الـ
جزء الـ
ثالث عشر ..
قضت
سمية ليلتها الثانية برعب شديد، وقد تخيلت أن اللصوص عاودوا الكرة وهاجموا البيت من جديد وغفت أخيراً بعد أن تذكرت أمها.. فعاد إليها الهدوء والاطمئنان، واستيقظت على قرع الباب..
- من بالباب الآن؟ إنها السادسة صباحاً.. من الذي يطرق الباب، ربما كان البواب.. يجب أن أعرف من بالباب.
ولكنها سمعت صوت عامر فاختلج قلبها:
- افتحي يا
سمية.. أنا
عامر..
صرخت بفرح
غامر:
-
عامر.. معقول.. حمداً لله على سلامتك يا حبيبي..
-
سمية، أنت بخير؟
- لماذا؟ هل حكوا لك ما جرى؟
- ما جرى؟ ماذا تقصدين؟ أحدث شيء في غيابي؟
- تبدو متلهفاً؟
- رأيت حلماً مزعجاً كأن الأفاعي تطاردك وأنت خائفة؟ أنهيت عملي بسرعة غريبة وجئت إليك خائفاً قلقاً.
- سأحكي لك كل شيء.. يا حبيبي.
حكت له ما جرى لها.. مع اللصوص، فشعر بالقهر والغضب، كيف طاوعته نفسه على تركها وحيدة؟
أحس بدفق من الحنان يتدفق في شرايينه فضمها بين ذراعيه بعاطفة جياشة..
ولكن
سمية، سرعان ما عادت إلى هدوئها..
- ستطلب من الشركة منحك الإجازة كما وعدك المدير..
- أمازلت مصرة على البحث عن(
مودس)؟
- نعم يا
حبيبي.. أشعر بالحاجة لرؤية أهلي.. أنا مشتاقة لرؤيتهم.. قد أستطيع أن أجد(
مودس) وأتعرف على مكانها بصحبتك.. عندها سيكون سهلاً علينا زيارتهم بين فترة وأخرى.. بل وإقناعهم بزيارتنا..
- أرجو أن يتحقق حلمك يا
سمية.. سأستريح قليلاً ونتناول الإفطار ثم أذهب للشركة وأطلب الإجازة التي وعدتك بها..
- يا أغلى من حياتي.. آه كم أحبك يا
عامر..
- وأنا أحبك يا
سمية حباً يفوق الوصف..
ناما بعمق تلك الليلة.. وبعدما حصل
عامر على إجازته الموعودة وهيأ السيارة والمؤونة اللازمة للرحلة في مساء ذلك اليوم... وفي الصباح الباكر من اليوم التالي استيقظ على
سمية تدعوه لتناول الإفطار والبدء بالرحلة الغامضة للبحث عن(
مودس) المدينة الضائعة..
نقل
عامر الأغراض للسيارة.. وأوصى
البواب بالانتباه والحذر حتى لا يعود اللصوص من جديد، ثم اتجه و
سمية صوب الغرب.. نحو عمق الصحراء، وبعد عدة ساعات وصلا إلى بناء بدا وحيداً على الطريق:
- هذه هي
الاستراحة التي تزودت فيها ببعض الماء والطعام قبل أن تدهمني الزوابع الرملية.. ما رأيك لو نستريح بها قليلاً ثم نتابع المسير؟
- لا بأس.. يا
عامر.. كما تشاء.
- ألست جائعة؟
- لا.. ثم أن لدينا طعام خاص أعددته لرحلتنا.
- سنشرب الشاي إذن.
- أرى سيدة
عجوز تجلس هناك.
- ربما كانت زوجة ذلك
الشيخ الذي قابلته حين بدء رحلتي.
- إنها تنظر إلينا بفضول.
اقتربا منها:
- السلام عليكم يا خالة.
- وعليكم السلام ماذا تريدان؟ الطعام أم الشراب؟
- سنشرب كأسين من الشاي فقط.
- لا بأس.. وإلى أين تقصدان في هذا الطقس الحار؟
- الغرب يا خالة.
- الطريق ليس سهلاً.. وقد غطت معظمه الزوابع الرملية أمس.
- سنحاول الاستعانة بالبوصلة لتحديد الاتجاه.
أحضرت لهما الشاي، سألها
عامر:
- زوجك ليس هنا؟
- إنه في
مهمة وقد تأخر، أتوقع عودته خلال لحظات..
- مهمة؟ أي نوع من المهمات يمكن أن يكلف بها؟
- مهمة
مستحيلة، ولكنه يراها ممكنة التحقيق.
