشابة، أما في حق العجوز فليس بشرط فيجوز لها الخروج إلى الحج مع نساء ثقات أو مع غيرهن.
وقال الحنابلة: لا يجب الحج على المرأة التي لا محرم لها ولا زوج، وقد نص على ذلك الإمام أحمد، فقد قال أبو داود: قلت لأحمد: امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج ؟ قال: لا. وعن أحمد: المحرم من شرائط الأداء لا الوجوب، وعلى هذا: من فاتها الحج بعد إكمال شرائط الوجوب بموت أو بمرض لا شفاء منه أخرج من مالها ما يحج به عنها. ولكن المذهب عند الحنابلة هو الأول، أي أن وجود المحرم -أو الزوج- من شرائط الوجوب، واحتجوا لمذهبهم بجملة من الأحاديث الشريفة التي سنذكرها.
وقال الحنفية: يشترط لحج المرأة أن يكون معها زوجها أو محرم لها، فإن لم يوجد أحدهما لا يجب عليها الحج، واحتجوا بجملة أحاديث سنذكرها فيما بعد، كما احتجوا بأن حجها بدون المحرم أو الزوج يعرِّضها للفتنة، وهذا ضرر بها، والضرر مرفوع شرعًا.
وقال الجعفرية: لا يشترط لوجوب الحج على المرأة الزوج أو المحرم لها، ويكفي أمن السلامة، وعدم الخوف عليها إذا حجت وحدها بدون زوج أو محرم.
مناقشة الأقوال وأدلتها:
أولاً: من قال: تحج المرأة وحدها، ولا يشترط لوجوب الحج عليها وجود الزوج أو المحرم احتج أو احتج له بحديث عدي بن حاتم الذي جاء فيه أن "الظعينة سترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة…" كما احتجوا أو احتج لهم بالقياس على من أسلمت في دار الحرب، أو تخلصت من أسر الكفار فإن لها الخروج إلى دار الإسلام وحيدة.
الجواب على احتجاجهم بحديث عدي:
والجواب على هذا الاحتجاج أن حديث عدي حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" في باب علامات النبوة في الإسلام، وقد جاء فيه: عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة. ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال -صلى الله عليه وسلم-:" يا عدي، هل رأيت الحيرة؟" قال عدي: لم أرها وقد أنبئت عنها. قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله". قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله. ولكن يردّ على هذا الاستدلال بهذا الحديث أنه يدل على وقوع ذلك، أي على سفر المرأة وحدها إلى الحج، ووجوده في المستقبل، ولا يدل على جوازه، فضلاً عن عدم دلالته على وجوب الحج على المرأة التي تستطيع السفر للحج وحدها لعدم وجود الزوج أو المحرم معها. ولكن أجيب على هذا الردّ بأن ما جاء في هذا الحديث الشريف هو خبر في سياق المدح، وحصول رفع منار الإسلام في المستقبل، فيحمل ما ورد فيه على جواز سفر المرأة وحدها، وليس على مجرَّد وقوع هذا السفر في المستقبل. ولكن الأولى -كما يقول الشوكاني- حمل ما ورد في هذا الحديث على وقوع ذلك لا على جوازه جمعًا بينه وبين الأحاديث الشريفة التي تنهى عن سفر المرأة وحدها بدون محرم أو زوج.
أما احتجاجهم بالقياس على من أسلمت في دار الحرب، وأن لها الخروج إلى دار الإسلام وحدها، وكذلك الأسيرة المسلمة إذا تخلَّصت من أسر الكفار أن لها الخروج إلى دار الإسلام وحدها، وبالتالي.. يجوز للمرأة أن تخرج وحدها إلى الحج، هذا الاحتجاج يرد عليه أنه قياس مع الفارق، لأن خروج المرأة المسلمة وحدها إلى دار الإسلام في هاتين الحالتين هو خروج للضرورة، فلا يصح أن يقاس عليه خروج المسلمة للحج في حال السعة والاختيار، ولأن الأسيرة ومن أسلمت في دار الحرب إنما تدفعان بخروجهما وحيدتين ضرر بقائمها بين الكفار بتعرضهما للفتنة أو الاعتداء على عرضهما، فجاز لهما دفع هذا الضرر بتحمل ضرر السفر لوحدهما، وهو ضرر مظنون، وليس هو مثل ضرر بقائهما في دار الكفر. أما في السفر إلى الحج وحدها ففيه ضرر محتمل تتحمَّله المرأة دون دفع أي ضرر أصلاً. ثم إن الفقهاء اختلفوا في الحج هل هو على الفور أو على التراخي، مما يجعل تأخير سفرها حتى يوجد المحرم أو الزوج أولى من سفرها وحدها.
أما من قال بوجوب الحج على المرأة بوجود امرأة ثقة تحجّ معها فإن حجته -كما يبدو-: حديث عدي، وخروج الأسيرة المسلمة وحدها من دار الحرب إلى دار الإسلام، وقد أجبنا على هذين الدليلين. كما قد يحتجّ لأصحاب هذا القول بأن المنظور إليه في سفر المرأة هو حصول الأمن لها، ولهذا اشترط لسفرها أن يكون معها زوج أو محرم، فإذا حصل الأمن للمرأة بسفرها مع امرأة ثقة فقد حصل المقصود من شرط وجود الزوج أو المحرم معها، فيجب عليها الحج لتوافر شروط وجوبه. ولكن يرد على هذا الاحتجاج أن الأمن -عادة- لا يحصل للمرأة بمصاحبة امرأة واحدة، وإنما يمكن أن يحصل برفقة نساء ثقات، وبالتالي لا يجوز إيجاب الحج على المرأة بوجود امرأة واحدة ثقة تسافر معها للحج.
واحتج الظاهرية لمذهبهم في عدم اشتراط وجود المحرم أو الزوج لوجوب الحج على المرأة، احتجوا بقوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً). ففرض الحج واجب بنص هذه الآية، فمتى كانت المرأة مستطيعة لزمها هذا السفر الواجب للحج دون اشتراط وجود المحرم أو الزوج.
أما الأحاديث التي نهت المرأة عن السفر إلا مع زوج أو ذي رحم محرم فهذه الأحاديث عامة لكل سفر، فيجب استثناء الأسفار الواجبة منه، والحج سفر واجب، واستثناؤه من جملة النهي من سفر المرأة بدون زوج أو محرم.
والجواب على احتجاج الظاهرية أن أحاديث نهي المرأة عن السفر إلا بزوج ومحرم لا تعارض الآية الكريمة: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)؛ لأن هذه الأحاديث بيَّنت أن وجود المحرم أو الزوج في حق المرأة من جملته الاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحج. ولا يقال: إن السنة النبوية الشريفة بيَّنت أن الاستطاعة على الحج تكون بملك الزاد والراحلة دون اشتراط وجود الزوج أو المحرم للمرأة، لأنا نقول: إن أحاديث النهي عن سفر المرأة إلا مع زوج أو محرم تضمَّنت اشتراط وجود الزوج أو المحرم مع وجود الزاد والراحلة بالنسبة لسفر الحج، وهذه الزيادة غير منافية لشرط الزاد والراحلة فيتعيَّن قبولها.
على أن التصريح باشتراط المحرم أو الزوجة في سفر المرأة للحج لخصوصية يقتضي دفع توهم أي تعارض، ويستلزم القول به، ففي رواية للدارقطني عن أبي أمامة مرفوعًا: "لا تسافر المرأة سفر ثلاثة أيام أو تحج إلا ومعها زوجها". واحتج ابن حزم لمذهبه بحديث أبي معبد عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب ويقول: "لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم. فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا أو كذا. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "انطلق فاحجج مع امرأتك".
ووجه استدلال ابن حزم بهذا الحديث هو كما قال ابن حزم: لأن نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن أن تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، وقع- أي وقع سفر المرأة بدونه- ثم سأل الرجل عن امرأته التي خرجت حاجَّة لا مع ذي محرم، ولا مع زوج، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن ينطلق فيحج معها، ولم يأمر -صلى الله عليه وسلم- بردها، ولا عاب سفرها إلى الحج دونه ودون ذي محرم.
ولكن يرد على استدلال ابن حزم بأنه لو لم يكن ذلك -أي وجود المحرم أو الزوج مع المرأة في سفرها- شرطًا لما أمر -صلى الله عليه وسلم- زوجها بالسفر معها وترك الغزو الذي كتب فيه.
من اشترط وجود الزوج أو المحرم للمرأة لوجوب الحج عليها احتج بالأحاديث الصحيحة الثابتة التي تدل على ذلك، ومن هذه الأحاديث:

أ-أخرج الإمام البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا معها محرم". فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال -صلى الله عليه وسلم-:" اخرج معها". ب-وأخرج الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم...". ج-وأخرج عبد الرزاق وغيره عن ابن عيينة عن عكرمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحجن امرأة إلا ومعها محرم".
ويستدل على أن رفقة النساء الثقات تقوم مقام الزوج أو المحرم في سفر المرأة للحج بما رواه الإمام البخاري في "صحيحه" أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد أذن لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحج في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف. ثم كان عثمان -رضي الله عنه- بعد عمر بن الخطاب يحج بهن في خلافته أيضًا.
ووجه الدلالة بحج أمهات المؤمنين برفقة عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف أن هذا الأمر حصل باتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي -صلى الله عليه وسلم- ودون نكير عليهن من غيرهن من الصحابة. وهذا إجماع على جواز ذلك؛ أي على جواز سفر المرأة للحج برفقة نساء ثقات، لأن أمهات المؤمنين كن ثمانية في سفرهن للحج، فقد ذكر ابن حجر العسقلاني في شرحه "لصحيح البخاري" من حديث أم معبد الخزاعية الذي أخرجه ابن سعد، قالت: رأيت عثمان وعبد الرحمن في خلافة عمر حجّا بنساء النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزلن بقديد، فدخلت عليهن وهن ثمان. وأما قول المالكية في أن الرفقة المأمونة تقوم مقام الزوج والمحرم فيمكن الاستدلال لقولهم بما ذكرناه عن عمر -رضي الله عنه- بشأن إذنه لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحج، وأنه بعث معهن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف. ولكن هذه الواقعة يستدل بها المالكية في قولهم: إن الرفقة المأمونة تقوم مقام المحرم أو الزوج إن كانت الرفقة نساء فقط أو نساءً ورجالاً، ولكن لا يستدل على كفاية الرفقة إن كانت رجالاً فقط؛ لأن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من واحدة.

القول الراجح:
بعد أن ذكرنا أدلة الأقوال المختلفة في شرط وجود المحرم في سفر المرأة للحج.. يترجَّح عندنا القول بلزوم توافر الزوج أو المحرم للمرأة لوجوب الحج عليها، وأنه يقوم مقام الزوج والمحرم وجود الرفقة المأمونة من النساء الثقات، أو من الرجال والنساء الثقات.
لا فرق بين الشابة والعجوز في شرط المحرم:
وما ذكرناه من شرط المحرم لوجوب الحج على المرأة يشمل الشابة والعجوز؛ لأن الدلائل التي دلت على هذا الشرط لم تخصه بالمرأة الشابة وتسقطه عن العجوز، فتخصيصه بالشابة تحكّم بلا دليل فلا يجوز. وإذا قيل: إن العجوز لا تشتهي، فلا معنى لهذا الشرط بالنسبة لها فالجواب: لا ضابط لذلك، ولأنه كما قيل.. لكل ساقطة لاقطة، ثم الأخذ بالاحتياط أولى في هذا المقام، وعلى هذا فالنساء كلهن سواء في شرط المحرم، وهذا قول الجمهور، فقد قال ابن حجر العسقلاني في هذا الشرط ولزومه لوجوب الحج على المرأة.. قال -رحمه الله- تعالى: (ولم يختلفوا أن النساء كلهن في ذلك سواء إلا ما نقل عن أبي الوليد الباجي أنه خصه بغير العجوز التي لا تشته). بل ويمكن القول: إن العجوز قد تحتاج إلى المحرم أكثر من حاجة الشابة لعجزها عن القيام بشؤونها، أو لصعوبة ذلك عليها؛ ولأن المنظور إليه في سفر المرأة إلى الحج ليس فقط حفظها ودفع ما يشينها وتوفير الأمن لها، وإنما أيضًا ينظر إلى ما تحتاجه في سفرها من القيام بشؤونها، والخدمة التي لا يصلح لها به إلا زوجها أو ذو محرم معها.
من هو المحرم؟
قال الحنابلة: المحرم الذي يشترط للسفر مع المرأة للحج يشمل زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب كأبيها، أو بالرضاع كأخيها من الرضاعة، أو بالمصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها. ودخل الزوج في مفهوم المحرم هنا مع كونه يحل لها وتحل له، لحصول المقصود بسفره معها وهو حفظها وصيانتها.
ومما يدلّ على دخول الزوج في مفهوم المحرم الحديث الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا معها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل وقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة وإنني أكتتب في غزوة كذا وكذا. قال -صلى الله عليه وسلم-: فانطلق واحجج مع امرأتك".
وجه الدلالة بهذا الحديث أن الرجل فهم من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" أن الزوج داخل في مفهوم المحرم هنا أو قائم مقامه.
هذا وإن بعض الأحاديث الشريفة صرَّحت بالزوج مثل الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا يكون ثلاثة أيام فصاعدًا إلا معها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها". وعلى هذا فالمقصود بالمحرم الذي تسافر معه المرأة للحج، وأن وجوده شرط لوجوب الحج عليها هو الزوج ومن تحرم عليه على التأبيد. وعلى هذا.. إذا أطلقنا لفظ (المحرم) كشرط لوجوب الحج على المرأة، فإن هذا الإطلاق يشمل الزوج ومن يحرم عليها على التأبيد. وإن شئنا قلنا: الزوج والمحرم، وعند ذاك يكون المحرم هنا من يحرم عليها على التأبيد، ولا يشمل الزوج لذكره صراحة.
هذا ويلاحظ هنا أن المحرم الذي يحرم على المرأة على التأبيد هو الذي يحرم عليها لحرمتها، فلا يشمل الملاعن بالنسبة لزوجته التي لاعنها، فإن تحريمها عليه بعد اللعان والتفريق بينهما فرقة مؤبَّدة إنما هو تحريم على وجه العقوبة والتغليظ وليس لحرمتها، فلا يكون الملاعن محرمًا لها.
الكافر ليس بمحرم للمسلمة:
والكافر ليس بمحرم للمسلمة وإن كانت ابنته. قال الإمام أحمد في يهودي أو نصراني أسلمت ابنته: لا يزوجها ولا يسافر معها، ليس هو لها بمحرم. وقال الحنفية: الكافر يكون محرمًا للمسلمة إلا أن يكون مجوسيًا فلا يكون محرمًا لها؛ لأنه يعتقد إباحة نكاحها، فلا تسافر معه لأنه لا يؤمن عليها، فهو بالنسبة لها كالأجنبي.
ويشترط في المحرم أن يكون بالغًا عاقلاً؛ لأن المقصود بالمحرم حفظ المرأة، ولا يحصل هذا المقصود بالصبي ولا بالمجنون، فاشترط فيه البلوغ والعقل.
السفر الذي يجب فيه المحرم:
يشترط وجود المحرم مع المرأة في سفر الحج إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام فصاعدًا، فإن كانت المسافة أقلَّ من ذلك حجَّت بغير محرم، لأن المحرم يشترط للسفر، وما دون مسيرة ثلاثة أيام ليس بسفر، فلا يشترط فيه المحرم، كما لا يشترط للخروج من محلة إلى محلة، وهذا مذهب الحنفية.
الأحاديث في هذا السفر:
والواقع أن أحاديث كثيرة رويت وفيها مسافات معينة يلزم المرأة فيها أن يصاحبها ذو محرم أو زوج، وهذه المسافات مختلفة باختلاف الروايات، وقد رواها الإمام مسلم وغيره، وفيها: "لا تسافر المرأة ثلاثًا -أي: مسيرة ثلاثة أيام- إلا ومعها ذو محرم". وفي رواية أخرى: "لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها"، وفي رواية أخرى: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها ذو حرمة منها"، وفي رواية لأبي داود: "ولا تسافر بريدًا…" والبريد مسيرة نصف يوم.
اختلاف المسافات في الأحاديث:
وقد قال العلماء في اختلاف مقادير المسافات التي وردت في هذه الروايات مردها إلى اختلاف أحوال السائلين واختلاف مواطنهم، وليس في النهي عن السفر مسيرة ثلاثة أيام بلا محرم تصريح بإباحة السفر بدونه مسيرة يوم وليلة أو بريد. وقال البيهقي في اختلاف المسافات الواردة في الأحاديث: كأنه -صلى الله عليه وسلم- سئل عن المرأة تسافر مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم فقال:" لا ". وسئل عن سفرها يومين بغير محرم، فقال:" لا ". وسئل عن سفرها يومًا، فقال:" لا ". وكذلك سئل عن سفرها بريدًا، فقال:" لا ". فروى كل واحد منهم ما سمعه. وما جاء منها مختلفًا عن رواية واحدة فمرده أن الراوي سمعه في مواطن، فروى تارة هذا، وتارة هذا، وكله صحيح، وليس في هذا كله تحديد مسافة لأقل ما يقع عليه اسم السفر، ولم يرد -صلى الله عليه وسلم- تحديد أقل ما يسمى سفرًا.
وقال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في هذه المسألة: فالحاصل أن كل ما يسمى سفرًا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم؛ سواء كان مسيرة ثلاثة أيام أو يومين أو يوم أو بريد أو غير ذلك، لرواية ابن عباس المطلقة، وهي آخر روايات الإمام مسلم في هذا الموضوع. ونص رواية ابن عباس التي أخرجها الإمام مسلم: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم". وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرًا. وهذه الرواية أخرجها الإمام البخاري أيضًا عن ابن عباس ولفظها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم…". وقال الإمام أحمد: لا تسافر المرأة سفرًا قليلاً ولا كثيرًا إلا مع ذي محرم.
والقول الراجح بل الصحيح هو ما قاله الإمام أحمد. وعلى هذا إذا كان ما تسيره المرأة حتى تصل مكة وإلى الكعبة المشرفة يسمى سفرًا عرفًا لزمها المحرم في سفرها هذا، وإن كان ذلك لا يسمى سفرًا عادة كالمرأة تسكن حول مكة المكرمة فلا يلزمها المحرم في سيرها إلى مكة للحج.
هل يجب على الزوج أو المحرم مصاحبة المرأة في سفر حجها؟
إذا طلبت المرأة من زوجها أو من محرمها الخروج معها إلى الحج ليكون سفرها مع زوج أو ذي محرم فهل يجب عليهما إجابة طلبها، والخروج معها إلى الحج أم لا يجب ذلك عليهما؟
قال الظاهرية: … فإن كان لها زوج ففرض عليه أن يحج معها، فإن لم يفعل فهو عاص لله تعالى، وتحج هي دونه، وليس له منعها من حج الفرض وله منعها من حج التطوع. وحجتهم في ذلك الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام البخاري وذكرناه من قبل عن ابن عباس وفيه:… فقال رجل: يا رسول الله إني أريد -وفي رواية نذرت- أن أخرج في جيش كذا أو كذا وامرأتي تريد الحج. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "فاخرج معها" وقال ابن حزم في شرحه لهذا الحديث مستدلاً به على مذهبه: فلم يقل -عليه الصلاة والسلام-: "لا تخرج إلى الحج إلا معك"، ولا نهاها عن الحج أصلاً، بل ألزم الزوج ترك نذره في الجهاد، وألزمه الحج معها، فالفرض في ذلك على الزوج لا عليها.
وقد أخذ بظاهر هذا الحديث بعض أهل العلم، فأوجبوا على الزوج السفر مع امرأته في الحج المفروض عليها إذا لم يكن لها غيره.
ويبدو على مقتضى مذهب الظاهرية إذا لم تكن المرأة ذات زوج ولها محرم، ورفض أن يسافر معها للحج، أن لها أن تسافر وحدها.
قول الجمهور:
وقال الحنفية: فإن امتنع الزوج أو المحرم عن الخروج -أي مع المرأة في سفر الحج- لا يجبران على الخروج. وكذلك قال الشافعية، فلا يجبر عندهم الزوج ولا المحرم على الخروج مع المرأة في سفر الحج.
وكذلك قال الحنابلة: لا يجب على الزوج والمحرم السفر معها إلى الحج؛ لأن في الحج مشقة شديدة، وكلفة عظيمة، فلا تلزم أحدًا لأجل غيره كما لا يلزمه أن يحج عنها إذا كانت مريضة. وكذلك قال الزيدية: لا يجب على المحرم الخروج مع محرمه إلى الحج.
والقائلون بعدم وجوب الخروج على المحرم مع المرأة في سفرها للحج المفروض، يقولون بعدم وجوب الخروج عليه أيضًا حتى لو بذلت المرأة له نفقة السفر والحج معها. وأما ما ورد في الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس وفيه: … فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "فاخرج معها" فقد أجابوا عنه بأن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الرجل بأن يخرج معها للحج بأنه أمر يفيد الإباحة، أو أنه أمر تخيير، أو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم من حال السائل أنه يعجبه أن يسافر مع زوجته.
والراجح عندي أن على الزوج أن يخرج مع زوجته للحج إذا بذلت له نفقة الحج؛ لأن دلالة الحديث الشريف على وجوب خروج الزوج مع زوجته دلالة ظاهرة، وبها أخذ الظاهرية، وإنما قيدا وجوب خروج الزوج معها إذا بذلت له نفقة الحج لأن سفره من أجلها، وليس من حقوق الزوجة على زوجها أن يتحمل نفقة حجها، أو يشاركها في هذه النفقة، ونفقته من جملة نفقات حجها فتلزمها هي. أما غير الزوج من محارمها فيستحب له الخروج معها على أن تتحمل هي نفقات سفره وحجه؛ لأن خروجه معها من أجلها.
هل يجب على المرأة بذل نفقة من يخرج معها للحج؟
إذا قبل الزوج أو المحرم الخروج مع المرأة للحج، فهل يلزمها بذل نفقة خروجهما؟ قال الفقيه القدوري الحنفي في شرحه لمختصر الكرخي: يلزمها ذلك لأن خروج المحرم أو الزوج معها من ضرورات حجها بمنزلة الزاد والراحلة، إذ لا يمكنها الحج بدون أحدهما، كما لا يمكنها الحج بون الزاد والراحلة، ولا يمكن إلزام الزوج أو المحرم بتحمل نفقة الحج، فيلزمها ذلك لهما كما يلزمها الزاد والراحلة لنفسها.
وبهذا قال الحنابلة، فقد صرحوا بأن نفقة المحرم المصاحب للمرأة في سفر الحج تتحملها هي، نص عليه الإمام أحمد لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة، فعلى هذا يعتبر في استطاعتها أن تملك زادًا وراحلة لها، ولمحرمها والزوج يدخل في مفهوم المحرم عندهم كما ذكرنا. ولو كان المصاحب لها هو زوجها فيجب لها عليه نفقة الحضر وما زاد فعليها.
وكذلك قال الشافعية: يلزمها نفقة المحرم إذا لم يخرج إلا بها. ونفقة الزوج كالمحرم، أما نفقة النسوة الثقات إذا قبلن الخروج معها للحج من أجلها، فقد قال صاحب "مغني المحتاج": والمتجه إلحاقهن بالمحرم، أي: إلحاقهن به في وجوب بذل نفقة السفر لهن من المرأة مريدة الحج.
هل يشترط إذن الزوج لسفر الزوجة للحج؟

أ-قال الشافعية: ليس للمرأة حج التطوع إلا بإذن زوجها، وكذا لحج الفريضة في الأصح في المذهب. ب-وقال الحنفية: لها أن تخرج مع المحرم في حجة الفريضة من غير إذن زوجها إذا وجدت المحرم مع وجود الزاد والراحلة لها وله، فقد استطاعت إلى حج البيت سبيلاً فوجب عليها الحج. وإذا قيل: إن حق الزوج في الاستمتاع بها يفوت بخروجها إلى الحج، فيجب أخذ إذنه، فإن أذن خرجت، وإن أبى لم تخرج لأن الحج على التراخي لا على الفور، فإنا نقول: إن منافع الزوجة والاستمتاع بها من قبل زوجها مستثناة من حق الزوج فيها في أوقات أداء الزوجة الفرائض كما في الصلوات الخمس وصوم رمضان، فكذلك في حج الفريضة بخلاف حج التطوع إذا منعها فعليها الامتناع. ج-وعند الحنابلة: يستحب للمرأة أن تستأذن زوجها في حجة الفريضة فإن أذن لها فبها وإلا خرجت بغير إذنه إذا وجدت المحرم. أما في حج التطوع فلا بد من إذنه. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن له منعها من الخروج في حج التطوع، وذلك لأن حق الزوج عليها واجب فليس لها تفويته بما ليس بواجب. د-أما الظاهرية فقد ذكرنا قول ابن حزم ونعيده هنا وهو قوله: فإن كان لها زوج ففرض عليه أن يحج معها، فإن لم يفعل فهو عاص لله تعالى، وتحج هي دونه وليس له منعها من حج الفرض، وله منعها من حج التطوع.
موت المحرم قبل الخروج للحج:
إذا مات المحرم قبل خروج المرأة لسفر الحج لم تخرج بغير محرم لما تقدم من النهي عن سفر المرأة بلا محرم، وإن مات بعد خروجهما فإن كان قد مات قريبًا من بلدها رجعت إلى بلدها لأنها في حكم الحاضرة، وإن كان مات بعيدًا عن بلدها مضت في سفرها للحج؛ لأنها لا تستفيد بالرجوع شيئًا لكونها بغير محرم، بل ربما كان مضيها في سفرها للحج، وقد بعدت عن بلدها أنفع لها وأحفظ مع أداء فريضة الحج. ولكن إن كان حجها تطوعًا، وأمكنها الإقامة ببلد حتى يتيسر لها الرجوع إلى بلدها، فهو أولى لها من المضي في سفرها بغير محرم.
هل يجب على المرأة أن تتزوج بمن يحج بها؟
وإذا لم يكن للمرأة محرم يسافر معها للحج، ولم تكن متزوجة، وهي موسرة تملك الزاد والراحلة لنفسها ولمن يسافر معها من محرم أو زوج، فهل يجب عليها التزوج بمن يحج بها، أم لا يلزمها ذلك؟ قال الإمام علاء الدين الكاساني في "بدائعه":… ولهذا قالوا في المرأة التي لا زوج لها ولا محرم: أنه لا يجب عليها أن تتزوج بمن يحج بها.
وقال الزيدية: ولا يجب على المرأة النكاح لأجله أي لا يلزمها تزوج من يحج بها أو لأجل مال تزوده للحج
أركــان الحــج الوقوف بعرفة
طواف الزيارة (طواف الإفاضة)

