"هذا موسمٌ يحلو فيه الشرودُ، والشرود رجلٌ لكل المواسم"
هُنا في هذه الطريق الممهدة للمشي، بينَ أوجه المقبلين والمدبرين، بين مرضى السكرِ والسمنة والحبِّ والخديعة، يطلُّ بوجهه، يمشي حثيثًا ومعه صاحبُه، بل يمشي مع صاحبه، وصاحبه يقول: "ساعة ونصل إلى نقطة البداية" فتساءل: "ماذا يكونُ بعدَها؟" لم يبدِ ما جال بخاطرِه.
كان الهواء باردًا عليلاً يلامسُ القلب قبل الأديم، القمرُ استقرَّ بدرًا في السماء، والأقمار تسير عن يمينٍ وشمال، باتجاه الريح وعكسِه، يعرف قِبلةَ الريح من وريقاتِ الشجرِ المتطايرةِ ومن العباءات. صاحبهُ يتربّص بهذهِ الأقمار، أما هوَ فقد اختارَ دورَ النملةِ في الوعاء، لمْ يخُض حروبًا بالنيابةِ يومًا، ولم يخُض صاحبُه إلا حروبَه.
يمانانِ أحيانًا شآمانِ تارةً، يسيرانِ وأحذيتُهما الرياضيّة تهوّنُ من انخفاضِ الأرض وعلوِّها. عيناهُ تزغللان فكأنّ القمر انصهرَ في السماء واختلطت أنوارُ الشوارعِ ببريقِ النجيماتِ، ما زال سمعُهُ مشوّشًا، وقد أمسى الهواءُ يصبّ في أذنه قولَها: "أحبُّ الترابَ الذي تطؤهُ قدماكَ"، إذًا هي تحبُّ الغبار المنتشرَ على سطحِ هذه الطريق.
لو سألتَهُ لِمَ تمشي في هذا الشارع لقالَ: "أبصرتُ قدامي طريقًا فمشيت" أو لصمتَ، في هذه الليلة التي تشبه مثيلاتِها لا يحبُّ الكلام، رأى ابنَ عمِّه فنآى بجانبه، لا يحبُّ العناقَ، رآى أباهُ وسلّم عليه على عجالةٍ، قبّل رأسَه واقفًا ومضى، رأى حبيبتَه فتكلمَتْ وأنصتَ.
يمشي هُنا، لأنه مصابٌ بالتخمة، أتخمَه الطعامُ وأتخمه القَدَر، لم يُبلّغْه زمنُه ما أراد، ولم يبلُغْهُ بيدِه، ولم يبلغهُ غلابًا.. لا يريدُ الكثيرَ وصاحبُه يقول: "ساعة واحدة."
لو وضعتَ الأمرَ في يدِه لما رضِيَ بأن يمشي مع صاحبِه خلف البنات الثلاثةِ، يقولُ صاحبُه: "الكبيرةُ لي والصغيرة لك" وهو يكتم سؤالاً في صدرِه: "لِمن الثالثة؟ أنتركها ليتخمها القَدَر؟"
صاحبُه يخطط لغزواته بجواله، يحشدُ لها البصرَ والقلبَ وشِعر النبط، يريدُ أن يبني مستعمراتٍ كثيرةً، واحدةٌ لا تكفي أبدًا! واحدةٌ للحبّ، وأخرى للنزوة، وثالثةٌ للبكاء، ورابعةٌ للضحك. يقولُ صاحبُه: "تناسبك الصغيرة" فيقولُ: "في المرّة القادمة إن شاء الله" لقد اختار دورَ النملة في الوعاء.