ذهبت إلى عملها وتركتهما يتسامران.. وبعد دقائق سمعا صوت سيارة تقترب كان الشيخ قد أقبل فعلاً وركن سيارته الضخمة إلى جانب البناء:
- هه.. لدينا ضيوف؟
وقف
عامر مرحبا:
- ألا تتذكرني يا عم؟ كنت مسافراً في الصحراء ونصحتني بعدم المتابعة..
- آه.. تذكرت.. أحدث لك شيء؟
- تجاوزت الزوابع وأكملت طريقي نحو أهلي في الشمال..
- وماذا تفعل الآن؟ عائد إلى بلادك؟ الناس آتون بعد أن أنهوا عطلتهم وأنت عائد؟
- ظرف
اضطراري.
- انتبه إلى الزوابع.. قد تلتقي ببعض الناس في الاتجاه المعاكس.
-
الزوابع كثيرة في هذا الوقت من العام؟
- بعد المغيب، قد تظهر بشكل فجائي..
قالت له الزوجة
العجوز.
- تبدو متعباً.. قلت لك أكثر من مرة لن تعثر على شيء.. لماذا الإصرار على البحث؟ إنها الصحراء الواسعة، قد تبتلعك وتضيع فيها للأبد.. أمعقول أن لا تشفق علي وتتركني وحيدة؟ ليس لي غيرك..
- كفى أرجوك.. لا داعي أن تظهري حزنك أمام الضيوف..
سأله
عامر: - هل أضعت شيئاً يا عم؟
- نعم.. وأنا أبحث عنه طيلة سنوات.. دون نتيجة..
همست
سمية: - كأنني أعرف هذا الوجه يا
عامر..
- ماذا تقولين يا سمية؟ عند عودتنا لم نتوقف هنا.. ربما يشبه أحد الناس الذين قابلتهم.
عادت
الزوجة تحكي بألم:
- لا أستطيع أن أكبت ما في نفسي.. لماذا أنت مصر على البحث المستمر وتعلم أن لا أمل لك؟
عاد
عامر يسأله:
- هل فقدت عزيزاً عليك تاه في الصحراء؟ تبدو متأثراً.
- إنها قصة طويلة.. لا داعي لأن أزعجك بتفاصيلها.
أخذت
العجوز تبكي:
- منذ سنوات طويلة وهو يبحث.. ولم يتوقف عن البحث رغم تقدمه في السن ومرضه.. أقنعه يا
بني بالتوقف عن ذلك.. لم يعد قوياً كما كان.. قد تبتلعه الصحراء إلى الأبد..
خفف عنها
الشيخ:
- هوني عليك. أنا أعرف هذه الصحراء جيداً، رغم كل الزوابع والأنواء، كنت أعود إليك، لم أفقد طريقي أبداً.. أنا من هذه الصحراء أهلي من
البدو الذين خبروا الصحراء وعرفوها جيداً.. لا داعي للخوف.
همس
عامر في أذن
سمية:
- هل نذهب يا
سمية؟ سنتأخر.
- أرجوك يا
عامر يجب أن نعرف
قصته..
كانت
العجوز تبكي:
- كدت تفقد بصرك قبل
شهرين نتيجة الرياح الرملية التي أغشت
بصرك بذرات رملها الناعم.. آه.. ماذا أقول؟
- لم تقل لنا يا
عم عماذا تبحث؟
-
مصر على معرفة ذلك؟
- إن سمحت يا
عماه.. قد أخفف عنك حزنك وقلقك..
- أبحث عن
أهلي، إنهم في مكان ما من هذه الصحراء.
-
بدو رحل؟
قبيلة من البدو؟
- ليسوا رحلاً إنهم يعيشون في
مدينة صغيرة بين الصخور .
صرخت
سمية:
-
مودس؟ مدينة
مودس؟
- وما أدراك يا
ابنتي؟ كيف تعرفين بوجود(
مودس)؟
قال
عامر:
- لأنها
منها، كنت تبحث عن
مودس إذن يا عماه؟
- نعم.. ولكن ماذا قلت؟ إنها من
مودس؟ كيف؟
- أنا ابنة
شيخ مودس الشيخ حمدان.. وكنت قبل أسابيع أحد سكانها..
- أنت من
مودس؟ معقول؟
انبرى نحو زوجته منفعلاً:
- قلت لك(
مودس) موجودة.. هي ليست
حلماً من أحلامي، أو خيالاً مجنحاً من خيالاتي.. أنا ابن(
مودس) ولست
ابناً للوهم..
- حسناً يا عماه.. ما هي
قصتك..؟
- ربما لو حكيتها لك.. قد تساعدني وزوجتك.. ما دمتما تعرفان أين تقع
مودس في هذه الصحراء؟
- أسمعت يا
سمية.. إنه يبحث عن(
مودس) ولم يعثر عليها، منذ سنوات ربما كانت طويلة.