1-الوقوف بعرفة
الدليل على أن الوقوف بعرفة ركن:
والدليل على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج قول الله تعالى: "وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً". ثم فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "الْحَجُّ عَرَفَةُ"؛ أي: الحج هو الوقوف بعرفة، لأن الحج فعل وعرفة مكان، فلا يكون حجًا، فكان الوقوف بعرفة مضمرًا فيه فكان تقديره: الحج هو الوقوف بعرفة. والمجمل إذا استحق به التفسير يصير مفسرًا من الأصل، وحيث إن الحج فرض بنص الآية الكريمة، وإن الحج هو الوقوف بعرفة، فيكون هذا الوقوف فرضًا، وهو ركن الحج. وفي سنن ابن ماجه عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَعْمَرَ الدِّيلِيَّ قَالَ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الْحَجُّ؟ قَالَ: "الْحَجُّ عَرَفَةُ"، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ أَيَّامُ مِنًى ثَلاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَرْدَفَ رَجُلا خَلْفَهُ فَجَعَلَ يُنَادِي بِهِنَّ".
مكان الوقوف بعرفة:
أما مكان الوقوف بعرفة فعرفات كلها موقف لما أخرجه أحمد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كُلُّ عَرَفَاتٍ مَوْقِفٌ وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ".
وحدّ عرفة من الجبل المشرف على عرفة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر. وليس وادي "عرفة" من الموقف، ولا يجزئ الوقوف فيه عن الوقوف بعرفة، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من وقف به لا يجزئه. وحكي عن مالك أنه يهريق دمًا وحجه تام، والحديث الذي أخرجه ابن ماجه وذكرناه لا يساعد على قبول قول مالك بل يدفعه، فالصواب هو ما قاله ابن عبد البر.
والمستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة، ويستقبل القبلة لما جاء في حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات واستقبل القبلة.
وقت الوقوف بعرفة:
وقت الوقوف بعرفة من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر. قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أن آخر الوقت -وقت الوقوف بعرفة- طلوع فجر يوم النحر. قال جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع "مزدلفة" قال أبو الزبير: فقلت لجابر: أقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك؟ قال: نعم، رواه الأثرم. وأما أول وقت الوقوف بعرفة فمن طلوع الفجر يوم عرفة، فمن أدرك عرفة في شيء من هذا الوقت وهو عاقل فقد تم حجه.
وقال مالك والشافعي: أول وقفة زوال الشمس من يوم عرفة. وبهذا قال الحنفية، فقد قال الإمام الكاساني: وأما زمان الوقوف بعرفة فمن حين تزول الشمس من يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، حتى لو وقف بعرفة في غير هذا الوقت كان وقوفه وعدم وقوفه سواء؛ لأنه فرض مؤقت فلا يتأدَّى في غير وقته.
واحتج ابن قدامة الحنبلي لمذهبه من أن وقت الوقوف بعرفة من طلوع فجر يوم عرفة بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا، فقد تم حجه، وقضى تفثه"، كما احتج بأن من طلوع فجر يوم عرفة إلى الزوال يعتبر من يوم عرفة، فكان وقتًا للوقوف كبعد الزوال. وترك الوقوف قبل الزوال لا يمنع كونه وقتًا للوقوف كبعد الزوال. وإنما وقفوا في وقت الفضيلة، ولم يستوعبوا جميع وقت الوقوف.
الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس:
ويجب الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس من يوم عرفة -وهو اليوم التاسع من ذي الحجة- ليجمع بين الليل والنهار بعرفة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف بعرفة حتى غابت الشمس.
فإن دفع -أي خرج- من عرفات قبل الغروب فحجه صحيح في قول جماعة الفقهاء إلا الإمام مالكًا قال: لا حج له. قال ابن عبد البر: لا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك.
وحجة الإمام مالك ما رواه ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل". ولكن يرد على هذا الاحتجاج ما جاء بالحديث الذي أخرجه ابن ماجه، واحتج به ابن قدامة في "المغني" وذكرناه في الفقرة السابقة، وفيه جواز الوقوف بعرفة نهارًا أو ليلاً، وإنما ذكر الليل في الحديث الذي احتج به الإمام مالك؛ لأن الليل آخر الوقت، وفوات الحج يتعلق بفواته، وهذا يشبه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ". ثم إن الحديث الذي احتج به الإمام مالك ليس فيه أن من لم يدركها بليل لم يدرك الحج.
من لم يقف بعرفة إلى غروب الشمس.. ماذا عليه؟
ومن دفع -أي غادر عرفات- قبل غروب الشمس فحجه صحيح كما قلنا ولكن عليه دم، أي ذبح شاة، كفارة تركه واجب البقاء بعرفة إلى غروب الشمس، وهذا في قول أكثر أهل العلم منهم: عطاء، والثوري، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وهو مذهب الحنابلة. ولكن لو رجع من عرفات قبل الغروب ثم عاد نهارًا فوقف حتى غربت الشمس فلا دم عليه، وبهذا قال الحنابلة، ومالك، والشافعي.
وقال فقهاء الكوفة وأبو ثور: عليه دم؛ لأنه بمغادرته عرفات قبل غروب الشمس لزمه الدم فلا يسقط عنه برجوعه إلى عرفات، كما لو عاد إليها بعد غروب الشمس.
واحتج الحنابلة لقولهم بأنه أتى بالواجب، وهو الجمع بين الوقوف في الليل والنهار، فلم يجب عليه دم كمن تجاوز الميقات غير محرم ثم رجع إلى الميقات -مكان الإحرام- فأحرم منه فليس عليه شيء. فإن لم يرجع إلى عرفات حتى غربت الشمس فعليه دم؛ لأن عليه الوقوف حال الغروب، وقد فاته بخروجه من عرفات قبل الغروب.
من جاء عرفات ليلاً فحجه صحيح ولا شيء عليه:
ومن جاء عرفات ليلاً ووقف بها ولم يدرك جزءاً من النهار فحجه صحيح ولا شيء عليه، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج"؛ ولأنه لم يدرك جزءاً من النهار حتى يجب عليه الوقوف إلى الليل -أي إلى غروب الشمس-.
مقدار الوقوف بعرفة وصفته:
والقدر المفروض من الوقوف بعرفة هو كينونته بعرفة في أي جزء من وقت الوقوف الذي بينّاه؛ سواء كان عالمًا بهذا الوقوف ومكانه أو جاهلاً، نائمًا أو يقظان، صاحيًا أو مغمى عليه، وقف بها أو مر بها مجتازًا، ماشيًا كان أو راكبًا أو محمولاً، ناويًا الوقوف بعرفة أو غير ناوٍ؛ لأنه أتى بالقدر المفروض عليه وهو حصوله كائنًا بعرفة. ودليل ذلك عموم قوله-صلى الله عليه وسلم-: "من وقف بعرفة فقد تم حجه"، وقوله صلى الله عليه وسلم: ".. وقد أتى عرفات ليلاً أو نهارًا". وقال أبو ثور: لا يجزئه الوقوف بعرفة إلا إذا كان وقوفه بإرادته واختياره وعلمه بأنه يقف بعرفة. وقد ردّ على قول أبي ثور بعموم الحديثين المذكورين، وبأنه حصلت له الكينونة بعرفة في زمن الوقوف وهو عاقل فأجزأه، كما لو علم بذلك وأراده.
وقوف الحائض والجنب بعرفة:
ولا يشترط لمن يقف بعرفة الطهارة ولا استقبال القبلة. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من وقف بعرفة غير طاهر فوقوفه صحيح، وهو مدرك للحج ولا شيء عليه. وفي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها- وهي حائض: "افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي" دليل على أن وقوف الحائض وكذا الجنب جائز. وروى الإمام البخاري في "صحيحه" عن عطاء، عن جابر قال: حاضت عائشة فنسكت المناسب غير الطواف بالبيت ولا تصلي. دليل أيضًا على أن وقوف الحائض بعرفة جائز ولا شيء فيه
واجــبات الحــج ما هي واجبات الحج؟
واجبات الحج عند الحنفية خمسة: السعي بين الصفا والمروة، والوقوف بمزدلفة، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير، وطواف الصدر.
وبعض الفقهاء يعتبر بعض هذه الواجبات أركانًا للحج، وسنشير إلى ذلك عند كلامنا عن هذه الواجبات، لأننا سنأخذ برأي الحنفية أن واجبات الحج هي هذه التي ذكرناها عنهم.

1-السعي بين الصفا والمروة 2-الوقوف بمزدلفة 3-رمي الجمار في منى 4-الحلق والتقصير 5-طواف الصدر (طواف الوداع)
1-السعي بين الصفا والمروة
حكم هذا السعي:
اختلف الفقهاء في حكم السعي بين الصفا والمروة -أي مدى مشروعيته ومدى طلب الشرع له-؛ فمنهم من قال: إنه ركن، ومنهم من قال: إنه واجب، ومنهم من قال: إنه سنة. ونذكر فيما يلي هذه الأقوال، ومن قال بها، وحجتهم فيما قالوه، ثم نبيِّن الراجح من هذه الأقوال.
القول الأول: أنه ركن
السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج لا يصحّ ولا يتمّ بدونه، لما رواه الإمام أحمد عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تَجْرَانةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ وَرَاءهُمْ وَهُوَ يَسْعَى حَتَّى أَرَى رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ يَدُورُ بِهِ إِزَارُهُ وَهُوَ يَقُولُ:" اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ". وروى الإمام أحمد عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَقُولُ: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيُ فَاسْعَوْا". قال الشوكاني بعد أن ذكر هذين الحديثين: استدل به من قال: إن السعي فرض وهم الجمهور. ومنهم المالكية، والشافعية، وأبو ثور، وإسحاق، ورواية عن أحمد، وهي التي اختارها فقهاء الحنابلة المتأخرون.
ويستدل لهذا القول أيضًا بما روي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَة.
القول الثاني: أنه واجب
السعي بين الصفا والمروة ليس فرضًا، وبالتالي ليس ركنًا من أركان الحج، وإنما هو واجب، وهذا قول أبي حنيفة، والثوري، والزيدية، والقاضي أبي يعلى الحنبلي. يجب في تركه دم.
واحتجَّ الحنفية لقولهم: إنه واجب بأن ركن الحج هو زيارة البيت، والوقوف بعرفة كما ذكرناه عنهم فيما سبق، ولا دليل على أن السعي فرض حتى يعتبر ركنًا من أركان الحج، وحديث عائشة الذي أخرجه مسلم وفيه: "مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ… الخ" فيه إشارة إلى أنه واجب وليس بركن؛ لأنها وصفت الحج بدونه بالنقصان لا بالبطلان، وفوت الواجب هو الذي يوجب النقصان، بينما فوت الفرض -الركن- يوجب الفساد أو البطلان. وأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد: "كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ" فمعناه حكم الله -تعالى-، وحكمه -تعالى- هو ما شرعه من الإيجاب، أو الندب، أو الإباحة، أو التحريم، فلا يكون لهم حجة على الفرضية، ولا يكون ركنًا، أو نحمله على الوجوب توفيقًا بين الأدلة صيانة لها عن التناقض. وهذا ما نقول به فهو واجب وليس بفرض، فلا يكون ركنًا؛ لأن الفرض ما ثبتت فرضيته بدليل مقطوع لصمته دلالة وسندًا.
القول الثالث: أنه سنة
السعي بين الصفا والمروة سنة، ليس بركن ولا واجب، ولا يجب بتركه دم، وهذا قول عطاء، ورواية عن أحمد، فلا يجب بتركه دم، وروي هذا القول عن ابن عباس وأنس وابن الزبير وابن سيرين لقول الله تعالى: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه، فإن هذا رتبة المباح، وإنما ثبتت سنيّة السعي بين الصفا والمروة بقوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، لأن شعائر الله هي أعمال الحج، وكل ما جعل علمًا لطاعة الله.
ولكن يردّ على هذا القول ودليله ما ردّت به عائشة -رضي الله عنها- على عروة، ورواه عنها الإمام مسلم في "صحيحه" عن هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قًالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ مَا أَرَى عَلَيَّ جُنَاحًا أَنْ لا أَتَطَوَّفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قَالَتْ: لِمَ؟ قُلْتُ: لأَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآيَةَ فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَكَانَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إِنَّمَا أُنْزِلَ هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْحَجِّ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ، فَلَعَمْرِي مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ". قال الإمام النووي في تعليقه على هذا الخبر: "قال العلماء: هذا من دقيق علمها وفهمها الثاقب، وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ؛ لأن الآية الكريمة إنما دل لفظها على رفع الجناح عمن يطَّوَّف بهما، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه، فأخبرته عائشة -رضي الله عنها- أن الآية ليست في دلالة الوجوب ولا لعدمه، وبيَّنت السبب في نزولها، والحكمة في نظمها، وأنها نزلت في الأنصار حين تحرَّجوا من السعي بين الصفا والمروة في الإسلام، وأنها -أي الآية- لو كانت كما يقول عروة لكانت: "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما". وقد يكون الفعل واجبًا، ويعتقد إنسان أنه يمنع إيقاعه على صفة مخصوصة، وذلك كمن عليه صلاة الظهر، وظن أنه لا يجوز فعلها عند غروب الشمس فسأل عن ذلك، فيقال في جوابه: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت، فيكون وجوبًا صحيحًا، ولا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر.
القول الراجح:
والراجح أن السعي بين الصفا والمروة واجب وليس بركن، فيجب بتركه دم؛ لأن دليل من أوجبه على أنه ركن دل هذا الدليل على مطلق الوجوب، لا على كونه ركنًا لا يتم الحج إلا به. وما جاء في بعض الأحاديث الشريفة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ". فهذا يدل على أنه مكتوب، وهو الواجب. وأما الآية الكريمة: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، فإنها نزلت لما تحرَّج ناس من السعي في الإسلام لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية لأجل صنمين كانا على الصفا والمروة كما روي عن عائشة -رضي الله عنها-.
مقدار السعي بين الصفا والمروة:
السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وإجماع الأمة على ذلك. ويعد من الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط آخر. وإذا شك في عدد أشواطه، وهو في السعي أخذ بالأقل في عدد أشواطه، لأنه هو المتيَّقن، وإذا شك في ذلك بعد فراغه من السعي لم يلتفت إليه.
ركن السعي:
ركن السعي الذي يتحقَّق به هو كونه بين الصفا والمروة؛ سواء كان بفعل نفسه أو بفعل غيره عند عجزه عن السعي بنفسه بأن كان مريضًا، فسعي به محمولاً أو سعى هو راكبًا. وإن كان قادرًا على المشي بنفسه فحمله غيره أو ركب هو دابة أو نحوها لزمه دم عند الحنفية؛ لأن السعي بنفسه عند القدرة على المشي واجب، فإذا تركه فقد ترك الواجب من غير علة، فيلزمه دم جبرًا للواجب الذي أخل بالإتيان به على الوجه المشروع، كما لو ترك المشي في الطواف حول البيت من غير عذر.
وقال الشافعية والحنابلة ومن وافقهم: الأفضل أن لا يركب في سعيه إلا لعذر، فإن ركب بدون عذر كان ذلك خلاف الأفضل، ولم يكن مكروهًا، وكذلك إذا سعى به غيره محمولاً جاز، ولكن الأولى أن يسعى بنفسه ما دام قادرًا على المشي.
شرائط جوازه وسنته:
يشترط لجواز السعي وصحته وما يسن فيه ما يأتي:
أولاً: أن يكون السعي بعد طواف صحيح؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هكذا فعله وقال: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"". وسواء كان الطواف الذي تقدمه مسنونًا كطواف القدوم، أو فرضًا كطواف الإفاضة.
ولكن هل تشترط الموالاة بين الطواف والسعي، بأن يقع السعي بعد الطواف مباشرة دون أن يفصل بينهما فاصل، أم ليس هذا بشرط؟
قال الحنابلة: لا تجب الموالاة. قال أحمد: لا بأس أن يؤخِّر السعي حتى يستريح أو يؤخره إلى العشي. وكان عطاء، والحسن لا يريان بأسًا لمن طاف بالبيت أول النهار أن يؤخَّر السعي إلى العشي، وفعله القاسم، وسعيد بن جبير.
وعند الشافعية: الموالاة بين الطواف والسعي سنة وليس واجبًا، فلو فرَّق بينهما تفريقًا قليلاً أو كثيرًا صحَّ سعيُه ما لم يتخلَّل بينهما الوقوف على عرفة. فإن تخلَّل الوقوف لم يجز أن يسعى بعده قبل طواف الإفاضة، بل يتعيَّن حينئذ السعي بعد طواف الإفاضة، وإن أخَّره عن هذا الطواف زمانًا طويلاً سنة أو أكثر جاز وأجزأ.
ثانيًا: الترتيب في السعي، وهو أن يبدأ بالصفا، فإن بدأ بالمروة لم يعتدّ بذلك الشوط، فإذا صار إلى الصفا كان ذلك بدء طوافه، واعتمد بما يأتي بعده؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالصفا، فقد روى الإمام النسائي عن جابر قال: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الصفا وقال: نبدأ بما بدأ الله به ثم قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ)". وبهذا قال الفقهاء من مختلف المذاهب الإسلامية.
ولا يشترط في السعي الصعود على الصفا أو المروة، وإن كان ذلك مستحبًا وسنة، وإنما الشرط استيعاب ما بين الصفا والمروة، بحيث لا يترك من هذه المسافة شيء، ويكون ذلك إما بالصعود عليهما، وإما بإلصاق الساقي في عقبيه بأسفل الصفا ثم يسعى إلى المروة، فإذا أوصلها ألصق أصابع رجليه أسفل المروة.
وأما الموالاة بين أشواط السعي فليست شرطًا في ظاهر كلام أحمد، فقد أجاز التحدث بين الساعين، مثل أن يرى أحدهم من يعرفه في سعيه فيسلم عليه ويسأله. وكان عطاء لا يرى بأسًا بأن يستريح بين أشواط السعي سنة، وهذا مذهب الشافعية أيضًا فقد قالوا: إن الموالاة بين أشواط السعي سنة، فلو تخلَّل فصل يسير أو طويل بينهما لم يضرّ، ولو كان شهرًا أو أكثر. وإذا أقيمت الصلاة المكتوبة فإن الساعي يقطع سعيه ويصلي مع الجماعة في قول أكثر أهل العلم من الحنابلة والشافعية والحنفية، فإذا فرغ من صلاته عاد إلى سعيه، وبنى على ما مضى من سعيه.
والرمل في السعي -وهو السرعة في المشي- سنة مستحبة في السعي، وهو ما بين الميلين الأخضرين، ويكون في كل سعيه، ثم المشي في باقي المسافة حتى يتمّ الساعي سعيه سبعة أشواط. ولو سعى في جميع المسافة بين الصفا والمروة، أو مشى في الجميع أجزأه سعيه، وفاتته الفضيلة؛ لأن الرمل ليس بواجب، ولا شيء على تركه، فإن ابن عمر قال: "إن أسع بين الصفا والمروة فقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسعى، وإن أمش فقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي وأنا شيخ كبير، رواه أبو داود. ولأن ترك الرحل في الطواف بالبيت لا شيء فيه، فبين الصفا والمروة أولى.
ولا تشترط الطهارة من الحدث الأصغر ومن الجنابة والحيض والنفاس لجواز السعي بين الصفا والمروة. وهذا مذهب الحنابلة، والمالكية، والشافعية، والحنفية وغيرهم، والحجة لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة -رضي الله عنها- حين حاضت: "اقض ما يقضي الحاج غير أن تطوفي". وقد ذكرنا هذا الحديث من قبل، ولكن الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر مستحبة فإن سعى بدونها فسعيه صحيح. ولا تشترط أيضًا الطهارة عن النجاسة، ولا ستر العورة لجواز السعي؛ لأنه إذا لم تشترط الطهارة عن الحدث الأكثر والحيض وهي آكد فغيرها أولى أن لا تشترط.
وقت السعي:
وقته الأصلي يوم النحر بعد طواف الإفاضة، ولكن جاز السعي بعد طواف القدوم، وجعل ذلك وقتًا له ترفيهًا بالحاج، ورخصة وتيسيرًا له، لازدحام الأشغال له يوم النحر.
حكم السعي إذا تأخر عن وقته الأصلي:
وإذا تأخر السعي عن وقته الأصلي، -وهو أيام النحر بعد طواف الإفاضة-، ينظر: فإن كان لا يزال في مكة لم يرجع إلى بلده، فإن عليه أن يسعى ولا شيء عليه؛ لأنه أتى بما وجب عليه، ولا يلزمه بالتأخير شيء لأنه فعله بعد طواف الإفاضة، وإن رجع إلى بلده فعليه دم -ذبح شاة- لتركه السعي بغير عذر، وإن أراد أن يرجع إلى مكة فإنه يرجع بإحرام جديد؛ لأن إحرامه الأول قد ارتفع بطواف الإفاضة لحصول التحلل به، فيحتاج إلى تجديد الإحرام، فإذا عاد وسعى سقط عنه الدم -أي لم يعد يلزمه ذبح شاة-؛ لأنه تدارك تركه السعي فأتى به. وما ذكرناه هو مذهب الحنفية القائلين: إن السعي واجب وليس بركن.
أما عند القائلين: إن السعي ركن، فإن من فاته فعليه أن يأتي به ولو طالت مدته، جاء في "المجموع" في فقه الشافعية: وأما الموالاة بين الطواف والسعي فسنة، فلو فرق بينهما تفريقًا قليلاً أو كثيرًا جاز وصح سعيه…. وفي "المجموع" أيضًا: فإنه يجوز تأخيره -أي تأخير السعي عن الطواف- سنين كثيرة، ولا آخر له ما دام حيًا بلا خلاف.
سعي النساء:
أحكام السعي التي ذكرناها في الفقرات السابقة تسري على النساء في سعيهن بين الصفا والمروة، فما هو شرط لجواز سعي الرجال هو شرط لجواز سعي النساء، هذا هو الأصل مع بعض الاستثناءات، حيث تختلف المرأة عن الرجل فيما هو شرط أو مستحب في السعي بالنسبة للرجل. ونذكر فيما يلي بعض ما تختص به المرأة في سعيها بين الصفا والمروة.
سعي الحائض:
قلنا: إن الطهارة من الجنابة والحيض ليست شرطًا لجواز السعي، فالسعي يجوز مع فقدها. ولكن هذه المسألة فيها شيء من التفصيل، فقد قال الحنفية: إنما يجوز سعي الجنب والحائض إذا كان طوافهما بالبيت قد حصل وهما على طهارة من الجنابة والحيض؛ لأن السعي مرتب على الطواف ومن توابعه، وحيث إن الطواف مع الجنابة أو الحيض لا يعتد به، ولا يعتبر، فكذا السعي الذي هو من توابعه ومرتب عليه.
وعلى هذا إذا كان الطواف بالبيت قد حصل صحيحًا مجزيًا بأن كان على طهارة من الجنابة والحيض، فإن سعي الجنب والحائض يقع صحيحًا تبعًا له -أي للطواف بالبيت- لوجود شرط جواز الأصل إذ التابع لا يفرد بالشرط، بل يكفي شرط الأصل، والحاصل فإن الطواف بالبيت على الطهارة من الجنابة والحيض هو من شرائط جواز السعي سواء كان هذا السعي على طهارة عن الجنابة أو الحيض أم لم يكن.
تعقيب على تفصيل الحنفية في سعي الحائض:
قلنا في الفقرة السابقة إن الحنفية يشترطون لجواز سعي الحائض أن يسبقه طوافها بالبيت وهي طاهرة من الحيض والجنابة، وقولهم هذا محل نظر ويرد عليه بما يأتي:
أولاً: روى الإمام البخاري عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة.. قالت: فشكوت ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري". وروى البخاري أيضًا حديثًا عن جابر بن عبد الله جاء فيه: وحاضت عائشة -رضي الله عنها- فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت طاقت بالبيت. وقد جاء في شرح هذين الحديثين لابن حجر العسقلاني: وقال ابن بطال: كأن البخاري فهم أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" أن لها أن تسعى. ثم قال ابن حجر العسقلاني: وحكى ابن المنذر عن عطاء قولين فيمن بدأ بالسعي قبل الطواف بالبيت، وبالإجزاء قال بعض أهل الحديث، والقائلون بالإجزاء -أي بجواز وصحة السعي قبل الطواف بالبيت-، احتجوا بحديث أسامة بن شريك أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سعيت قبل أن أطوف، قال: "طُف ولا حرج". فالحائض تفعل المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وإن لها أن تسعى قبل الطواف استنادًا إلى حديث أسامة بن شريك وسعيها صحيح مجزئ. فمنع الحائض من السعي حتى تطهر وتطوف، ثم تسعى إذا لم تكن قد طافت بالبيت وهي طاهرة، هذا المنع لا وجه له، والأحاديث التي ذكرناها تدفعه.
ثانياً: قال ابن حزم: وجائز في رمي الجمرة، والحلق والنحر والذبح، والطواف بالبيت -طواف الإفاضة-، والسعي بين الصفا والمروة أن تقدم أيها شاءت لا حرج في شيء من ذلك.
ثم ساق ابن حزم حديث أسامة بن شريك الذي ذكرناه، محتجًا به لقوله، وقال: فأخذ بهذا جمهور السلف. وإذا جاز تقديم المناسك بعضها على بعض، غير المؤقتة بوقت كالوقوف بعرفة، جاز تقديم السعي بين الصفا والمروة على الطواف بالبيت، كما هو قول عطاء في أحد قوليه، وقول الظاهرية، وحيث إن السعي لا يشترط له الطهارة، وحيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للحائض أن تفعل ما يفعله الحاج إلا الطواف بالبيت، وأن لها السعي وهي حائض، فلها السعي وهي حائض قبل أن تطوف بالبيت بعد طهرها.
ثالثًا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولو قدمت المرأة إلى مكة حائضًا لم تطف بالبيت، لكن تقف بعرفة، وتفعل سائر المناسك كلها مع الحيض إلا الطواف، فإنها تنتظر حتى تطهر إن أمكنها ذلك، ثم تطوف. وإن اضطرت إلى الطواف، وطافت، أجزأها ذلك على الصحيح من قول العلماء.
ومعنى ذلك أن ابن تيمية يرى جواز سعيها وهي حائض دون انتظار إلى أن تطهر وتطوف ثم تسعى، وأنه إذا اضطرت إلى الطواف بالبيت وهي حائض، جاز لها ذلك.. وبهذا الجواز لعذر الاضطرار يعتبر طوافها صحيحًا، أو بحكم الصحيح، فيجوز لها أن تسعى، واعتبار سعيها قد وقع بعد طواف صحيح فيصح سعيها هذا على قول الحنفية
2-الوقوف بمزدلفة
هل يجب الوقوف أو المبيت في مزدلفة؟
من المعلوم أن المجيء إلى مزدلفة يكون بعد إفاضة الحجاج من عرفات بعد غروب الشمس، فيصلون المغرب والعشاء في مزدلفة جمع تأخير، ويذكرون الله، ويدعونه، قال تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام}. ولكن هل يجب المبيت في مزدلفة، أم يكفي الوقوف بها؟ وهل يجزئ المرور بها دون مبيت ولا وقوف؟ أقوال للفقهاء نوجزها في الآتي:
أولاً: قال الحنابلة: المبيت بمزدلفة واجب، ومن تركه فعليه دم.. وهذا قول عطاء، والزهري، وقتادة، وأبي ثور، وإسحاق، وهو أصح القولين عند فقهاء الشافعية، وهو مذهب الزيدية، والحجة لهذا القول -كما قال ابن قدامة الحنبلي-: إن النبي صلى الله عليه وسلم بات بمزدلفة، وقال: "خذوا عني مناسككم" وهذا يعني أن المبيت واجب.
وهذا المبيت يتحقق بالحضور بمزدلفة في ساعة من النصف الثاني من الليل -ليلة النحر- كما صرح بهذا الشافعية، ورتبوا عليه أن من خرج من مزدلفة قبل منتصف الليل -ولو بوقت يسير-، ولم يعد إلى مزدلفة فقد ترك المبيت ولزمه دم -ذبح شاة-، ولكن إذا عاد إلى مزدلفة قبل طلوع الفجر أجزأه ذلك ولا شيء عليه، وبهذا أيضًا قال الحنابلة.
وقال الحنفية: السنة أن يبيت الحاج ليلة النحر بمزدلفة، ولكن المبيت فيها ليس واجبًا، إنما الواجب هو الوقوف فيها فيما بين طلوع الفجر من يوم النحر وطلوع الشمس، فمن حضر بمزدلفة في هذا الوقت فقد أدرك الوقوف فيها، سواء بات فيها أو لم يبت، وسواء وقف فيها أو لم يقف، وإنما مر مرورًا بها؛ وذلك لأن ركن الوقوف وحقيقة كينونته بمزدلفة -أي حصوله كائنًا فيها-، وإن قل مكثه فيها، فإذا لم يحصل له شيء من هذا الحضور فيها في هذا الوقت، فقد فاته الوقوف بمزدلفة.
وعند المالكية: الواجب هو نزول الحاج بمزدلفة ومكثه فيها بقدر ما يكفي من الوقت لحط رحاله، وأدائه صلاة العشائين: المغرب والعشاء، وتناوله شيئًا من طعام وشراب. فإن لم ينزل ويمكث هذا القدر من الوقت فعليه دم، وإن نزل ومكث القدر الذي ذكروه فلا دم عليه في أي وقت خرج من مزدلفة، أما المبيت فيها فقد قالوا: هو مندوب.
وقوف النساء بمزدلفة:
الوقوف بمزدلفة مشروع في حق النساء كما هو مشروع في حق الرجال، ولا يشترط لوقوفهن في مزدلفة الطهارة عن الحيض كما ذكرنا.. فإذا أفضن من عرفات، ووصلن إلى مزدلفة، فعلن ما يفعله الرجال: من جمع بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير، ومن ذكر الله تعالى، ومن مبيت في مزدلفة، أو وقف فيها على النحو الذي فصلناه.
وقد ذكر بعض الفقهاء سقوط وجوب الوقوف عن المرأة بعذر الزحمة بمزدلفة، كما أجازوا للنساء الخروج من مزدلفة قبل الفجر مع أن السنة الخروج منها بعد أن يسفر الصبح كما ذكرنا، وعن هذين الأمرين أذكر ما يلي:-
جاء في "البدائع" للكاساني في فقه الحنفية: "هو -أي الوقوف بمزدلفة- واجب، إلا أنه قد يسقط وجوبه لعذر من ضعف أو مرض أو حيض، حتى لو تعجل ولم يقف لا شيء عليه".
وفي "الدر المختار" -والكلام في الوقوف بمزدلفة-: "ولكن لو تركه بعذر كزحمة بمزدلفة لا شيء عليه". وقال ابن عابدين في حاشيته المسماة "رد المحتار على الدر المختار"، وهي في فقه الحنفية، تعليقًا على عبارة "الدر المختار"، قال ابن عابدين: قوله كزحمة، عبارة اللباب: إلا إذا كان لعلة أو ضعف، أو يكون امرأة تخاف الزحام فلا شيء عليه. ثم قال ابن عابدين: فالأولى تقييد خوف الزحمة بالمرأة، ويحمل "إطلاق المحيط" (كتاب فقه) عليه لكون ذلك عذرًا ظاهرًا في حقها يسقط به الواجب بخلاف الرجل.
خروج النساء من مزدلفة بليل:
قال الشافعي وفقهاء المذهب الشافعي: السنة تقديم الضعفاء من النساء وغيرهن من مزدلفة قبل طلوع الفجر بعد نصف الليل إلى منى، ليرموا جمرة العقبة قبل زحمة الناس لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "استأذنت سودة (أم المؤمنين) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة المزدلفة تدفع قبله -أي تخرج من مزدلفة قبل طلوع الفجر- وقبل حطمة الناس، وكانت امرأة ثبطة، فأذن لها".
وكذلك قال الحنابلة ففي "المغني": ولا بأس بتقديم الضعفة والنساء، وممن كان يقدم ضعفة أهله: عبد الرحمن بن عوف وعائشة، وبه قال عطاء، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا، ولأن فيه رفقًا بهم ودفعًا لمشقة الزحام عنهم، واقتداء بفعل نبيهم -صلى الله عليه وسلم-.
فوات الوقوف بمزدلفة:
وأما حكم فوات الوقوف بمزدلفة عن وقته، ينظر: فإن كان لعذر فلا شيء عليه، لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قدم ضعفة أهله ولم يأمرهم بالكفاءة. وإن كان فواته لغير عذر فعليه دم -ذبح شاة-؛ لأنه ترك الواجب من غير عذر، والترك في هذه الحالة يوجب الكفارة
3-رمي الجمار في منى
وقت الرمي:
أيام الرمي في (منى) أربعة أيام هي: يوم النحر (وهو اليوم العاشر من ذي الحجة -أي اليوم الأول من أيام عيد الأضحى-)، وثلاثة أيام التشريق (أي أيام: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة). ونتكلم فيما يلي عن وقت الرمي في يوم النحر أولاً، ثم عن وقته في أيام التشريق ثانيًا.
الرمي يوم النحر: بيان أول وقته:
اختلف الفقهاء في أول وقت الرمي في يوم النحر على أقوال نذكرها فيما يلي، ونذكر أدلتها، ونبين الراجح منها.
القول الأول وأدلته:
أول وقت الرمي في يوم النحر بعد طلوع الشمس ضحى، وهذا قول مجاهد والثوري والنخعي.
أدلة هذا القول هي ما يأتي:
أولاً: حديث جابر الذي أخرجه الإمام البخاري وفيه: رمى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال. وعند الإمام مسلم عن جابر، قال: رمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس. ثانيًا: أخرج الترمذي عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم ضعفة أهله -أي من مزدلفة إلى منى- وقال: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس. ورواه أبو داود عن ابن عباس بلفظ: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول: أبُيْنَيَّ-تصغير بنيّ-، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس، وفي رواية لأبي داود عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقدم ضعفة أهله بغلس ويأمرهم -يعني لا يرمون الجمرة- حتى تطلع الشمس.
ووجه الدلالة بهذه الأحاديث أن حديث جابر صريح في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى بعد طلوع الشمس ضحى، وأن حديث ابن عباس برواياته وألفاظه المختلفة، تدل على ذلك أيضًا؛ لأنه إذا كان من رخص لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخروج من مزدلفة بليل منعهم أن يرموا قبل طلوع الشمس، فمن لم يرخص لهم بالخروج من مزدلفة ليلاً أولى بالمنع من الرمي قبل طلوع الشمس.
القول الثاني وأدلته:
أول وقت الرمي في يوم النحر بعد طلوع الفجر من هذا اليوم، فلا يجوز الرمي قبل هذا الوقت، والمستحب الرمي بعد طلوع الفجر قبل الزوال، وهذا قول الحنفية، والمالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
واحتج الحنفية -كما جاء في "البدائع" للكاساني- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم ضعفة أهله ليلة المزدلفة، وقال لهم: لا ترموا جمرة العقبة حتى تكونوا مصبحين، ثم قال الكاساني: فإن قيل قد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس" وهذه حجة سفيان الثوري في أن وقت الرمي هو بعد طلوع الشمس، فالجواب كما يقول الكاساني: إن هذا الحديث محمول على بيان الوقت المستحب للرمي توفيقًا بين الروايتين بقدر الإمكان، وبه نقول: إن المستحب في الرمي أن يكون بعد طلوع الشمس.
القول الثالث وأدلته:
أول وقت الرمي يوم النحر الذي يجوز فيه الرمي هو نصف الليل من ليلة النحر، وهذا قول الحنابلة، وبه قال عطاء وابن أبي ليلى، وهو مذهب الشافعي والزيدية. ولكن المستحب عند هؤلاء أن يكون الرمي بعد طلوع الشمس، وارتفاعها قدر رمح -أي ضحى-، لما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه رمى الجمرة ضحى، قال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما رماها ضحى ذلك اليوم.
وأدلة هذا القول:
أولاً: الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري ومسلم عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-: أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: فارتحلوا، فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها -في منى- فقلت: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غسلنا. قالت: يا بني إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أذن للظعن.
ثانيًا: واحتجوا أيضًا بما رواه أبو داود عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أم سلمة -رضي الله عنها- ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندها.
ثالثًا: وقالوا: إن الأحاديث التي فيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى بعد طلوع الشمس محمولة على الاستحباب.
القول الراجح:
والراجح من الأقوال أن أول وقت الرمي يوم النحر هو بعد طلوع الشمس، عندما ترتفع الشمس ويكون الوقت ضحى للأدلة التالية:
أولاً: ورود الأحاديث الصحيحة بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى يوم النحر جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، وفي بعض هذه الأحاديث رماها في ضحى يوم النحر، وأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج تحمل على الوجوب، إلا إذا قام الدليل على صرفها عن الوجوب، وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خذوا عني مناسككم". ويقوي ما قلناه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن للضعفة من أهله بالخروج من مزدلفة ليلاً، والتوجُّه إلى (منى)، وأمره -صلى الله عليه وسلم- لهم بأن لا يرموا الجمرة -جمرة العقبة- إلا بعد طلوع الشمس، وقد ذكرنا بعض هذه الأحاديث.
ثانيًا: ما استدل به المجيزون للرمي قبل الفجر، أو بعد الفجر وقبل طلوع الشمس لا حجة لهم فيه؛ لأن هذه الأحاديث التي احتجوا بها إنما أفادت الرخصة للنساء والصبيان بالرمي قبل طلوع الشمس، سواء كانت هذه الرخصة لهم للرمي بعد طلوع الفجر، أو قبل طلوع الفجر، فلا تصلح هذه الأحاديث الشريفة حجة على جواز الرمي قبل طلوع الفجر، أو بعده قبل طلوع الشمس لغير هؤلاء -أي لعموم الحجاج- لورود الأحاديث القاضية بخلاف ذلك.
ثالثًا: من قال: إن الأحاديث الواردة بالرمي بعد طلوع الشمس دلت على استحباب الرمي في هذا الوقت، والأحاديث الواردة بالرمي قبل طلوع الفجر دلت على جواز الرمي في هذا الوقت، هذا القول الذي بنى أصحابه على أساسه الجمع بين الأحاديث الواردة في موضوع الرمي قول مدفوع بأن أحاديث الرمي بعد طلوع الشمس أفادت الحكم العام لوقت الرمي بالنسبة لجميع الحجاج، والأحاديث الواردة بالرمي قبل الفجر أو بعده قبل طلوع الشمس أفادت الرخصة للنساء ومن في معناهن كالصبيان، قال الإمام الشوكاني: والأدلة تدل على أن وقت الرمي من بعد طلوع الشمس لمن كان لا رخصة له، ومن كان له رخصة كالنساء وغيرهن من الضعفة جاز قبل ذلك، ولكنه لا يجزئ في أول ليلة النحر إجماعًا.
رمي النساء ومن يلحق بهن:
والذين تشملهم الرخصة -رخصة الرمي قبل الفجر من يوم النحر- هم النساء والصبيان، كما جاء في بعض الأحاديث الشريفة التي ذكرناها.
وجاء في أحاديث أخرى أن هذه الرخصة هي للضعفة، وقد فسر العلماء الضعفة بأنهم النساء والصبيان لورودهم صراحة في أحاديث أخرى، كما ذهب إلى هذا التفسير الإمام ابن حزم الظاهري حيث قال: الضعفة هم الصبيان والنساء فقط. ولكن الإمام العيني في شرحه لصحيح البخاري قال معقبًا على قول ابن حزم الذي نقله عنه، ومبينًا مدلول لفظ "الضعفة" الوارد في الحديث، قال العيني -رحمه الله-: يدخل فيه المشايخ العاجزون؛ لأنه روي عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدَّم ضعفة بني هاشم وصبيانهم بليل رواه ابن حبان. وقوله: (ضعفة بني هاشم) أعمّ من النساء والصبيان والمشايخ العاجزين وأصحاب الأمراض؛ لأن العلة خوف الزحام عليهم. ثم قال العيني: وعن ابن عباس قال: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ضعفة أهله فصلينا الصبح "بمنى" ورمينا الجمرة. وقال المحب الطبري: لم يكن ابن عباس من الضعفة.
وعند الزيدية: يجوز للمرأة والخائف والمريض ونحوهم الرمي في النصف الآخر من الليل.
فالرخصة إذن تشمل النساء والصبيان بالنص عليهم كما جاء في بعض الأحاديث. وتشمل المشايخ والعاجزين وأصحاب العلل والأمراض ونحوهم، بعموم لفظ: "الضعفة"؛ لأن العلة كما قال الإمام العيني هي خوف الزحام عليهم. ويمكن أن يقال أيضًا: الرخصة، فشمل كل من لا يقدر على تحمل زحمة الناس، وإن لم يكن شيخًا كبيرًا ولا عاجزًا ولا مريضًا، كما لو كان نحيف البنية من غير مرض، ولكنه لا يقوى على تحمل الزحام. وكذلك تشمل الرخصة من يكون مع أهل الرخصة كالخادم، فيرمي معهم قبل الفجر أو بعده قبل طلوع الشمس. وفي قول المحبِّ الطبري: لم يكن ابن عباس من الضعفة إشارة إلى أنه رمى مع الضعفة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسله معهم، والظاهر أنه رمى مع أولئك الضعفة.
وذهب الشوكاني إلى أن من يرافق الضعفة فإنه يرمي معهم قبل طلوع الشمس. فقد قال -رحمه الله-: ولكنه يجوز لمن بعثهن معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن، كما في حديث أسماء وحديث ابن عباس الآخر، وهذا الحديث الآخر الذي يشير إليه الشوكاني عن ابن عباس، رواه الإمام أحمد، ولفظه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث به -أي بعث ابن عباس- مع أهله إلى "منى" يوم النحر، فرموا الجمرة مع الفجر.
الرخصة تشمل محارم وأزواج النساء:
ويبدو لي أن الرخصة في الرمي قبل الفجر أو بعده قبل طلوع الشمس غير مقصورة على النساء فقط، أو عليهن وعلى الصبيان، بل تشمل أيضًا من يكون مع النساء من محارمهن أو أزواجهن إذا أردن الخروج من مزدلفة إلى (منى) ليلاً، أخذًا بترخيص النبي -صلى الله عليه وسلم- للنساء بالخروج من مزدلفة ليلاً، فإن أزواجهن و محارمهن يخرجون معهن؛ لأن من شروط وجوب الحج أو شروط صحة أدائه للمرأة أن يكون معها زوجها أو ذو محرم منها، فلا يعقل أن يترك الزوج امرأته تخرج ليلاً من مزدلفة إلى (منى) ويبيت هو في المزدلفة، فإذا خرج معها رمى معها قبل طلوع الفجر أو بعده قبل طلوع الشمس. ويدل على ما قلناه: الأحاديث الشريفة التي ذكرناها، والتي فيها أن مرافقي النساء رموا معهن مثل ابن عباس الذي بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ضعفة أهله، ومثل مولى أسماء بنت أبي بكر الذي خرج معها إلى "منى" بغلس من الليل، ولم ينقل إلينا أنهما أخَّرا رميهما إلى ما بعد طلوع الشمس.
الخلاصة فيمن تشملهم الرخصة ومن لا تشملهم:
ويخلص لنا من جميع ما تقدم أن الذين تشملهم رخصة الرمي بعد منتصف ليلة النحر هم: النساء، والصبية ذكورًا كانوا أم إناثًا، من يرافق النساء من الأزواج والمحارم، موالي النساء وخدمهم، الشيوخ العاجزون، المرضى، ومن لا يقوى على الزحام لضعف بنيته، أو لأي سبب آخر.
ومن عدا هؤلاء يكون أول وقت الرمي في حقهم بعد طلوع الشمس من يوم النحر على ما رجحناه، ولا يجوز لهؤلاء الرمي قبل هذا الوقت.
آخر وقت الرمي يوم النحر:
أما آخر وقت الرمي في يوم النحر فهو آخر هذا اليوم، وبهذا قال الحنابلة، وأبو حنيفة والمالكية والشافعية والزيدية.
ومن أقوال الشافعية: ويبقى وقت الرمي إلى آخر يوم النحر لما رواه البخاري: أن رجلاً قال النبي الله -صلى الله عليه وسلم-: إني رميت بعدما أمسيت، فقال: "لا حرج" والمساء: بعد الزوال.
وهذا الحديث رواه الإمام البخاري عن ابن عباس، وقال الإمام العيني في شرحه لهذا الحديث: وقوله: "بعدما أمسيت" أي بعدما دخلت في المساء، والمراد به بعد الزوال، لأن العرب يسمون ما بعده مساء.
وقال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها.
الرخصة في تأخير الرمي إلى الليل للعذر:
من لم يجز تأخير الرمي إلى الليل إلا لعذر أجاز التأخير لعذر النفاس أو الحيض، أو كونهم من الرعاة، مستدلين لهذا الجواز بهذه الأعذار، بالآثار الواردة فيها، وهي:
أولاً: الرخصة للنفساء والحائض:
جاء في "موطأ مالك": أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة، فتخلفت هي وصفية حتى أتتا "منى" بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ولم ير عليهما شيئًا. وجاء في شرح هذا الأثر: ولم ير عليهما شيئًا- أي لعذرهما: تلك بالولادة، والعمة -أي صفية- بمعاونتها-. ونفست تأتي بمعنى الولادة والحيض.
ثانيًا: الرخصة للرعاة:
في "السنن الكبرى" للبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الراعي يرمي بالليل ويرمي بالنهار". وروى البيهقي أيضًا عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص للرعاة أن يرموا بالليل. وفي حديث أخرجه البزار والحاكم عن ابن عمر بإسناد حسن: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرخص للرعاة أن يرموا بالليل، وأية ساعة شاءوا من النهار، وفي "موطأ مالك" عن يحيى بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح: أنه سمعه يذكر أنه أرخص للرعاة أن يرموا بالليل، يقول: في الزمان الأول. وجاء في شرحه أنه أرخص للرعاة أن يرموا بالليل ما فاتهم رميه نهارًا في الزمان الأول -أي في زمن الصحابة- وبهم القدوة.
وظاهر هذه الأحاديث الشريفة أن تأخير الرمي للرعاة إلى الليل إنما هو رخصة لهم لعذرهم، ولكن الحنفية اعتبروا هذا الجواز للرعاة دليلاً لإباحة الرمي ليلاً للجميع، ولم يعتبروه دليلاً للرخصة للرعاة فقط دون غيرهم، وقد ذكرنا ذلك عن الحنفية في الفقرة السابقة
4-الحلق والتقصير
مقدار الواجب في الحلق والتقصير
أجمع العلماء على أن الأفضل هو حلق جميع الرأس أو تقصيره جميعه. أما مقدار ما يجزئ من ذلك، فقد اختلفوا فيه، فعند الشافعي ثلاث شعرات في الحلق والتقصير، وعند أبي حنيفة حلق ربع الرأس، وعند أبي يوسف حلق نصف الرأس، وعند مالك وأحمد حلق أكثر الرأس، وفي رواية عن مالك حلق كل الرأس.
مقدار الواجب في التقصير للمرأة:
قال المالكية: تأخذ المرأة من جميع شعرها قدر الأنملة أو أزيد أو أنقص بيسير. وفي "مواهب الجليل" للحطاب: وفي "الطراز"، قال مالك في الموازية: ليس لذلك عندنا حد معلوم، وما أخذ منه الرجل والمرأة أجزأه.
وقال الحنابلة: المرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة، والأنملة هي رأس الأصبع من المفصل الأعلى. وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن المرأة تقصر كل رأسها؟ قال: نعم، تجمع شعرها إلى مقدار رأسها، ثم تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة، والرجل الذي يقصر كالمرأة في ذلك.
وعند الشافعية: يستحب للمرأة أن تقصر بقدر أنملة من جميع جوانب رأسها. وقال الماوردي الشافعي: لا يقطع من ذوائبها، لأن ذلك يشينها، ولكن ترفع الذوائب وتأخذ من الموضع الذي تحته. هذا وإن أقل ما يجزئ عند الشافعية ثلاث شعرات حلقًا أو تقصيرًا من شعر الرأس، ولا يجزئ أقل منها، وهذا بالنسبة للرجل والمرأة.
وقال الحنفية: المراد بالتقصير أن يأخذ الرجل والمرأة من رؤوس شعر ربع الرأس مقدار الأنملة، أي: يأخذ من كل شعرة مقدار الأنملة. وقالوا: ويجب أن يزيد في التقصير على قدر الأنملة حتى يستوفي قدر الأنملة من كل شعرة برأسه -أي من شعر ربع الرأس- على وجه اللزوم، أو من كل شعر الرأس على وجه الاستحباب. وقال الحنفية أيضًا: ويكره الحلق للمرأة لأنه مَثُلَة، فالمشروع في حقها هو التقصير على النحو الذي بيناه.
زمان ومكان الحلق والتقصير:
أيام النحر هي زمان الحلق أو التقصير، أما مكانه فهو الحرم، وهذا قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: لا يختص الحلق أو التقصير بزمان معين أو بمكان معين. وقال محمد: يختص الحلق أو التقصير بالمكان لا بالزمان. وقال زفر: يختص بالزمان لا بالمكان. وعلى هذا إذا أخر الحاج الحلق أو التقصير عن أيام النحر، أو حلق أو قصر خارج الحرم، وجب عليه الدم -ذبح شاة- في قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف لا دم عليه فيهما جميعًا، وعند محمد: يجب عليه الدم إذا خالف في المكان لا في الزمان، بمعنى: إذا حلق أو قصر خارج الحرم وجب عليه دم، وإن حلق أو قصر في الحرم بعد أيام النحر لم يجب عليه دم.
وقال ابن قدامة الحنبلي: يجوز تأخير الحلق أو التقصير إلى آخر أيام النحر، فإن أخره عن ذلك ففيه روايتان: إحداهما: لا دم عليه وبه قال عطاء، وأبو ثور، وأبو يوسف. وعن أحمد: عليه دم بتأخيره وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأنه نسك أخره عن محله، ومن ترك نسكًا فعليه دم. ولا فرق في التأخير بين القليل والكثير، ولا بين العامد والساهي.
وقال الشافعية: يدخل وقت الحلق أو التقصير بنصف ليلة النحر ولا آخر لوقته؛ لأن الأفضل عدم التوقيت، ويبقى من عليه الحلق أو التقصير محرمًا حتى يأتي به. ولكن الأفضل فعله يوم النحر، ويكره تأخيره عن يومه، وعن أيام التشريق أشد كراهة، وعن خروجه من مكة أشد كراهة.
وعند المالكية كما جاء في "المدونة": الحلق يوم النحر في "منى" أفضل، وإن حلق بمكة أيام التشريق أو بعدها أو حلق في الحال في أيام "منى" فلا شيء عليه. وإن أخر الحلق حتى رجع إلى بلده جاهلاً أو ناسيًا، حلق أو قصر وأهدى. وكذا إذا أخر الحلق عن أيام التشريق طويلاً حلق وعليه دم. وقيل: إن خرجت أيام "منى" -أي أيام التشريق-، ولم يحلق أو يقصر فعليه دم.
زمان ومكان التقصير للمرأة:
المرأة كالرجل بالنسبة لزمان ومكان التقصير، فما قلناه في هذه المسألة بالنسبة لزمان ومكان الحلق والتقصير، وما يجب في تأخيرهما أو إيقاعهما في غير وقتهما، أو في غير مكانهما حسب أقوال الفقهاء المختلفة، يقال هنا أيضًا بالنسبة لتقصير المرأة من حيث الزمان والمكان
4-طواف الصدر (طواف الوداع)
على من يجب طواف الوداع؟
يجب طواف الوداع على الحجاج من أهل الآفاق، فليس على أهل مكة طواف وداع. ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا طواف وداع عليه. ومن كان منزله خارج الحرم قريبًا منه، فظاهر كلام الإمام الخرقي الحنبلي أنه لا يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف حوله، وهذا قول أبي ثور، وقياس قول مالك ذكره ابن القاسم. وقال الحنفية: من كان منزله في مكة أو داخل المواقيت إلى مكة، فلا وداع على هؤلاء إذا حجوا؛ لأن هذا الطواف إنما وجب توديعًا للبيت، ولهذا يسمى طواف الوداع كما يسمى أيضًا (طواف الصدر) لوجوده عند صدور الحجاج ورجوعهم إلى وطنهم، وهذا لا يوجد في أهل مكة لأنهم في وطنهم، ومن أهله داخل المواقيت فهو في حكم أهل مكة، فلا يجب عليهم كما لا يجب على أهل مكة. وقال أبو يوسف: أحب إلي أن يطوف المكي طواف الوداع؛ لأنه شرع لختم أفعال الحج، وهذا المعنى يوجد في أهل مكة.
هل تطوف الحائض والنفساء؟
إذا حاضت المرأة أو نفست قبل أن تودع البيت، وكانت قد طافت طواف الإفاضة، خرجت من مكة ولا طواف عليها ولا فدية بتركها طواف الوداع، وهذا قول عامة الفقهاء؛ لأنه قد ثبت التخفيف عن الحائض والترخيص لها بترك طواف الوداع بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد أخرج البخاري عن ابن عباس: أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض، كما أخرج البخاري أيضًا عن عائشة -رضي الله عنها-: أن صفية بنت حيي زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاضت فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال:" أحابستنا هي؟" قالوا: إنها قد أفاضت، فقال:" فلا، إذن". فصفية -رضي الله عنها- حاضت بعد أن طافت طواف الإفاضة، ولم يأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بفدية ولا غيرها لتركها طواف الوداع بسبب حيضها، والحكم في النفساء كالحكم في الحائض؛ لأن أحكام النفاس فيما يوجب ويسقط كأحكام الحيض.
الحائض إذا طهرت بعد خروجها من مكة:
إذا طهرت الحائض بعد خروجها من مكة، ولم تكن قد طافت طواف الوداع، ينظر: فإن طهرت قبل مفارقة بنيان مكة لزمها طواف الوداع، فترجع وتغتسل وتطوف لزوال عذرها، وإن فارقت البنيان لم يجب عليها الرجوع للطواف، سواء كان طهرها بعد مفارقة بنيان مكة وبعد مسافة قصر الصلاة، أو قبل مسافة القصر، فقد نص الشافعي -رحمه الله تعالى- لأنه لا يلزمها الرجوع للطواف إذا طهرت بعد خروجها من مكة، وإن لم تقطع مسافة قصر الصلاة؛ لأنها لم تكن مقصرة بخروجها بدون طواف لعذرها بالحيض. ولكن ألا يرى الحرج والمشقة في إلزام المرأة بالرجوع إلى مكة لتغتسل وتطوف بعد أن باشرت السفر مع قافلتها ورفقتها؟ وكونها لم تفارق بنيان مكة، وبالتالي فهي في حكم المقيمة في مكة فيلزمها الطواف بعد أن زال عذرها، هذا التعليل أو التوجيه لا يرفع الحرج والمشقة عنها؛ لأنها ستفوتها القافلة والرفقة، وغالبًا أنهم لا ينتظرونها، وعلى هذا فهل من مخرج لها في هذه الحالة؟ يبدو أن المخرج لها أو المخلص لها نجده في الحديث النبوي الشريف الذي رواه البخاري، وفيه الترخيص والتخفيف عن الحائض بألا تطوف، وقد ذكرناه ونعيده هنا، فقد أخرج البخاري عن ابن عباس قوله: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض. وعلى هذا فإذا خرجت من مكة بدون طواف لعذر بالحيض، وتلبست بالسفر فقد سقط عنها واجب الطواف، والساقط لا يعود. أما أن عذرها قد زال قبل مفارقة البنيان، فهذا لا يستدعي رجوع واجب الطواف عليها بعد أن رخص لها الشرع بتركه، واستعملت الرخصة في حينها. وعليه فإنه -والله أعلم- لا يلزمها الرجوع للطواف إذا طهرت بعد أن باشرت الخروج من مكة، وإن لم تفارق البنيان، وبالتالي لا فدية عليها، لا سيما وأن بعض الفقهاء ذهب إلى أن طواف الوداع سنة وليس واجبًا، ولا فدية في ترك السنة من سنن الحج.
وقت طواف الوداع:
قال الحنابلة: وقت هذا الطواف عند خروج الحاج من مكة ليكون آخر عهده بالبيت -أي بالكعبة المشرفة- كما جاء في الحديث النبوي الشريف، فإن طاف للوداع ثم اشتغل بالتجارة ونحوها فعليه إعادة الطواف، وبهذا قال مالك والثوري وعطاء وأبو ثور. وقال الشافعية: ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد الفراغ من جميع الأشغال بحيث يعقبه الخروج من مكة ولا يمكث فيها، فإن طاف ومكث فيها ينظر، فإن كان لغير عذر، أو لشغل لا تعلق له بأسباب الخروج من قِبل مباشرة متاع أو زيارة صديق أو عيادة مريض.. لزمه إعادة الطواف، وإن اشتغل بأسباب الخروج مثل شراء الزاد وشد الرحال ونحو ذلك، فهل يحتاج إلى إعادة الطواف؟ قال جمهور الشافعية: لا يحتاج، وذكر إمام الحرمين في المسألة وجهين.
وقال الحنفية: لو طاف طواف الوداع ثم تشاغل بمكة لم يجب عليه طواف آخر؛ لأن الخروج من مكة لا يجب بعد طواف الوداع على الفور؛ لأنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف" المراد به: آخر عهده بالبيت نسكًا، أي عملاً من أعمال الحج، وطواف الوداع ما دام قد وقع آخر أفعال الحج، فلا يسقط بتشاغله بغيره من الأفعال العادية، ولكن الأفضل دائمًا أن يكون عقب الطواف، أي يكون الخروج من مكة عقب طواف الوداع.
المرأة كالرجل في وقت طواف الوداع:
والمرأة كالرجل فيما ذكرنا من أقوال الفقهاء في وقت طواف الوداع، فما دامت هي طاهرة، فعليها أن تجعل طوافها للوداع آخر أعمالها في مكة على النحو الذي ذكرناه عن الفقهاء، وأن يكون خروجها عقب الطواف؛ لأنه هو الأفضل باتفاق الفقهاء، فالأخذ به أولى وأحفظ للخروج من الخلاف.
إذا خرج ولم يودع فهل يرجع للوداع؟
قال الحنابلة: إذا خرج قبل طواف الوداع، رجع إن كان قريبًا من مكة ولا شيء عليه، وإن صار بعيدًا عن مكة بعث بشاة لتذبح في مكة لتركه طواف الوداع، وهذا أيضًا قول الثوري وعطاء وإسحاق وأبي ثور. أما حد القرب والبعد فالقريب من مكة هو الذي بينه وبين مكة مسافة قصر الصلاة، والبعيد من بلغ هذه المسافة، نصَّ على ذلك أحمد، وهو قول الشافعي. وإن لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم، ولا فرق بين تركه عمدًا أو خطأ، لعذر أو لغير عذر؛ لأنه من واجبات الحج، فاستوى عمده وخطؤه، والمعذور وغير المعذور. فإن رجع البعيد فطاف للوداع، فقد قال القاضي الحنبلي: لا يسقط عنه الدم -أي الفدية وهي شاة-؛ لأنه قد استقر عليه الدم لبلوغه مسافة القصر، فلا يسقط برجوعه. وقال الحنفية: إن خرج من مكة ولم يطُف، وجب عليه أن يرجع ويطوف ما لم يجاوز الميقات، فإن جاوز الميقات لم يجب عليه الرجوع، ثم إذا أراد أن يمضي إلى وطنه مضى وعليه دم، وإن أراد الرجوع أحرم بعمرة ثم رجع، فإذا وصل مكة ابتدأ الطواف بعمرة ثم بطواف الوداع، ولا شيء عليه من فدية أو غيرها
محظــورات الإحرام

1-الجماع 2-محظورات الإحـرام المتعلقة باللباس 3-محظورات الإحرام المتعلقة بالطيب 4-محظورات الإحرام المتعلقة بالصيد، وما يجب فيها 5-محظورات الحرم 6-محظورات الإحرام من التصرفات القولية والفعلية
1-الجماع
الجماع محظور في الإحرام:
من محظورات الإحرام الجماع لقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}. والآية الكريمة وإن جاءت بصيغة النفي، ولكن أريد بها النهي، والرفث هو الجماع، روي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، ومجاهد، والحسن، والنخعي، والزهري، وقتادة، ويؤيد هذا التفسير أن (الرفث) جاء في موضع آخر في القرآن الكريم، وأريد به الجماع قال تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}. وقد صرح الشافعية بأنه يحرم على المرأة الحلال (أي غير المحرمة) تمكين زوجها المحرم من جماعها؛ لأنه إعانة على معصية، كما يحرم على الزوج الحلال (غير المحرم) جماع زوجته المحرمة؛ لأنه بهذا الجماع يفسد حجها، وهذا لا يجوز.
الجماع مفسد للحج:
أما فساد الحج بالجماع في الفرج، فليس فيه اختلاف، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع.
محظورات الإحرام التابعة للجماع
توابع الجماع:
المراد بتوابع الجماع ما يتعلق به من مقدماته ودواعيه، وما يباشره الرجل من زوجته فيما عدا الجماع في الفرج مثل: القبلة، واللمس باليد بشهوة، والوطء فيما دون الفرج، وقد دل على هذه المحظورات في الإحرام قوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}. فقد قيل في بعض وجوه تفسير هذه الآية: إن الرفث يعني جميع حاجات الرجال إلى النساء، وروي أن عائشة -رضي الله عنها- سئلت عما يحل للمحرم من امرأته، فقالت: يحرم عليه كل شيء إلا الكلام.
ما يجب في توابع الجماع:
أولاً: الوطء دون الفرج:
إذا وطئ المحرم زوجته دون الفرج فلم ينزل -أي لم ينزل منه مني- فعليه دم -أي ذبح شاة- وهذا عند الحنابلة، والشافعية، والحنفية، وغيرهم. وإن أنزل فعليه بَدَنة وهذا عند الحنابلة، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، والثوري، وأبو ثور.
وقال الشافعي والحنفية وابن المنذر: عليه شاة لأنها مباشرة دون الفرج فأشبه ما لو لم ينزل.
وقال الحنابلة: والمرأة كالرجل في هذا المحظور إذا كانت ذات شهوة، وإلا فلا شيء عليها كالرجل إذا لم يكن له شهوة، ومعنى ذلك أنها إن حصل عندها إنزال فعليها بدنة، وإن لم يحصل عندها إنزال فعليها شاة.
وعند الشافعية -كما يبدو- أنها كالرجل المحرم، فإذا كانت محرمة وطاوعت زوجها في وطئها دون الفرج، وجب عليها فدية -ذبح شاة-، وإن لم يصرحوا به إلا أنه قياس قولهم في الموطوءة في الفرج، فقد قالوا: إن كانت طائعة عالمة فسد حجها كالرجل، وأما البدنة فهل تجب عليها أم لا؟
فيه طريقان مشهوران: (أحدهما): يجب عليها بدنة في مالها قولاً واحدًا كما يجب على الرجل المحرم بدنة.
ثانيًا: القبلة واللمس بشهوة:
وإذا قبّل الرجل المحرم زوجته، أو لمسها بشهوة، فالحكم في ذلك حكم المباشرة -فيما دون الفرج-، وهذا ما صرح به الحنابلة. ومعنى ذلك أن على الرجل المحرم إذا باشر التقبيل أو اللمس بشهوة ولم ينزل فعليه شاة، وإن أنزل فعليه بدنة. أما المرأة المحرمة فيبدو أن حكمها حكم الرجل المحرم كما قالوا في المباشرة دون الفرج، إن المرأة كالرجل في هذه المباشرة.
وقال الشافعية والحنفية: تجب في القبلة واللمس بشهوة الفدية -وهي ذبح شاة- أو إطعام أو صوم إذا لم يجد الشاة. ويبدو أن المرأة المحرمة إن قبلت زوجها بشهوة أو لمسته بشهوة، فعليها أيضًا الفدية عند الشافعية، والحنفية، قياسًا على ما قالوه من الزوج المحرم إذا قبّل أو لمس زوجته بشهوة.
ثالثًا: النظر إلى المرأة:
ولو نظر المحرم إلى زوجته، أو نظر إلى جزء منها بشهوة فأمنى، فلا شيء عليه من الفدية، بخلاف اللمس بشهوة فإنه يوجب الفدية، سواء أمنى أم لم يمنِ، ووجه الفرق أن اللمس استمتاع بالزوجة وقضاء للشهوة، فكان ارتفاقًا كاملاً بها، فتجب فيه الفدية، أما النظر إليها فليس من باب الاستمتاع ولا قضاء للشهوة، بل هو سبب لذرع الشهوة، والمحرم غير ممنوع عما يزرع الشهوة كالأكل. ولكن ما قلناه لا يعني أن النظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة مباح إذ هو حرام، وإنما كلامنا في وجوب الفدية فيه على المحرم بحج أو عمرة أو عدم وجوب الفدية عليه، والجواب ما ذكرناه وهو مذهب الشافعية والحنفية. أما النظر بشهوة بذاته فإن كان إلى الزوجة فجائز وإن كان لأجنبية فهو غير جائز.
وعند الحنابلة: إن نظر المحرم ولم يكرر النظر فأمنى، فعليه شاة، وإن كرر النظر فأنزل -أي أمنى- ففيه روايتان: (إحداهما): عليه بدنة، و(الثانية): عليه شاة.
ويبدو أن حكم المحرمة إذا نظرت فأنزلت كالمحرم إذا نظر فأنزل.
إذا فكر المحرم فأنزل:
وإذا فكر المحرم فيما يستدعي الإنزال فأنزل، فلا شيء عليه عند الحنابلة، وكذلك الحكم عند الشافعية، والحنفية، وإن لم يصرحوا بذلك؛ لأنهم لا يرون عليه شيء إذ نظر فأنزل، فمن باب أولى ألا يكون عليه شيء إذا فكر وأنزل، ويبدو أن المحرمة إذا فكرت فأنزلت كالمحرم إذا فكر وأنزل.
نوع الفدية:
عند الشافعية في توابع الجماع التي ذكرناها عنهم وصرحوا بها وجوب الفدية على التخيير أي إما شاة، وإما صيام، وإما إطعام، كما هو الحال في فدية الحلق.
أما عند الحنابلة فإنهم يذكرون في الفدية في توابع الجماع التي ذكرناها: الدم -أي ذبح شاة، أو بدنة على النحو الذي بيناه عنهم-، ولا يذكرون الإطعام أو الصيام. وكذلك الحنفية يذكرون الدم -أي ذبح شاة- في كفارة (فدية) توابع الجماع، ولا يذكرون الإطعام أو الصيام.
اللمس بغير شهوة:
أما اللمس بغير شهوة، فليس بحرام على المحرم، وعلى هذا لو لمس المحرم زوجته بلا شهوة، فلا شيء عليه ولا شيء عليها، وبهذا صرح الشافعية.
الاستمناء باليد:
الاستمناء باليد محظور على المحرم؛ لأنه محظور في غير الإحرام، ففي الإحرام أولى بالحظر. فإذا استمنى المحرم فأنزل، فهل تلزمه الفدية؟
عند الشافعية قولان: (الأول): وهو الصحيح المشهور في مذهبهم وجوب الفدية. و(الثاني): لا فدية فيه؛ لأنه استمتاع ينفرد به المحرم فأشبه الإنزال بالنظر، وهو لا فدية فيه. ويبدو أن المرأة المحرمة إن استمنت بيدها فأنزلت كالمحرم إذا فعل ذلك فأنزل، أي في وجوب الفدية عليها، عند الشافعية قياسًا على قولهم في المحرم في هذه المسألة
2-محظورات الإحرام المتعلقة باللباس
اللباس المحظور على المحرم:
عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يلبس القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف إلا أحدًا لا يجد نعلين فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه زعفران أو وَرْس" رواه الإمام البخاري.
وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القمص والعمائم والسراويلات والخفاف والبرانس، والأصل فيما قاله ابن المنذر الحديث الشريف الذي ذكرناه.. وقد ألحق أهل العلم بالأشياء الممنوعة على المحرم والمذكورة في هذا الحديث ما في معناها مثل الجبة والدراعة والثياب وأشباه ذلك، فليس للمحرم ستر بدنه بما صنع على قدره، ولا ستر عضو من أعضائه بما صنع على قدره كالقميص للبدن، والسراويل لبعض البدن، والقفازين لليدين، والخفين للرجلين ونحو ذلك. وليس في هذا كله خلاف، قال ابن عبد البر: لا يجوز لباس شيء من المخيط عند جميع أهل العلم، كما أجمعوا على أن المراد بهذا الذكور دون النساء.
لا يغطي المحرم رأسه:
ولا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه ولا شيئًا منه، ولكن لا يعتبر من تغطية الرأس ستره باليدين، وكذلك لو حمل على رأسه مكتلاً أو طبقًا لا يعتبر ذلك تغطية، ولا سترًا للرأس، ولا بأس بأن يستظل المحرم بسقف أو حائط أو شجرة، أو يستظل بشيء يرفعه على عمود ويحمله بيده.
اللباس المحظور وغير المحظور على المحرمة:
يحظر على المحرمة أن تلبس القفازين والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب -أي لبس الثياب التي عطرت أو طيبت بطيب الورس أو الزعفران أو غيرهما من أنواع الطيب- والأصل في ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفرًا، أو خزًا أو حليًا، أو سراويل، أو قميصًا، أو خفًا" وعن ابن عمر أيضًا: "المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين".
ويباح للمحرمة أن تلبس الثياب المعصفرة؛ لأن العصفر لون وليس طيبًا، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تلبس مثل هذه الثياب، فقد جاء في "صحيح البخاري": أن عائشة -رضي الله عنها- لبست الثياب المعصفرة -وهي محرمة- وقالت: لا نتلثم ولا نتبرقع ولا نلبس ثوبًا بورس ولا زعفران. وروى البخاري أيضًا: وقال جابر -رضي الله عنه-: لا أرى العصفر طيبًا. ولم تر عائشة بأسًا بالحلي والثوب الأسود والمورد للمرأة المحرمة.
وبناء على هذه الآثار.. فقد أجمع الفقهاء على أن المحرمة تلبس المخيط، ومن المخيط ما ورد في حديث ابن عمر السابق، وفيه السراويل والقميص والخف، وهذه كلها مخيطة. وعلَّل الإمام الكاساني جواز لبس المخيط للمرأة المحرمة، بالإضافة إلى ورود هذا الجواز في الحديث الشريف، أن بدن المرأة عورة، وستر العورة بما ليس بمخيط متعذر فدعت الضرورة إلى لبس المخيط، وسواء كان هذا المخيط حريرًا أو غيره.
المرأة المحرمة تكشف وجهها:
يحرم على المرأة تغطية وجهها في إحرامها كما يحرم على الرجل تغطية رأسه في إحرامه، ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطِّي وجهها وهي محرمة. ويحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل عند الحاجة -كما سنبينه-، فلا يكون احتلامًا. والحجة لذلك الحديث النبوي الشريف: "المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين"، ولكن يجوز أن تستر من وجهها ما لا يمكن ستر الرأس إلا بستر هذا الجزء من وجهها؛ لأنه اجتمع في حق المحرمة وجوب تغطية الرأس وتحريم تغطية الوجه، ولا يمكن تغطية جميع الرأس إلا بتغطية جزء من الوجه، ولا شك أن تغطية جميع الرأس أولى، لأنه آكد؛ إذ هو عورة، ولا يختص تحريم كشفه بحالة الإحرام وكشف الوجه بخلافه.
متى يجوز للمحرمة تغطية وجهها؟
ويجوز للمرأة المحرمة أن تغطِّي وجهها لتستتر به عن نظر الرجال، فقد روى أبو داود عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا كشفناه.
وقد استدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة المحرمة أن تستر وجهها إذا احتاجت لذلك لمرور الرجال قريبًا منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها؛ لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقًا، ولكن الشافعية اشترطوا أن يكون الثوب متجافيًا عن وجهها بخشبة أو نحوها، وأجازوا لها هذا الإسدال لحاجة كحَر أو برد أو خوف فتنة ونحوها ولغير حاجة، ولكن بهذا الشرط الذي ذكروه.
واشترط القاضي الحنبلي أن يكون الثوب الذي تسدله على وجهها متجافيًا عنه بحيث لا يصيب البشرة.
وقال ابن قدامة عن هذا الشرط: لم أر هذا الشرط عن أحمد، ولا هو في الحديث مع أن الظاهر خلافه، فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطًا لبَيَّن -أي لبيَّنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكذلك قال الشوكاني في رده على المشترطين هذا الشرط.
لبس الحلي للمرأة المحرمة:
يجوز للمرأة المحرمة أن تلبس الحلي، فلها أن تتحلى بأية حلية شاءت، فقد روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أنها ما كانت ترى بأسًا في لبس الحلي للمحرمة.
وجاء في "المغني" لابن قدامة الحنبلي: قال أحمد: عن نافع: كان نساء ابن عمر وبناته يلبسن الحلي، والمعصفر وهن محرمات لا ينكر ذلك عبد الله. وروى أحمد -كما جاء في "المغني" أيضًا- عن عائشة أنها قالت: تلبس المرأة المحرمة ما تلبس وهي حلال من خزها وقزها وحليها.
وظاهر مذهب أحمد الرخصة في لبس الحلي للمحرمة، فقد روي عنه في رواية حنبل: تلبس المحرمة الحلي والمعصفر، وهذا مذهب الحنفية والمالكية محتجين أيضًا -بالإضافة إلى الآثار المروية بالجواز- بأن لبس الحلي من باب التزين، والمرأة المحرمة غير ممنوعة من التزين.
وجوب الفدية في محظورات اللباس:
لا خلاف في وجوب الفدية على المحرم إذا لبس عامدًا ما هو محظور عليه في إحرامه؛ لأن مثل هذا اللباس ترفُّه محظور في إحرامه، فإذا فعله لزمته الفدية.
شمول المرأة المحرمة بالفدية:
والمرأة المحرمة إذا لبست ما هو محظور عليها لبسه أو فعلت ما يتعلق باللباس بالنسبة لها وجبت عليها الفدية، ومن الفقهاء من صرَّح بذلك، ومنهم من اكتفى بذكر وجوب الفدية على المحرم إذا لبس ما هو محظور عليه باعتبار أن المحرمة مثله في الحكم إذا لبست ما هو محظور عليها. فمن الفقهاء الذين صرّحوا بذلك المالكية، فقد قالوا: حرم بالإحرام على المرأة لبس مخيط بيديها نحو قفاز -وهو شيء يعمل لليدين يحشى بقطن تلبسه المرأة للبرد ونحوه- وستر وجهه أو بعضه إلا لستر عن أعين الناس، فلا يحرم بل يجب إن ظنت الفتنة بها حيث كان الستر بلا غرز بإبرة ونحوها، ولا ربط أي عقد، وإلا بأن فعلت شيئًا مما ذكرنا، بأن لبست قفازًا أو سترت كفيها، أو وجهها أو بعضه لغير ستر أو غرزت أو عقدت ما سدلته على وجهها، ففدية إن طال الزمن.
وأما لو فعلت شيئًا مما ذكر، ثم أزالته عن قرب، فلا فدية؛ لأن شرطها الانتفاع من حر أو برد بما فعلته من ستر وجهها ويديها، وعند إزالة ما ذكر بالقرب -أي عاجلاً- لم يحصل الانتفاع المذكور.
وقال الشافعية: أما المرأة فالوجه في حقها كرأس الرجل، فيحرم ستره بكل ساتر… ولها أن تسدل على وجهها ثوبًا متجافيًا عنه بخشبة ونحوها، فإن وقفت الخشبة فأصاب الثوب وجهها بغير اختيارها، ورفعته في الحال فلا فدية، وإن كان عمدًا أو استدامته لزمتها الفدية. وقال الشافعية أيضًا في القفازين: وهل يحرم عليها لبس القفازين؟ فيه قولان مشهوران: (أصحهما): عند الجمهور تحريمه، وهو نصه -أي الإمام الشافعي- في "الأم والإملاء" ويجب فيه الفدية.
والحنفية عندما تكلموا عما يجب في تغطية رأس المحرم قالوا: وكذلك إذا غطَّت المرأة ربع وجهها، فقد جاء في "البدائع" للكاساني: لو غطى -أي المحرم- ربع رأسه يومًا فصاعدًا فعليه دم -ذبح شاة-، وإن كان أقل من الربع فعليه صدقة… وعلى هذا إذا غطت المرأة ربع وجهها.
ما هي الفدية؟ وما مقدارها؟
والفدية هي واحد من المذكور في قوله تعالى: (وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ). وقد بيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مقدار الصيام والصدقة والمقصود بالنسك، فقد أخرج الإمام مسلم في "صحيحه" عن كعب بن عجرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر به زمن الحديبية، فقال له:" آذاك هوام رأسك؟ "قال كعب: نعم. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "احلق رأسك ثم اذبح شاة نسكًا، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر ستة مساكين"، وفي رواية أخرى للإمام مسلم في هذه القصة جاء فيها: "... أو إطعام ستة مساكين نصف صاع طعامًا لكل مسكين".
وعلى هذا فمن وجبت عليه الفدية، فهو بالخيار في واحد من هذه المذكورات في الآية والحديث؛ لأن الأمر بها ورد بلفظ التخيير، ولا فرق في ذلك بين المعذور وغيره، ولا بين العامد والمخطئ، ويجزئه في الفدية البُرُّ والشعير والزبيب والتمر؛ لأن كل موضع أجزأ فيه التمر أجزأ فيه ما ذكرنا من بر أو شعير أو زبيب، كما في زكاة الفطر، وكفارة اليمين، ولا يجزئ من هذه الأصناف أقل من ثلاثة آصع (جمع صاع) إلا في البر، ففيه روايتان عن الإمام أحمد: (إحداهما): مدّ من بر لكل مسكين مكان نصف صاع من غيره كما في كفارة اليمين، و(الثانية): لا يجزئ إلا نصف صاع؛ لأن الحكم ثبت فيه بطريق التنبيه أو القياس، والفرع يماثل أصله ولا يخالفه، وبهذا قال مالك والشافعي