لا يخوضُ صاحبُه حروبه علانية، كان شاعر النبط يحضّر في نفسه قصائدَ جديدةً للأنثى القادمة، لم يكن ساذجًا ليغازل النساء بالقصائد، تكفيه قامته الطويلة ونظراته الرصينة التي يكتنفها الغموض والفجور وملابسه الرياضيّة الأنيقة، يمشي كأنما بُسطت له الأرضُ وكأنّ النساءَ خُلقنَ لأجلِه. حديثُه ذو شجون ولو كان قارئًا قصيدته لامرأة لقرأها في الهزيع الأخير من الليل، ساعةَ تخضلّ القلوب وتغرورق المقل. يفخرُ بنفسه دونَ أن يصرّح، ومَن غيرُه يكتب الشعر على البحر الهلاليّ؟ يسأله: "أتكتبُ الشعرَ على البحر الهلالي؟" يقول: "لا" يسأله: "تعرف البحر الهلالي؟" يقول: "لا."
هذا رجلٌ لا يميّز بين القافية والسجع، لم يكتب الشعرَ يومًا كصاحبه، لا يقرؤه ولا يحفظ منه إلا قصيدة أمريكية مترجمةً، ولو لمْ تقرأها له حبيبته لما حفظها. مرة في المدرسة حاولَ أن يكتب الشعرَ، فضحك منه أقرانُه ومعلّمُه، وفكر مرة أن يكون رسامًا كبيكاسو الذي لا يعرف عنه إلا اسمه، فقال له أستاذ الفنية: "عندك مستقبل" فعلمَ من تعابير وجهه المزيفة أنما أراد رفع معنويّاته، وحاول يومًا أن يجمع الطوابع هوايةً، فلم يجدْ إلا طوابع عليها صورة سوهارتو وجزيرة سومطرة، وقرّر يومًا جمع العملاتِ، ولكن لم يقع في يديه إلا الريال السعوديّ. عَلِمَ وهو غضّ البنان أنما هو مجيدٌ للإنصات فقط ولا شيء غيره. فكيف أحبته تلك المرأة إذ أحبته؟
بودّه لو كانت تمشي حبيبته معه بدلاً من صاحبه، ولا أسوأ من أن يدخل ثالثٌ لا يعرفهُ عليهم في سيرِهم. رجلٌ يشجع الهلال ويلبس قميص النصر، عمره أربعةٌ وعشرون ويلعب الكرة في أشبال النادي، وفيٌّ لحبيبته ولكنّه يتغزّل بكل امرأة تمرُّ بهم، يعطيهم من حديث الحكمة كالثعالب: "أجمل مرحلة في حياة المرء بعد إنجاب الطفل الأول، ويا حبّذا الذَكَر. أنت متزوج؟" يجيب: "لا" يسأله: "تفكر بالزواج؟" يجيب: "لا" فأحسّ بثقلِ صحبتهما وتركهما متسائلاً: "كيف يرضى صاحبه بالمشي معه؟"
وهو بعيدٌ بقلبه، بوده لو كانت تمشي حبيبته معه، هذه الطريقُ تنخفضُ وتسهلُ حين تطأها المرأة، هذه الأرض تخضرُّ وتعشبُ حين تمرّ بها المرأة، هذه السماءُ تمطرُ ودقًا حين تسيرُ تحتَ سِماكِها المرأة.
"هل أحضرتَ قارورةَ الماء؟" أجاب: "لا" قال: "هل تشعر بالعطش؟" قال: "عطش لا يُميت" والناسُ لا تعطش كثيرًا في هذه الطريق، وهو وإن عطش، تعلّم ألا يجزع وألا يشكو. تقول أمّه: "كن قنوعًا"، وأبوه فخورٌ به.