تنهدت
سمية:
- لا بأس يا
عماه.. احك لنا القصة قد نساعدك.
- أنا أحد أبناء(
مودس) كنت شاباً فتياً حين خرجت منها باحثاً عن الناس.. مخترقاً عزلتها الرهيبة آه.. لم أتذكر اسم(شيخ
مودس) في ذلك الحين، وإن كنت متأكداً أنه
لم يكن
حمدان.. ليت ذاكرتي تسعفني
- هل كان اسمه الشيخ(
هايل المودسي)؟
- نعم.. نعم.. كان الشيخ
هايل.. كيف غاب عن ذهني هذا الاسم؟
- إنه
جدي.. والد أبي..
قال
عامر:
- حدثنا يا
عم.. متى غادرت(
مودس)؟ ولماذا غادرتها؟
- آه يا بني.. أمعقول أن أعثر على بعض أبناء(
مودس)؟ لست أصدق نفسي أنا سعيد بمعرفتكما.. على كل حال سأحكي لكما شيئاً من
قصتي الطويلة..
((اسمي حسن بن أحمد
المودسي.. كنا أربعة أخوة.. نعيش في أسرة هادئة.. كان أبي يعمل في صناعة الفخار.. وكانت أمي تساعده أحياناً.. كنت الأصغر بين أخوتي.. وكانت أمي تدللني كثيراً.. وأنا آخر العنقود كما يقولون.. توزع أخوتي في مهن مختلفة، ولم يعمل أي منهم في الفخار كأبي.. وهذا ما جعل أبي يضع ثقته بي.. لأرثه في تلك الصناعة التي كانت ضرورية في(
مودس) كانت
أمي تقول لي باستمرار.
آه يا
حسن، لو منحني الله أنثى، بين هؤلاء الذكور، لساعدتني كثيراً وأنا أتقدم في العمر.. كنت أتمنى لو أن زوجات أخوتك يعاملنني كأم.. كم أنا بحاجة لذلك.. ولكني لا أرى أياً منهن إلا كل شهر حيث يجتمع الجميع هنا.
وكنت
أقول لها:
- عندما أبلغ
العشرين سأحضر لك
زوجة تخدمك طيلة حياتك وأبي..
-
أنت في الثامنة عشرة، هل أنتظر كل هذا لوقت، حتى العشرين؟ أغلب أخوتك تزوجوا في مثل سنك.. حاول أن تعجل بالزواج.. سأختار لك أجمل فتيات
مودس..
فكرت
حائراً:
((لقد اخترتها يا أمي.. (
عبلة) هي أجمل الفتيات وأكثرهن عاطفة ووعياً
)).
لحظت
شرودي:
- أتفكر في
فتاة معينة؟ قل لي اسمها سأخطبها لك اليوم.
- لم يحن الأوان بعد يا
أماه.. أرجوك
أمهليني بعض الوقت؟
- كما تشاء يا
بني.. ولكن لا تطل هذا الوقت..
: ((كانت"
عبلة" ابنة صانع مقابض السكاكين والخناجر.. وكنا نحب بعضنا منذ الطفولة.. وتفتحت أنوثتها وأنا أرقبها كزهرة عطرة ولم تكن أمي قد تأكدت من أن عبلة هي فتاتي وقدري.. وذات يوم كنت وعبلة نطل من فتحة الصخور على الشمس، التي تنزلق خلف حافة الأفق
)).
- أتعلمين يا
عبلة.. مازالت
أمي تلح علي لا يفوتها يوم دون أن تلمح لي بالخطبة والزواج.. وكدت أبوح باسمك لها.. مع أنني متأكد أنها تشك بأنك أنت من أريدها.
- عندما تنتهي المهلة المحددة يا
حسن..
- كما تشائين يا
عبلة.. ولكن ألم يحن أوان كشف
سر هذه المهلة بعد؟ أصدقيني القول يا
حبيبتي..
- آه يا
حسن.. كنت أتمنى أن أكشف لك كل شيء.. ولكني مرتبطة بقسم أقسمته أمام تلك العرافة العجوز التي ظهرت لي قرب المدخل الشرقي للمدينة.. ثم اختفت.. كأنها طيف.
- العرافة؟ لماذا أصرت هذه العرافة على ربطك بقسم، يجب أن لا تحنثي به؟ ومن هي تلك المرأة.. هل هي من
مودس؟ وهل أعرفها؟
- حتى أنا لا أعرفها يا
حسن، هي ليست من
مودس قلت لك أنها ظهرت لي قرب المدخل الشرقي..
وقضت معي وقتاً حكت لي كل شيء عن مستقبلي ثم اختفت..
- إنه
أمر غريب.. ليتك تحكين لي عن كل شيء.. لماذا ربطتك بذلك القسم؟
- آه يا
حسن.. لم يعد الوقت الذي يفصلني عن كشف
السر، طويلاً حاول أن تصبر.