3-محظورات الإحرام المتعلقة بالطيب
الطيب محظور على المحرم والمحرمة:
في "صحيح مسلم" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- :أن رجلاً وقصه بعيره وهو محرم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يغسل بماء وسدر، ولا يمس طيبًا، ولا يخمر رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا.
ووجه الدلالة بهذا الحديث الشريف هي جعل كونه محرمًا علة النهي عن تخمير رأسه أي تغطية رأسه وتطييبه. وروى البخاري ومسلم عن يعلى: أنه لما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجعرانة جاءه رجل عليه جبة صوف متضمخ بطيب فقال: يا رسول الله: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب؟ فنظر إليه النبي -صلى الله عليه وسلم -ساعة ثم سكت فجاءه الوحي ثم سري عنه، فقال: "أين الذي سألني عن العمرة آنفًا؟" فالتمس الرجل، فجئ به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك".
ووجه الدلالة بهذا الحديث الشريف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يغسل الطيب الذي أصابه.
ويستدل أيضًا على منع الطيب وتحريمه في حق المحرم والمحرمة بما ذكرناه من أحاديث في النهي عن لبس الثياب المطيبة بالورس والزعفران، أو بغيرهما من أنواع الطيب.
استدامة طيب من تطيب قبل الإحرام:
وإذا كان الطيب محرمًا بسبب الإحرام، ويؤمر المحرم بإزالته كما دل على ذلك حديث يعلى آنف الذكر، فكيف قلنا من قبل: يجوز أن يتطيب من يريد الإحرام، ولا يضره بقاء الطيب أو رائحته عليه؟
وقد أجاب على ذلك الإمام ابن حجر العسقلاني حيث قال: واستدل بحديث يعلى على منع استدامة الطيب بعد الإحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن، وهو قول مالك، ومحمد بن الحسن. وأجاب الجمهور بأن قصة يعلى -رضي الله عنه- كانت بالجعرانة كما ثبت في هذا الحديث، وهي في سنة ثمان للهجرة بلا خلاف. وقد ثبت عن عائشة أنها طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيديها عند إحرامه، وكان ذلك في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر.
ما يعتبر من الطيب وما لا يعتبر:
قال الأحناف: الأشياء التي تستعمل في البدن على ثلاثة أنواع:
(الأول): نوع هو طيب محض، معد للتطيب به كالمسك والكافور والعنبر ونحو ذلك. فهذا طيب تجب فيه الكفارة (الفدية) إذا استعمله المحرم.
(الثاني): نوع ليس بطيب بنفسه، ولا فيه معنى الطيب، ولا يصير طيبًا بوجه كالشحم، فهذا لا شيء فيه على المحرم إذا استعمله.
(الثالث): نوع ليس بطيب بنفسه لكنه قد يستعمل على وجه الطيب، وقد يستعمل على وجه الأدام كالزيت فيعتبر فيه نوع الاستعمال، فإن استعمل استعمال الأدهان في البدن يعطى حكم الطيب، وإن استعمل في مأكول لا يعطى حكم الطيب.
وقال الشافعية: الطيب الذي يحكم بتحريمه على المحرم هو الذي يكون معظم الغرض منه الطيب، أو اتخاذ الطيب منه، أو يظهر فيه هذا الغرض. هذا هو الضابط في معرفة وتعيين الطيب الذي يحرم على المحرم استعماله عند الشافعية، وعلى هذا الاساس قالوا: إن المسك والعنبر والكافور والعود والصندل، وما له رائحة من النبات، ويطلب للطيب أو اتخاذ الطيب منه كالورد والياسمين والزعفران والورس ونحوها، كل هذه الأشياء تعتبر من الطيب. أما ما يطلب للأكل من النباتات، أو للتداوي غالبًا كالقرنفل والدارصيني والفلفل والمصطكي وسائر الفواكه، فهذه كلها وما يشبهها لا تعتبر من الطيب، فيجوز أكلها وشمها ولا شيء على المحرم إذا فعل ذلك. وأما الحناء والعصفر فليس بطيب عندهم خلافًا للحنفية حيث اعتبروا الحناء طيبًا، والأدهان التي هي طيب أنواع منها دهن الورد ودهن البنفسج، وهذا كله الذي ذكرناه هو من مذهب الشافعية.
الاستعمال المحظور للطيب:
قال الشافعية: الاستعمال المحظور للطيب في حق المحرم هو أن يلصق الطيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب، وسواء كان الإلصاق بظاهر البدن أو باطنه، وكذلك إذا لبس ثوبًا مبخرًا بالطيب، أو ثوبًا مصبوغًا بالطيب، أو علق بفعله طيب، فيعتبر في هذه الحالات مستعملاً للطيب على وجه محظور تجب فيه الفدية. وكذلك أكله أو الاحتقان به، أو جعله مسعوطًا، فهو استعمال محظور على المشهور في مذهبهم. وكذلك إذا شد المحرم مسكًا أو كافورًا في طرف ثوبه، أو جبته كان ذلك استعمالاً محظورًا تجب فيه الفدية. وشم الطيب كالورد يعتبر تطيبًا عندهم. وإن كان الطيب في طعام ظهر أثر الطيب في طعمه أو رائحته، فله حكم الطيب إذا أكله المحرم -أي يعتبر مستعملاً للطيب استعمالاً محظورًا-.
وقال الحنابلة: يحرم على المحرم بعد إحرامه تطييب بدنه أو ثوبه أو شيء منهما. ويحرم الاكتحال بما فيه طيب، وكذا يحرم الاستعاط والاحتقان بمطيب، وكذلك يحرم شم الأدهان المطيبة كدهن ورد البنفسج أو الأدهان بها. ويحرم شم الطيب كالمسك والكافور والزعفران، أو التبخر بما يتبخر به من الطيب كالعود، ويحرم على المحرم أكل وشرب ما فيه طيب يظهر طعمه أو ريحه.
وعند المالكية والحنفية: يكره للمحرم شم الطيب والريحان، ولكن لا تجب فيه الفدية خلافًا للشافعي ومن وافقه، وحجتهم أن مجرد شم الطيب لا يعتبر استعمالاً له؛ لأنه لم يلتصق ببدنه ولا بثيابه شيء من المشموم، وإنما شم رائحته فقط، وهذا القدر لا يوجب الفدية كما لو جلس عند العطارين وشم ما عندهم من روائح الطيب. وقد روى الإمام البخاري عن ابن عباس أنه قال: يشم المحرم الريحان.
ما يجب في استعمال الطيب:
إذا استعمل المحرم أو المحرمة الطيب استعمالاً محظورًا على النحو الذي بيناه، وجبت عليه الفدية، وهي أحد الأشياء الثلاثة التي ذكرناها في كلامنا عن اللباس المحظور وما يجب في استعماله، وهي ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ثلاثة آصع ستة مساكين: كل مسكين نصف صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو بر. فقد جاء في "المهذب" للشيرازي الشافعي في فقه الشافعية: ويحرم عليه استعمال الطيب في ثيابه وبدنه لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران". وتجب به الفدية قياسًا على الحلق. والفدية في الحلق هي ما ذكرناه.
ويستوي في وجوب الفدية قليل الطيب وكثيره، وبذلك قال الحنابلة والشافعي.
وقال الحنفية: إن طيب عضوًا كاملاً كالرأس والفخذ والساق ونحو ذلك، فعليه دم، وإن طيب أقل من عضو فعليه صدقة.
التطيب للمرض هل يوجب الفدية؟
والفدية تجب في استعمال الطيب ولو كان الاستعمال بسبب المرض لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}. ولحديث كعب بن عجرة الذي ذكرناه من قبل. فإذا ثبت وجوب الفدية في الحلق لضرورة المرض أو الأذى في الرأس، فإن الفدية تثبت أيضًا في استعمال الطيب لضرورة المرض عن طريق القياس على المنصوص عليه في الآية الكريمة.
التطيب مع النسيان ونحوه:
وما قلناه في لبس المحظور من قبل المحرم والمحرمة على وجه النسيان أو الجهل بالتحريم أو بالإكراه عليه، يقال هنا أيضًا بالنسبة للتطيب على وجه النسيان أو مع الجهل بتحريم الطيب أو بالإكراه عليه.
فالذين قالوا: لا فدية بلبس المحظور من اللباس على وجه النسيان أو الجهل أو الإكراه، قالوا هنا أيضًا: لا فدية بالتطيب مع هذه العوارض، وأدلتهم هناك هي نفسها أدلتهم هنا.
والذين قالوا بالفدية في لبس المحظور مع هذه العوارض، قالوا بالفدية بالتطيب مع هذه العوارض، وأدلتهم هناك هي أدلتهم هنا.
المحرمة كالمحرم في أحكام استعمال الطيب:
والمرأة المحرمة كالرجل المحرم في استعمال الطيب وما يترتب عليه من جزاء -الفدية- وبهذا صرح الفقهاء، فقد قال الإمام علاء الدين الكاساني في "البدائع": والرجل والمرأة في الطيب، سواء في الحظر ووجوب الجزاء لاستوائهم في الحاظر والموجب للجزاء. ومعنى قوله لاستوائهما في الحاظر والموجب للجزاء، أي استوائهما في المانع من استعمال الطيب وهو الإحرام، والموجب للجزاء وهو التطيب بالطيب، وهما محرمان.
ما يجري مجرى الطيب وما يجب فيه
أولاً: حلق الشعر:
لا يجوز للمحرم أن يحلق رأسه قبل يوم النحر لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله}، فإذا حلق رأسه فعليه الفدية ولا خلاف في ذلك. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على وجوب الفدية على من حلق رأسه وهو محرم لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لكعب بن عجرة: "آذاك هوام رأسك؟" قال: نعم. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "احلق رأسك ثم اذبح شاة نسكًا أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين".
والقدر الذي تجب فيه الفدية هو حلق أربع شعرات فصاعدًا وهذا عند الحنابلة، وفي رواية أخرى في مذهب الحنابلة تجب الفدية في حلق ثلاث شعرات، وهو قول: الحسن، وعطاء، وابن عيينة، والشافعي، وأبي ثور.
وقال أبو حنيفة: لا تجب الفدية إلا بحلق ما لا يقل عن ربع الرأس؛ لأن الربع يقوم مقام الكل.
هذا وإن شعر الرأس وغيره سواء في وجوب الفدية؛ لأن شعر غير الرأس يحصل بحلقه الترفه والتنظف فأشبه حلق الرأس، فإن حلق من شعر رأسه وبدنه ففي الجميع فدية واحدة وإن كثر؛ لأن الشعر كله جنس واحد في البدن فلا تتعدد الفدية فيه باختلاف مواضعه كسائر البدن وكاللباس.
تكرار الحلق:
وإذا كرر الحلق فالواجب فدية واحدة ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الحلق الثاني، فإن كفر عن الحلق الأول، ثم حلق ثانيًا، فعليه للثاني كفارة -فدية أيضًا-. ولكن إن فعل محظورات من أجناس: فحلق مثلاً، وتطيب، ولبس، فعليه لكل واحد فدية، سواء فعل ذلك مجتمعًا أو متفرقًا، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية. وعن أحمد أن في الطيب واللبس والحلق فدية واحدة.
ما يجب في الحلق:
ويجب في الحلق الفدية وهي أحد الأشياء المذكورة في الآية الكريمة والتي بين المراد فيها حديث كعب، فأيها اختار أجزأه.
وقال الحنابلة: يجزئ البر والشعير والزبيب والتمر، فمن أي صنف أخرج الفدية أجزأته، فيطعم ستة مساكين: كل مسكين نصف صاع.
ولا فرق في ذلك بين المعذور وغيره، ولا بين العامد والمخطئ، وهذا مذهب الحنابلة ومالك والشافعي. وعن أحمد رواية أخرى: أنه إذا حلق لغير عذر فعليه دم -ذبح شاة- من غير تخيير، وهذا مذهب أبي حنيفة؛ لأن الله -تعالى خير- بشرط العذر فإذا عدم الشرط وجب زوال التخيير.
واحتج القائلون بعموم التخيير للمعذور وغيره بأن الحكم ثبت في غير المعذور بطريق التنبيه تبعًا له، والتبع لا يخالف أصله.
ثانيًا: تقليم الأظفار وما يجب فيه:
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره، وعليه الفدية بأخذها في قول أكثر أهل العلم، ومنهم الحنابلة، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي (الحنفية). وروى ذلك عن عطاء، وعنه: لا فدية عليه؛ لأن الشرع لم يرد فيه بفدية. ولكن أجيب عن هذا عدم النص فيه لا يمنع قياسه على حلق الشعر؛ لأن كليهما من باب الترفه.
وتجب الفدية في تقليم أربعة أظفار، وفي رواية في مذهب الحنابلة عن أحمد: تجب الفدية في ثلاثة أظفار. أما في الظفر الواحد فيجب فيه مد من طعام، وفي الظفرين مدان من طعام.
وقال الحنفية: إن قلم أظافر يد أو رجل من غير عذر وضرورة فعليه دم -ذبح شاة-، وإن قلم أقل من يد أو رجل فعليه صدقة لكل ظفر نصف صاع. فإن قلم خمسة أظافر من الأعضاء الأربعة: اليدين والرجلين، فعليه صدقة لكل ظفر نصف صاع من تمر أو شعير في قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
المرأة كالرجل في حكم الحلق، وقلم الأظافر:
والمرأة المحرمة كالرجل المحرم فيما يجب عليها في الحلق وقلم الأظافر على النحو الذي بيناه، قال الإمام الكاساني في الحلق: ويستوي في وجوب الجزاء -أي الفدية- بالحلق: العمد، والسهو، والطوع، والإكراه عندنا، والرجل والمرأة، والمفرد، والقران… إلخ. وقال الإمام الكاساني أيضًا في قلم الأظافر: والذكر والنسيان، والطوع والإكراه في وجوب الفدية بالقلم سواء عندنا خلافًا للشافعي، وكذا يستوي في الرجل والمرأة… إلخ.
ثالثًا: الحجامة للمحرم:
ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو محرم وسط رأسه. كما روى الإمام البخاري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم في رأسه وهو محرم من وجع كان به بماء يقال له لجى الجمل. وقال النووي في شرحه لحديث مسلم: وفي هذا الحديث دليل لجواز الحجامة للمحرم. وقد أجمع العلماء على جوازها له في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك، وإن قطع الشعر حينئذ، لكن عليه الفدية لقطع الشعر، فإن لم يقطع فلا فدية عليه. أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام لتحريم قطع الشعر، وإن لم تتضمن ذلك كانت في موضع لا شعر فيه، فهي جائزة عندنا -أي عند الشافعية- وعند الجمهور ولا فدية فيها، ثم قال النووي -رحمه الله تعالى-: وفي هذا الحديث بيان قاعدة من مسائل الإحرام، وهي أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو ذلك من المحرمات، يباح للحاجة وعليه الفدية، كمن احتاج إلى حلق أو لباس لمرض أو حر أو برد، أو قتل صيد للحاجة وغير ذلك.
وقال الشوكاني -رحمه الله- في تعليقه على الحديث الذي رواه البخاري ومسلم بأنه قد استدل العلماء بهما، على جواز القصد، وربط الجرح، والدمل، وقطع العرق، وقلع الضرس، وغير ذلك من وجوه التداوي إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهي المحرم عنه: من تناول الطيب، وقطع الشعر، ولا فدية في ذلك.
ويمكن أن يضاف إلى ما قاله الشوكاني بأن هذه الأشياء التي ذكرها هي إما من باب التداوي والإحرام لا يمنع من ذلك، أو هي من باب إزالة الضرر وقطع الألم، كما في قلع الضرس، والإحرام لا يمنع من ذلك.
حك الشعر ومشطه:
يكره حك الشعر بالأظفار في الإحرام للمحرم أو المحرمة لئلا ينتف شعرًا، ولا يكره ببطون الأنامل، ويكره مشط الرأس لأنه أقرب إلى نتف الشعر، فإن حك المحرم أو مشط فنتف بذلك شعرة أو شعرات، لزمته فدية.
ويكره للمحرم أن يفلي رأسه ولحيته، فإن فلى وقتل قملة، تصدق بشيء ولو بلقمة، نص عليه الشافعي، وفي قول آخر له: أي شيء فدى به فهو خير منها. ولكن لو ظهر القمل في بدنه وثيابه فله إزالته ولا فدية فيه بلا خلاف، بخلاف قمل الرأس؛ لأنه يتضمن إزالة الأذى من رأسه وقد ورد فيه النص.
والمرأة المحرمة فيما قلناه كالمحرم، وإن لم يصرحوا بذلك؛ لأن المحرمة تمنع ما يمنع منه المحرم إلا ما استثنى، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة ممنوعة مما منع الرجال منه إلا لبس اللباس.
الاكتحال للمحرم والمحرمة:
يحرم الاكتحال على المحرم بكحل فيه طيب، وبهذا صرح الحنابلة. وأما الاكتحال بما لا طيب فيه فلا يحرم، وبهذا صرح الشافعية، والحنفية، والحنابلة، وغيرهم.
وقال الشافعية والحنابلة: إن كان في الاكتحال زينة كما في الإثمد فإنه يكره في هذه الحالة، وإن لم يكن فيه زينة فلا يكره، وقالوا أيضًا: إن ما في استعماله من الكحل زينة تكون كراهته بالنسبة للمرأة المحرمة أشد من كراهيته للرجال؛ لأن ما يحصل للمرأة من الزينة به أكثر من الرجل، ولكن مع هذا كله إذا اكتحل به محرم أو محرمة، فلا فدية فيه عليهما بلا خلاف.
وما ورد من الآثار في اكتحال المحرم للعلاج: أخرج أبو داود في "سننه" أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في المحرم إذا اشتكى عينيه أن يضمدهما بصبر، والصبر دواء مر ليس بطيب تعالج به العين وقد يكتحل به. وروى الإمام البيهقي في "سننه" عن شعبة، عن شميسة، قالت: اشتكت عيني وأنا محرمة، فسألت عائشة أم المؤمنين عن الكحل، فقالت: اكتحلي بأي كحل شئت غير الإثمد، أو قالت: غير كل كحل أسود. أما إنه ليس بحرام ولكنه زينة ونحن نكرهه، وقالت -أي عائشة رضي الله عنها-: إن شئت كحلتك بصبر، فأبيت.
النظر في المرآة للمحرم والمحرمة:
قال الشافعية: لا بأس بنظر المحرم في المرآة ولا كراهة في ذلك، سواء كان رجلاً أم امرأة، وقالوا: وهذا هو الصحيح المشهور في المذهب، ولكن رويت عن الإمام الشافعي بعض الأقوال تدل على كراهته، مما جعل الإمام النووي يقول: فحصل للشافعي في المسألة قولان: (الأصح) لا يكره، وبه قطع الأكثرون. ونقل ابن المنذر عدم الكراهة عن ابن عباس، وأبي هريرة، وطاووس، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، قال النووي: وبه أقول. وقال مالك: لا يفعل ذلك إلا عن ضرورة. ونقل عن ابن عباس أن كره أن ينظر المرء المحرم في المرآة إلا من وجع

4-محظورات الإحرام المتعلقة بالصيد، وما يجب فيها
تمهيد:
أجمعت الأمة على تحريم الصيد في الإحرام، وإن اختلفوا في فروع منه، فلا يجوز للمحرم أن يتعرض لصيد البر المأكول، وغير المأكول اللحم إلا المؤذي المبتدئ بالأذى غالبًا. فلا بد من بيان المقصود بالصيد الذي يحرم اصطياده ويحرم قتله، ثم بيان أنواعه، وبيان ما يحل اصطياده للمحرم، وما يحرم عليه اصطياده، وبيان حكم ما يحرم عليه اصطياده إذا اصطاده أو ذبحه إلى غير ذلك مما لا علاقة بموضوعنا.
المقصود بالصيد:
الصيد بمعنى الحيوان المصيد، هو الحيوان المباح المتوحش الممتنع من الناس في أصل الخلقة، إما بقوائمه أو بجناحه. فلا يحرم على المحرم ذبح الإبل والبقر والغنم؛ لأنها ليست بصيد لعدم التوحش والامتناع من الناس، وكذلك الدجاج ونحو ذلك. ولا بأس بقتل البرغوث والبعوض والذباب والزنبور؛ لأنها ليست بصيد لانعدام التوحش والامتناع، ألا ترى أنها تطلب الإنسان مع امتناعه منها؛ ولأن هذه المخلوقات من المؤذيات المبتدئة بالأذى غالبًا فالتحقت بالمؤذيات المنصوص على جواز قتلها كالحية والعقرب. ولا بأس بقتل الفأرة والحية والعقرب والخنافس، ولا شيء على المحرم في قتلها؛ لأنها لا يصدق عليها معنى الصيد الممنوع على المحرم قتله.
فإن كان الحيوان مملوكًا للغير وصاده المحرم، وجب عليه رده إلى مالكه لأنه ليس بصيد؛ لأن المملوك للغير لا يكون صيدًا.
أنواع الصيد وما يحل للمحرم أو يحرم عليه اصطياده:
الصيد في الأصل نوعان: بري، وبحري. والبحري هو الذي يكون توالده في البحر سواء كان لا يعيش إلا في البحر أم يعيش في البحر والبر. والصيد البري هو ما يكون توالده في البر، سواء كان لا يعيش إلا في البر، أم يعيش في البر والبحر. فالمنظور إليه هو التوالد، فإن كان توالد الحيوان في البحر فهو بحري، وإن كان توالده البر فهو بري.
أما صيد البحر فيحل اصطياده للحلال (غير المحرم) وللمحرم جميعًا، مأكولاً كان أو غير مأكول لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة}.
وأما صيد البر فنوعان: مأكول اللحم، وغير مأكول. أما المأكول فلا يحل للمحرم اصطياده نحو الظبي والأرنب والطيور التي يؤكل لحمها، برية كانت أو بحرية؛ لأن الطيور كلها برية؛ لأن توالدها في البر وإنما يدخل بعضها إلى البحر لطلب الرزق. والأصل فيه قوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا}. وقوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}. وكذلك لا يحل للمحرم الدلالة على الصيد ولا الإشارة إليه؛ لأن الدلالة والإشارة سبب إلى قتل الصيد، وتحريم الشيء تحريم لأسبابه. وكذلك لا يحل للمحرم الإعانة على قتل الصيد؛ لأن الإعانة لسوق الدلالة والإشارة.
وأما غير المأكول اللحم فنوعان: نوع يكون مؤذيًا طبعًا مبتدئًا بالأذى غالبًا، ونوع لا يبتدئ بالأذى غالبًا. أما الذين يبتدئ بالأذى غالبًا فللمحرم أن يقتله ولا شيء عليه، وذلك نحو الأسد والذئب؛ لأن دفع الأذى من غير سبب موجب للأذى واجب فضلاً عن الإباحة، ولهذا أباح الرسول -صلى الله عليه وسلم- قتل الخمس الفواسق للمحرم وغير المحرم في الحل والحرم فقال -صلى الله عليه وسلم: "خمس من الفواسق يقتلهن المحرم في الحل والحرم: الحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب". وأما الذي لا يبتدئ بالأذى غالبًا كالثعلب فله أن يقتله إن عدا عليه -أي: إذا أراد إيذاءه بأن هجم عليه-، ولا شيء عليه إذا قتله.
حكم ما يحرم على المحرم اصطياده إذا اصطاده أو ذبحه:
لا خلاف في تحريم الصيد على المحرم إذا صاده أو ذبحه، وقد قال تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا}. وإن صاده حلال -أي غير محرم-، وذبحه وما كان من المحرم إعانة فيه، أو دلالة عليه، أو إشارة إليه لم يبح للمحرم أكله. وإن صيد من أجل المحرم لم يبح للمحرم أيضًا أكله، وهذا قول الحنابلة ومالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة: له أكله كما لو لم يصد له. وما حرم على المحرم أكله لم يحرم على الحلال (غير الحرم) أكله؟ وهل يباح أكله لمحرم آخر؟ قال ابن قدامة الحنبلي: يحتمل الأمران إباحة أكله وعدمها.
وإذا ذبح المحرم الصيد، أو قتله في اصطياده صار بحكم ميتة يحرم أكله على جميع الناس، وهذا مذهب الحنابلة، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وقال الثوري، وأبو ثور: لا بأس بأكله، وقال عمرو بن دينار، وأيوب السختياني بأكله الحلال (غير المحرم).
وجوب الجزاء على المحرم إذا قتل الصيد:
أجمع أهل العلم على وجوب الجزاء على المحرم إذا قتل الصيد لقوله تعالى: {يا آيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم}. وإنما يجب الجزاء بشروط تعرف مما يأتي:
أنواع قتل الصيد، وبيان ما فيه الجزاء:
قتل الصيد نوعان: مباح ومحرم. فالمحرم قتله ابتداء من غير سبب يبيح قتله، فهذا فيه الجزاء.
والمباح قتله ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يضطر المحرم إلى أكله فيباح له قتله بغير خلاف نعلمه -كما قال ابن قدامة الحنبلي- لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}. وترك الأكل مع القدرة عند الضرورة إلقاء باليد إلى التهلكة، وطريق الأكل قتل الصيد، فيباح. ولكن متى قتله ضمنه -أي لزمه الجزاء-. وقال الأوزاعي: لا يضمنه لأنه مباح في هذه الحالة أشبه صيد البحر. واحتج الحنابلة على ضمانة -أي وجوب الجزاء فيه- بعموم الآية الكريمة: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}؛ ولأنه قتله من غير معنى يحدث من الصيد يقتضي قتله؛ ولأنه أتلفه لدفع الأذى عنه لا لمعنى في الصيد أشبه حلق الشعر لأذى رأسه، وهذا يوجب الفدية، فكذا ما نحن فيه يوجب الجزاء.
النوع الثاني: إذا صال عليه صيد فلم يقدر على دفعه إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه -أي لا جزاء عليه-، وهذا مذهب الحنابلة وبه قال الشافعية.
وقال بعض الحنابلة: عليه الجزاء، وهذا قول أبي حنيفة؛ لأنه قتله لحاجة نفسه أشبه قتله لحاجته إلى أكله.
واحتج الأولون القائلون بعدم وجوب الجزاء بأنه حيوان قتله المحرم لدفع شره، فلم يضمنه كالآدمي الصائل؛ ولأنه في حال صياله التحق بالمؤذيات طبعًا فصال كالكلب العقور.
النوع الثالث: إذا خلص المحرم صيدًا من سبع أو شبكة صياد فتلف الصيد بذلك، فلا ضمان -أي جزاء- على المحرم، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية، وبه قال عطاء؛ لأن ما فعله المحرم كان لمنفعة الحيوان وحاجته، فلا يضمن ما تلف بفعله هذا كما لو عالج ولي الصبي فمات بهذه المعالجة، ثم إن المحرم غير متعمد بإتلاف الصيد فلا يعتبر قاتلاً فلا يشمله عموم الآية الكريمة التي فيها النهي عن قتل الصيد.
هل في قتل الصيد خطأ جزاء:
الجمهور على التسوية بين الخطأ والعمد في وجوب الجزاء بقتل الصيد. وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاووس، وابن المنذر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد: لا كفارة في الخطأ؛ لأن الله تعالى قال: {ومن قتله منكم متعمدًا} فدل على أن من قتله خطأ لا كفارة عليه -أي لا جزاء عليه-.
ويجب الجزاء في قتل الصيد على المحرم، سواء كان محرمًا بحج أم بعمرة، وسواء كان المحرم بحج مفردًا أم قارنًا أم متمتعًا.
الجزاء لا يكون إلا بقتل الصيد:
والجزاء لا يكون إلا بقتل الصيد؛ لأنه هو الذي ورد به النص، قال تعالى: {ولا تقتلوا الصيد وأنت حرم}. والصيد الذي يجب بقتله الجزاء على قاتله المحرم، هو ما جمع ثلاثة أوصاف هي: أن يكون مباحًا أكله، لا مالك له، وحشيًا ممتنعًا. فيخرج بالوصف الأول ما ليس بمأكول، فلا جزاء فيه كسباع البهائم. قال الإمام أحمد: إنما جعلت الكفارة -أي الفدية أو الجزاء- في الصيد المحلل أكله. وهذا قول أكثر أهل العلم. وخرج بوصف الوحشي الممتنع ما ليس بوحشي، فلا يحرم على المحرم ذبحه ولا أكله كبهيمة الأنعام والدجاج ونحو ذلك ولا خلاف في ذلك، والمنظور إليه في كونه وحشيًا ومستأنسًا هو أصله لا حاله الحاضر، فلو استأنس الوحشي وجب في قتله الجزاء، ولو توحش الأهلي المستأنس لم يجب فيه شيء، قال أحمد في بقرة صارت وحشية: لا شيء فيها إذا قتلها المحرم؛ لأن الأصل فيها الأنسي.
الجزاء يكون في صيد البر لا في صيد البحر:
والجزاء في قتل الصيد إنما يكون في صيد البر لا في صيد البحر، بغير خلاف بين أهل العلم لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا}. ولا فرق بين حيوان البحر المالح ماؤه وبين ما في الأنهار والعيون؛ لأن اسم البحر يتناول الجميع، قال تعالى: {وما يستوي البحران، هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج، ومن كل تأكلون لحمًا طريًا}.
الجزاء مثل ما قتل من النعم:
والجزاء في قتل الصيد إذا كان دابة هو مثل ما قتل من النعم، وهذا مذهب الحنابلة وهو قول أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة: الواجب هو القيمة، أي قيمة الصيد أو يجوز فيه المثل؛ لأن الصيد ليس بمثلي.
احتج الجمهور بقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم}. ويرجع في معرفة المثل في الجزاء إلى قول عدلين من أهل الخبرة لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} فيحكمان فيه بأشبه الأشياء من النعم من حيث الخلقة لا من حيث القيمة. ويشترط في الحكمين العدالة، وتعتبر فيهما الخبرة؛ لأنه لا يتمكن من الحكم بالمثل إلا من له خبرة.
وإن كان الصيد طائرًا فالجزاء فيه يكون بقيمته في موضعه الذي أتلفه -قتله- فيه إلا أن تكون نعامة، فيكون فيه بدنة، أو حمامة وما أشبهها فيكون في كل واحدة منها شاة.
الخيار في جزاء الصيد:
والمحرم إذا قتل الصيد الذي يجب فيه الجزاء، فهو مخير: إن شاء اختار (المثل) أي النظير للصيد فيذبحه ويتصدق به على مساكين الحرم، وله أن يذبحه في أي وقت شاء. وإن شاء قوّم (المثل) أي النظير للصيد، بدراهم، والدراهم بطعام، ويتصدق به على المساكين، وبهذا قال الحنابلة والشافعي، ويعتبر قيمة المثل في الحرم، والطعام المخرج هو الحنطة والشعير والتمر والزبيب، فيخرج مدًا من الحنطة لكل مسكين، أو نصف صاع من الأصناف الأخرى. وإن شاء اختار الصيام في الجزاء فيصوم عن كل مد من الحنطة يومًا، وعن أحمد يصوم عن كل نصف صاع يومًا. وقال ابن عقيل من فقهاء الحنابلة: صيام اليوم عن مد من الحنطة، أو نصف صاع من غيره.
وما لا مثل له من الصيد يخير قاتله بين أن يشتري بقيمته طعامًا، فيطعمه للمساكين وبين أن يصوم. وهل يجوز إخراج القيمة؟ قال ابن قدامة الحنبلي: فيه احتمالان: (الأول): لا يجوز، و(الثاني): يجوز.
إذا أطلق المحرم الصيد بعد اصطياده فلا جزاء عليه:
والمحرم إذا اصطاد الصيد فلا يجب عليه الجزاء، إلا إذا ذبحه أو هلك عنده، فإذا أرسله -أي أطلقه- في موضع يمتنع على من يريد أخذه، فلا جزاء عليه؛ لأن الجزاء ربط بقتل الصيد أبو بما يعين على قتله لا بمجرد أخذه واصطياده، وإن كان مجرد الاصطياد حرام
5-محظورات الحرم
محظورات الحرم نوعان: (الأول): نوع يرجع إلى الصيد، و(الثاني): نوع يرجع إلى النبات، ونتكلم عن كل نوع فيما يلي:
النوع الأول: ما يرجع إلى صيد الحرم والجزاء فيه:
لا يحل للمحرم والحلال (غير المحرم) قتل صيد الحرم إلا المؤذيات المبتدئة بالأذى غالبًا، والأصل في ذلك قوله تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا} والحرم الآمن هو مكة. وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}، وهذا الحكم في هذه الآية الكريمة يشمل صيد الإحرام وصيد الحرم جميعًا؛ لأنه يقال: أحرم إذا دخل في الإحرام، كما يقال: أحرم، إذا دخل في الحرم.
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطه إلا من عرفها". ورواه الإمام مسلم ولفظه: عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح- فتح مكة-:" لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا"، وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح -فتح مكة-: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطه إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها"، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الأذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال-صلى الله عليه وسلم-: "إلا الأذخر". وفي رواية لأبي داود لهذا الحديث: "لا يعضد شجرها".
ويفهم من هذا الحديث الشريف أنه لا يجوز لمحرم أو حلال أن يعضد شجرها -أي يقطعه- ولا ينفر صيدها -أي لا يجوز أن يتعرض له أحد بالاصطياد أو الإيهاج-، إلا الأذخر، حيث يجوز قطعه وأخذه، وهو نبات عريض الأوراق طيب الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب، وكما لا يجوز قطع الشجر لا يجوز قطع النبات الرقيق ما دام رطبًا، وهذا هو معنى "ولا يختلى خلاها" فاختلاؤه يعني قطعه، وإذا يبس فهو حشيش.
وعلى هذا فإذا قتل محرم أو حلال -غير محرم- صيد الحرم فعليه الجزاء لقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم}، وجزاؤه هو جزاء قاتل صيد الإحرام -أي جزاء المحرم إذا قتل صيدًا على النحو الذي فصلناه من قبل- أما جزاء من يقطع شجر الحرم ونباته فهو ما نبينه في الفقرة التالية:
النوع الثاني من محظورات الحرم: ما يرجع إلى النبات:
أجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم، كما أجمعوا على إباحة قطع الأذخر للحديث الشريف الذي ذكرناه في الفقرة السابقة.
وكذلك أباح العلماء قطع ما ينبته الآدمي من البقول والزروع والرياحين، أما ما أنبته الآدمي من الشجر، فقد قال أبو الخطاب، وابن عقيل، من فقهاء الحنابلة: له أن يقلعه من غير جزاء كالزرع.
وقال الشافعي في شجر الحرم: الجزاء في قلعه في كل حال سواء أنبته آدمي أو نبت بنفسه لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يعضد شجرها"؛ ولأنها شجرة نابتة في الحرم أشبهت ما لم ينبته الآدمي.
وقال الحنفية: كل ما نبت بنفسه مما لا ينبته الناس عادة وهو رطب، فهو محظور القطع والقلع على المحرم والحلال جميعًا مثل الحشيش الرطب، والشجر الرطب إلا الأذخر. وإنما استوى المحرم والحلال في حرمة التعرض لشجر الحرم؛ لأن هذا التحريم لأجل الحرم لا لأجل الإحرام، وإن كان مما ينبته الناس عادة من الزروع والأشجار التي ينبتونها فلا بأس بقطعه أو قلعه لإجماع الأمة على ذلك، فإن الناس من عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا يزرعون في الحرم ويحصدونه من غير نكير من أحد.
ولا بأس بقطع الشجر اليابس، والحشيش اليابس والانتفاع بهما؛ لأنه بهذا اليبس قد مات الشجر والحشيش، وخرجا عن حد النمو، فجاز قطعهما، وإن كانا من شجر الحرم ونباته، وبهذا صرح الحنابلة والحنفية.
الجزاء في قطع أو قلع الشجر والنبات:
قال الحنابلة: يضمن -أي يجب عليه الجزاء- من يتلف الشجرة الكبيرة ببقرة، ومن يتلف الشجرة الصغيرة بشاة، ومن يتلف الحشيش بقيمته، وبهذا قال الشافعي.
وقال الحنفية: يضمن الكل بقيمته فإن شاء اشترى بهذه القيمة طعامًا وتصدق به على الفقراء: لكل فقير نصف صاع من بر، وإن شاء اشترى بها هديًا -شاة- إن بلغت قيمته هديًا.
المرأة كالرجل في حكم صيد الحرم ونباته:
وما قلناه من أحكام صيد الحرم ونباته، يسري على المرأة كما يسري على الرجل في حال الإحرام وفي غير حال الإحرام، لا سيما وأن تحريم التعرض لصيد الحرم ونباته هو لأجل حرمة المكان -أي حرمة الحرم وليس لحرمة الإحرام- ولذلك يسري هذا التحريم على المحرم وغير المحرم، وعلى هذا فإن حرمة المكان مطلوب احترامها بعدم التعرض لصيده ونباته، من قبل المرأة كما هو مطلوب هذا الاحترام من قبل الرجل.
تحريم صيد المدينة المنورة وقطع شجرها:
أخرج الإمام مسلم في "صحيحه" عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها". وفي رواية أخرى: "ولا يقتل صيدها". فهذا الحديث الشريف وغيره في معناه حجة ظاهرة لمذهب الحنابلة، ومالك، والشافعي في تحريم صيد المدينة المنورة وقطع شجرها.
الجزاء في قتل صيد المدينة وقطع شجرها: ومن فعل شيئًا مما حرم عليه في حرم المدينة المنورة مثل قتل صيدها أو قطع شجرها، فهل يجب عليه جزاء؟
قال ابن قدامة الحنبلي في الجواب، فيه روايتان:
إحداهما: لا جزاء فيه، وهو قول أكثر أهل العلم، وهو قول مالك، والشافعي في آخر قوليه؛ لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام فلم يجب فيه جزاء.
والثاني: يجب فيه الجزاء، روي ذلك عن ابن أبي ذئب وهو قول الشافعي في القديم، وابن المنذر؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني أحرم المدينة، مثلما حرم إبراهيم مكة". ونهى أن يعضد شجرها ويؤخذ صيدها، فوجب في هذا الحرم الجزاء كما وجب في ذلك إذا لم يظهر بينهما فرق.
الفرق بين حرم المدينة وحرم مكة:
يفارق حرم المدينة حرم مكة في شيئين:
(أحدهما): أنه يجوز أن يؤخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو الحاجة إليه للمساند ونحوها، ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف.
(والثاني): أن من صاد صيدًا خارج المدينة ثم أدخله إليها لم يلزمه إرساله، نص عليه أحمد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "يا أبا عمير ما فعل النقير" وهو طائر صغير، فظاهر هذا أنه أباح إمساكه بالمدينة إذ لم ينكر ذلك، وحرمة مكة أعظم من حرمة المدينة بدليل أنه لا يدخلها إلا محرم
6-محظورات الإحرام من التصرفات القولية والفعلية: أولاً: نكاح المحرم والمحرمة:
عن أبان بن عثمان -رضي الله عنهما- قال: سمعت أبي يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكِح المحرم ولا يُنكِح ولا يَخطِب"، وقوله: "لا يَنكِح المحرم" هو بفتح الياء وكسر الكاف، أي: لا يعقد النكاح لغيره بولاية أو بوكالة، وقوله: "لا يَخطِب" من الخِطبة بكسر الخاء، أي لا يطلب امرأة للتزوج بها.
وقد أفاد الحديث الشريف أنه يحرم أن يتزوج المحرم أو يزوج غيره، وهذا مذهب الجمهور ومنهم الشافعية، والحنابلة، والظاهرية، والأوزاعي، وغيرهم، وحجتهم هذا الحديث الشريف، فمن أقوالهم المبنية على هذا الحديث الشريف ما جاء في "المجموع" في فقه الشافعية: فيحرم على المحرم أن يتزوج، ويحرم عليه أن يزوج موليته بالولاية الخاصة وهي العصوبة والولاء، فإن كان الزوج أو الزوجة أو الولي أو وكيل الزوج أو وكيل الولي محرمًا فالنكاح باطل بلا خلاف -أي بلا خلاف عند الشافعية-؛ لأنه منهي عنه لهذا الحديث الصحيح.
وفي "المغني" لابن قدامة الحنبلي: ولا يتزوج المحرم أي لا يقبل النكاح لنفسه، ولا يزوج أي لا يكون وليًا في النكاح، ولا وكيلاً فيه ولا يجوز تجويز المحرمة أيضًا.
وأجاز نكاح المحرم ابن عباس، وهو مذهب أبي حنيفة لما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو محرم. وبأن النكاح عقد يفيد ملك الاستمتاع فلا يحرمه إلا حرام كشراء الإماء.
الرد على الحنفية:
وقد رد على احتجاج الحنفية من وجوه عديدة:
(الوجه الأول): عن أبي رافع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة حلالاً -أي غير محرم- وبنى بها -أي زُفَّت إليه- وكنت الرسول بينهما. وفي رواية يزيد بن الأصم عن ميمونة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال. فرواية ميمونة -رضي الله عنها- وهي التي تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- ورواية أبي رافع وهو السفير في هذا الزوج أولى من رواية ابن عباس، ولهذا روى أبو داود أن سعيد بن المسيب قال: وهم ابن عباس في قوله: تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ميمونة وهو محرم.
(الوجه الثاني): يمكن حمل قول ابن عباس في روايته "وهو محرم" أي تزوجها -صلى الله عليه- في الشهر الحرام أو في البلد الحرام.
(الوجه الثالث): وقيل في معنى الحديث، حديث ابن عباس: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال غير محرم ثم أظهر أمر زواجه بها وهو محرم.
(الوجه الرابع): لو صح الحديثان، حديث ابن عباس، والحديث الذي احتج به الجمهور وهو: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب"، كان تقديم حديث الجمهور أولى؛ لأنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وحديث ابن عباس يخبر عن فعله -صلى الله عليه وسلم- والقول آكد؛ لأن فعله -صلى الله عليه وسلم- يحتمل أن يكون مختصًا به.
(الوجه الخامس): عقد النكاح يخالف شراء الأمة، فإن النكاح يحرم في عدة المرأة، وفي حالة اختلاف الدين بينها وبين من يريد نكاحها، وفي كون المنكوحة أختًا له من الرضاع، ويعتبر له شروط غير معتبرة في شراء الإماء.
الزفاف في حالة الإحرام:
قال بعض الشافعية: يجوز أن تزف إلى المحرم امرأة عقد عليها عقد النكاح قبل الإحرام، كما يجوز أن تزف إليه المحرمة إذا كان قد عقد عليها عقد النكاح قبل إحرامه وقيل إحرامها.
ثانيًا: الوكالة بالنكاح:
إذا وكل حلال حلالاً -غير محرم- في التزويج، ثم أحرم أحدهما أو أحرمت المرأة المراد نكاحها لا ينعزل الوكيل، ولكن يزوج بعد التحلل من الإحرام بالوكالة السابقة، أما إذا وكله في حال إحرام الوكيل أو الموكل أو المرأة فينظر: فإذا كان قد وكله ليعقد له النكاح في الإحرام لم يصح بلا خلاف عند الشافعية؛ لأنه إنما أذن له فيما لا يصح منه، وإن قال: أتزوج لبعد التحلل من الإحرام، أو أطلق وكالته ولم يصرح بشيء صح توكيله؛ لأن الإحرام يمنع انعقاد النكاح دون الإذن بالنكاح عن طريق الوكالة.
اختلاف الزوجين في انعقاد النكاح في حالة الإحرام:
إذا تزوج بنفسه أو عن طريق وكيله، ثم أحرم الزوج، ثم اختلف الزوجان هل كان النكاح في حال الإحرام أم قبله، ينظر: إن كانت هناك بينة شرعية لأحدهما وجب العمل بمقتضاها، وإن لم يكن لأحدهما بينة شرعية مقبولة فادعى الزوج أن النكاح انعقد قبل الإحرام، وادعت الزوجة وقوعه في الإحرام فالقول قول الرجل الزوج بيمنه؛ لأن الظاهر معه وهو ظاهر قوي فوجب تقديمه، وإن ادعت الزوجة وقوع النكاح قبل الإحرام، وادعى الزوج وقوعه في حالة الإحرام فالقول قولها بيمينها في وجوب المهر وسائر مؤن النكاح، ويحكم بانفساخ النكاح لإقرار الزوج بتحريمها عليه لادعائه وقوع النكاح في الإحرام، فإن كان ذلك قبل الدخول وجب نصف المهر، وإلا فجميع المهر إن كان بعد الدخول.
شك الزوجين في وقوع النكاح في حالة الإحرام:
إذا شك الزوج هل وقع النكاح في حالة الإحرام أم قبله، ولم يدع أحدهما شيئًا، فقد قال الشافعي -رحمه الله-: النكاح صحيح في الظاهر، فلهما البقاء عليه؛ لأن الظاهر صحته، ولكن الورع أن يفارقها بطلقة واحدة؛ لاحتمال وقوع النكاح في حالة الإحرام.
حكم زواج المحرم أو المحرمة:
ومتى تزوج المحرم أو زوج غيره، أو زوجت محرمة فالنكاح باطل، سواء كان الجميع محرمين أو بعضهم؛ لأنه نكاح منهي عنه، فلم يصح كنكاح المرأة على عمتها أو خالتها، ويفسخ هذا النكاح لبطلانه، وبهذا صرح الحنابلة، والشافعية، والمالكية، والظاهرية، والزيدية، هذا وإن الإحرام الفاسد كالإحرام الصحيح في فساد النكاح وبطلانه إذا وقع النكاح فيه، وفي منع سائر محظورات الإحرام، ومتى تزوج المحرم أو زوج أو زوجت محرمة، لم يجب بذلك فدية -جزاء-؛ لأنه عقد فسد لأجل الإحرام فلم تجب فيه فدية كشراء الصيد، وبهذا صرح الحنابلة.
ثالثا: الخطبة للمحرم أو للمحرمة:
عند الشافعية، والحنابلة، والزيدية، والظاهرية: تكره الخطبة للمحرم كما تكره خطبة المرأة المحرمة من قبل غير المحرم ليتزوجها بعد تحللها من إحرامها، ويكره أن يخطب المحرم لغيره من المحلين -أي غير المحرمين- للحديث الشريف الذي ذكرناه وهو: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب"؛ ولأن الخطبة في حالة الإحرام قد تفضي إلى المحظور وهو عقد النكاح في حالة الإحرام، فأشبهت الإشارة إلى الصيد في الإحرام وهي -أي الإشارة- ممنوعة، فكذا الخطبة، ولكن لو خطب في حالة الإحرام وعقد النكاح وهو حلال صح النكاح ولم يفسد.
شهادة المحرم أو المحرمة على النكاح:
ويكره للمحرم أو المحرمة أن يشهدا النكاح ويكونا من الشهود عليه؛ لأن الشهادة في النكاح معاونة عليه فأشبهت الخطبة، ولكن إن شهد المحرم لم يفسد النكاح وهذا مذهب الحنابلة، والصحيح في مذهب الشافعية إذ عندهم قول مرجوح أن النكاح لا ينعقد بشهادة شهود محرمين بحجة لورود لفظ: "ولا يشهد" في إحدى روايات الحديث الشريف: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب".
رابعًا: رجعة المحرم لزوجته:
عند الشافعية، والمالكية، والظاهرية يجوز للمحرم أن يراجع زوجته المحرمة أو غير المحرمة، سواء أطلقها في حالة الإحرام أم قبله؛ لأن الرجعة كاستدامة النكاح بدليل أنها تصح من غير ولي ولا شهود، فلم يمنع الإحرام منها كالبقاء على النكاح.
وفي المذهب الحنبلي في رجعة المحرم لزوجته إذا طلقها طلاقًا رجعيًا روايتان عن أحمد:
الرواية الأولى: أن الرجعة لا تباح له؛ لأنها استباحة فرج مقصود بعقد النكاح، فلا تباح للمحرم كما يباح له عقد النكاح.
الرواية الثانية: تباح له الرجعة، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة، وهو قول أكثر أهل العلم، كما قال ابن قدامة الحنبلي -رحمه الله تعالى- واستدل له ابن قدامة بأن المطلقة طلاقًا رجعيًا هي زوجة المطلق ما دامت في عدتها، والرجعة تكيف بأنها إمساك بدليل قوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} فأبيح ذلك للمحرم كالإمساك قبل الطلاق، والقول بأن الرجعة استباحة قول غير سديد؛ لأن المطلقة طلاقًا رجعيًا مباحة لزوجها ما دامت في العدة؛ لأنها لا تزال زوجته، ومراجعتها من قبله في عدتها لا يسمى نكاحًا؛ لأنها امرأته كما قلنا، ولهذا ترثه ويرثها إذا مات أحدهما وهي في العدة.
خامسًا: الفسوق والجدال:
قال الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}( البقرة : الآية197)
والرفث: الجماع، وهو محظور في الإحرام، وأما الفسوق فيعني جميع المعاصي كلها قاله ابن عباس، وعطاء، والحسن، وكذلك قال ابن عمر: الفسوق: إتيان معاصي الله -عز وجل- في حالة الإحرام كقتل الصيد وقص الظفر، وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب ومنه قوله تعالى: {ولا تنابرزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} وقال ابن عمر أيضًا: الفسوق: السباب، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".
والجدال: المماراة والخصام، فيحظر على المحرم أن يماري مسلمًا حتى يغضبه فينتهي إلى السباب.
والنكتة في منع هذه الأشياء تعظيم شأن الحرم بتعظيم أمر الإثم فيه؛ لأن الأعمال تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ وعلى هذا فيحظر على المحرم والمحرمة الابتعاد عما تضمنته الآية الكريمة من الرفث والفسوق والجدال؛ لأنه بإحرامه يكون قد تلبس بعبادة لله تعالى، فلا يتفق معها إتيان هذه الأشياء.
ما يباح للمحرم والمحرمة من التصرفات القولية:
للمحرم والمحرمة مباشرة سائر التصرفات القولية من بيع وشراء، وهبة واتهاب، ووكالة ونحو ذلك؛ لأنه لا يوجد مانع شرعي من ذلك سوى ما ذكرناه في النكاح وما يتعلق به، وما أفادته الآية الكريمة: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}.
قال الإمام الخرقي الحنبلي: وللمحرم أن يتجرد ويصنع الصنائع، وقال ابن قدامة الحنبلي تعليقًا على قول الخرقي: أما التجارة والصناعة فلا نعلم في إباحتهما اختلافًا، وقد روى ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزل قوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} أي في موسم الحج

حج الصبيان والصبايا
"حج الصغار"

التعريف بالصبيان والصبايا الصغار:
الصغار هم الأطفال ذكورًا أو إناثًا، فالمذكر منهم هو الصغير أو الطفل، والأنثى منهم هي الصغيرة أو الطفلة، والجمع صغار وأطفال. والصبي يطلق على المولود الذكر من لدن يولد إلى أن يفطم، والجمع صبية وصبيان. ومؤنث الصبي صبية والجمع صبايا. والصبي يدعى طفلاً حين يسقط من بطن أمه إلى أن يحتلم. فنريد بالصغار الأطفال من الذكور والإناث الذين لم يبلغوا الحلم -أي لم يبلغوا سن البلوغ-؛ إذ لا فرق بين الذكر والأنثى في موضوع حجهما أو الحج بهما.
هل يجب الحج على الصغير أو الصغيرة؟
من شروط وجوب الحج البلوغ، فلا يجب الحج على الصبي، وكذلك لا يجب على الصبية حتى يبلغا سن البلوغ، ولهذا لو حج الصبي أو الصبية قبل البلوغ، ثم بلغا بعد ذلك: وجب عليهما حجة الإسلام؛ لأن حجهما قبل البلوغ لا يعتبر حجة الإسلام الواجبة عليهما. يصح حج الصبي والصبية ولا يجزئهما عن حجة الإسلام:
أخرج الإمام مسلم في "صحيحه ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: "مَنِ الْقَوْمُ؟" قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ. فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: "رَسُولُ اللَّهِ" فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ". وقد استدل بهذا الحديث على صحة حج الصبي، وأنه يثاب عليه، وبهذا قال جماهير أهل العلم، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: "وَلَكِ أَجْرٌ" معناه: لها أجر بسبب حملها وتجنيبها إياه ما يجتنبه المحرم، وفعل ما يفعله المحرم. ولكن حج الصبي لا يجزيه عن حجة الإسلام، بل يقع حجه تطوعًا، ويلزمه الحج بعد البلوغ.
وقد أخرج الترمذي في "جامعه" عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ حَجَّ بِي أَبِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ"
قَالَ أَبو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا أَدْرَكَ لا تُجْزِئُ عَنْهُ تِلْكَ الْحَجَّةُ عَنْ حَجَّةِ.
إحرام الصغير أو الصغيرة:
إذا كان الصغير مميزًا أحرم بإذن وليه، وإذا أحرم بدون إذن وليه لم يصحَّ إحرامه؛ لأن هذا عقد يؤدي إلى لزوم مال، فلا ينعقد من الصبي بنفسه كالبيع، وإن كان غير مميز فأحرم عنه من له ولاية على ماله كالأب صح إحرامه عنه -أي ينعقد الإحرام للصبي دون وليه-. ويصح عند الإحرام عن الصغير أو الصغيرة من قبل وليهما سواء كان هذا الولي محرمًا أو غير محرم، وسواء كان قد حج عن نفسه أو لم يحج بعد حجة الإسلام الواجبة عليه.
وإن أحرمت أم الصغير عنه صح لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لتلك المرأة: "وَلَكِ أَجْرٌ" عندما سألته عن الصغير الذي كانت تحمله: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ". ووجه الدلالة بهذا الحديث: أنه لا يضاف الأجر إليها إلا لكونه تبعًا لها في الإحرام، وهذا أحد القولين في مذهب الشافعية.
وفي رواية حنبل عن الإمام أحمد بن حنبل: يُحرم عن الصبي أبوه أو وليه. واختاره ابن عقيل من فقهاء الحنابلة. وقال القاضي الحنبلي: "ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلا وليه؛ لأنه لا ولاية للأم على ماله. والإحرام يتعلق به إلزام مال، فلا يصح من غير ذي ولاية كشراء شيء له، وهذا هو القول الثاني في مذهب الشافعية.
ما يجب أن يفعله الصغير بنفسه من أفعال الحج:
كل ما يمكن الصغير فعله من أعمال الحج بنفسه لزمه فعله ولا ينوب غيره عنه فيه: كالوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ونحوهما، وما عجز عنه قام به الولي نيابة عنه. يدل على ذلك ما أخرجه الإمام الترمذي في "جامعه" عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا إِذَا حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكُنَّا نُلَبِّي عَنِ النِّسَاءِ وَنَرْمِي عَنِ الصِّبْيَانِ.
قال ابن المنذر: كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي، وكان ابن عمر يفعل ذلك. وبه قال عطاء والزهري ومالك والشافعي وإسحاق، وهو مذهب الحنابلة.
وعن ابن عمر أنه كان يحج بصبيانه وهم صغار، فمن استطاع منهم أن يرمي رمى، ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه. ولكن لا يجوز أن يرمي عنه إلا من قدر رمى عن نفسه؛ لأنه لا يجوز أن ينوب عن الغير، وعليه فرض نفسه لم يقم به بعد.
وأما الطواف فإنه إن أمكن الصغير المشي مشى وطاف بنفسه، وإلا طيف به محمولاً أو راكبًا. ولا فرق بين أن يكون الحامل له محرمًا أو غير محرم. أسقط الفرض عن نفسه أو لم يسقطه؛ لأن الطواف للمحمول لا للحامل. وينبغي أن ينوي الحامل أن الطواف للصغير المحمول، فإن لم ينو الطواف عن الصبي المحمول لم يجزئه.
وفي الإحرام ولباسه يفعل بالصغير ما يفعله الكبير في إحرامه، فيجرد الصغير مما لا يجوز لبسه كما يجرد الكبير.
محظورات الإحرام بالنسبة للصغير:
إن كانت هذه المحظورات في اللباس والطيب فلا فدية فيها على الصغير إذا فعلها؛ لأن هذه المحظورات لا تجب فيها الفدية إذا ارتكبها الكبير المحرم سهوًا كما قال الحنابلة والشافعية، وحيث إن عمد الصغير بمنزلة الخطأ والسهو من غير الصغير، فلا يجب عليه شيء إذا فعل هذه المحظورات عامدًا كان أو ساهيًا. وأما ما لا يختلف فيه العمد والسهو من المحظورات: كالصيد، وحلق الشعر، وتقليم الأظافر، فهذه المحظورات إذا فعلها الصغير وجبت عليه الفدية -أي الجزاء-

العمـرة
تعريف العمرة، وصفة مشروعيتها:
العمرة في اللغة: الزيارة، يقال اعتمر فلان، فهو معتمر -أي زار وقصد-. وفي الشرع زيارة البيت الحرام -الكعبة المشرفة- بشروط مخصوصة.
أما صفة مشروعية العمرة: ففيها أقوال عند الفقهاء نوجزها فيما يلي:

أ-في المذهب الحنبلي (الأولى): أن العمرة واجبة على من يجب عليه الحج. روي ذلك عن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، وبه قال الثوري، وإسحاق.
(والثانية): ليست واجبة، روي ذلك عن ابن مسعود، وبه قال مالك، وأبو ثور.
ب-وفي مذهب الشافعية قولان: (الصحيح): أنها فرض، و(الثاني): وهو قول الشافعي القديم، ليست بفرض.
ج-وقال الحنفية: إنها واجبة، وليست فرضًا، والواجب عندهم دون الفرض. احتج القائلون بوجوبها أو فرضيتها بقوله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)، ومقتضى الأمر الوجوب، وبالحديث النبوي الشريف عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلا الْعُمْرَةَ وَلا الظَّعْنَ. قَالَ:" فَحُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ".
واحتج القائلون بعدم وجوبها بما أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:" لا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ".
والظاهر عدم وجوب العمرة، قال الشوكاني -رحمه الله-، والحق عدم وجوبه العمرة؛ لأن البراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك لا سيما مع اعتضادها بالأحاديث القاضية بعدم الوجوب، ويؤيد ذلك اقتصار النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث "بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ"، واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ( وأما الآية الكريمة: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)، فهذا الأمر بالإتمام يكون بعد الشروع فيها، ولا شك أنها تصير واجبة بالشروع فيها، وكلامنا عن وجوبها في الابتداء.
هل يشترط القيام بالعمرة وحدها:
لا يشترط القيام بالعمرة وحدها حتى تكون مجزية، قال ابن قدامة الحنبلي: تجزئ عمرة المتمتع وعمرة القارن، والعمرة وحدها ولو من أدنى الحد.
وقت العمرة وتكرارها:
السنة كلها وقت العمرة، وتجوز في غير أشهر الحج، وفي أشهر الحج، ولكن الحنفية قالوا: يكره فعلها في يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، ولا بأس بفعلها مرارًا في السنة، وبهذا قال الحنابلة، وروي ذلك عن علي، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وعائشة، وعطاء، وطاووس، وعكرمة. إلا أن الإكثار منها والموالاة بينها في سفرة واحدة بأن يخرج من مكة إلى أدنى الحد كالتنعيم مثلاً، فيأتي بعمرة ثم يكرر ذلك مرارًا، هذا الصنيع غير مستحب لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينها، وقد اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أربع عمر في أربع سنوات لم تزد في كل سفرة على عمرة واحدة، وكذلك فعل من كان معه -صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم-.
شروط وجوبها وبيان ركنها وواجباتها:
أما شروطها فهي شروط وجوب الحج التي ذكرناها؛ وهي الإسلام، والعقل، والبلوغ، والاستطاعة… الخ.
أما ركنها فهو الطواف لقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، ولإجماع الأمة على ذلك.
وأما واجباتها فالسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.
أما طواف الوداع فقد قال الفقيه الكاساني الحنفي -رحمه الله تعالى-: لا يجب. ونقل عن بعضهم أنه قال: يجب؛ لأن المعتمر يحتاج إلى وداع البيت كالحاج. واحتج الكاساني لعدم الوجوب بأن الشرع علَّق طواف الوداع بالحج بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ". هذا ويجب الإحرام بالعمرة من الميقات؛ سواء كانت العمرة مفردة أو كان المحرم متمتعًا أو قارنًا.
بيان ما يفسدها وحكمها إذا فسدت:
يفسد العمرة الجماع قبل الطواف بالبيت، وإذا فسدت يمضي فيها ويقضيها، وعليه شاة لأجل الفساد عند الحنفية.
وقال الشافعي: عليه بدنة كما في الحج إذا فسد، فإن جامع بعد طوافه الطواف كله، أو بعد أن طاف أربعة أشواط، وقبل السعي بين الصفا والمروة، أو بعد الطواف وبعد السعي، ولكن قبل الحلق والتقصير.. لا تفسد عمرته، لأن الجماع حصل بعد أداء الركن، وعليه دم -ذبح شاة- لحصول الجماع في الإحرام وقبل التحلل، ولو جامع بعد الحلق أو التقصير لا شيء عليه لخروجه عن الإحرام بالحلق أو التقصير.
محظورات الإحرام بالعمرة:
ما قلناه عن الإحرام بالحج وما يحظر فيه وما لا يحظر، وما يجب فيه وما يندب إليه، يقال في الإحرام بالعمرة.
المرأة كالرجل في العمرة وأحكامها:
والمرأة كالرجل في العمرة وأحكامها، فما نقلناه عن صفة مشروعيتها، وهل هي واجبة أو غير واجبة، وشروط وجوبها وركنها، وواجباتها، وما يفسدها، وما يحظر فيها، وما لا يحظر. كل ذلك يقال في حق عمرة المرأة؛ لأن خطاب الشرع بشأن العمرة يشملها كما في قوله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)، فالخطاب لجميع المسلمين بما فيهم المسلمات
كيفية وجوب الحج أما كيفية وجوب الحج فهو واجب عيني، فيجب على كل من استجمع شرائط الوجوب، ويجب في العمر مرة واحدة، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا"، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قالها- أي الرجل -ثلاثًا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو قلت: نعم، لوجبت؛ ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
وهذا الحديث الشريف صريح في أن الواجب في الحج هو مرة واحدة في العمر، وعلى هذا إجماع الفقهاء، ووجه الحكمة في جعل فريضة الحج مرة واحدة في العمر أنه عبادة لا تؤدى إلا بكلفة عظيمة، ومشقة شديدة بخلاف سائر العبادات، فلو وجب الحج في كل عام لأدى إلى الحرج، وهو منتف شرعًا.
هل وجوبه على الفور أم على التراخي؟
اختلف في وجوبه هل هو على الفور أو التراخي، فقال ابن قدامة الحنبلي: إن من وجب عليه الحج فأمكنه فعله وجب عليه على الفور، ولم يجز له تأخيره، وبهذا قال مالك، والزيدية، وروي مثله عن أبي حنيفة، وقال الشافعي: يجب الحج وجوبًا لا وسعًا، فهو على التراخي وليس على الفور، وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن، والشيباني. واحتجوا بأن فريضة الحج نزلت بعد الهجرة، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تمكن من الحج سنة ثمان وسنة تسع للهجرة، وتمكن كثير من أصحابه من الحج، ولم يحج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا سنة عشر للهجرة حيث حج النبي -صلى الله عليه وسلم- بأزواجه وحج معه أصحابه، فدل ذلك على جواز تأخير الحج، وهذا دليل الشافعية، واحتجوا أيضًا بأنه إذا أخره من سنة إلى سنة أو أكثر، ثم قام بالحج فإنه يعتبر مؤديًا للحج، وليس قاضيًا له بإجماع الفقهاء، ولو حرم التأخير أو فات وقته لكان حجه قضاء لا أداء، كالذي يصلي الظهر بعد فوات وقتها تعتبر صلاته قضاء لها وليس أداء في وقتها.
والحجة للقائلين بأن الحج على الفور بالحديث الشريف الذي رواه أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أراد الحج فليتعجل" ، وفيه دليل على أن الحج واجب على الفور، وروى البيهقي عن أبي أمامة - رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر، ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًا" وروى ابن ماجه في "سننه" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة".
واحتج الحنفية بأن الأمر بالحج يحتمل الفور ويحتمل التراخي، والحمل على الفور أحوط؛ لأنه يدفعه إلى المسارعة في أداء واجب الحج، فإن كان على الفور فقد عمل الواجب، وإن كان على التراخي فلا يضره تعجله في أدائه.
هذا، وإن القائلين بأن الأمر بالحج هو على التراخي يقولون: إن المستحب لمن وجب عليه الحج أن يسارع في فعله لقوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات)؛ ولأنه إذا أخره عرضه للفوات بحوادث الزمان، فكان الحزم والاحتياط المبادرة إلى فعله متى توافرت شرائط وجوبه وأدائه.
والشافعية مع قولهم: إن وجوب الحج هو على التراخي، قالوا: إن من وجب عليه الحج وتمكن من أدائه، فمات بعد ذلك ولم يحج، فإنه يموت عاصيًا على القول الأصح في مذهبهم؛ لأنه إنما جاز له تأخير الأداء بشرط سلامة العاقبة، وإمكان قيامه بالحج قبل وفاته، فإن لم يفعل كان مفرطًا فيكون عاصيًا
الإحــرام 1-مكان الإحرام (المواقيت) 2-ما يُحْرِم به 3-المحصر والإحصار 1-مكان الإحرام (المواقيت) تعيين مكان الإحرام:
مكان الإحرام هو المكان الذي يجب الإحرام فيه على من يريد الحج أو العمرة، وهذه الأمكنة للإحرام تسمى "المواقيت". وقد تعينت هذه المواقيت بتعيين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها، فقد روى الإمام البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: وقَّت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، فهي لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذاك حتى أهل مكة يهلون منها. وهذه المواقيت مجمع عليها بين العلماء، ولا تمنع من تقديم الإحرام عليها. أما ميقات (ذات عرق) فهو لأهل العراق كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما فتح هذان المصران -أي البصرة والكوفة- أتوا عمر -رضي الله عنه- فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حد لأهل نجد قرنًا وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق. وقد حصل الإجماع على أن "ذات عرق" ميقات أهل العراق، فاختلفوا في أن "ذات عرق" صارت ميقاتهم بتوقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو باجتهاد عمر -رضي الله عنه-، والأصح هو الثاني كما هو ظاهر لفظ ابن عمر كما رواه عنه الإمام البخاري في "صحيحه"، وعليه نص الشافعي. أما الأحاديث الواردة في توقيت "ذات عرق" لأهل العراق فهي أحاديث ضعيفة. وقال ابن قدامة الحنبلي -رحمه الله-: يجوز أن يكون عمر ومن سأله لم يعلموا توقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ذات عرق" لأهل العراق، فقال ذلك برأيه فأصاب، ووافق قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان -رضي الله عنه- كثير الإصابة.
أصناف الناس بالنسبة للمواقيت:
الناس في حق المواقيت التي يحرمون منها ثلاثة أصناف، وهي:
الصنف الأول: ويسمون أهل الآفاق، وهم الذين منازلهم خارج المواقيت الخمسة التي ذكرناها في الفقرة السابقة. وهؤلاء لا يجوز لأحد منهم أن يجاوز ميقاته إذا أراد الحج أو العمرة إلا محرمًا. هذا إذا قصد مكة من هذه المواقيت، أما إذا قصدها من طريق آخر غير مسلوك لا يمر على هذه المواقيت، فإنه يحرم إذا بلغ موضعًا يحاذي موضع هذه المواقيت. ولو كان في البحر فصار في موضع لو كان مكان البحر يابسة لم يكن له أن يجاوزه إلا بإحرام فإنه يحرم. ولو كان في هذه المواقيت من ليس من أهلها، فأراد الحج أو العمرة، فحكمه حكم أهل ذلك الميقات، وكذلك من مر على هذه المواقيت من هو ليس من أهلها، كالشامي يمر على ميقات أهل المدينة مريدًا الحج أو العمرة لزمه الإحرام، ولم يجز له تجاوز هذا الميقات بدون إحرام لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هن لأهلهن ولمن مر بهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة".
الصنف الثاني: أهل الحل، وهم الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة خارج الحرم، فميقات هؤلاء للحج أو للعمرة دويرة أهلهم، أو حيث شاءوا من الحل بين دويرة أهلهم وبين الحرم، فعليهم أن يحرموا من هذا الموضع.
الصنف الثالث: أهل الحرم، وهم أهل مكة فميقاتهم للحج الحرم، وميقاتهم للعمرة الحل، فيحرم المكي من دويرة أهله للحج أو حيث شاء من الحرم، ويحرم للعمرة من الحل وهو التنعيم أو غيره من أماكن الحل. والإحرام من المسجد أولى؛ لأن الإحرام عبادة وإتيانها في المسجد أولى. ومن كان في الحرم من غير أهله، وأراد الحج أو العمرة فحكمه حكم أهل الحرم؛ لأنه صار منهم في حكم الإحرام.
الإحرام قبل الميقات:
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، وتثبت في حقه أحكام الإحرام. ولكن الأفضل الإحرام من الميقات ويكره قبله، وهذا عند الحنابلة. وروي نحو ذلك عن عمر وعثمان، وبه قال الحسن وعطاء ومالك وإسحاق.
وقال أبو حنيفة: تقديم الإحرام على المواقيت أفضل إذا كان يملك نفسه أن يمنعها ما يمنع منه الإحرام.
وفي مذهب الشافعية قولان؛ (الأول): الأفضل أن يحرم من الميقات، (والثاني):
الأفضل أن يحرم من داره -أي من قبل ميقات الإحرام-.
تجاوز الميقات بدون إحرام:
من جاوز الميقات غير محرم وهو يريد الحج أو العمرة فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه إن أمكنه، سواء تجاوزه عالمًا به أو جاهلاً، عالمًا تحريم تجاوزه بلا إحرام أو جاهلاً ذلك، فإن رجع إليه فأحرم منه فلا شيء عليه، ولا خلاف في ذلك. وإن أحرم من دون الميقات الذي يجب الإحرام منه فعليه دم -أي فدية ذبح شاة-، سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع، وبهذا قال الحنابلة ومالك وابن المبارك.
وعند الشافعية تفصيل، فقد قالوا: إن جاوز الميقات وأحرم دونه نظرنا؛ فإن كان له عذر بأن يخشى أن يفوته الحج أو أن الطريق مخوف لم يعد وعليه دم. وإن لم يخش شيئًا لزمه أن يعود، فإن لم يرجع لزمه الدم. وإن رجع نظرنا: فإن كان قبل أن يتلبس بنسك -أي بعمل من أعمال الحج- كالطواف والسعي سقط عنه الدم؛ لأنه قطع المسافة بالإحرام وزاد عليه فلم يلزمه دم، وإن عاد بعدما وقف بعرفة أو بعدما طاف لم يسقط عنه الدم؛ لأنه عاد بعد فوات الوقت، فلم يسقط عنه الدم.
وعند الحنفية: إن أحرم دون الميقات ولم يقم بفعل من أفعال الحج، ثم عاد إلى الميقات، فلا شيء عليه.
من جاوز الميقات لا يريد حجًا ولا عمرة:
ومن جاوز الميقات وهو لا يريد حجًا ولا عمرة، ولا يريد دخول الحرم وإنما يريد قضاء حاجته فيما سواه، فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف، ولا شيء عليه في ترك الإحرام. وإذا بدا له أن يحرم لطروء فكرة الحج أو العمرة له، ثم العزم على تنفيذ هذه الفكرة، فإنه يحرم من موضعه وإن كان دون الميقات ولا شيء عليه، وهذا ظاهر كلام الإمام الخرقي الحنبلي، وبه قال مالك، والثوري، والشافعي، وصاحبا أبي حنفية. وحكى ابن المنذر عن الإمام أحمد في الرجل يخرج لحاجة وهو لا يريد الحج، فجاوز الميقات، ثم أراد الحج فإنه يرجع إلى ميقاته فيحرم، وبه قال إسحاق.
وقال ابن قدامة الحنبلي: والقول الأول أصح -أي يحرم من موضعه-.
هل يجب الإحرام على كل من يريد الدخول إلى أرض الحرم؟
ومن يريد دخول أرض الحرم، إما مكة أو غيرها من أرض الحرم، فهل يلزمه الإحرام من الميقات الذي يمر به مع أنه لا يقصد حجًا ولا عمرة؟
والجواب على ذلك يختلف باختلاف الحالات على النحو التالي:
الحالة الأولى: من يدخل أرض الحرم لقتال مباح، أو من خوف، أو لحاجة متكررة كالحشاش والحطاب وناقل المواد الغذائية ونحو هؤلاء، ومن كانت له ضيعة يتكرَّر دخوله إليها وخروجه منها، فهؤلاء لا إحرام عليهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة يوم الفتح حلالاً غير محرم وعلى رأسه المغفر. وكذلك أصحابه -رضي الله عنهم- ولا نعم أحدًا منهم أحرم يومئذ، وبهذا قال الشافعي.
وقال الحنفية: لا يجاوز أحد الميقات إلا محرمًا؛ سواء أراد دخول مكة لحج أو لعمرة أو لتجارة أخرى.
الحالة الثانية: من لا يجب عليه الحج كالصبي إذا جاوز الميقات وبلغ، والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات، وأراد الإحرام لحج أو لعمرة فإنهما يحرمان من موضعهما، ولا دم -فدية- عليهما، وبهذا قال الحنابلة ومالك والثوري والأوزاعي والحنفية.
الحالية الثالثة: من يدخل أرض الحرم لغير حاجة متكررة ولا قتال مباح فهذا لا يجوز له تجاوز الميقات بغير إحرام، وبهذا قال الحنابلة وأبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: لا يجب عليه الإحرام، وعن أحمد ما يدل على ذلك
2-ما يُحْرِم به
أنواع ما يحرم به:
ما يحرم به في الأصل ثلاثة أنواع: الحج وحده، والعمرة وحدها، والعمرة مع الحج. وعلى حسب تنوع ما يحرم به يتنوع المحرمون، وهم في الأصل ثلاثة أنواع: مفرد بالحج، ومفرد بالعمرة، وجامع بينهما. فالمفرد بالحج هو الذي يحرم بالحج لا غير. والمفرد بالعمرة هو الذي يحرم بالعمرة لا غير. وأما الجامع بينهما فنوعان: قارن، ومتمتع.
ومما تقدم يعرف أن أنواع ما يحرم به هي: الإفراد، والقران، والتمتع.
ومن يحمر بهما يسمى على التوالي: المفرد، والقارن، والمتمتع.
ونبين فيما يلي المقصود بكل منهم:
أولاً: المفرد:
وهو الذي يحرم بالحج لا غير، أو يحرم بالعمرة لا غير. والإحرام بالحج وحده -أي الإفراد بالحج- مشروع، وإنما اختلف العلماء في درجة أفضليته بالنسبة للنوعين الآخرين: القران والتمتع، كما سنبينه فيما بعد.
ثانيًا: القران:
القارن في عرف الشرع اسم لمن يجمع بين إحرام العمرة وإحرام الحج قبل قيامه بركن العمرة وهو الطواف، فيأتي بالعمرة أولاً، ثم يأتي بالحج قبل أن يحل من العمرة بالحلق أو التقصير، سواء جمع بين الإحرامين بكلام موصول أو مفصول، حتى لو أحرم بالعمرة ثم أحرم بعد ذلك بالحج قبل الطواف للعمرة، كان قارنًا لوجود معنى القران، وهو الجمع بين الإحرامين.
ثالثًا: التمتع:
وأما المتمتع فهو في عرف الشرع اسم لمن يحرم بالعمرة، ويأتي بأفعالها من الطواف والسعي في أشهر الحج، ثم يحرم بالحج في أشهر الحج، ويحج من عامه ذلك، سواء حل من إحرام العمرة بالحلق أو التقصير -إذا لم يكن قد ساق الهدي لمتعته- أو لم يحل لكونه ساق الهدي لمتعته.
وقال الشافعي: سوق الهدي لا يمنع من التحلل من العمرة. فصار المتمتع نوعين: متمتع ساق الهدي، ومتمتع لم يسق الهدي، فالذي لم يسق الهدي يجوز له التحلل من عمرته بلا خلاف، وإذا تحلل صار حلالاً كسائر المتحللين إلى أن يحرم بالحج، وأما الذي ساق الهدي فإنه لا يحل له التحلل إلا يوم النحر بعد الفراغ من الحج، وهذا عند الحنفية والحنابلة ومن وافقهم. وعند الشافعي ومالك ومن وافقهما: يجوز له التحلل؛ لأن سوق الهدي لا يمنع من ذلك.
الأفضل من هذه الأنواع الثلاثة:
أما الأفضل من الأنواع الثلاثة -مع جوازها باتفاق العلماء- فهو التمتع ويليه الإفراد ثم القران، وهذا عند الإمام أحمد ومن روي عنه اختيار التمتع واعتباره هو الأفضل: ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة والحسن وعطاء وطاووس ومجاهد وجابر بن زيد والقاسم وسالم وعكرمة.
وعند الشافعية على الصحيح من مذهبهم: الأفضل هو الإفراد، ثم التمتع، ثم القران.
وعند الحنفية: القران أفضل، ثم التمتع، فالإفراد.
شروط وجوب الهدي:
يشترط لوجوب الهدي على المتمتع جملة شروط هي:
(أولاً): أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
(الثاني): أن يحج من عامه الذي أحرم فيه لعمرته.
(الثالث): أن لا يسافر بين العمرة والحج سفرًا بعيدًا تقصر فيه الصلاة.
(الرابع): أن يحل من إحرامه العمرة قبل إحرامه بالحج.
(الخامس): أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، وهم أهل الحرم، ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر، نص عليه أحمد، وروي ذلك عن عطاء وبه قال الشافعي. وقال مالك: هم أهل مكة. وقال الحنفية: هم من كانت منازلهم دون الميقات.
المتمتعة إذا حاضت ماذا تفعل؟
المرأة إذا دخلت مكة متمتعة -أي محرمة بإحرام العمرة- فحاضت أو نفست قبل الطواف للعمرة، لم يجز لها أن تطوف بالبيت؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، ولا صلاة على الحائض أو النفساء، ولأنها ممنوعة من دخول المسجد، ولا يمكنها أن تحل من عمرتها ما لم تطف بالبيت. ولكن إن خشيت فوات الحج أحرمت بالحج مع عمرتها وتصير قارنة، وهذا مذهب الحنابلة، وهو قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، وكثير من أهل العلم.
وقال أبو حنيفة: ترفض العمرة وتهل بالحج. واحتج أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- بما روي عن عائشة قالت: أهللنا بعمرة فقدمت إلى مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت، ولم أسع بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج، ودعي العمرة". قالت عائشة: ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع عبد الرحمن بن أبى بكر إلى التنعيم -مكان قريب من مكة وهو خارج أرض الحرم- فاعتمرت معه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "هذه عمرة مكان عمرتك". وهذا الحديث يدل على أنها رفضت عمرتها -أي تركت وتخلت عن عمرتها-، وأحرمت بحج من وجوه ثلاثة: (الأول): قوله -صلى الله عليه وسلم- "دعي عمرتك"، (الثاني): قوله: "وامتشطي"، (الثالث): قوله: "وهذه عمرة مكان عمرتك".
والحجة لقول الجمهور حديث جابر، وفيه: "وأقبلت عائشة -رضي الله عنها- بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت -أي حاضت- حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، ثم دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -على عائشة -رضي الله عنها- فوجدها تبكي، فقال: "ما شأنك؟" قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلِّي بالحج"، ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طفت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا". فقال عائشة: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فاذهب بها يا عبد الرحمن -عبد الرحمن بن أبي بكر- فاعمرها من التنعيم". وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في "صحيحه". وروى الإمام مسلم أيضًا عن طاووس عن عائشة -رضي الله عنها-: أنها أهلت بعمرة فقدمت -أي إلى مكة- ولم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها، وقد أهلَّت بالحج، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النفر: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك"، فأبت فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج.
وهذان الحديثان يدلان على ما ذهب إليه الجمهور، ولأن إدخال الحج على العمرة جائز بالإجماع من غير خشية فوات الحج، فمع خشية الفوات أولى. وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من كان معه هدي في حجة الوداع أن يهل بالحج مع العمرة، ومع إمكان الحج مع بقاء العمرة لا يجوز رفضها لقول الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله}. ولأن الحائض متمكنة من إتمام عمرتها بلا ضرر فلم يجز رفضها كغير الحائض. ويحتمل أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "دعي العمرة" أي دعيها بحالها وأهلي بالحج معها، أو دعي أفعال العمرة فإنها تدخل في أفعال الحج.
وأما اعتمار عائشة -رضي الله عنها- من التنعيم ورغبتها في ذلك مع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لها: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك"، فإنها -رضي الله عنها- أرادت عمرة منفردة كما حصل لباقي الناس، فلما اعتمرت عمرة منفردة غير مندرجة في أفعال الحج، قال لها النبي- صلى الله عليه وسلم- كما جاء في بعض روايات الحديث: "هذه مكان عمرتك"، أي التي كنت تريدين حصولها منفردة غير مندرجة بأفعال الحج فمنعك الحيض من ذلك. وهكذا يقال في معنى قولها: يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج، أي: يرجعون بحج منفرد وعمرة منفردة، وأرجع أنا وليس لي عمرة منفردة. وإنما حرصت السيدة عائشة -رضي الله عنها- على ذلك لتكثر أفعالها، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يوافق عائشة -رضي الله عنها- فيما تحبه وتهواه فيما هو جائز، فقد روى الإمام مسلم عن جابر في بعض روايات هذا الحديث -حديث حجة النبي صلى الله عليه وسلم- ومعه زوجته عائشة -رضي الله عنها- وأصحابه الكرام، والذي رويناه من قبل -قول جابر-: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهلاً إذا هويت -أي عائشة- الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر، فأهلت بعمرة من التنعيم.
قال الإمام النووي في تعليقه على قول جابر هذا: معناه إذا هويت عائشة لا نقص فيه في الدين، مثل طلبها الاعتمار وغيره، أجابها إليه. وقول جابر: وكان -صلى الله عليه وسلم- سهلاً، أي: سهل الخلق، كريم الشمائل، لطيفًا ميسرًا في الخلق، كما قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}، وفيه دلالة على حسن معاشرة الأزواج، قال الله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} لا سيما فيما كان من باب الطاعة.
وأما الحديث الذي احتج به الأحناف وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "انقضي رأسك وامتشطي"، فالحديث صحيح رواه الإمام مسلم، ولكن ليس في هذه العبارة ما يلزم أو يدل على إبطال العمرة، قال الإمام النووي في تعليقه على هذه العبارة: فلا يلزم منه إبطال العمرة؛ لأن نقض الرأس والامتشاط جائزان عندنا في الإحرام بحيث لا ينتف شعرًا، ولكن يكره الامتشاط إلا لعذر، وتأول العلماء فعل عائشة -رضي الله عنها- على أنها كانت معذورة، بأن كان في رأسها أذى، فأباح لها الامتشاط. وقيل: ليس المراد بالامتشاط هنا حقيقة الامتشاط بالمشط بل تسريح الشعر بالأصابع للغسل لإحرامها بالحج، لا سيما إن كانت قد لبدت رأسها كما هو المندوب، وكما فعله -صلى الله عليه وسلم- فلا يصح غسلها إلا بإيصال الماء إلى جميع شعرها ويلزم من هذا نقضه. والراجح قول الجمهور لما احتجوا به
3-المحصر والإحصار
بم يكون الإحصار؟
الإحصار الذي يصير به المحرم محصرًا يكون من العدو؛ سواء كان العدو المانع كافرًا أو مسلمًا لتحقق معنى الإحصار منهما، وهو منع المحرم عن المضي في موجب إحرامه، فيدخل تحت عموم قوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).
والإحصار من العدو محل اتفاق العلماء، وسواء كان المحرم محرمًا بحج أم عمرة أم بهما في قول أحمد بن حنبل وأبي حنيفة والشافعي. وحكي عن مالك أن الإحصار لا يكون بالنسبة لمن أحرم بعمرة؛ لأنه لا يخاف الفوات. قال ابن قدامة الحنبلي -رحمه الله تعالى- في "المغني" عن هذا القول المحكي عن مالك: "ليس بصحيح لأن الآية: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) نزلت في حصر الحديبية وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه محرمين بعمرة فحلوا جميعًا".
أما إذا كان الإحصار بسبب المرض أو ضياع نفقة الحج، أو الحبس أو نحو ذلك من الموانع فقد اختلف الفقهاء في اعتبار تحقق الإحصار بهذه الموانع؛ فالمشهور في مذهب الحنابلة أن من يتعذَّر عليه الوصول إلى الكعبة المشرفة بغير حصر العدو من مرض أو عرج أو ذهاب نفقة ونحو ذلك: أنه لا يعتبر محصرًا، ولا يثبت في حقه حكم الإحصار، وهو التحلل من الإحرام، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق.
وعن الإمام أحمد رواية أخرى أنه يعتبر إحصارًا، ويصير به محصرًا، وله التحلل بذلك، وهو قول عطاء والنخعي والثوري والحنفية وأبي ثور.
والحجة لهذا القول: (أولاً): عموم قوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). والإحصار هو المنع، والمنع كما يكون من العدو يكون من المرض ونحوه. (ثانيًا): إنما يصير المحرم محصرًا من العدو، وما يترتب على ذلك من جواز التحلل له لمعنى هو موجود في المرض وغيره، وهو الحاجة إلى الترفيه والتيسير لما يلحقه من الضرر والمشقة والحرج بإبقائه محرمًا مدة مديدة، والحاجة إلى الترفيه والتيسير متحققة في المرض ونحوه، فيتحقق به الإحصار، ويثبت حكمه في حق المحرم، بل هو أولى بثبوت هذا الحكم، وهو التحلل؛ لأنه قد يمكنه دفع شر العدو بالقتال، فيدفع الإحصار عن نفسه، ولا يمكنه دفع المرض عن نفسه، فإذا اعتبر الإحصار بالعدو عذرًا، فاعتبار الإحصار بالمرض عذرًا أولى.
المرأة المحرمة تصير محصرة بموت زوجها المحرم منها:
إذا أحرمت المرأة ومعها زوجها أو معها محرم، فمات الزوج أو المحرم فإنها تعتبر محصرة؛ لأنها ممنوعة شرعًا من المضي في موجب الإحرام -أي الحج أو العمرة- بلا زوج ولا محرم من أقاربها عند عدم الزوج. وكذلك إذا أحرمت بحجة التطوع ولها محرم من أقاربها وزوج، فمنعها زوجها من الحج تصير محصرة؛ لأن للزوج أن يمنعها من حجة التطوع، كما أن له أن يمنعها من صوم التطوع، فصارت بمنع الزوج ممنوعة شرعًا، فصارت محصرة كالممنوع حقيقة بالعدو ونحوه.
وإن أحرمت المرأة بحجة الإسلام ولا محرم لها ولا زوج، فهي محصرة لأنها ممنوعة عن المضي في موجب الإحرام لحق الله -تعالى- وهذا المنع أقوى من منع العباد. ولكن لو كان لها محرم، ولها استطاعة على نفقته ونفقتها للحج عند خروج أهل بلدها للحج، فلا تكون محصرة ولو منعها زوجها؛ لأنه ليس له منعها من فريضة الحج، كما ليس له منعها من الفرائض كالصلوات المكتوبة وصيام رمضان.
حكم الإحصار:
يتعلق بالإحصار جواز التحلل من الإحرام، وقضاء ما أحرم به بعد التحلل، وهذان الأمران هما حكم الإحصار، ونتكلم عن كل واحد منهما بإيجاز:
أولاً: حواز التحلل من الإحرام:
ودليل هذا الجواز قوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)، وفيه إضمار، ومعناه -والله أعلم- فإن أحصرتم عن إتمام الحج والعمرة، وأردتم أن تحلوا -أي تتحللوا من إحرامكم- فاذبحوا ما استيسر من الهدي. والتحلل هو فسخ الإحرام والخروج منه بالطريق الموضوع له شرعًا.
وعلى من تحلل من إحرامه بسبب الإحصار: ذبح الهدي في قول أكثر أهل العلم، وحكي عن مالك: ليس عليه هدي؛ لأنه تحلل أبيح له من غير تفريط منه. وقد رد ابن قدامة الحنبلي على هذا القول المحكي عن مالك، فقال: "وليس بصحيح -أي قول مالك المحكي عنه، لأن الله -تعالى- قال: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).
وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه، فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه، وإن لم يكن معه لزمه شراؤه إن أمكنه الشراء، ويجزيه في ذلك شاة أو سبع بدنة، وله أن يذبحه في موضع حصره في أرض الحل أو أرض الحرم نص عليه أحمد، وهو قول مالك، والشافعي؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحر هديه في موضعه.
وعن أحمد: ليس للمحصر نحر هديه إلا في أرض الحرم فيبعثه إلى هناك ويواطئ رجلاً على نحره في وقت يتحلل فيه، وهذا قول الحنفية فقد قالوا: يبعث بالهدي إلى الحرمين أو يبعث بثمنه ليشترى له به هديًا فيذبح عنه، وما لم يذبح لا يتحلل من إحرامه.
ومتى كان المحصر محرمًا بعمرة فله التحلل ونحر هديه وقت حصره؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه زمن الحديبية حلوا ونحروا هداياهم بها -أي في الحديبية- قبل يوم النحر.
وإن كان المحصر محرمًا بحج مفردًا أو قارنًا فكذلك يفعل في إحدى الروايتين عن أحمد وهو قول أبي حنيفة. وفي الرواية الثانية عن أحمد: لا يحل ولا ينحر هديه إلا يوم النحر -أي يوم العاشر من ذي الحجة، وهو اليوم الأول من عيد الأضحى-، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
وإذا زال الحصر عن المحصر قبل تحلله فعليه أن يمضي لإتمام عمرته أو حجه، ولا خلاف في ذلك، وإن زال الحصر بعد فوات الحج وكان محرمًا بالحج تحلل بعمل عمرة. فإن لم يكن مع المحصر هدي ولا يقدر على تحصيله بشراء أو بغير شراء، فعليه صيام عشرة أيام، ثم يحل من إحرامه، وليس له أن يتحلل إلا بعد الصيام، وهذا مذهب الحنابلة.
وقال الشافعية: إن لم يجد الهدي بأن لم يكن معه، ولم يجد ثمنه أو كان محتاجًا إلى ثمنه، أو كان يباع بأكثر من ثمن مثله في محله فالأظهر أن له بدلاً، وهو طعام بقيمة الشاة (الهدي) يوزعه على الفقراء، فإن عجز عن الطعام صام حيث شاء عن كل مدِّ طعامٍ صيام يوم. والقول الثاني عند الشافعية: البدل عن الهدي هو صيام عشرة أيام. وله إذا انتقل إلى الصوم التحلل في الحال في الأظهر؛ لأن التحلل إنما شرع لدفع المشقة، فلو قلنا بعدم التحلل إلا بعد الصيام فإن المشقة تلحقه لتضرره بالمقام على إحرامه.
الاشتراط عند الإحرام وأثره عند الإحصار:
ولو اشترط في ابتداء إحرامه أنه يحل من إحرامه متى مرض، أو ضاعت نفقته للحج، أو نفدت أو قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني. فهذا الاشتراط له أثره عند إحصاره؛ إذ يجوز له التحلل من إحرامه إذا أصابه إحصار بعدو أو بغيره من الموانع، ولا شيء عليه لا هدي ولا قضاء ولا غيره.
وحكم التحلل من الإحرام بسبب الإحصار صيرورته حلالاً يباح له تناول جميع ما حظره الإحرام لزوال الحاظر -المانع- فيعود حلالاً كما كان قبل الإحرام
حكم الحج الفاسد تمهيد ومنهج البحث:
إذا فسد الحج بالجماع فإن حكمه وجوب الكفارة -أي الفدية، أي الجزاء- والمضي في أفعال الحج حتى يتم، وقضاء الحج.
وعلى هذا نقسم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الكفارة. المطلب الثاني: المضي في الحج الفاسد. المطلب الثالث: وجوب قضاء الحج.
المطلب الأول
الكفارة
وجوبها ونوعها:
لا خلاف في وجوب الكفارة إذا فسد الحج بالجماع، وإنما الخلاف في نوعها فهي عند الجمهور بدنة من الإبل ذكرًا كانت أو أنثى، وممن قال بهذا القول ابن عباس، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، ومالك، والشافعي، وهو مذهب الحنابلة.
وقالت الحنفية: الكفارة ذبح شاة، وإنما كانت شاة لا بدنة؛ لأن الواجب بفساد الحج القضاء مع الشاة، بخلاف ما لو حصل الجماع بعد الوقوف بعرفة، فإن الواجب بدنة؛ لأن الحج لم يفسد، وبالتالي لا يجب القضاء فوجبت الدية.
من تلزمه الكفارة بالجماع، الزوج أو الزوجة؟
عند الحنابلة: في حالة المطاوعة، على كل واحد من الزوجين بدنة وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والنخعي، والضحاك، ومالك، والحكم، وحماد. فقد روى البيهقي في "سننه" عن مجاهد، عن ابن عباس قوله: إذا جامع المحرم زوجته المحرمة، فعلى كل واحد منهما بدنة. وروى البيهقي أيضًا أن رجلاً وامرأته من قريش لقيا ابن عباس بطريق المدينة، فقال الرجل: أصبت أهلي، فقال ابن عباس: أما حجكما هذا فقد بطل، فحجوا عامًا قابلاً، ثم أهلا من حيث أهللتما حتى إذا بلغتما حيث وقعت على امرأتك ففارقها، فلا تراك ولا تراها حتى ترميا الجمرة واهد ناقة ولتهد هي ناقة (وهذا الهدي هو الكفارة).
ولأن كلاً من الزوجين مجامع فتلزمه الكفارة. وروي عن الإمام أحمد أنه قال: أرجو أن يجزئهما كفارة واحدة، وروي ذلك عن عطاء، وهو مذهب الشافعي؛ لأنه جماع واحد فلم يوجب أكثر من بدنة واحدة كحالة الإكراه.
وعند الحنفية: تجب شاة على كل من الزوجين في فساد حجهما؛ لأن الواجب عندهم في فساد الحج شاة وليس بدنة كما ذكرنا من قبل.
الكفارة في حالة إكراه المرأة على الجماع:
وإذا أكرهت المرأة المحرمة على الجماع فلا كفارة عليها، ولا يجب على الزوج أن يخرج الكفارة عنها، نص على ذلك الإمام أحمد؛ لأنه جماع يوجب الكفارة فلم تجب به حال الإكراه أكثر من كفارة واحدة كما في الصيام، وتجب هذه الكفارة على الزوج وحده وهو الملزم بإخراجها، وهذا مذهب الحنابلة، وهو قول إسحاق، وأبي ثور، وابن المنذر. وعن أحمد رواية أخرى أن على الزوج أن يفدي -أي يخرج الكفارة- عن زوجته؛ لأن إفساد الحج وجد منه في حقهما، فكان عليه لإفساده حجها كفارة قياسًا على حجه.
وعند الحنفية: تخرج الزوجة المكرهة على الجماع كفارة فساد حجها -وهي شاة-، ولا ترجع بها على زوجها -أي أنها تتحملها وحدها-.
وعند الشافعية في معالجة هذه المسألة طريقان مشهوران في مذهبهم: (أحدهما): يجب عليها بدنة في مالها قولاً واحدًا. (والطريق الثاني): فيه ثلاثة أقوال: (الأول): تجب على كل واحد منهما بدنة. و(الثاني): تجب عليه بدنة عنه وعنها. و(الثالث): تجب عليه بدنة عن نفسه فقط ولا شيء عليها.
وفي "نهاية المحتاج" للرملي في فقه الشافعية: جعل الكفارة على الزوج وحده حتى في حال المطاوعة من قبل الزوجة، فقد جاء فيه: وتجب به -أي بالجماع- المفسد لحج أو عمرة ولو نفلاً بدنة من الإبل ذكرًا كانت أو أنثى لفتوى جمع من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- بذلك من غير أن يعرف لهم مخالف. والوجوب في الجميع على الرجل دونها وإن فسد نسكها -أي حجها وعمرتها-، بأن كانت محرمة مميزة مختارة عامدة عالمة بالتحريم كما في كفارة الصوم -أي إذا جامعها وهو صائم وهي صائمة-، فالكفارة عنه فقط سواء أكان الواطئ زوجًا أم سيدًا أم واطئًا بشبهة. وما ذكره في "المجموع" من حكاية الاتفاق على لزوم البدنة لها طريقة مرجوحة والمعول عليه ما مر.
ومن هذا يفهم أن الرأي المستقر في مذهب الشافعية والمعول عليه هو ما ذكره الرملي وهو وجوب الكفارة على الزوج وحده، وهي واحدة وعنه فقط.
تكرر الجماع هل يوجب تكرر الكفارة:
وقال الحنابلة: إذا تكرر الجماع، فإن أخرج المحرم كفارة لفساد حجه بالجماع ثم جامع مرة ثانية، فعليه للجماع الثاني كفارة ثانية، وإن لم يكفر عن الجماع الأول ثم جامع مرة ثانية فكفارة واحدة تجزيه؛ لأنه جماع موجب للكفارة فإذا تكرر قبل التكفير عن الجماع الأول لم يوجب كفارة ثانية، كما فيمن أفسد صيامه بالجماع وكرره.
وعند الحنفية: إذا كرر الجماع في مجلس واحد قبل الوقوف في عرفة لم يجب عليه إلا دم واحد -أي كفارة واحدة، وهي شاة- لأن الواجب عندهم في إفساد الحج هو ذبح شاة كما ذكرنا. وإن كان تكرر الجماع في مجلسين مختلفين وجب فيه كفارتان في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. وقال محمد صاحب أبي حنيفة: تجب فيه كفارة واحدة.
وعند الشافعية: إذا كرر المحرم الجماع ففي الجماع الأول بدنة وفي الجماع الثاني شاة، وهذا على أصح الأقوال في مذهبهم كما قالوا. فإن جامع مرة ثالثة ورابعة وأكثر ففي الأول بدنة، ولكل مرة بعده شاة على أظهر الأقوال عندهم.
ما هي الكفارة الواجبة في الحج الفاسد؟
قلنا: إن الكفارة في فساد الحج بدنة على رأي الجمهور، وشاة على رأي الحنفية على التفصيل الذي بيناه. ولكن هل الكفارة لا تكون إلا بهما؟
قال الشافعية: الواجب في الكفارة بدنة، فإن عجز عنها فبقرة، وإن عجز عن البقرة فسبع شياه، فإن عجز قوم البدنة بدراهم بسعر مكة حال الوجوب، ثم قوم الدراهم بالطعام ويتصدق به على الفقراء، فإن عجز عنه صام عن كل مد من الطعام -البر يومًا، وهذا كله ما صرح به الشافعية

المطلب الثاني
المضي في الحج الفاسد

هل يجب المضي في الحج إذا فسد؟
إن التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء: إتمام أفعال، أو بالتحلل عند الإحصار، أو بالعذر إذا شرط عند الإحرام. وعلى هذا فإذا فسد الحج بالجماع، فلا يكون هذا الفساد سببًا للخروج من الحج، وإنما يجب إتمامه والمضي في أفعاله، وليس لمن فسد حجه الخروج والتحلل منه، وهذا قول الحنابلة، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عباس، وأبي هريرة -رضي الله عنهم-، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي.
وقال الحسن ومالك: يجعل الحجة عمرة، ولا يقيم على حجة فاسدة. وقال داود الظاهري: يخرج -أي يتحلل- بالإفساد من الحج والعمرة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
واحتج ابن قدامة الحنبلي لمذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور بعموم قوله تعالى:
{وأتموا الحج والعمرة لله}؛ لأنه قول من ذكروا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف.
والحديث الشريف: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" لا يصلح حجة لدفع مذهب الجمهور؛ لأن المضي في الحج بعد فساده إنما كان بأمر الله فلا يجوز رده. وأيضًا فإن الإحرام في شرع الإسلام عقد لازم يجب المضي بمقتضاه حتى نهاية أفعال الحج. وأخيرًا فيمكن أن يحتج لمذهب الجمهور بأقوال الصحابة وفتاواهم.
يلزم من فسد حجه ما كان يلزمه قبل الفساد:
ومقتضى وجوب المضي بالحج الفاسد أن من فسد حجه يلزمه أن يفعل كل ما كان يجب عليه أن يفعله لو لم يفسد حجه، مثل الوقوف بعرفة، والمبيت في مزدلفة، ورمي الجمرات، ونحو ذلك، كما أن عليه أن يجتنب بعد فساد حجه كل ما كان يجب عليه أن يجتنبه قبل فساده كالجماع، وقتل الصيد، والتطيب، ولبس ما لا يحل لبسه للمحرم ونحو ذلك.
يلزم في فساد الحج ما يلزم في صحيحه:
ويلزم في الحج الفاسد ما يلزم في الحج الصحيح، وعلى ذلك فمن فسد حجه فعليه إخراج الفدية -أي الكفارة أو الجزاء- إذا صدر منه ما يوجب ذلك، بأن ارتكب شيئًا من محظورات الإحرام، كما يجب ذلك في ارتكاب محظورات الإحرام لو لم يفسد حجه، ومعنى ذلك كله أن الإحرام يبقى في حقه قائمًا وتلزمه أحكامه ويلزمه جزاء كل مخالفة يرتكبها بأن يفعل ما هو من محظورات الإحرام

المطلب الثالث
وجوب القضاء

ماذا يقضي من فسد حجه؟
من فسد حجه، وكانت الحجة التي أفسدها واجبة عليه بأصل الشرع أو بالنذر، فإن الحجة التي يأتي بها تكون مجزئة عن الأولى؛ لأن الفاسد إذا انضم إليه القضاء أجزأ عما يجزئ عنه الأول لو لم يفسده، وإن كانت الحجة التي أفسدها حجة تطوع وجب قضاؤها أيضًا؛ لأنه بالدخول في إحرامها صارت عليه واجبة؛ لأن النفل بالشروع فيه يصير واجبًا كما هو معروف. وعلى هذا فالقضاء على الحج الذي أفسده يقع على الصفة التي كان عليها الحج قبل فساده، فإن كان فرضًا وقع القضاء عنه فرضًا، وإن كان نفلاً وقع عنه نفلاً.
ولو أحرم بالقضاء -قضاء الحج الذي أفسده- فأفسده بالجماع لزمته الكفارة، ولزمه قضاء واحد، ويقع هذا القضاء عن الحج الأول الذي أفسده.
ودليل وجوب القضاء قول الصحابة الذين ذكرنا أقوالهم في وجوب القضاء، ولم يعرف لهم مخالف؛ ولأن من فسد حجه لم يأت بالحج المأمور به على الوجه المشروع، وهو أن يأتي بحج خال عن الجماع، فيبقى الواجب في ذمته فيلزمه تفريغ ذمته منه عن طريق قضائه.
ميقات القضاء:
ويجب على من فسد حجه أن يحرم في حجة القضاء من الميقات الذي أحرم منه في الأداء -أي في حجه الأول الذي أفسده-، أو يحرم من دويرة أهله، وهذا عند الشافعية.
وقال الحنابلة: يحرم من أبعد الموضعين: الميقات أو من موضع إحرامه الأول، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب وغيره.
هل يجب القضاء على الفور؟
قال الحنابلة: يكون قضاء الحج الفساد على الفور، وقال ابن قدامة الحنبلي: لا نعلم فيه مخالفًا، وهو القول الأصح عند الشافعية لما روي عن عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة أنهم قالوا: يقضي -أي من فسد حجه- من قابل، وعلى هذا يجب أن يكون القضاء في السنة التالية لسنة حجه الذي فسد، فإن أخره عنها بلا عذر أثم، ولم يسقط عنه القضاء بل تجب المبادرة في السنة التي تليها وهكذا

الأضــــحية
"تعريف الأضاحي وبيان مشروعيتها"

تعريف الأضاحي:
الأضاحي جمع، مفردها أضحية، والأضحاة شاة ونحوها يضحى بها في عيد الأضحى، وقيل: سميت بذلك لأنها تفعل في الضحى -وهو ارتفاع النهار-. وضحى بالشاة ونحوها: ذبحها في الضحى من أيام عيد الأضحى.
وهو في الاصطلاح الشرعي: ما يذبح من النعم -الإبل والبقر والغنم- تقربًا إلى الله تعالى في يوم النحر، وبعده أيام التشريق (أيام عيد الأضحى المبارك) كما سنبينه فيما بعد.
مشروعية الأضاحي:
والأصل في مشروعية الأضحية قوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، قال بعض أهل التفسير: "المراد بقوله تعالى (وَانْحَرْ): الأضحية بعد صلاة العيد.
وفي السنة النبوية عن أنس قال: ضحَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين، فرأيت واضعًا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده. وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية.
هل الأضحية سنة أم واجبة؟:
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الأضحية سنة مؤكدة غير واجبة، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وبلال، وابن مسعود، وبه قال سعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وعطاء، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وأهل الظاهر، وهو مذهب مالك، والحنابلة. وقال الثوري، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة: هي واجبة.
حجة من قال: إنها سنة
الحديث الذي أخرجه مسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمْ هِلالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ". وجه الدلالة بهذا الحديث الشريف أنه -صلى الله عليه وسلم- علَّق التضحية على إرادة المسلم، والواجب لا يعلق على الإرادة، ولكن لو نذرها صارت واجبة بالنذر.
أدلة الوجوب:
واستدل من قال بالوجوب بقوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، والأمر للوجوب. وأجيب عن هذا الاستدلال بأن المراد تخصيص الرب بالنحر له، لا للأصنام، فالأمر يتوجه إلى ذلك لأنه القيد الذي يتوجه إليه الكلام، ولا شك في وجوب تخصيص الله تعالى بالصلاة والنحر.
واستدلوا أيضًا بحديث رواه الإمام أحمد وابن ماجه وفيه: "مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلا يَقْرَبَنَّ مُصَلانَا". وجه الاستدلال به أنه لما نهى من كان ذا سعة عن قربان المصلى إذا لم يضحّ، دلّ على أنه قد ترك واجبًا، فكأنه لا فائدة في التقرب مع ترك هذا الواجب. وقد أجيب عن هذا الاستدلال بأن هذا الحديث ليس صريحًا في الإيجاب.
الأضحية أفضل من الصدقة بقيمتها:
هذا وإن الأضحية أفضل من الصدقة بقيمتها، نص عليه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وبهذا قال ربيعة وأبو الزناد، ويدل على ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحَّى، والخلفاء بعده، ولو علموا أن الصدقة بقيمتها أفضل لعدلوا إليها.
ومما يدل على فضلها، وأنها أفضل من الصدقة بقيمتها الأحاديث الواردة بفضلها من ذلك ما يأتي:
أ-عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الأَضَاحِيُّ؟ قَالَ:" سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ"، قَالُوا: فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:" بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ"، قَالُوا: فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:" بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ". ب-عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما أنفقت الوَرِق في شيء أفضل من نحر في يوم عيد" رواه الدارقطني. ج-عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من هراقة دم، وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله -عز وجل- بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسًا"، رواه ابن ماجه والترمذي.
التضحيةالمقصود بالتضحية وشروطها:
المراد بالتضحية: ذبح الأضحية، وشروطها (منها) ما يتعلق بمن عليه التضحية أي المضحي، و(منها) ما يتعلق بوقت التضحية.
شروط المضحي ومن يذبح الأضحية:
أولاً: نية الأضحية عند الذبح:
يشترط في التضحية أن ينوي المضحي نية الأضحية عند الذبح، فلا تجزئ الأضحية بدونها؛ لأن الذبح قد يكون للحم، وقد يكون للقربة، والفعل لا يقع قربة بدون النية، فلا يتعين الذبح للأضحية إلا بالنية، وليس على المضحِّي أن يقول عند الذبح عمن هذه الأضحية؛ لأن النية تجزئ في ذلك. قال ابن قدامة: لا أعلم خلافًا في أن النية تجزئ، وإن ذكر من يضحي عنه فحسن.
ثانيًا: يذبحها مسلم:
يستحب أن لا يذبح الأضحية إلا مسلم؛ لأنها قربة فلا يتولاها غير أهل القربة وهم المسلمون، فإن استناب من عليه التضحية ذميًا في ذبحها جاز مع الكراهة، وهذا مذهب الحنابلة وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وابن المنذر.
وحكي عن أحمد: لا يجوز أن يذبحها إلا مسلم، وهو قول مالك. وممن كره ذلك -أي كراهة ذبح الذمي أضحية المسلم- علي، وابن عباس، وجابر -رضي الله عنهم-، وبه قال الحسن، وابن سيرين.
واحتج ابن قدامة لجواز ذبح الذمي لأضحية المسلم مع الكراهة: بأن من جاز له ذبح غير الأضحية جاز له ذبح الأضحية كالمسلم، كما أن الكافر يجوز أن يتولى ما كان قربة للمسلم كبناء المساجد، فيجوز له أن يتولى للمسلم أيضًا ذبح أضحيته.
ثالثًا: يستحب للمضحي أن يذبح أضحيته بيده رجلاً كان أو امرأة:
ويستحب للمضحي أن يذبح أضحيته بيده، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحَّى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده الشريفة. وهذا الاستحباب يسري على المرأة إذا أرادت أن تضحي كما يسري على الرجل. قال ابن حزم الأندلسي -رحمه الله تعالى-: ويستحب للمضحي رجلاً كان أو امرأة أن يذبح أضحيته أو ينحرها بيده، فإن ذبحها أو نحرها بأمره مسلم غيره أو كتابي أجزأه ذلك.
رابعًا: التسمية عند الذبح:
ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ذبح أضحيته قال: "بسم الله، والله أكبر" وكذلك كان يقول ابن عمر، وقال ابن قدامة: ولا نعلم من استحباب هذا خلافًا ولا في أن التسمية مجزئة، وإن نسي التسمية أجزأه. وإن زاد على التسمية فقال: اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبل مني أو من فلان، فهذا حسن، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقت التضحية:
أول وقت التضحية إذا مضى من نهار اليوم الأول من عيد الأضحى مقدار صلاة العيد وخطبته، فقد حل أول وقت ذبح الأضحية، ولا يعتبر في هذا التقدير نفس الصلاة، وإنما المعتبر ما تستغرقه من وقت مع الخطبة في أخف ما تجزئ به الصلاة والخطبة. ولا فرق في هذا بين أهل المصر والقرى وغيرهم. وهذا مذهب الحنابلة، والشافعية، وابن المنذر. والأولى اعتبار وقت التضحية في الأمصار بعد فراغ الإمام من الصلاة وخطبة العيد.
أما آخر وقت التضحية فهو آخر اليوم الثاني من أيام التشريق فتكون أيام النحر ثلاثة أيام: اليوم الأول من العيدين ويومان بعده -أي أيام العاشر والحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة-. وهذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس، وهو مذهب الحنابلة، قال أحمد بن حنبل: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبهذا قال مالك والثوري وأبي حنيفة. وروي عن علي أن آخر وقت التضحية هو آخر أيام التشريق، وهو مذهب الشافعي، وهو قول عطاء والحسن.
ما يفعله المضحي بلحم أضحيته:
يستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته ويبقى منها له بحدود ثلث أضحيته، ويهدي ثلثها، ويتصدق بثلثها، وإن أبقى لنفسه أكثر من لثلثها جاز. وقال الحنفية: ما كثر التصدق به من لحم الأضحية فهو أفضل.
هل يعطى الجزار بدلاً عن أجرته شيئًا من الأضحية؟
قال الحنابلة: لا يعطى الجزار شيئًا من الأضحية بدلاً عن أجرته في ذبح الأضحية. وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي، ولكن إن دفع إلى الجزار شيئًا من الأضحية لفقره أو على سبيل الهدية فلا بأس؛ لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره بل هو أولى؛ لأنه باشر ذبحها وتاقت نفسه إليها.
هل يجوز بيع شيء من لحم الأضحية أو جلدها؟
قال الحنابلة: لا يجوز بيع شيء من الأضحية لا لحمها ولا جلدها، سواء كانت واجبة بالنذر أو كانت تطوعًا. قال الإمام أحمد: لا يبيعها ولا يبيع شيئًا منها. وهذا مذهب الشافعي، ورخص الحسن والنخعي في الجلد أن يبيعه ويشتري به غربالاً ومنخلاً. وروي نحو هذا عن الأوزاعي؛ لأنه ينتفع به هو وغيره فجرى مجرى تفريق اللحم.
وقال أبو حنيفة: يبيع ما شاء من الأضحية ويتصدق بثمنه. وروي هذا عن ابن عمر:
يبيع الجلد ويتصدق بثمنه، وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، إلا أن ابن قدامة الحنبلي لم يجوِّز بيع شيء من الأضحية لا لحمها ولا جلدها؛ لأنه جعله لله-تعالى-، فلم يجز بيعه.. كالوقف، إلا أنه أجاز الانتفاع بجلد الأضحية، وقال: لا خلاف فيه؛ لأنه جزء منها فجاز له الانتفاع فيه كاللحم، وكان علقمة ومسروق يدبغان جلد أضحيتهما ويصليان عليه
رحلة الحاج من البداية إلى النهاية
( المتمتع )
بلد الحاج
الخروج فى أشهر الحج شوال ،ذى القعدة ،
إلى فجر اليوم الثامن من ذى الحجة

الإحرام في الميقات

التلبية والنية في الميقات
"لبيك اللهم بعمرة"

في الطريق إلى مكة التلبية
"لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك
إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"


الوصول للحرم وقطع التلبية عند الحجر الأسود


تقبيل الحجر الأسود، أو لمسه، أو الإشارة إليه،
مع قولك "باسم الله والله أكبر".


الطواف سبعة أشواط مضطبعًا (كاشفًا عن كتفه الأيمن)،
مع الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى


صلاة ركعتين عند مقام إبراهيم

شرب ماء زمزم

الصعود على الصفا

والبدء منه بالسعي إلى المروة،
سبعة أشواط مبتدأ بالصفا منتهيا بالمروة.


التقصير والتحلل من العمرة

اليوم الثامن
"التروية"

لبس الإحرام مع التلبية
بالحج "لبيك اللهم بحج"
ثم الذهاب إلى منى للصلاة والمبيت.


اليوم التاسع الذهاب إلى عرفات بعد الزوال،
والمكث في عرفات إلى المغرب
مع صلاة الظهر والعصر قصرًا وجمعًا.


الذهاب إلى مزدلفة
ليلة العاشر وصلاة المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا،
والمبيت إلى صلاة الفجر، وذكر الله إلى وقت الإسفار.


اليوم العاشر
رمي جمرة العقبة الكبرى

وذبح الهدي

والحلق ثم طواف الإفاضة مع السعي

التحلل الأصغر بعد اثنين مما ذكرنا،
منهما الطواف أو الرجم، والتحلل الأكبر بعدها جميعًا.

اليوم الحادي عشر والثاني عشر المبيت في منى
مع الرجم للعقبة الصغرى والوسطى والكبرى،
وذلك بعد الزوال بسبع حصيات لكل واحدة.


المتعجل يطوف الوداع
بعد الرجم بعد الزوال، والمتأخر بعد اليوم الثالث عشر


المتعجل الرجوع إلى بلده
"اللهم اجعله حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا "
رحلة الحاج من البداية إلى النهاية(المفرد والقارن)
بلد الحاج
الخروج فى أشهر الحج شوال ،ذى القعدة ،
إلى فجر اليوم الثامن من ذى الحجة

الإحرام في الميقات

التلبية والنية في الميقات
(1) القارن: لبيك اللهم بحج وعمرة.
(2) المفرد: لبيك اللهم بحج.


في الطريق إلى مكة التلبية
"لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك
إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"


الوصول للحرم وقطع التلبية عند الحجر الأسود


تقبيل الحجر الأسود، أو لمسه، أو الإشارة إليه،
مع قولك "باسم الله والله أكبر".


الطواف سبعة أشواط مضطبعًا (كاشفًا عن كتفه الأيمن)،
مع الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى


صلاة ركعتين عند مقام إبراهيم

شرب ماء زمزم

الصعود على الصفا

والبدء منه بالسعي إلى المروة،
سبعة أشواط مبتدأ بالصفا منتهيا بالمروة.


التقصير والتحلل من العمرة

اليوم الثامن
"التروية"

لبس الإحرام مع التلبية
بالحج "لبيك اللهم بحج"
ثم الذهاب إلى منى للصلاة والمبيت.


اليوم التاسع الذهاب إلى عرفات بعد الزوال،
والمكث في عرفات إلى المغرب
مع صلاة الظهر والعصر قصرًا وجمعًا.


الذهاب إلى مزدلفة
ليلة العاشر وصلاة المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا،
والمبيت إلى صلاة الفجر، وذكر الله إلى وقت الإسفار.


اليوم العاشر
رمي جمرة العقبة الكبرى

وذبح الهدي

والحلق ثم طواف الإفاضة مع السعي


"وبقية الرحلة كما في رحلة المتمتع"


اضافة رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12/12/2007, 02:31 AM
زعيــم مميــز
تاريخ التسجيل: 23/12/2006
المكان: في (((قلب))) كل هلالي
مشاركات: 3,916
جزاك الله خير ,,

بس ياليت كنت مكبر الموضوع ونسقتاه عشان يستفيد منه الاعضاء والزوار ,,


في امان الله
اضافة رد مع اقتباس
   


إضافة رد


قوانين المشاركة
غير مصرّح لك بنشر موضوع جديد
غير مصرّح لك بنشر ردود
غير مصرّح لك برفع مرفقات
غير مصرّح لك بتعديل مشاركاتك

وسوم vB : مسموح
[IMG] كود الـ مسموح
كود الـ HTML غير مسموح
Trackbacks are مسموح
Pingbacks are مسموح
Refbacks are مسموح



الوقت المعتمد في المنتدى بتوقيت جرينتش +3.
الوقت الان » 09:59 PM.

جميع الآراء و المشاركات المنشورة تمثل وجهة نظر كاتبها فقط , و لا تمثل بأي حال من الأحوال وجهة نظر النادي و مسؤوليه ولا إدارة الموقع و مسؤوليه.


Powered by: vBulletin Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd

Google Plus   Facebook  twitter  youtube