لا يجزع، ولا يكثر من الفرح، والمفاجآت ليست منه ببعيدة، فقدْ قرر أن يتوقف للمقابلة التلفزيونية، وابتسم للمذيعة، وافق على أن يتكلم إليها، بل سعى إلى المايكروفون، فسألته سؤالاً ساذجًا: "هل تقبل الزواج من امرأة أكبر منك سنًّا؟" قال: "لن يكون سنُّها عقبةً" هنا تبتسمُ المذيعةُ وتقول: "شكرًا" يقول: "هل تسمحين لي بأن أقرأ قصيدة لبيلي كولينز؟" تبتسم مرّةً أخرى وتقول: "في المرّة القادمة إن شاء الله"
إن شاء الله، إن شاء الله. أكمل المشي مع صاحبه، وفي باله القصيدة:
أكملُ الدورانَ في الوعاء
ذي المقابضِ البرتقالية والعنب الأخضر ]
هذه نملةٌ أبديّةٌ. سوف تدور نملة واحدةٌ في الوعاء، وسوف تقتاتُ مئة نملةٍ على السكرِ في وعاءٍ آخرَ، وسوف تأكلُ مليونُ نملةٍ أجسادًا تخطط لبناء المستعمراتِ في أقاصي الأرض وأدانيها، وفي قلوب النساء.
قال لهُ صاحبه: "سوف نصل إلى نقطة البداية خلال نصف ساعة" فسكت وأحشاؤه تضحك. سوف يصلون إلى نقطة البداية خلال نصف ساعة، والنملة ستدورُ وتدور وتدور.
لم أعد أميز هل أنا أقرأ أم أن تصوري ذهب بي نحو لوحة أدبية ،،،
لا أخفيك يا غالي أردت أن أقتبس بعض الجمل فلم أجد أمامي سوى أن أقتباس النص كامل ،،،
نص رائع .. لم يخلو من إبداع الكاتب وهو يسير بنا في بستان أدبي جميل وقد تناول توظيف مفردات قرآنية كريمة في بعض الجمل .. وجمل شعرية من أدب المهجر في جمل أخرى .. ومفردات حكيمة مستوحاه من التراث .. ودعابة احيانا غاية في الرقي .. ووصف حالة جمعت نقيضان متلازمان !
لقد اتعبت من يرغب أن يحذو حذوك ،،،
كما أن النص لم يخلو من رسائل أحتوت على الحكمة واللطافة في آن معا .. مثل هذه :
إقتباس
رأى ابنَ عمِّه فنآى بجانبه، لا يحبُّ العناقَ، رآى أباهُ وسلّم عليه على عجالةٍ، قبّل رأسَه واقفًا ومضى، رأى حبيبتَه فتكلمَتْ وأنصتَ.
نخشى ان يصل غلى المرحلة التي يضيع فيها أبن عمه ولا يجد الوقت لتقبيل أباه .. فهنالك بالنسبة له ما هو أهم !
إقتباس
وفيٌّ لحبيبته ولكنّه يتغزّل بكل امرأة تمرُّ بهم، يعطيهم من حديث الحكمة كالثعالب: "أجمل مرحلة في حياة المرء بعد إنجاب الطفل الأول، ويا حبّذا الذَكَر. أنت متزوج؟" يجيب: "لا"
لم يكن بتصوري مُذ بدأتُ القراءة أن النص سيكون بهذا الجمال.. ثم لا أُخفيك أن شيئاً من الملل تسلل إليّ ..
قد يكون هذا النص نابعاً من حالةٍ ما مررتَ بها ؛ أو أنك تُريد وصف حالةً ما .. وبطبعي أهتم بقراءة ما "يعنيني" ؛ ربما لأجل ذلك انتابني الملل ..
لكن البلاغة والفصاحة وإختيارك للمفردات كان صائباً ورائعاً جداً ..ويُرهقني أن أصِفَ لك ذلك كثيراً ...
ما شاء الله , وصفك رائع و دقيق , و كأني أرى مشهد الفتى و صاحبه و الأقمار المتناثرة
عن يمينٍ و شمال يتمثل أمام عينيّ الآن !!
و ما ذاك إلا لأنّك تملك قدرة مدهشة في انتقاء المفردات و مزج الجمل لتخرج لنا هذه التحفة الأدبية !
إقتباس
صاحبُه يخطط لغزواته بجواله، يحشدُ لها البصرَ والقلبَ وشِعر النبط، يريدُ أن يبني مستعمراتٍ كثيرةً، واحدةٌ لا تكفي أبدًا! واحدةٌ للحبّ، وأخرى للنزوة، وثالثةٌ للبكاء، ورابعةٌ للضحك.
هؤلاء يذكرونني يجنود التتر الذين غزو الأقاليم لا لبناء المستعمرات و لكن لإفسادها ! و لعلّهم أبرز ما يتشابهون فيه أنهم لا أمان لهم و لا عهد !!
إقتباس
هذه الطريقُ تنخفضُ وتسهلُ حين تطأها المرأة، هذه الأرض تخضرُّ وتعشبُ حين تمرّ بها المرأة، هذه السماءُ تمطرُ ودقًا حين تسيرُ تحتَ سِماكِها المرأة.
أحببتها جداً
\
/
\
نص جميل , و لا غرابة في ذلك ..
شكراً على إشراكنا في هذا الموسم
دمت في حفظ الله و رعايته
صقر , توصل لنقطه البدايه وترجع تدور تدور تدور النمله ! بالحقيقه فيصل لعلك تجاهلت اوَ جهلت انوه "كل قرين بالمقارنٍ يقتدي " فلعل صاحبنا لم يكتب يوماً على البحر الهلالي ,ولعل الاخر لم يتقن فنون التعارف على الفتيات ! لكن ! كل الصور وبأي طريقه عبرت ,يبقى الشخص نتائج مايفكر سلمت استمتعت جداً بالقراءة ,خذنا للمزيد
صقر فيصل صباح الورد وزهر الفل , صباح الوفاء وفوح العطر ,,
ملكت البراعة ونلت اليراعة في مضمون منظومتكـ الأدبية التي صغتها ونسقتها ,, وحقيقة ولا أخفيكـ أنني لا أفضل أسلوب التغليف والغوص في التورية الذي يجعل من المنضومة أو الموضوع لغزًا لا يتوصل لحله إلا القليل خصوصًا إن كان موضوعًا عامًا هادفًا كهذا , إذ أن التورية والغوص فيها عادة تستخدم إن كان النص مخصوصًا , أو سياسيًا قد يطال القائل أذى أو مضرة . وكلامي لا ينقص ولا يقلل من إعجابي بالمضمون والهدف السامي الذي تريد إيصاله , بالإضافة لإعجابي لما تملكه من مخزون ثقافي ولغوي زادكـ الله وفيكـ باركـ .
لم أعد أميز هل أنا أقرأ أم أن تصوري ذهب بي نحو لوحة أدبية ،،،
لا أخفيك يا غالي أردت أن أقتبس بعض الجمل فلم أجد أمامي سوى أن أقتباس النص كامل ،،،
نص رائع .. لم يخلو من إبداع الكاتب وهو يسير بنا في بستان أدبي جميل وقد تناول توظيف مفردات قرآنية كريمة في بعض الجمل .. وجمل شعرية من أدب المهجر في جمل أخرى .. ومفردات حكيمة مستوحاه من التراث .. ودعابة احيانا غاية في الرقي .. ووصف حالة جمعت نقيضان متلازمان !
لقد اتعبت من يرغب أن يحذو حذوك ،،،
كما أن النص لم يخلو من رسائل أحتوت على الحكمة واللطافة في آن معا .. مثل هذه :
نخشى ان يصل غلى المرحلة التي يضيع فيها أبن عمه ولا يجد الوقت لتقبيل أباه .. فهنالك بالنسبة له ما هو أهم !
يسعدك ربي يا غالي
ولا حرمنا من قلمك المبدع
في حفظ الرحمن ،،،
حينَ أقصّر في المجلس، فإن من أكثر من أستحيي منهم أنت يا طارق. فأنت كاتب جميل، ذو لغة لطيفة، وهم عربي، وحكمة يمانية. فإذا جاء المدح منك، فهذا خيرٌ كبير، ومدعاةٌ للفخر.
بارك الله فيك وأسعدك، وأعطاك على قدر نيتك وصفاء قلبك.