- كما تشائين يا
حبيبتي.. انظري للشمس بدأت تغيب وظهرت نجمة المساء.. آه.. لن تكتمل سعادتي دونك يا عبلة.
ومر الوقت بطيئاً ثقيلاً، وحانت اللحظة التي حددتها لي
عبلة من أجل كشف السر، وكنت متلهفاً لذلك..
كانت
عبلة في تلك الأيام تذوي شيئاً فشيئاً.. دون أن أعرف شيئاً عن مرضها.. وكانت متعبة حين طلبت الاجتماع بي وحين ذهبت إلى دارها حادثني والدها:
- أرجوك يا
حسن حاول أن تقوي من عزيمتها، هي ترفض الطعام والشراب ولا تتناول الدواء الذي يصنعه طبيب الأعشاب الشيخ..
-
مرضها ليس سهلاً إذن؟ أمعقول يا
عماه أن لا أعرف ذلك؟
- أرجوك يا بني.. هي من طلبت مني
كتم الموضوع.. ولست أدري السبب.
- كيف لي أن أعيد لها البسمة؟ يا إلهي معقول؟
- إنها تريدك الآن حاول إقناعها بتناول الطعام والدواء.. أرجوك يا
حسن..
- سأفعل كل شيء لإنقاذها يا
عماه..
دخلت إليها كانت ممددة على السرير
ذابلة كالزهرة:
-
حسن.. جئت أخيراً؟
- أمعقول يا
عبلة؟ أنت متعبة
مريضة، وكنت أظن أنك تتهربين من لقائي، حتى يحين موعد كشف السر.
- طلبت من أبي وأخوتي أن
لا يخبروك.. حانت اللحظة الآن.
- ستكشفين لي
السر وأنت متعبة.
- أتت لحظتي يا
حسن.. أنا في
آخر أيامي.. قد
أموت اليوم أو غداً.. هكذا قالت لي العرافة.. في مثل هذه الأيام قابلتها.. وحكت لي الكثير من الأسرار، وقالت لي ستظلين في ذاكرة حسن طوال عمره.. أرجوك يا
حسن.. اعذرني.. نهشني
المرض، منذ زمن بعيد، وقد طلبت من العرافة أن تحكي لي عن مستقبلي فصمتت طويلاً وأمام إصراري حكت لي.. آه يا
حسن.. أمعقول أن أعطيك
موافقتي على الزواج وأنا أعرف أنني سأموت.. آه.. يا حبيبي.
كدت
أنفجر من القهر.
- أمعقول يا
عبلة؟ كيف يحدث هذا كيف؟ يا
إلهي؟ أكاد أجن.
وماتت
عبلة ودفنتها بيدي، وأنا أشعر بحزن لا يوصف، ولم يطل بي المقام في(
مودس) فخرجت منها
هارباً من أحزاني ومتاعبي.. ولم أستطع الابتعاد كثيراً، رغم أنني تزوجت وأنجبت الأولاد، فقد كانت
عبلة، تأتيني كثيراً في
الحلم فأشعر بدافع يدفعني وأنا أتذكر أيامي مع عبلة لمعرفة ما جرى لأهلي، وأهل عبلة.. ومنذ سنوات طويلة ومودس في خاطري أجوب عنها الصحاري لائباً حائراً دون نتيجة..
شدت
العجوز على يده راجية:
- يكفيك
حزناً يا حسن.. تذكر أنني
موجودة لم أمت بعد..
-
لا بأس.. قلتِ يا ابنتي يا
سمية إنك تبحثين عن
مودس.. وقد خرجتِ منها مؤخراً، في أي
اتجاه ستبحثين؟
- لا أدري.. سنحاول زرع الصحراء
أنا و
عامر بحثاً عنها.
- كنت أعتقد أن المقولة.. التي حكى عنها أبناء
مودس.. أن من يخرج من
مودس لا يعود إليها أبداً.. مجرد
خرافة..
- لن نيأس يا
عماه.. قد نعثر عليها.. من يعلم؟
- سنبحث عنها سوية في
الغد.. أنا أعرف الصحراء جيداً.. لماذا
لا تنامان هنا اليوم وفي الغد نبكر في التجوال والبحث؟.
همس
عامر:
- ما رأيك يا
سمية؟
- كما تشاء يا
عامر.. قد يفيدنا، إنه
خبير بالصحراء..
ولم يسفر
البحث عن شيء.. وما زالت
سمية و
عامر وذلك
الشيخ المتعب يأملون بالعثور على(
مودس) المدينة الضائعة في
قلب الصحراء.
: إنتـهى ..
:
: للـ تساؤل
الأول :
عــودة : ..
: