بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

....

كنت أستمع لإذاعة القرآن الكريم إذ كنت أستمع لسؤال أحد السائلين لشيخ مفتٍ في الإذاعة عن مسألة أرهقته: فقد كان السائل خائضا في ذنوبٍ كثيرة، وقد تاب منها منذ مدة بعيدة، إلا أنه كلما شعر بقربه من الله كلما طفت ذكريات الذنوب على خاطره حتى طغى عليه الخوف من غضب الله.

فاتصال المستفتي هنا للسؤال: "كيف أتخلص من هذه الوساوس؟"، فكان جواب الشيخ: "عليك بأن تقوي إيمانك بالله وأن تذكر أنه غفور، وأنه تواب يقبل التوبة، وأن كل ما يخطر ببالك هو من وساوس الشيطان، فادفعها بالإيمان بالله ..."إلخ

من خلال رد الشيخ، نجد أنه يرسل رسالة خطيرة لرجل خائف من غضب الله على ماضيه، فالشيخ يقول للرجل بشكل غير مباشر: "إيمانك ضعيف بالله، والشيطان يعبث بك، لذلك أنت تمر بهذه الوساوس".

وأنا متأكد أن مثل هذا الرجل من الناس كثير، فالرسالة الآن ومن خلال الإذاعة وصلت لكل مستمع يمر بظروف الرجل، فأصبح الخوف خوفين: خوفًا من غضب الله بأن لم يقبل الله التوبة وخوفًا من غضب الله لضعف الإيمان في القلب ولتحكم الشيطان بالإنسان.

وأنا أظن أن قضية هذا الرجل تقع فيما يسمى بـ "الوسواس القهري"، والوسواس القهري تقوم أعراضه بتكرر الوساوس بطريقة مربكة للفرد لا يستطيع دفعها بمجرد الاستعاذة بالله من الشيطان أو بمجرد تغير الأفكار إلى أفكار إيجابية، وحتى في حال ذهاب الأفكار السلبية، تعود سريعًا حاملة معها نفس مشاعر الخوف المصاحبة لها.

شيطان أم سيروتونين؟
وسبب الوسواس القهري كما يظن الباحثون هو نقص في انتاج السيروتونين الذي يحافظ على استقرار الحالة النفسية للشخص، وهذا النقص يؤدي إلى خلل في اتصال الجزء الأمامي من المخ بالأجزاء الداخلية، مما يؤدي إلى هذا الاضطراب في الأفكار والتوتر المصاحب لها.

وقد ينتقل الوسواس القهري بالوراثة، إذ وُجد أن ما يقارب ثلث المصابين بالوسواس القهري لهم علاقة أسرية بأناس مصابين بنفس المرض، كما يظن الباحثون أن الوسواس قد يكون مكتسبًا إذ يتأثر المريض بمن حوله، فالصدمات النفسية والاضطرابات التي تسبب الخوف المفاجئ كلها تؤدي إلى خلل في انتاج السيروتونين.


ومن أمثلة الوسواس القهري:
- الخوف المبالغ فيه من غضب الله وبناء عليه:
الخوف من أن يعاقب الله بذنب قديم تمت التوبة منه لمدة طويلة من الزمن
تكرار الوضوء لعدة مرات خوفًا من نقض الوضوء بدون وجود سبب حقيقي أو خوفا من عدم إسباغه
تكرار الصلاة لأكثر من مرة خوفًا من أن تكون لم تقبل لعدم كمال الخشوع فيها أو للخوف من نسيان جزء منها

- الخوف المبالغ فيه من الأمراض:
تكرار الذهاب إلى عيادة الطبيب خوفا من السرطان رغم إثبات جميع النتائج خلو المريض من المرض
المبالغة في النظافة والتعقيم (كغسيل اليد مرات كثيرة بالصابون قبل الأكل) خوفًا من البكتيريا والجراثيم
تنظيف سماعة الهاتف بعد كل استخدام من شخص

- الخوف المبالغ فيه من الأقدار والأحداث:
كالخوف من العين والحسد، وربط كل ما يصيب الإنسان به
الخوف من الجرائم التي تجري في البلد وتوقع حدوثها (دائما)

(في الأمثلة أعلاه أنا أتحدث عن المبالغة والتكرار الذي لا يسيطر عليه المرء، أما أن تحدث مرة أو مرتين في حياة المرء، فهذا لا يعني وجود الوسواس القهري)


عندما تقول لصاحب الوسواس القهري، استعذ بالله من الشيطان، فكأنك تقول للمصاب بالانفلونزا استغفر ربك، فكلاهما حالتان مرضيتان، ولكن علاج الحالة الأولى يحتاج لفترة أطول، والأطباء النفسيون يصفون في الغالب علاجات كـ فلوفوكسامين مالييت، أو كلوميبرامين، أو فلوأكسوتين. كما يصاحب ذلك علاج نفسي سلوكي ومن خلال الجلسات النفسية ليكون العلاج مفيدًا على المدى البعيد.


لماذا يعتبر تعليق الشيخ على المستفتي خطيرًا؟

يقول الدكتور طارق الحبيب في كتابه "الوسواس القهري: مرض نفسي أم أحاديث شيطانية؟":

ومما يؤلم المصابين بداء الوسواس القهري [..] ما يقرؤونه في كتب بعض العلماء عن ذم الوسوسة والموسوسين، لأنهم كانوا - رحمهم الله - يطلقون ذلك الوصف على جميع أنواع الوسوسة دون تخصيص، فالوصف الذي يطلقونه كان وصفًا عامًا [..] ولم يكونوا أيضًا - كما مر بنا - يرون أن هناك وسواسًا مرضيًا كما يراه المعالجون النفسيون في العصر الحديث.

ويقول أيضًا في نفس الكتاب:

وقد حرص عدد من الدعاة وطلبة العلم الشرعي في عصرنا الحديث على الاستماع لمعاناة مرضى الوسواس القهري وتقديم النصح لهم، إلا أن أكثرهم لاحظ أن لا فائدة من ذلك مع أكثر السائلين، والذي يبدو لي أن سبب ذلك عدة أمور منها:

١- اعتقاد بعض الدعاة وطلبة العلم الشرعي أن كل أنواع الوسواس من الشيطان فقط.
٢- اجتهاد بعض الدعاة وطلبة العلم في تصحيح الفكرة الوسواسية عند مريض الوسواس مع أن مريض الوسواس - في العادة - يدرك أن الفكرة خاطئة لكن المشكلة تكمن في إلحاح الفكرة وتكرارها.
٣- الخلط بين الوسواس والشك والوهم وعلاجها على أنها أمور متماثلة.
٤- عدم معرفة بعض الدعاة وطلبة العلم أن هناك علاجًا نفسيا لبعض حالات الوسواس القهري.
٥- أن التوجيه والنصح يجب أن يتم من خلال برنامج علاجي مقنن قد تم تقنينه واختباره في بلاد مختلفة ولسنوات عديدة وليس مجرد اجتهادات ورؤى شخصية.

ركز على قول الدكتور: اجتهاد بعض الدعاة وطلبة العلم في تصحيح الفكرة الوسواسية عند مريض الوسواس مع أن مريض الوسواس - في العادة - يدرك أن الفكرة خاطئة لكن المشكلة تكمن في إلحاح الفكرة وتكرارها.

فتاوى واعية
ولذلك نجد أن الفتاوى الجميلة الأكثر وعيا بهذه الحالة خرجت من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وفيها: "... وعالج نفسك عند دكتور الأمراض النفسية والعصبية ..."

وكذلك من فتوى الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله عندما سئل عن رجل ترك الصلاة بسبب بعض الوساوس، فكان رد الشيخ: "... إن ظاهر سؤاله أن تركه للصلاة ليس باختيار منه، ولكنه عن مرض ..."

وكذلك في فتوى أخرى للشيخ محمد بن عثيمين ردًا على سؤال للدكتور طارق الحبيب الذي فيه: "أن عددًا من مرضى الوسواس يعتقدون أنهم ضعاف الإيمان بسبب غلبة الوسواس عليهم." فكان رد الشيخ بن عثيمين رحمه الله: "إن ذلك خطأ والصواب أنه علامة قوة الإيمان".

وفي فتوى أخرى لنفس الشيخ، عندما سؤل إن كان الإنسان يعذر بالتصرفات المحرمة بسبب الوساوس: "إذا كانت ليست تحت طاقته فيعذر لقول الله: ((ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به))"

هذا الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، فتح الله آفاقه وذهنه للعلوم الإنسانية، فأصحبت فتاواه أكثر إدراكًا بالواقع، وأوعى.


التخصص
وفي هذه الحالة المرضية ندرك أن التخصص مهم، هو أولى هنا من حالات أخرى، وعلى ذلك وباختصار، على من تكثر عليه الوساوس، لا أن يذهب إلى من لا يعلم في أعراضها، فبعض النصائح في مثل هذا غير مفيدة، بل هي تضر المصاب بالمرض، بدلا من ذلك عليه أن يستشير طبيبا أو معالجا نفسيا.

...

أعتذر عن الإطالة.